حيرة .. وصيرورة
اتَيْتُ إلى الدُّنيا وما كنْتُ مُختْارا | ولو أَنَّني خُيَّرتُ ما اخْتَرْتُها دارا! |
فلو كنْتُ لم أُخْلَقُ لما كنْتُ آثِماً.. ولا كنْتُ مَغروراً.. ولا كنْتُ مِهْذارا! |
|
ولا ابْتَهَجَتْ نَفْسي بما كان مُخْزِياً | ولا انْفَجَعتْ نَفْسي بما كانَ قَهَّارا! |
فقد عِشْتُ فيها ماجِناً مُتهافِتاً | على مُتَع عادتْ هُموماً وأَوْزارا..! |
شقاءٌ طُفُولِيٌّ.. شقاءٌ مُراهِقٌ | شقاءُ شبابٍ كانَ قَصْفاً وإعْصارا! |
وشَيْخُوخةٌ ناءتْ بأفْدَحِ شِقْوَةٍ | فلم تَلْق إلاَّ ما يُلَطِّخُها قارا! |
ولو أَنَّني لم آتِ.. كنْتُ هَباءةً | فلا تَبْتَغي أَهْلاً. ولا تَبْتَغي دارا! |
ولا تَبْتَغي المَجْدَ المُؤَثَّل رافِعاً | مكانَتَها.. يَشْدُو به النَّاسُ أَشْعارا! |
ولا تَبْتَغي المالَ الذي يُسْكِرُ النُّهى | فما تَجْتَوِي خزياً.. ولا تَجْتَوي عارا! |
مُبَرَّأَةً مِن كلِّ عَيْبٍ لأَنَّها | سَدِيمٌ. فما لاقى هَواناً.. ولا جارا! |
ولو كُنْتُهُ.. ما كانَ لي من ظُلامَةٍ | عَلَيَّ. ولا مِنِّي. ولا كنْتُ غَدَّارا! |
وها أنا في هذي الحياةِ مُرَزَّأٌ | أُغادِرُ أَنجاداً.. وأَسْكُنُ أَغْوارا! |
ويَصْحَبُني الأَخْيارُ حِيناً فأَسْتَوِي | على مَلَلٍ مِنْهم. وأَصْحَبُ أشْرارا! |
أَبِيتُ على هَمٍّ بِهِ. يَلْتَوي الحَشا | وهُم جُثَّمٌ صَرْعى. عَشِيّاً وإِبِكارا! |
يَعيشُونَ صُبْحاً كالبَهائِمِ رُتَّعاً | بلا زَاجِرٍ يَلْوِي. ويُمْسُونَ فُجَّارا! |
* * * |
|
على أنَّ حَوْلي مَعْشَراً مُتَرَفِّعاً | عن اللَّهْوِ أطْهاراً كَرُمْنَ. وأَبْرارا! |
تمنيت أَنِّي مِثْلَهم فَتَعَثَّرَتْ | خُطايَ. فأجْريْتُ المَدامِعَ مِدْرارا! |
ألا لَيْتَ أَقْدارِي سَخَوْنَ كما سَخَتْ | عليهم.. وأعْطَتْني فكنْتُ لهم جارا! |
وعُدْتُ فآثَرْتُ اصْطِباري فَرُبَّما | وَجَدْتُ بإيمانِي.. على الوِزْرِ أَعْذارا! |
فقد كان يُشْقِيني. وإنْ كنْتُ أَشْتَهي | به ثَمَراً يَحْلو مَذاقاً.. وأزْهارا! |
وقد كنت لا أرضى به ثم انثنى | إليه عَمِيّاً.. يَحْسَبُ الآلَ أَنْهارا! |
ولَمَّا يَجِدْ ماءً يَبُلُّ به الصَّدى | ولا وَشْلاً. ما أَرْخَصَ الخُسْرَ مِقْدارا! |
أرى عَدَمي خَيْراً مِن العَيشِ خِاضِعاً | لأَهْوائِهِ. جَهْراً صَفِيقاً وإشرارا! |
تَمَنَّيْتهُ.. لكنَّني جِئْتُ لِلدُّنى | فَحُمِّلْتُ أَوْزاراً. وحُمِّلْتُ أوْضارا! |
وحاوَلْتُ أَنْ أَحْيا بَرِيئاً من الخَنى | فما اسْطَعْتُ عنه. وهو يُهْلِكُ إدْبارا! |
بَلى.. رُحْتُ أَدْعُوه فَيُقْبِلُ تارَةً | ويُعْرِضُ أُخْرى.. شادِياً ثم زَآرا..! |
ونَفْسِيَ مِعْوانٌ له.. وهو عارِفٌ | بِهذا. وما يُرْضِ على اللَّهْو أَسْتارا! |
أَلَسْتُ إذا ما لَم أَكُنْ.. كنْتُ ناجِياً | وكَيْنُونَتي هذى سَتُورِدُني النَّارا؟! |
فكيْفَ نَجَاتِي مِنْهُ وهو مسيطرٌ | عليَّ وإنْ كانَ المُسَيْطِرُ جزَّارا؟! |
* * * |
|
ويا مَنْ هَداني بَعْدَ غَيِّي تبارَكَتْ | أيادِيكَ واسْتَعْلَتْ.. فقد كُنْتَ غَفَّارا! |
فما أتمنّى اليوم أنْ لو تَحوَّلَتْ | حياتي هباءً.. بَعْدَ أنْ صِرْتُ مِغْوارا! |
بلى.. أتمنَّاها حياةً قَرِيْرَةً | تجوب الذُّرى حتى تُكَلِّلُها الغارا! |
سأُعْرِضُ عمَّا لا أَوَدُّ وقد بدَا | لِيَ النُّورُ غَيْثاً بالهدايَةَ دَرَّارا! |
وكلاَّ. فإنِّي أتَّقيها بِصَحْوَةٍ.. | تَبَيَّنْتْ منها أَنَّني كنْتُ كفَّارا..! |
وكانَ أَمامي الرُّشُدُ والْغَيُّ فانْبَرى | إلى الغَيِّ رُوحِي يَنْشُدُ اللَّهْوَ والبارا! |
فَناءَ بِما يُدْمِي الحشَا مُتَرَنحِّاً.. | بِسُكْرَيْهِما حتى هَوى الرَّوحُ مُنْهارا! |
* * * |
|
فيا صَحْوَةً قد أَسْعَدتْني بِرَجْعَةٍ | إلى الرُّشْدِ.. وِرْداً كَوْثرِياً وإِصدارا! |
تباركتِ. إنَّ الرُّشْدَ كانَ بِشارَةً | لِنَفْسي. وإِنَّ الغَيَّ قد كان إنْذارا! |
وها أنا في يَوْمي أُهَلِّلُ بالمُنى | تَحَقَّقْنَ بعد اليَأْسِ تَبْزُغُ أَقْمارا! |