التذكار
بي نزوعً إِلى الدموعِ الهوامي | غير أني أخافُ من آلامي |
أيهذا المكان! يا غالي الترب! | ومثوى عبادتي واحترامي! |
أنت مثوى الذكرى ومدفنُها الغا | لي القصيُّ المجهولُ في الأيام |
هذه خلوتي فلا تمنعوني | ما الذي تحذرون يا خلاني |
انها عادتي التي كنت أعتادُ | وأهوى في سالفِ الأزمانِ |
أخذتني لذِي الرحاب وقادت | قدمي في سبيلِ هذا المكان! |
أنظروا هذه السفوحَ وهذا النبتَ | إذ قام مزهراً تيّاها! |
لكأني ما زلتُ تسمع أذني | في صموتِ الرمالِ وقع خطاها |
وكأن النجوى بكل ممرٍّ | طوقتني في سترهِ يمناها! |
قد تراءى الصنوير النضر إذ أينع | في قاتمٍ من الألوانِ |
وتراءَى ليَ المضيقُ البعيدُ | الغور يمتدُّ في رخيّ المجاني |
موحشات لكنما كن آلا | في ومهد الهنيء من أزماني |
أنا ما جئتَ ها هنا أذكر الأشجانَ | في موطنٍ عرفت فيه هنائي |
ذلك الغاب رائع الحسن والصمت | مثال الجلال والكبرياءِ |
وفؤادي عاتٍ كرائعِ هذا الغابِ | مستكبرٌ على البرحاءِ! |
من يشأ أن يفيضَ يوماً بشكواه | فما هذا موضع الأحزان |
قل لشاكٍ هلاَّ مضيت لتجثو | عند مثوى ميت من الخلان! |
كل شيء حيٌّ هنا وباتُ القبرِ | ينمو في غيرِ هذا المكان! |
طلع البدرُ يرتقي ذروةَ الأُفقِ | ويجتازُ حالكَ الأسدادِ |
يا أمير الظلام إِنك تبدو | حائرَ الرأي، واضحَ التردادِ |
ثم تمضي مجاوزاً حجبَ الليلِ | وترمي بنوِرك الوقَّادِ |
كلّما شارف الثرى فيض نورٍ | مرسلٍ من جبيِنك الوضّاحِ |
وإِذا الأرض قد تضوَّعَ منها | عن ثراها النديِّ عطرُ الصباحِ |
استشرت عطرَ القديمِ من الحبِّ | دفين العبيرِ في الأرواح |
أيهذا الوادي المجبب ما زرتك | حتى سألت عن أوصابي |
إيْن راحت لواعجي أيْن آلامي | اللواتي أهزمنَنِي في الشباب |
عاودتني طفولتي فيك حتى | خلتُ أني ما اجتزتُ يومَ عذاب! |
يا خفاف السنين! يا صولة الدهرِ | قويّاً مثل الجبابرِ عاتي |
كل ماضي صبابة قد أخذتن | فمن مدمعٍ ومن حسراتِ |
ورحمتنَّ لي أزاهر ذكرى | علقتْ في ذبولها بالحياةِ |
فسلام مني على الأيامِ | كيف آستْ في النازلاتِ الجسامِ |
لم أكن أدرِي أن جرحاً بما كابدتُ | منه من فاتك الآلامِ |
معقبٌ لذةً لنفسي واحساسَ | هناءٍ لديَّ بعد التئامِ |
فليبْن عنيَ السخيفُ من الرأيِ | وتنأَى سفاسفُ الأقوالِ |
وهمومٌ كواذبٌ كفنت أثْوابٌها | حُبَّ عاشقين ضآلِ |
جعلوها مظاهراً لهواهم | والهوى الحقُّ ليس منهم ببالِ |
ايه دانتي! أأنت ذاك الذي قال | قديماً عن ذكرياتِ الهناء: |
انها إن مرَّت على ذاكريها | زمن الحزن فهي أشقى الشقاء! |
أي بؤسي أملت عليك مرير القولِ | حقّاً أسأت للبأساءِ! |
أو إنْ أقبل الدجى بعد ادبارِ | نهارٍ صافي الضياء قضيتَهْ |
تنكرُ النورَ في الوجودِ فيغدو | محضَّ وهمٍ كأنه ما رأيتَهْ |
ذلك القول وهو جدّ عجيب | أيها الخالد الأسى كيف قلتَهْ |
قسماً بالطهورِ من لهب الحبِ | مضيئاً في القلب شبه المنارِ |
ما عهِدْنا في قلبك الوافر الإيمـ | ـانِ هذا الظلال في الأفكارِ |
لا أرى للهناءِ والله صدقاً | مثل صدقِ الهناءِ بالتذكارِ |
أو إنْ أبصرَ الشقيُّ وميضاً | في رمادِ الهوى فقام إليهِ |
باسطاً نحوَه يديهِ بلهفٍ | حارصاً أن يمرَّ من كفَّيهِ |
وبه من إشعاعهِ أثرُ البرقِ | إذا مرّ خاطفاً ناظريه |
أو إن غاصت روحهُ في عبابِ الذ | كريات التي طوتها السنينْ! |
أو هذا السرور من ذِكرِ الماضي | تسميه بالعذابِ المبين! |
ان تروى أدمعي فلا تزجروني | ودعوني اني أحب الدموعَا |
لا تجفف ايديكمُ أدمعاً تنفعُ | قلباً لمّا يزلْ موجوعا |
أدمعي سترٌ مسبلٌ فوق ماضٍ | قد تولى ما يستطيع رجوعا! |