www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الشيخ محمد المدني كنون و”القبض” عند المالكية

0

الشيخ محمد المدني كنون و”القبض” عند المالكية

لازلتُ أعاني”داء”الكتابة .. وخصوصا حين أقرأ كتابا جديدا!!

وقد انتهيتُ من قراءة كتاب”ذكريات مشاهير رجال المغرب”للشيخ عبد كنون الحسني،وقد أهداني  الكتاب ابن أختي أمين .. جزاه الله خيرا.

كثيرة هي الخطوط التي وضعها تحت عبارات .. وأبيات .. وأفكار معينة .. ثم قدر الله تعالى،عليّ أن أقف عند سيرة جد المؤلف واسم ( الشيخ محمد بن المدني كنون،وكنون بفتح الكاف المعقودة وتشديد النون المضمومة قبل الواو هو لقب الأسرة التي ينتمي إليها الشيخ،وهو لقب أطلقه البربر على محمد بن القاسم بن إدريس الحسني،يقال إن معناه القمر ){ذكريات مشاهير رجال المغرب) / عبد الله كنون الحسني / دار الكتب العلمية / جـ3 ص 9 الترجمة رقم” 44″}.

وقد لد (القمر)المتُرجم له  بفاس سنة 1240هـ

ومن آراء الشيخ حول الجهر بالبسملة،يقول المؤلف :

(ومع ذلك لابد من الإشارة إلى أخذه بالسنة أيضا في العبادات من ذلك تأييده للبسملة وقوله :”إن الجهر بها أو السر على حد سواء في المخالفة للمذهب فلا معنى للسرية وكذلك تأييده للسكوت في تشييع الجنازة على ما حققه الرهوني وكذلك سكوته على تأييد القبض وعدم تعرضه لترجيح المالكية كما فعل غيره من تلامذته فمن دونهم){ ص 17}.

هنا وقفة :

لا يتعلق الأمر بالخلاف المشهور .. المشهود في عدم القبض في الصلاة عند السادة المالكية،ولكن الذي يثير الدهشة .. هو”التعصب”وانتقاد من يقبض وكأنه أتى منكرا!

وقد استمعتُ إلى أستاذ دكتور،صاحب علم ومنصب .. يقول أننا – معاشر المالكية – لا نقبض في الصلاة،لأن أحاديث القبض كلها فيها كلام .. أو شيء بهذا المعنى.

على كل حال .. نذهب من ترجمة”كنون”إلى ترجمة الشيخ.. ( الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد المَسْنَاوي (..) وقد ولد بزاوية “الدلاء”عام 1072 ){ جـ3 ص 7 من الترجمة رقم”43”}.

ومن مؤلفات الشيخ :

(نصرة القبض،والرد على من أنكر مشروعيته في صلاتي : النفل والفرض (..) والرسالة الأولى مشهورة متداولة بأيدي الناس،وقد حمل فيها حملة موفقة على منكري القبض في الصلاة من المالكية وغيرهم وأتى بها صحيفة بيضاء نضحت عن السنة المحمدية وفضحت عوار المتعنتين في هذه المسألة من جهلة الفقهاء.

وبناها على ثلاثة مباحث،الأول في حكم القبض في صلاتي النفل والفرض. والثاني في حكم التقليد وما ورد في الانتقال من مذهب إلى آخر من تخفيف أو تشديد. الثالث في معارضة من اعترض ذلك من الجهال وبيان ما اشتملت عليه حججهم الواهية من الاختلال ويتخلل ذلك فوائد ونكت وتحقيقات قل نظيرها ومن يعتني بها من المؤلفين. وقال في خطبتها : “وبعد فلما وقع في هذه الأعصار التي هطلت فيها سحائب الجهل على البوادي والأمصار،إنكار القبض على من فعله من المالكية في صلاة الفرض وبولغ في التشنيع عليه حتى نُسب إلى ما لا يُحب أحد أن ينتسب إليه،رسمنا في ذلك هذا التقييد،وذكرنا فيه من نصوص الأيمة ما ليس عليه مزيد”. واستهل المبحث الأول بقوله :”اعلم أن قبض اليسرى باليمنى في قيام الصلاة وبدله،مختلف فيه في مذهب الإمام مالك على أربعة أقوال مذكورة في مشاهير كتب أيمة مذهبه كمختصري ابن الحاحب وابن عرفة وغيرهما : الاستحباب والكراهة والجواز والمنع.

… فأما القول الأول في استحبابه في الفرض والنفل،وترجيحه منهما على الإرسال والسدل،فهو قول مالك في الواضحة وسماع القرنين أيضا واختاره غير واحد من المحققين كالإمام ابن الحسن اللخمي{ هكذا : وهو أبو الحسن اللخمي المتوفى سنة 478هـ – محمود} والحافظ أبي عمر ابن عبد البر والقاضي أبي بكر بن العربي،وابن الوليد بن رشد{هكذا وهو أبو الوليد بن رشد المتوفى سنة 595هـ – محمود} وعدّه في مقدمته من فضائل الصلاة وتبعه القاضي عياض في قواعده وكذا القرافي في الذخيرة صدر بأنه من الفضائل ثم ذكر بعدُ ما فيه من الخلاف ومن اصطلاحه فيه تقديم المشهور على غيره كما نبه عليه في خطبته قال وهو في الصحاح عنه عليه السلام ومثل ما للقرافي لابن جزي في قوانينه ونسبه عياض في الإكمال إلى الجمهور وهو أيضا كما في الذخيرة للقرافي والميزان للشعراني قول الأيمة الثلاثة الشافعي وابن حنيفة {هكذا – محمود} وابن حنبل..إلخ”

ثم مضى يفصل القول فيما أجمله وينقل كلام العلماء في هذا الصدد معززا ذلك برواية الأحاديث الصحيحة التي أخرجها أيمة الحديث ومنهم الإمام مالك. والعجب من تنبهه لضياع هذه السنة وانتصاره لها في وقت كاد ينكرها الجميع من خاصة وعامة،وأعجب من ذلك أنه لم يتأثر في هذا الأمر بعامل خارجي كما حصل لبعض علمائنا الذين نادوا بمشروعية القبض وسنيته لما زاروا بلاد المشرق ورأوا عمل الناس عليه وثاقفوا فقهاء المذاهب الأخرى واقتنعوا بحجيهم،بل كان ذلك منه اجتهادا وصدعا بالحق وتجديدا لأمر الدين وهذا منتهى البسطة والرسوخ في العلم){ جـ3 ص 9 – 11 من الترجمة رقم 43″}.

ولـ”المسناوي”أيضا رأي لافت في جواز تتبع الرخص .. ولكن نقله يخرج بنا عن الموضوعين!!  

قبل العود إلى الشيخ”كنون”أذكر أن أخي الدكتور المرابط المجتبى،أخبرني أن أحدهم قال إن إيراد الإمام مالك لحديث “القبض”في “الموطأ” معناه أنه يقول لكم .. أنني أعرف الحديث!!

وهذا لعمري اختبار !! فالإمام مالك رحمه الله هو القائل : كل يؤخذ من قوله ويرد .. إلا صاحب هذا القبر .. صلى الله عليه وسلم .. سواء ثبتت هذه المقولة عن الإمام مالك أو كانت لغيره .. فإن معناها لا يقبل الجدل ..  

نعود إلى الشيخ “المدني كنون” وأشهر كتبه وهو المعروف ..(“بالاختصار”في أربع مجلدات وهو في الواقع اختصار لحاشية الشيخ الرهوني الكبرى التي وضعها على حاشية الشيخ بناني على شرح الزرقاني لمختصر الشيخ خليل الجندي المبين لما به الفتوى في مذهب الإمام مالك وأهمية هذه الحاشية عظيمة جدا لأنها صححت الاخطاء الواقعة في شروح الأجاهرة أعني الشيخ علي الأجهوري وأتباعه وتلامذته وغيرهم التي حذر الفقهاء من اعتمادها إلا بمراجعة ما كتبه عليها الشيخ الرهوني الذي التزم بذكر النصوص وتسجيل النقول المنسوبة لأئمة المذاهب بالتمام والكمال من غير حذف ولا تصرف،ففضح تلك الأخطاء التي انْبنتْ عليها أحكام غير صحيحة.ولكنها طالت سبب ذلك فجاءت في ثمانية مجلدات فاختصرها الشيخ وحلاها بفوائد يأتي  بغالبها في أول الأبواب،كأصل الباب من الكتاب والسنة وتصحيح المعاملات والتحذير مما يقع فيها من المخالفات الشرعية وقرّب على القارئ ما عسى أن يطول عليه من استيعاب تلك النصوص مع مناقشة بعض الأقوال وردَّ ما لا يصح منها،وقد طبع الاختصار مع الأصل ويعتبران معا من المراجع التي لا غنى عنها للباحث والمفتي والمدرس){ ص 20 – 21}.

ومن تآليفه أيضا ..( تأليفه في الشهادة والفتوى والقضاء وشروطها والأحكام المتعلقة بها مما يرتفع بهذه الخطط الشرعية عن المستوى الهابط الذي وصلت إليه،وهو مطلوب في الداخل والخارج ومن المجامع الفقهية والكليات الإسلامية،ولكنه نفذ من زمان وأصبح نادر الوجود){ ص 22}.

ومنها ..( كتاب الزجر والإقماع بزواجر الشرع المطاع عن حضور آلات اللهو و السماع،في جزء مطبوع،جنح فيه إلى ما ذهب إليه الجمهور الغفير من سلف الأمة وعلمائها وصلحائها من تحريم سماع الآلات الموسيقية لاسيما مع اجتماعها والغناء الذي يصحبها وكذلك المنفرد إذا كان مما يحث على اللهو والتصابي والفجور خاصة من الجواري والنسوان والمخنثين من الرجال،ولم يُسامح في السماع إلا لأصحاب الأحوال الصحيحة الذين يستعينون به على الذكر والذكرى والاعتبار … (..) ومن المؤكد أن باعثه على تأليف هذا الكتاب كان سياسيا بالدرجة الأولى،نظرا لما كان عليه الوضع السياسي بالمغرب في وقته من الانهيار وهزيمة الجيش الوطني في حربين متتاليتين،مع فرنسا وإسبانيا في إيسلي وتطوان وانشغال المسؤولين بالغناء والطرب حتى اعتبرت تلك الفترة من الزمان عند المهتمين بالفن وفترة إحياء الموسيقى الأندلسية ونهوض. ولا نحتاج إلى القول أن رأيه هذا مما كان يردده في دروسه على رؤوس الملأ ..){ ص 22- 23}.

هنا وقفة تعجب .. فالإنسان غير معصوم .. والشيخ – رحم الله والديّ ورحمه – حين أباح “السماع”لأصحاب”الأحوال”يبدو أنه نسي أن هذا الاستثناء يحتاج إلى”دليل”كما أن ما انتقده من أمر”السماع” هو من “مآلات”ذلك التساهل في أمر”السماع”.. والله تعالى أعلم.

ولسنا في حاجة إلى وقفة مع تزامن “الهزائم” مع فترة إحياء”فن الموسيقى الأندلسية” !! إذ يكفي أن نكمل النقل .. (وقد أوعز المسؤولون إلى بعض من عاصره من أهل العلم بالرد عليه ولكن لم يكن له أثر ملحوظ في الأوساط العلمية.){ص 23}.

ما الذي يعني “المسؤول”من فتوى تحرم الفن .. طالما أن”الفن”نفسه في غاية النهوض .. والانتشار!!مع وجود “علماء”يفتون بإباحة”السماع”وقد يحضورنه .. تأكيدا على إباحته! ولعلم المقصودون برسالة الشيخ”المدني” أي تلك المسماة ..( “إيقاظ المفتون المغرور،مما تذم عواقبه يوم النشور”ركز فيها على النصح للعلماء خاصة،وذكر ما كان عليه علماء السلف من الجد والاجتهاد والحرص على نفع العباد ومقارنة أحوالهم بأحوال علماء عصره قائلا في تصديرها :

“وبعد فإنما المقبول المنقول بشرط أن يكون في محله غير محرف عن موضعه،وغيره بأجمعه محضر فضول وتضييع للقائل والمقول،(..)” وهي مطبوعة بالمطبعة الحجرية بفاس){ص 25}.

ويكتب المؤلف – الحفيد – متأملا :

(يمكننا من التأمل في قائمة كتب الشيخ ورسائله أن نعرف مواقفه من قضايا مجتمعه وأفكاره الإصلاحية التي نادى بها طول حياته ودروسه وكتاباته،وهي مجمل دعوته التي تُبلور في جوهرها دعوة الإسلام الصحيح،فهو لم يأت بشيء جديد من عنده،إنه كما قلنا فقيه مالكي ملتزم بمذهب إمام دار الهجرة،كما كان كل المصلحين  قبله : ابن تيمية وابن القيم والشاطبي والطرطوشي وابن الجوزي وزروق وابن عبد الواهب ومحمد عبده وغيرهم كانوا متمذهبين بأحد هذه المذاهب السنية،ويدعون إلى تطبيق الشريعة في المعاملات والسلوك ومجانبة البدع والأهواء،وكذلك كان الشيخ يدعو الناس إلى اتباع السنة ويشتد على المخالفين،ويقف منهم مواقف جادة أدت إلى إيذائه والانتقام منه على الصعيدين العام والخاص،كما أوذي من سبقه أو لحقه من المصلحين. وهذا فرقُ ما بينه وبين معاصريه من العلماء الذين كانوا يعلمون ما يعلمه ولكنهم لم يتجرأوا وينكروا ما ينكره.){ ص 27}.

ونصل إلى موقف لافت للشيخ،يدل على أن”المعلم” أو”الشيخ”دوره أكبر من مجرد سكب العلم في قلوب طلابه .. ولكنه “المنقب”عن المواهب التي إن أُهملت قد تضيع .. وتلك (..قصته مع أحد طلبته وهو العلامة شيخ الجماعة سيدي أحمد بن الخياط شهيرة،وذلك أنه تخطفته إحدى هذه الطرق فانقطع عن الدرس،فكتب الشيخ إلى القاضي بفاس يقول إن ها هنا طالبا ظهرت نجابته وجادت قريحته وأصبح طلب العلم في حقه واجبا عينيا لا كفائيا،وقد استمالته إليها إحدى الطرق المنتسبة إلى التصوف،فيجب إجباره على الرجوع لطلب العلم والاشتغال بما هو أنفع له وللمسلمين،وأنتم أولى بنصحه ورده إلى الصراط المستقيم،فهل عُرف في التاريخ من يحمل الناس على طلب العلم بسلطة القضاء؟){  ص 28 – 29}.       

وقضية أخرى .. ذات صدى .. (..قام الشيخ بدعوة أخرى كان لها وقع عظيم في أوساط المترفين. وهي قوله ببطلان التسري على ما كان عليه من اختطاف بنات القبائل وأبنائها الصغار،ولا سيما السوادين ويَبيعهم على أنهم أرقاء،فتُنكح إناثهم بما يسمى ملك اليمين،مصرحا بأن هذا النكاح فاسد،وأن ما ينشأ عنه من ذرية وما يبنى عليه من أحكام الرقيق كله غير شرعي وباطل لأنه واقع في غير موقعه،ومُنزّل على خلاف ما ورد في أحكام الشريعة،وأن من شاء السلامة والاستبراء لدينه وعرضه فعليه أن يعتق الرقيقة من هذا القبيل ويستبرئها ويعقد عليها بصداق ونكاح شرعي صحيح،ولا يجوز أن تكون زائدة على الأربع التي أحلها الشرع (..) مُبينا أن ملك اليمين لا يكون إلا من المسترقين من الحرب مع الكفار لا غير،وهؤلاء من المسلمين معتدى عليهم بالاختطاف،فامتلاكهم لا يصح وأحرى نكاح إناثهم بملك اليمين،وينشد في ذلك من نظمه :

جُلّ أرقاء السوادين فاعلما * حر،كما ثبت عند العلما

وقد ضاق بدعوته هذه أبناء الإماء والكبراء وذوا الجاه الذين كانت دورهم وقصورهم تعج بالإماء المستولَدات والبنين والبنات المتكونين من هذا النكاح،ورموه بالفظائع وطعنوا في عرضه وسبه،وكثرت الشكاية من الشيخ فاستدعي من طرف الوالي وبلغه استياء أولي الأمر وعموم الناس من هذه الحملة التي تمسهم في دينهم وأعراضهم،وأن عليه أن يكف قوله هذا وليسعه ما وسع غيره من العلماء،فبين له الشيخ مدار هذا الحكم وأدلته من الشرع،وأن حكم أولي الأمر أن يغيروا هذا المنكر ويمتثلوا في أنفسهم ويأمروا غيرهم بالامتثال (..) فجعل الوالي يناقش الشيخ،فأغلظ له الشيخ القول ورد عليه بأن العلم ليس شغله،فقال الوالي لأعوانه خذوه إلى السجن،فقال الشيخ : “نعم. هذا شغلك”

وما إن شاع خبر سجنه في المدينة حتى عمها الاضطراب وخصوصا في أوساط العمال والحرفيين والطلبة وغيرهم وقاموا بمظاهرة عظيمة هي الأولى من نوعها في مغرب أمس كما سبق القول،احتجاجا على اضطهاد قادة الرأي وكبت الحرية الفكرية،فصدر الأمر بتسريح الشيخ فورا،وكان عالم فاس الشيخ المهدي بن سُودة ممن استنكر فعل الوالي وكتب إليه بذلك،وهكذا خرج الشيخ من السجن محمولا على الأعناق وعاد إلى منزله معززا مكرما وتقاطرت الوفود إليه من مختلف الطبقات مهنئة وشادة أزره ){ ص 29 – 30 جـ3 ترجم رقم 44}.

هنا أيضا لابد من وقفه .. بل أكثر :

الوقفة الأولى : بطبيعة الحال تجاوز الزمن مسألة “الرقيق”لكنها تعطينا مثالا على واقع الناس حين تتعارض مصالحهم .. أو ملذاتهم مع الشرع .. ويبدو الشيخ – رحم الله والديّ ورحمه – هنا صافية النية .. يريد لمن تملك “أمة”بتلك الطريقة أن يعتقها ويعقد عليها .. إلخ. يعتق من ويترك من!!

وقفة أخرى : تلك المظاهرة التي ذكرها المؤلف،وكانت من أسباب إطلاق سراح الشيخ .. ذلك هو مأزق”الشهرة”أو”النجومية”وهي أمر لابد أن ينظر إليه الحكام بعين الاهتمام .. أسميه “مأزقا”لأنه قد يُحتاج إليه ليكون الشيخ”النجم”وسيلة لتوجيه”العامة”نحو ما فيه الخير .. إلخ.

رأينا قبلُ أن الشيخ يحرم”السماع”مع بعض الاستثناء .. والآن إلى موقفه من”التصوف”يقول المؤلف :

(ومواقفه من هذا القبيل مما يطول تتبعه،والناس تحكي منها الغرائب فلنكتف بما ذكرناه،ويهمنا أن نمحص موقفه من التصوف كما فعلنا في موقفه من السماع. فهو لم ينكر التصوف من أهله،وكيف وهو لا يفتأ يستشهد بكلام أئمته كالجنيد والقُشيري صاحب الرسالة والغزالي وغيرهم،ولكنه كان ينكر على أهل الأحوال الكاذبة والدعاوى الباطلة،والمتمشيخين من غير علم،والمتصوفين مع سوء السلوك،وكان اهتمامه بالباطن أكثر من الظاهر،وبالأعمال قبل الأفعال{لم أستطع أن أفهم الفرق بين”الفعل”و”العمل”- محمود}،ومما كان يقوله ازدراء على المتفرقة الذين يتعاطون التشوق :

“والفضيحة كل الفضيحة،السُبحة والتنفيحة”وكثيرا ما كان ينشد فيهم قول صاحب المباحث الأصلية :

قولُ الفقير أنني فقير * إلى الظهور أبدا يشير

وخلاصة القول أنه كان يُخضع التصوف للفقه من غير عكس،فمدرسته هي مدرسة ابن الحاج صاحب”المدخل”والمرجاني وابن أبي جمرة ومن أتى بعدهم ..){ ص 31 – 32}.

وقد ولي الشيخ القضاء .. أو وُلِّي القضاء :

(ومن المهم أن نذكر أنه ولي القضاء بمراكش وأنه اعتذر من القبول وتعلل بكل العلل،فلم يُقبل منه عذر ولا سُومح في ذلك،فقال له شيخه ابن أبي عبد الرحمن الحجرتي : اقبل واذهب واحكم بالشريعة ولا تخالف شيئا مما تعرف من شروط الخطة فإنهم يعفونك سريعا وهكذا قدم إلى مراكش،وجاءه عدول المحكمة يسلمون عليه ويرحبون به فقال لهم : “من أنتم”؟ قالوا”العدول”فقال لهم : “أنا غريب عن هذا البلد  وعدالتكم عندي غير ثابتة ولا أعرفها فاتوني بما يثبتها لأتعامل معكم وأقبل شهادتكم فأحدث كلامه هذا رجة في نفوسهم،وخرجوا من عنده يتلاومون،وذهبوا إلى القاضي الثاني،وكان في مراكش قاضيان اثنان،فقال لهم : لا عليكم أنتم مقبولون عندي فلا ترجعوا له. وكذلك فعل مع ناظر الأوقاف لما جاء للسلام عليه فقال له بناء على ما”هو”مقرر في كتب الفقه فإن الأوقاف لنظر القاضي ومتوليها تابع له وعليه فيجب أن تحضر لي الحوالة الحبسية ودفاتر الحسابات ولا تبرم شيئا بعد الآن إلا بمشورتي وموافقتي،فخرج الناظر وهو لا يقضي العجب من هذا القاضي الذي لم ير مثله من قبل.

وراجع الوالي الجهات المسؤولة في الأمر،وبقي الشيخ لا ينظر إلا في الدعاوى التي أزمنت أو التي كان أصحابها يخافون من التلاعب بها،فهم يرفعونها إليه (..) ولما كان يعلم من عدم الموافقة على السيرة التي سلكها وتشوفه إلى العودة لبلده كتب للوزير الأول يستقيل من هذه الولاية التي لم يخلق لها على حد تعبيره ..){ ص 32 – 33}.

ومن أنظام الشيخ :

ولا تكفرنْ إلا بالشرع * وضابط التكفير فيه مرعي

وهو اعتقادهُ أو التكذيب *ببعض ما جاء به الحبيب

أو التهيؤُ بهيئة الكفار * كحمل صالب وعقد زنار

وكذلك :

صغيرة تكبر بالإصرار * أو فرح بها أو افتخار

أو عدم استحياء أو استصغار * أو كونها من قدوة يا قارِ

ويقول :

وضرب كل ذي حياة محترم * حرام إجماعا فعَمَ الحُرَم

وضربه الوارد في الأخبار * بقصد تأديب بلا إضرار

ويقول :

وبالمخالفة للشيطان * عداؤه لا اللعنِ باللسان

وبعد .. فلكل شيء نهاية .. وسبحان من له الدوام .. (قال العلامة “المشرفي”في كتابه”الدر المكنون”كان ابتداء مرض شيخنا قدس الله روحه في يوم الجمعة مفتتح شوال سنة ثنتين وثلاثمائة وألف وذلك أنه لما صعد المنبر للخطبة بجامع أبي الجنود وشرع فيها أصابته حالة لم يقدر معها على إتمام الخطبة قائما فكملها بالجلوس ثم لم يزل به كذلك بعض الضرر وتفاقم الأمر واشتد عليه المرض حتى كان آخر يوم من ذي القعدة وهو يوم الخميس فاحتضر وخرجت روحه رحمه  الله وهو محاط بالعلماء والطلبة وكثير من الناس وذلك ليلة الجمعة مهل ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة..){ ص 34}.

وختاما .. تعليقا على معاناة الشيخ”محمد المدني” كتب المؤلف :

(إن الحق في زمن الباطل لا أنصار له) : عبد الله كنون الحسني

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.