مأساة الشاعر
قد هبطنا في شاطىء الشعر والفن | فماذا فيه من الأفراح؟ |
ها هو الشاعر الكئيب وحيدا | تحت سمع الآصال والأصباح |
أبدا ساهم يراقب أيّا | م حياة لا تنقضي بلواها |
لا يرى الواهمون غير ضحاها | ويعيش الفّنان تحت دجاها |
يرقب الأشقياء في ظلمة العي | ش ويبكي لهم بكاء غبين |
ويصوغ الألحان يرثى لبلوا | هم ويبكي على الوجود الحزين |
طالما بات ساهد الطرف حيرا | ن يسرّ الظلام أحزان شاعر |
لا يرى في الحياة إلا وجودا | ظّللته يد الشقاء العاصر |
أبدا لا يرى سوى مسرح المأ | ساة بين الدموع والتنهيد |
وستارا من الدجى يتجّلى | كلّ يوم عن مّيت ووليد |
واكتئابا يمشي على صور الكو | ن جميعا ولوعة وشقاء |
ودموعا تلوح في كل عيني | ن ودهرا يخادع الأحياء |
ليس يلقى الحياة إلا حزين ال | قلب حيران في هموم الحياة |
كلما أنّ بائس ذرف الشا | عر دمع الأسى على المأساة |
وإذا أذبل الجليد زهو ال | لوز ران الأسى العميق عليه |
وإذا ماتت البلابل ظمأى | جال دمع الرثاء في مقلتيه |
فهو قلب قد صيغ من رّقة الزه | ر وعين قد طهّرت بالدموع |
وحياة حسّاسة ليس يدري | سرّها غير شاعر مطبوع |
هي عمر ظمآن تعصره العز | لة عصرا, يمرّ كالآزال |
في سكون لا صوت يسمع فيه | غير صوت الصرّار تحت الليالي |
غير همس الحمام في الجبل المو | حش أو لحن بلبل مهجور |
وحفيف الأشجار في قبضة الر | يح وصوت الرعود في الديجور |
غير همس الأشباح ملء دجى الشا | عر في ليله الطويل الجديب |
يتلّقى الأشعار عنها ويحيا | أبدا في حمى الأسى والشحوب |
أيها الشاعر الذي يسهر اللي | ل وحيدا مستغرقا في الجمود |
محرقا روحه بخورا على حبّ | (أبولو) ووحيه المنشود |
ساهدا حانيا على القلم الشا | عر يرثي الدجى ويبكي السنينا |
راسما للحياة صورتها المرّ | ة بين الجياع والبائسينا |
أطفىء الضوء أيّها الشاعر المت | عب وارحم فؤادك الموجوعا |
كاد يخبو ضوء السراج وتأتي | ظلمات الدجى عليه جميعا |
رقد العالم المعذّب تحت ال | ليل فارقد واترك بقايا النشيد |
حسبك الآن ما سهرت مع الحا | رس ترثي لليلة المكدود |
قد أوى الحارس الكئيب إلى الكو | خ إلى غمضة الكرى والطيوف |
فكفى يا حزين عطفا على الكو | ن ورفقا بقلبك الملهوف |
عجبا كيف تسهر الشاعر المل | هم أحزان من عن الحزن ناموا |
كيف ترقا مدامع الورد في الحق | ل ويبكي على أساها الحمام |
آه يا شاعري المعذّب ماذا؟ | أكذا تصرف الحياة غبينا؟ |
في سبيل الوحي السماويّ تحيا | شاحب الوجه متعبا محزونا |
بعت بالشعر لهو أيّامك الظمأ | ى وعفت الحياة عينا وقلبا |
ونذرت الشباب والحبّ للفن | لتحيا على الجراح محّبا |
ليس يعنيك أن ترافقك الأح | زان ما دمت ملهما صدّاحا |
ليس يرضيك غير تغّني | ه وإن صغته أسى ونواحا |
ليس تعطي الحياة للشاعر المج | د إذا لم يذق هموم الحياة |
ليس تسمو الأرواح إن لم تطهّر | ها معاني الدموع والآهات |
فإذا أشحب الأسى وجنة الشا | عر أو بات ليلة أوّاها |
وإذا عضّ قلبه مخلب الحز | ن وضاقت حياته بأساها |
خاطبته الحياة : يا شاعري المل | هم يا ابن الشحوب والآلام |
النجوم الوضاء لا تبعث السح | ر إذا لم يسدل ستار الظلام |
والذي يجمع الزهور يدوس ال | الشوك يا شاعري ويمشي عليه |
والذي يعشق الطبيعة لا يث | قل صمت الدجى على مسمعيه |
فاحتمل ما استطعت أحزان عمر | هو لولا الأحزان ما كان شيّا |
وادفن النور في جفونك ميتا | وابعث الشعر من فؤادك حّيا |
غنّ هذا العذاب صف لحياة الن | اس ماذا يبكي فؤاد الشاعر |
صف لهم كيف يصرف العمر حيرا | ن ويحيا على أساه العاصر |
صف لهم ذلك الصراع صراع ال | فكر والقلب في ظلام الحياة |
كّلما أخفت النعيم صراخ ال | قلب ضج الفكرالأبيّ العاتي |
فهما في حياته نبع أحزا | ن يردّ الحياة أفقا كئيبا |
وهما الثائران لا بدّ من صو | تهما وليكن دما ولهيبا |
شرعة الفكر أن يغرّد بالشع | ر ويشدو وإن يكن محزونا |
ومناه السموّ للعالم الأع | لى وأن يلق في الطريق المنونا |
فهو أفق حرّ يريد حياة ال | عقل في معزل عن الإحساس |
وسواء لديه أن يشجب الشا | عر أو أن تقسو عليه المآسي |
أفليس الشحوب والألم العا | صر نبعا للشعر والألحان |
أو لا تقنع الحياة من الشا | عر باللحن في حمى الحرمان؟ |
فيم كان الصراع يبعثه القل | ب إذن فيم؟ فيم لا يطمئن |
فيم يأبى الحياة في وحشة العز | لة والفكر فيم يمضي يئن؟ |
هكذا تصرخ الخواطر بالشا | عر في ليله, فإن جاء فجر |
ورأى الراعي الصبيّ يسوق ال | غنم الظامئات لم يبق شعر |
ومضى القلب صارخا أين حّبي؟ | أين لهوي؟ وفيم أبقى أسيرا |
أبدا لا أني أضّحي بأفرا | حي وأحيا ذاك الحزين الكسيرا |
من بكائي تصوغ شعرك للكو | ن ومنّي المنى ومّني الحنين |
من دمي هذه الملاحم فارحم | ني أنا العاشق الشجي المغبون |
انطلق بي دعني أذق فرحة الحبّ | لعلي من الشقاء أفرّ |
ما غناء الأشعار يا شاعري المت | عب إن كانت الحياة تمرّ؟ |
ليس يغني عنك النشيد إذا متّ | حزينا وليس يرويك لحن |
لا تقل في غد غد ندم قا | س على ما مضى ويأس وحزن |
تحت ثقل الثرى وفي وحشة المو | ت سيخبو هذا النشيد ويفنى |
فإذا لحنك الذي صغته يأ | سا وحزنا للناعمين يغّني |
وستنسي أنت الذي ملأ الدن | يا جمالا ومات ظمآن جهما |
وسيبلى التراب ما يتبّقى | منك يا مستطار لحما وعظما |
ثم ماذا ؟ غدا يقولون قد كا | ن فتى بيننا طواه الهزال؟ |
ما رأينا منه سوى طيف إنسا | ن فقدناه واصطفاه الخيال |
سيقولون شاعر ركبته | لوثة فانزوى وعاش غريبا |
أبدا يرقب الفضاء يصيد الن | جم أو يحصد الظلام الكئيبا |
يرمق الزهر من بعيد وفي عي | نيه أحلام عاشق ولهان |
جامدا قانعا بعذريّ حبّ | يكتفي بالعطور والألوان |
أيها الشاعر السجين كفانا | غربة في حياتنا ووجوما |
حسبك الآن ما خضعت لصوت | العقل وارحم شبابك المحروما |
ويمرّ النهار والشاعر المغ | بون حيران بين فكّي أساه |
بين همس الصوتين يحيا كئيبا | ويناجي طيوفه ومناه |
فإذا جاش قلبه بمعاني ال | يأس ألقى أحزانه في النشيد |
لائذا باليراع يسكب فيه | ما يعاني من العذاب الشديد |
ساكبا روحه على كل بيت | ناحتا من فؤاده الألحانا |
راضيا بالشحوب والسقم حبا | لأبولو مستسهلا ما كانا |
كلّ بيت من شعره يتقاضا | ه شحوبا ورعشة وسقاما |
فهو في لحنه يذيب صباه | ويضيع الشباب والأحلاما |
ثم ماذا؟ سرعان ما يزأر الإع | صار, والزهرة الجميلة تذوي |
وإذا الضوء في الأعاليّ يخبو | وإذا النجمة الوضيئة تهوي |
ويغيب الضياء في ليل قبر | ليس تبكي له سوى الأمطار |
ليس يرثيه غير ذاوي صباه | وبقايا القيثار والأشعار |
ذلك الشاعر الذي كان يحيا | عمره باكيا على كلّ باك |
ذلك العاطف النبيل على الأح | زان ذاك الملقى على الأشواك |
نبذته الأيام في قبره المو | حش تحت الرياح والظلمات |
حيث لا آهة يصعّدها قل | ب ولا دمعة على المأساة |
هكذا في العذاب تمضي حياة الش | اعر الملهم الرقيق وتنسى |
هكذا يملأ الوجود جمالا | ويذوق الآلام كأسا فكأسا |
هكذا كلّ شاعر فارحلي بي | يا سفينتي عن عالم الشعراء |
ولندعهم في ذلك الشجن العا | صف بين الآهات والأدواء |
ولنسر في بحر الحياة كما كنّ | ا ونلقي المرسى على كل ساحل |
ربما يا سفين نلقى ضياء | يتجلّى بعد الظلام القاتل |