جمعتكم مباركة
بعد غياب المشايخ المعتدلين في غزة عن القيام بدورهم الشرعي لتصويب القضايا المختلفة. وترك المجال الشرعي لاجتهادات السياسيين الذين لا تنطبق عليهم شروط الاجتهاد.
الشيخ الداية في بيان له. ينتقد أسامة حمدان في تخوينه منتقدي الحرب من الغزيين.
يأتي انتقاده بعد انتقاد مشابه لمفتي خان يونس إحسان عاشور للصوصية التي تمتص دماء الناس في الحرب.
أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ (1)
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
عرضت وسائل الإعلام تصريحات لبعض ساسة بلدنا، بعيدة عن الهدى؛ فرأيت أن أعلّق عليها؛ ليستبصر النّاس بما أظنّه الحقّ، واللّه أسأل السّداد.
قال أحدهم: “أيّها الإخوة، أيّتها الأخوات: قد يتحدّث البعض من الجبناء والضّعفاء: ألم يكن من الأسلم ألّا نقاتل، وأن نقبل بالوضع الّذي كان قائماً بدل أن نفقد هذه الأرواح؟ قد يقول ذلك بعض المغفّلين.
لكنّني أصارحكم القول: إنّ من يطلقون مثل هذا القول إنّما تحرّكهم غرف سوداء ترتبط بعدوّنا، ربّما تستقرّ في بعض عواصمنا، لكنّها ترتبط بعدوّنا، ومهمّتها أن تضعف هذه الأمّة وعلوّ همّتها، وفيهم يقول الله تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ [التوبة: 47].
وخلّينا نتكلّم بواقع بسيط: عام 2022م؛ لم تكن هناك عمليّة طوفان الأقصى، ولم تكن تقاتل المقاومة في الضّفّة، في هذا العام وحده 500 شهيد على حواجز جيش الاحتلال في الضّفّة فقط، بمعنى: أنّ الضّريبة تدفع، لكن! عليك أن تختار أن تدفعها حرّاً مجاهداً مقاوماً منتصراً بإذن الله، أو أن تدفعها ذليلاً خائباً خاسراً”.
أذكّر أخي قائل هذا النّصّ: بأنّ جهاد الشّوكة له أركان، وأسباب، وشروط، ومقاصد، وموانع.
فمن أركانه: القائد، والجند، والأرض، والسّلاح، والحربيّ، أو المحارب (الباغي)، أو المفسد في الأرض (قاطع الطّريق)، أو الصّائل.
ومن أسبابه: العدوان على الدّين، أو النّفس، أو العرض، أو الأسر، أو الأرض، أو المال.
ومن شروطه: الإيمان والإخلاص، وصلاح الأنفس، واجتماع الكلمة، ورصّ الصّفّ، وتأهيل الجند، وقوّة الشّوكة، وتأمين الأجناد طعامًا وشرابًا ودواءً ولباسًا، وثغورًا وملاذًا آمنًا بعيدًا عن البيوت المأهولة، والأبراج المسكونة، والمدراس المزحومة، والمشافي المكتظّة، وسبل امّداد بالعدد والعتاد والأجناد، والابتعاد غاية الوسع عن الآمنين وأماكن إيوائهم، وتوفير أسباب الأمن والسّلامة للآمنين ما أمكن ذلك في مناحي الحياة المختلفة.. الأمنيّة، والاقتصاديّة، والصّحّيّة، والتّعليميّة، وادّخار المؤن الّتي تكفيهم مدّةً زائدةً عمّا يتوقّعه أهل الرّأي والمشورة في شأن الحرب.
ومن مقاصد الجهاد الّتي شرع لأجلها: دفع الأخطار عن الدّين، والأنفس، والأعراض، والذّراريّ، والأموال، وفكّ الأسرى، وتحرير المسرى، وحفظ دور العبادة، وتأمين الحدود، والسّيطرة على الموانئ الّتي تمكّن النّاس من تحقيق مصالحهم.
ومن موانعه: اختلال أركان الجهاد أو بعضها، أو العجز عن دفع أسبابه أو بعضها، أو اختلال شروطه أو بعضها، أو تخلّف مقاصده.
فمتى غلب على الظّنّ تخلّف أهداف الجهاد ومقاصده؛ لاختلال أو تخلّف ما ذكرنا من الأركان أو الأسباب أو الشّروط؛ لزم اجتنابه، ويتأكّد اجتنابه إذا غلب على الظّنّ حصول ما يناقض مقاصده، كزيادة المفسدة على الدّين، أو النّفس، أو العرض، أو الذّرّيّة، أو المال، أو اغتصاب الأرض، فضلًا عن تدمير مقوّمات الحياة، وهذا أمر يسهل تقديره لدى ساسة بلدنا وقادته بمراجعتهم لاعتداءات أهل الحرب على الضّفّة والقطاع في منازلات سابقة كانت أخفّ بكثير من حدث السّابع من أكتوبر، وكانت تقابل بأعداد من الشّهداء والجرحى، ونسف البيوت والأبراج، ونزوح النّاس أيّامًا وشهورًا إلى المدارس والمشافي والأخبية المركّبة، وتجريف الحوائط، وتشديد الحصار، ومراقبة دخول الأموال، والتّحكّم بأموال المقاصّة، وتقييد حركة العمّال والمسافرين، والتّحويلات العلاجيّة إلى مشافي الضّفّة وغيرها من مشافي بلادنا العربيّة المتاحة، ولم يتحقّق شيء قطّ ممّا كانت تعلنه المقاومة في حينه من أهداف استفزاز عدوّهم وإغضابه وطلب حربه، فإذا كانت ردّة فعل أهل الحرب بإحداث مفاسد عظيمة لأسباب أيسر بكثير من حدث يوم السّابع من أكتوبر؛ فإنّ هذا يفتح على كلّ عاقل أنّ ردّة فعلهم في حال حصول حدث أكبر من سابقاته سيكون حجم ضرره أشدّ بأضعاف كثيرة في الأنفس، والممتلكات، ومقوّمات الحياة، والتّضييق على الأسرى وزيادة أعدادهم.
وحتّى يطمئنّ القارئ لما قدّمت بشأن مراعاة مقصد الجهاد، وأنّ حكمه يدور مع مقصده وجودًا وعدمًا؛ أذكر الدّليل عليه من الكتاب والسّنّة:
وقال ابن جزيّ رحمه الله: “وإن علم المسلمون أنّهم مقتولون؛ فالانصراف أولى، وإن علموا مع ذلك أنّهم لا تأثير لهم في نكاية العدوّ؛ وجب الفرار، وقـال أبـو المعالي: لا خلاف في ذلك”. [ ابن جزي/ القوانين الفقهية (1/165)]
وقال الشّوكانيّ رحمه الله: ومعلوم أنّ من أقدم وهو يرى أنّه مقتول أو مأسور أو مغلوب؛ فقد ألقى بيده إلى التّهلكة”. [الشوكاني/ السيل الجرار (4/529)]
أخي صاحب هذا النّصّ: أرى الهمّة عاليةً، والوجه صبوحًا، وحمرة الوجنتين ظاهرةً، والنّبرة الخطابيّة تؤذّن بارتياح القلب وانشراح الصّدر كأنّها فرحة الظّافر بنصر حقّق لشعبك الأمن والسّلامة في مناحي حياتهم، وحرّر الأسرى، وأغلق بابهم أمام عدوّهم، ورفع الضّيم عن الأقصى، والحقيقة على خلاف ذلك؛ فقد بات شعبك كلّه بين مريض في نفسه أو عضوه، أو مشوّه في بدنه، أو مختلّ في عقله، أو حزين في قلبه، أو مجرم في طبعه، أو جبّار في تجارته أو عاد على أقوات المنكوبين، أو عاقر على بيوت النّازحين، أو متخدّر بالمفتّرات والعقاقير، أو نافرة من أهل التّديّن، أو مرتدّ عن الدّين، فضلًا عن أعداد مذهلة من الشّهداء والمقطّعين، وأعداد من الأرامل واليتامى المحزونين، مأساة لو انتهت الحرب في مساء هذا اليوم؛ ستبقى عذاباتها عشرات السّنين.
يا أخانا: كنت أرجو أن يكون جهادنا في تحقيق ملائكيّة الواقع فهمًا وسلوكًا، وجمعًا للكلمة، وتوثيقًا للأخوّة، ونبذًا للفرقة، وتوثيقًا لصلتنا باللّه، وتحرّراً للمنبر الدّعويّ من وظيفته الفئويّة، والتّنظيرات السّياسيّة، ومراعاةً لتحقيق التّوازن العلميّ الشّرعيّ المستمدّ من نصوص الوحي بفهم الأئمّة السّابقين، وتسخيراً لمواهب النّاس في نجاح مصالحهم في مناحي الحياة المختلفة، في مجتمع محبوس من كلّ جهاته، ويستمدّ جميع مقوّمات حياته من عدوّه إلّا الهواء، وحرصاً على توثيق التّعاون بيننا وبين بلادنا العربيّة، ومنح فرصة لحكومة أبويّة لا تنتمي لحزب قطّ، ويكون النّاس من حولها؛ فإنّ هذا أمضى سلاح في تعجيل الفرج ودفع الحرج، فإذا تحقّقت ولاية الإنسان منّا عند ربّه، وغابت عنه أسباب القوّة المؤهّلة في دفع أخطار عدوّه؛ فحسبنا اللّه القويّ المتين؛ فإنّه خير كفيل وأقوى ناصر ومعين، وهو القائل في الحديث القدسيّ: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا؛ فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ).[أخرجه: البخاري/صحيحه (6021)(20/158)]
وفي الختام: لم أكن أتوقّع من سياسيّ هذا القذف العامّ لكلّ من يتوجّع لفداحة المصاب بالعمالة والنّفاق والجبن والضّعف لمجرّد أن يقول: ليتنا بقينا على الحال الّتي كنّا عليها قبل نازلة الحرب هذه، فهذه توجّعات الأكثر من النّاس بعدما ذهبت بيوتهم، وقضى أحبابهم، وتلوّن فيهم الابتلاء، فلا أظنّ أحدًا من أهل الطّبّ والهندسة والحقوق، والوجاهة والمخترة، والشّيوخ والعجائز، والأرامل واليتامى لم يقل هذا أو لم يتمنّه بقلبه.
أسأل اللّه تعالى أن يردّنا إلى الجادّة، ويعجّل بالفرج؛ آمين.
أ.د. سلمان بن نصر الداية
أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ (2)
وقال أيضاً في تصريح آخر: “ما لازم حدا يتخيّل أنّ التّضحيات أن يستشهد الشّعب أو تستشهد النّساء والأطفال، التّضحيات أوّلاً يجب أن تنظر إليها في صفوف المقاتلين والمجاهدين، وفي صفوف القيادة”!!!
وهذا فهم بعيد عن الصّواب؛ فإنّ فقه الأئمّة السّابقين يكشف عن حقيقة؛ أنّ القائد والأجناد على جلالة موقعهم في الإسلام؛ قد أقيموا لحراسة مصالح أمّتهم، ومن أهمّها بعد الدّين: حفظ الأنفس والذّراري والأعراض، ثمّ الأموال وأنواع المتاع؛ لأنّ مصلحة عموم النّاس أعمّ وأكبر، وما أذن للقائد أن يجتهد اجتهادًا قطّ، ولا أن يسخّر أجناده إلّا في نجاح مصالح أمّته، والاهتمام بأسباب حفظها من جانب الوجود؛ بأن يسعى لهم في تحصيل كلّ نافع ومليح، ومن جانب العدم؛ بأن يدرأ عنهم كلّ ضارّ وقبيح، ولا يحمد القائد إلّا بموافقة حكم الشّارع الحكيم وقصده من التّشريع، ولا ينجو من غضب الجبّار إلّا بذلك، ولا ينجو من دعوة النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلّا بذلك؛ [عَنْ عَائشة رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ). أخرجه: مسلم/صحيحه (1828)(6/ 7).] فواللّه ما شرعت أحكام الدّين إلّا لحفظ مصالح الإنسان على استقامة واعتدال، وروعي فيها مصلحة كلّ ذات كبد رطبة، يدلّك على هذا: أنّ الله عذّب بالنّار امرأةً تهاونت في حفظ هرّة، وعفا عن بغيّ أنقذت كلباً.
[عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ لَهَا أَوْ هِرٍّ رَبَطَتْهَا فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تُرَمِّمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا). أخرجه: البخاري/صحيحه(3318)(4/ 130)، مسلم/صحيحه(2619)(8/97)، وفي رواية: (وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تُرَمِّمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا). أخرجه: مسلم/صحيحه(2619)(8/ 35).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا). أخرجه: مسلم/صحيحه(2245)(4/ 1761).]
واللّه ما أذن الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بتكليف فوق طاقة الإنسان، ومنع عنه كلّ مشقّ محرج؛ فقال تعالى معذراً: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقال سبحانه: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6]، وقال سبحانه: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ…)، [صحيح، أخرجه: أبو داود/سننه(1368)(2/ 48)، وأصله في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (… وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، [أخرجه: البخاري/صحيحه(7288)(9/ 94)، مسلم/صحيحه (1337)(2/975).] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ) قَالَهَا ثَلَاثًا. [أخرجه: مسلم/صحيحه(2670)(4/ 2055).]
وقالت القاعدة الفقهيّة: “كلّ ما أمر اللّه به أو نهى عنه؛ فإنّ طاعته فيه بحسب الإمكان”. [ابن تيمية/مجموع الفتاوى(31/ 39).]
وقالت قاعدة أخرى: “كلّ تصرّف تقاعد عن تحصيل مقصوده؛ فهو باطل”. [العز بن عبد السلام/قواعد الأحكام (2/293).]
وقالت قاعدة أخرى: “اجتهاد الإمام على الرّعيّة منوط بالمصلحة”. [ابن نجيم/الأشباه والنظائر(ص140)، السيوطي/الأشباه والنظائر(ص121)، الزركشي/المنثور في القواعد الفقهية (1/309).]
وقال الشّاطبيّ ؒ: “كلّ من ابتغى في تكاليف الشّريعة غير ما شرعت له؛ فقد ناقض الشّريعة، وكلّ ما ناقضها؛ فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التّكاليف ما لم تشرع له؛ فعمله باطل”. [الشاطبي/ الموافقات (3/27-28).]
أ.د. سلمان بن نصر الداية
أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ (3)
وقال آخر: “إنّ خسائرنا تكتيكيّة، وخسائر عدوّنا استراتيجيّة”!
ومعنى قوله فيما أظنّ: أنّ خسائرنا في غزّة والضّفّة وسيلة من وسائل مقاومتنا الّتي تقودنا إلى النّصر، وهي يسيرة إذا قورنت بخسائر عدوّنا، سيّما أنّها مخلوفة ما دام النّساء يلدن، وأهل الإحسان والمعروف يقيمون ما ذهب من العمران، ويعوّضون ما هلك من الأموال!
ولأهلنا في غزّة والضّفّة على صبرهم وجهادهم أجر عظيم عند الله في الآخرة.
أقول: لا أظنّ أنّ للقائل سلفاً في هذا الفهم، ويكفي في دفعه: حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أنْ يُذِلَّ نَفسَهُ) قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قال: (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ). [صحيح، أخرجه: الترمذي/سننه(2254)(4/ ٥٢٣).]
وأقول بأمانة الكلمة: لقد ذاق أهل القطاع ألواناً من الذل، منها: التهجير المكرور الذي يلازمه الهلع، وبكاء النساء، وصراخ الصغار، وحيرة القلب، إلى أين يكون التوجه، وهل يكون أوفر أمناً. ومنها: التجويع الذي دفع الرجال وبعض النساء أن يتعرضوا للموت أثناء اتباعهم لشاحنات المساعدات، فقليل من يفلح بكيس من الطحين، والبعض يعود محمولاً على الأكتاف، والأكثر يعود خالي الوفاض، حتى اضطر الناس لأكل علف الدواب وأوراق الشجر وبعض أنواع النبات، ومنها: كشف عورات الرجال والنساء تحت قهر السلاح في البيوت والطرقات؛ وأشد منه: اغتصاب بعض العذارى والثيبات، وقد حصل لبعضهن حمل من علوج أهل الحرب، وأشد منها: قهر بعض الأسرى باللواط بعدما يذيقونهم ألوان العذاب. ومنها: تسليط العملاء على أملاك النازحين بسرقة المنازل والمؤسسات، وتبعهم على ذلك نُخالة الناس. ومنها: نزوح كثير من الناس إلى المشافي والمدارس والملاعب والجامعات والطرقات، واسمح لنفسك أن تتفكر في حالهم حين النوم والأكل والخلاء وفيهم الشيوخ والعجائز والصبايا والصغار. ومنها: ذل النازحين في الخيام غير الواقية في الغالب من حر صيف ولا برد ومطر شتاء، أضف إليه قلة الماء والتزاحم على الكنف، وأمراض النفس والبدن.
ومنها: وجع المصاب الذي يستصرخ يطلب الغوث أمام الأهل والقرابة والجيران، وربما سارعوا إليه فهلكوا، أو تركوه يهلك وحملوا بعده الحسرة والألم مدى السنين والأيام. ومنها: انتهاك حرمة الشهداء المبعثرين في الطرقات أو تحت الركام ولا أحد يطيق مواراتهم حال اشتداد القصف، لتكون بعض أجسادهم غذاء للهرر والكلاب، وهم في أحسن أحوالهم يُلْقَوْنَ في حفرة، ثم يُهَالُ عليهم التراب، وربما أُتبعوا بجارفات أهل الحرب ليختلطوا في أكوام التراب.
بينما خسائر عدوّنا عظيمة، وملازمة له حتّى تأتي عليه وتمحو كيانه، ألا تروه قد افتضح أمره أمام حكومات العالم الّتي تتمتّع بالنّزاهة، وشعوبها الّتي تملك أسباب التّغيير والتّأثير الفاعل على حكوماتها؛ لتأخذ بصرامة على يد أهل الحرب!!!
وقد رفعت ضدّهم الشّكاوى في المحاكم الدّوليّة، وبات يتقرّر في أذهان أرباب المؤسّسات الحقوقيّة والقضائيّة أنّ ما أوقعه أهل الحرب في قطاع غزّة هو جريمة إبادة جماعيّة؛ ولذلك بدا تفاعل من القضاة والمؤسّسات الحقوقيّة أسفر عن أحكام عقابيّة زجرت أهل الحرب عن كثير من فظائعهم، خفّف من معاناة أهلنا، وأذهب غيظ قلوبهم!!!
وأنّ ثمّة شيئاً أعظم ممّا تقدّم: هي مظاهرات الطّلبة في الجامعات الدّوليّة الّتي ساهمت هي أيضاً في تخفيف المعاناة، والحدّ من هلاك الأنفس والإصابات، ودمار البيوت والمؤسّسات في قطاع غزّة والضّفّة، وأرعبت أهل الحرب وكبحت جماحهم؛ فخفّت ضراوة قصفهم، وباتوا لا يستعملون معنا إلّا قنابل الصّوت، وهدير الطّائرات، وأحرجت تلك المظاهرات الدّول الدّاعمة لأهل الحرب بالسّلاح؛ فكفّوا عن ذلك، وما عادت قوافل الطّائرات المحمّلة بالذّخائر وأسلحة الدّمار تهبط في مطارات أهل الحرب، ففرح أهلنا في غزّة والضّفّة أيّما فرح!!!
والحقّ أنّ ما يراه السّاسة إنجازًا ممّا ذكرنا وغيره؛ لم يؤثّر على أهل الحرب، ولم يمنعهم من ضراوة إبادتهم للأنفس والممتلكات، ولم يكترثوا له؛ بل كانوا يقابلونه بالنّقيصة، وتمزيق القرارات في وجه مقرّريها، وأحيانًا يتبعونها بالتّهديد.
أ.د. سلمان بن نصر الداية
أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ (4)
وآخر يقول: “نحن على استعداد أن نكون كأصحاب الأخدود”!!!
والاستشهاد بأصحاب الأخدود في هذا الموضوع لا يستقيم؛ فغلام الأخدود رحمه الله كان من قوم كافرين، وهيّأ الله له من أسباب الهداية راهباً دلّه على الله، وأرشده إلى دينه؛ فآمن واستسلم، فعلم بأمره ملك زمانه، ومارس عليه أساليب قاتلة بيقين على مرأىً من النّاس أجمعين، ولم يهلك الغلام، فشدّ النّاس أمره، وثار عندهم التّعجّب والفضول.. من ذا الّذي يمنعه من الهلاك من أسباب جرت السّنن الكونيّة على أنّها مهلكة بيقين، فانتهز الغلام المستبصر هذه الفرصة؛ لينصر بها دين الله، وينقذ المهج من النّار، فأغرى الملك بطريقة يهلك بها الغلام ويتحقّق بها مراد الملك، لكن على مسمع ومرأى من النّاس أجمعين، فأطاعه الملك، وقال الغلام لمن تهيّأ لتنفيذ الجريمة قل: بسم الله ربّ الغلام، وارمني؛ فسأقتل، ففعل وقتل الغلام، ودخل النّاس إثر ذلك في دين الله أفواجاً يهتفون: آمنّا بربّ الغلام، فأهلكهم الطّاغية مؤمنين مستسلمين لله.
وقبل التّعليق أقول: هذا حدث قد كان في شرع من قبلنا، والعلماء في شريعتنا مختلفون؛ هل شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون مصدراً تشريعيّاً تبنى عليه الأحكام في موضوعه أو لا؟ على مذهبين:
الأشهر: أنّه ليس مذهباً لنا إلّا أن يقوم دليل من القرآن أو السّنّة يقرّه مصدراً معتبراً في شريعتنا. [قال به الشافعي في أصح قوليه، وأحمد في رواية، وارتضاه الغزالي والآمدي والنووي والإسنوي.]
والثّاني: هو مصدر معتبر من مصادر شريعتنا ما لم يرد ما ينسخه. [قال به أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في قوله الثاني، وأحمد في رواية.]
ولو سلّمنا أنّه مصدر معتبر في شريعتنا باتّفاق؛ فلا يستقيم الاحتجاج بحادثة أصحاب الأخدود في نازلة الحرب هذه؛ لأنّ للجهاد في الإسلام ضوابط ومقاصد نطقت بها أدلّة السّمع وقواعد الفقه، وصرّح بها الأئمّة الفقهاء، على أنّ نازلة الحرب هذه حصلت في قوم مؤمنين، وكان من تداعياتها ما يناقض مقاصد حادثة الأخدود: ردّة شريحة من النّاس عن الدّين، ونفرة شريحة أوسع اشتدّ بغضها لأهل التّديّن الّذين تسبّبوا بهذه النّازلة، ناهيكم عن غيرها من المفاسد، ومن شرّها: هلاك الأنفس وتشوّه الأبدان، وأمراض النّفس والعضو، ونسف مقوّمات الحياة الهانئة في القطاع، وأسر عدد كبير من رجال قطاع غزّة والضّفّة قد تعرّضوا إلى أبشع ألوان العذاب.
قال ابن تيميّة رحمه الله:”فلا رأي أعظم ذمًّا من رأي أريق به دم ألوف مؤلّفة من المسلمين، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين، لا في دينهم ولا في دنياهم، بل نقص الخير عمّا كان، وزاد الشّرّ على ما كان”. [ابن تيمية/منهاج السنة النبوية(6/ 112).]
أ.د. سلمان بن نصر الداية
أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ (5)