www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

العولمة: المجتمع الدولي والنظام العالمي/الدكتور جيلالي بوبكر

0



العولمة: المجتمع الدولي والنظام العالمي

* ارتبطت العولمة في نشأتها بوعي تاريخي تشكّل في ظروف النهضة الحضارية التي عرفتها أوربا الغربية في العصر الحديث،

اتجه هذا الوعي إلى التمسك بقيم الحداثة، الحرية، العقلانية، التعددية السياسية، العلمانية، العلمية، واستخدام التكنولوجيا وغيرها،

 

 

كما اتجه الوعي من جهة أخرى إلى تصدير قيم الحداثة والنهضة ومنتجات الحضارة إلى الشعوب المجاورة لأوربا الغربية ثم تصديرها إلى مختلف أنحاء المعمورة، فأخذت الحضارة الغربية طابع العالمية ومنحى الشمولية، وهو أمر طبيعي وتاريخي، فالحضارة أخذ وعطاء، تأثير وتأثر، انتشار وانصهار من غير اختراق أو ذوبان، لأن الحضارة لا وطن لها والعلم ليس حكرا على جنس أو لون، الحضارة ملك للإنسانية جمعاء وهي لا تنفي الخصوصية ولا تتعارض معها، فالحضارة الإسلامية لها محليتها وخصائصها الدينية والثقافية مثل العلوم الدينية البحتة ولها إسهاماتها في الفعل الحضاري العام والمشترك، مثل إسهامات العلماء المسلمين في الطب والصيدلة وفي الكيمياء والرياضيات وفي الأحياء والفلك والاجتماع وفي غيره من العلوم المختلفة، فجاءت إسهامات المسلمين الحضارية عامة وإنسانية استفادت منها الحضارة الحديثة، وقبل هذا استفادت الحضارة الإسلامية من منتجات الحضارة اليونانية مثلما استفادت الحضارة اليونانية من حضارات الشرق القديم، ولولا الاستمرار الحضاري ودأبه ما ظهرت الحضارة الغربية الحديثة، فالتحضر لا يقوم في العدم والفراغ بل له شروطه ولوازمه الفكرية والمادية، الأمر الذي تحاول بعض الاتجاهات الفكرية والفلسفية نفيه، الاتجاهات التي سايرت انتشار منتجات الغرب الأوربي الحضارية وعالميتها، والتي ترد الحضارة والتقدم إلى عوامل وشروط لا تتوفر خارج أوربا، ولا في جنس بشري إلاّ العنصر الأوربي، فمركز العلم والثقافة والإبداع والازدهار الحضاري حسب النزعة المركزية الأوربية أوربا لا غير قديما وحديثا، قديما حضارة اليونان وحديثا الحضارة الغربية الأوربية، وكل الحضارات الأخرى الخارجة عن أوربا وهي لشعوب وأمم أخرى إما مقتبسة من المركز الحضاري الأوربي أو عبث وهراء ومحض عدم، نزعة استكبار واستعلاء تقوم على إيديولوجيا تتفق مع منازع الحركة الصهيونية العالمية التي تقول بارتباط كل الثقافات الدينية والفلسفية العالمية وكل الحضارات العالمية بأصول ومصادر عقائدية دينية، ويصل التطرف بالنزعتين المركزية الأوربية والصهيونية العالمية إلى حد تكريس التمييز العنصري بشكل مباشر وغير مباشر، الأمر الذي فسح المجال لتنامي ظاهرة التباهي بالأجناس وتعاظم خطرها على الأمن والسلام في العالم، وهي تصورات وتفسيرات تتعارض مع سائر القيم الموضوعية الإنسانية والعلمية والتاريخية والواقعية، برغم من مجانبة هذه التصورات الحقائق العلمية والتاريخية إلاّ أنها كانت وراء القيم الحضارية للنهضة الأوربية الحديثة، قامت بأدلجتها لتقوم على معطيات خارجة تماما عن قيم التحضر والاقتدار الحضاري وعن العلم ومقوماته، فهي تنم عن الشعور بالعظمة، والرغبة في السيطرة والسطو وامتهان كرامة الآخر، وإرادة الهيمنة واستغلال القوة المتاحة في نهب طاقات الآخر البشرية والمادية وقهره وسحقه من من دون مرحمة أو مشفقة.

* أخذت الحضارة الأوربية الحديثة منحى العالمية والشمولية، ولا أحد ينكر عليها إيجابياتها وما قدمته من خير كبير للإنسان، لكن التواطؤ الإيديولوجي الأوربي الغربي والأمريكي جعلها تنحرف من العالمية إلى الاستعمار الحديث في تعامل بلدان أوربا الغربية والولايات المتحدة مع الآخرين في جهات أخرى من العالم، فالتاريخ لا ينسى ما ألحقه الخليط البشري الأبيض وغير الأبيض بالسكان الأصليين في أمريكا الشمالية بعدما اكتشفها “كريستوف كولومبس” من قتل وتشريد وعدوان، ولا ينسى التاريخ ما فعله الاستعمار الغربي الفرنسي والإيطالي والإنجليزي والإسباني وغيره بالشعوب المستعمرة، بعدما أهلته حضارته القائمة على الحرية والعدالة والأخوة الإنسانية لتقسيم العالم والتسابق على مناطق النفوذ العامرة بالثروات الطبيعية التي تُستخرج بسواعد المستعمر – بفتح الميم – في ظروف قاتلة وتتحول إلى السيد في أوربا للاستغلال، ولا ينسى التاريخ ممارسة الاستعمار لكل صنوف العدوان والقهر والاستبداد للشعوب المستعمرة خاصة في حروبها التحريرية، وخير مثال نسوقه هنا ما فعله الاستعمار الفرنسي في حملته على الجزائر في جميع المستويات، وما فعلته قواته العسكرية والبوليسية والمخابراتية أثناء حرب التحرير من قتل وتشريد، ناهيك عن المخططات الثقافية والدينية التي نفذتها بقوة الحديد والنار، منها فرض اللغة الفرنسية على الجزائريين وإلغاء اللغة العربية، وتحريم تعليم القرآن والعلوم الدينية وغيرها وممارسة التنصير، وبعد الاستقلال لم تسلم الجزائر وشعبها العربي المسلم ولا الشعوب الأخرى من تأثير بقايا الاستعمار في الحياة السياسية والثقافية وغيرها، فالاستعمار الحديث هو شكل من أشكال العولمة كرّس الهيمنة الغربية الأوربية على بقية الشعوب المقهورة، هيمنة سياسية وثقافية واقتصادية وعسكرية، استغل الاستعمار فيها كل ما لديه من إمكانات، خاصة التطور التقني الهائل في المجال العسكري والأمني وفي تقنية الإعلام والاتصال، وبعد الحرب العالمية الأولى والثانية تبدلت موازين القوة، إذ برزت الولايات المتحدة الأمريكية التي استفادت من الحربين كقوة عظمى تنافس الغرب الأوربي حضاريا وتنافس المعسكر الاشتراكي إيديولوجيا، وجاء عصر الاستقطاب الذي سرعان ما انتهى وولّى بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ومنظومته الإيديولوجية وتفكك الاتحاد السوفييتي وتوقف الحرب الباردة، وانفتح المجال للقطبية الأحادية ويمثلها المعسكر الغربي الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أقوى دولة في العالم اقتصاديا وعسكريا، وكانت في هذه المرحلة موجة التحرر من الاستعمار قد بلغت أوجها، وبدأ الاستعمار يتلاشى تدريجيا وتحررت الكثير من الشعوب، لكن خروج الغزاة من مستعمراتها لم يمكّن هذه المستعمرات من أن تتحرر من بقايا الاستعمار وبراثنه، ولا من والوصاية الاستعمارية عليها التي مازالت قائمة حتى الآن، بحيث مازالت الأنظمة الحاكمة في البلدان المستقلة تابعة للاستعمار بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا شكل آخر من أشكال الهيمنة الغربية الأوربية على العالم باسم الشرعية التاريخية الاستعمارية، ويتكرر التنافس على مناطق النفوذ بين القوي الكبرى المهيمنة وبحثا عن الطاقة، لكن هذه المرة باسم العولمة والنظام العالمي الجديد، لأن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشعوب العالم تغيرت، والعلاقات الدولية لم تعد على ما كانت عليه في عصر الاستقطاب. 

* أصبح المجتمع الدولي في ظل القطبية الأحادية مصنفا إلى مجتمعات من حيث القوة ودرجة التقدم، والعالم موزعا إلى عوالم، العالم الأول المتقدم والعالم الذي يليه أقل تقدما من العالم الأول، والعالم الثالث النّامي أو السائر في طريق النمو، ويوجد العالم الفقير جدّا، تميز المجتمع الدولي الجديد الذي يقوم على الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية بملامح و”مقومات التحول الهيكلي والفعالية الإنتاجية الإبداعية وبكل أركانه ودعاماته من حرية فكر وتعبير، ومن ثم إبداع وحق في التغيير، هو الأساس الصحيح للمناعة الثقافية في مواجهة أي رياح معادية تستهدف زعزعة الذات الجمعية…لقد بلغ عصر الصناعة، عبر مراحله أو موجاته الثلاث، مرحلة جديدة هي ثورة جديدة، إنها ثورة على المبادئ الأولى لنشأة عصر الصناعة ذاته..وثورة على الواقع الاجتماعي الراهن الذي هو حصاد القرون الثلاثة أي حصاد العصر الحديث، هي ثورة في الفكر وفي الثقافة…وأصبح الحديث الآن عن الظرف الكوني، والوعي الكوني والحدود الكوكبية لا القومية، وعن القضايا الكونية ورأس المال الكوني الذي يملك، إن لم يفرض حرية الحركة والتسويق والإنتاج والمضاربة على المال في كل الأنحاء المسكونة، التي يراها مجال فعله ونشاطه وهيمنته”.[1] المجتمع الجديد أفرزته التحولات والتحديات البارزة والمتسارعة في العالم، وأهم وأبرز تحول من هذه التحولات تحول العولمة الذي ارتبط أساسا بمخلفات التطور التكنولوجي الهائل على الاقتصاد وعلى الرأسمالية وعلى الديمقراطية الليبرالية وعلى وسائل الإعلام والاتصال والإشهار، هذه الإفرازات عززت قوة العالم الأول المتقدم الذي حدد مقاييس النظام العالمي الجديد الذي يحكم المجتمع الإنساني الجديد في ظل العولمة وهي الخط الذي رسمه النظم العالمي الجديد لنفسه ليعبر منه إلى كل أنحاء المعمورة، “لهذا كله..فإن مناط الأمر على طريق التحول الحضاري سيكون- في جميع الأحوال- مجتمعا جديدا وإنسانا جديدا..مجتمعا ديمقراطيا على مستوى حضارة العصر مع الاحتفاظ بالخصوصية: رأي حر، مشاركة حرة، حقوق وواجبات لها السيادة ومتساوية بين الجميع..حكاما ومحكومين باعتبارهم مواطنين، دون تمييز على أساس من عرق أو دين أو نوع أو قبيلة أو عائلة، وأن يجمل هذا كله دستور هو الضامن والكفيل، معتمدا على العقل الحر حكما ومرجعا، وأن تكون أسسه ثقافة اجتماعية سائدة…وهكذا ينمو الجنين ويشب الوليد في حضن طبيعة أو بيئة هي ذاتها دفء الأصالة والابتكار..ويحمل المجتمع الوليد بصمة الخصوصية، خصوصية التاريخ والواقع والعصر، ويتميز بدينامية التطور الارتقائي. إن الحداثة والمجتمع الديمقراطي بنية واحدة متكاملة متطورة، أو هما وجهان لعملة واحدة لا وجود لأحدهما دون الآخر”.[2] المجتمع الجديد والإنسان الجديد والمواصفات الجديدة في المرحلة الجديدة، كل هذا يشكل غاية العولمة والنظام العالمي الجديد، ويعكس تطلعات الشعوب في التنمية الشاملة خاصة الشعوب المتخلفة، كما يظهر في خطاب العولمة وفي بيانها النظري وميثاق النظام العالمي الجديد وسائر مواثيق ودساتير المنظمات العالمية والهيئات الدولية السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى العسكرية، ويدل على في الظاهر على إيديولوجيا العولمة، لكن في حقيقة الأمر أن حقيقة العولمة وغاياتها وحقيقة النظام العالمي الجديد وأهدافه وطموحاته شيء آخر تماما، أي على العكس من ذلك تماما.

* لما وُسّد شأن العالم ومصير الإنسانية للغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية بفعل امتلاكهما للقوة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والمالية والعسكرية، قاما بأدلجة الحضارة الحديثة وقيمها ومنتجاتها بالإيديولوجية الغربية والأمريكية، وسخرا سائر مقومات الحداثة وخاصة المقوم العلمي والتقني الذي طبع الحضارة الحديثة بطابعه لخدمة مصالح وأغراض الدول الكبرى المهيمنة، ولم تُؤخذ في الحسبان بتاتا مصالح المجتمعات الأخرى، مجتمعات العالم الثاني أو العالم الثالث أم المجتمعات التي دونه ضعفا وتخلفا، وصار خطاب العولمة وآليات النظام العالمي الجديد كلها جوفاء خالية من المضمون لا قيمة لها ولا معنى، وصار التناقض مفضوحا وعلى المكشوف بين خطاب العولمة ومعايير النظام الدولي وبين الممارسات السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والعسكرية للدول المهيمنة في الواقع، “لقد قامت العولمة كنظام عالمي جديد، قوامها الشركات المتعددة القوميات، حيث تجمع بينها شبكة من العلاقات والترابطات الدولية، وتلتقي حول هدف واحد هو إنتاج السلعة على نطاق عالمي، وتعمل في فضاء واحد هو السوق الكونية، وهذه الشبكة تخضع لنفوذ واحد، يتجاوز سلطة الدولة القطرية، هو نفوذ الرأسمال النقدي العالمي. إن العولمة بهذا المعنى لم تنظر إلى الإنسان إلاّ كمجرد مستهلك للسلع والبضائع والصور الأفكار التي تروج لها الشركات العالمية العملاقة، فهي لن تؤدي في الأخير إلاّ إلى تجريد الإنسان من هويته وإلى إلغاء دوره في حركة التاريخ.إن وسائل العولمة الاتصالية والإعلامية تستهدف إدراك الإنسان ووعيه من خلال عملية اختراق لهويته وتفكيك لمقومات شخصيته المرتبطة ارتباطا وثيقا بمنظومة من القيم وبشبكة متينة من المبادئ الأخلاقية. إن هذا الصدام بين العولمة وعناصر الهوية قد يمحق في الأخير جوهر الإنسان، ويضعف إرادته، ويعيقه عن القيام بأي دور تاريخي”.[3]

* يقوم النظام العالمي الجديد على إيديولوجيا العولمة كما رسمتها النزعة الأوربية المركزية وكما حددتها الحركة الصهيونية العالمية، لأن العولمة جعلت من إسرائيل طرفا فاعلا في معادلة النظام العالمي الجديد، ومحدداته وموجهاته أمريكية صهيونية أوربية، فإيديولوجية الأمركة المتصهينة من جهة والمتأوربة من جهة ثانية هي وراء عولمة العالم، وفرض النظام العالمي الجديد الذي يمثل مسطرة العولمة وغطائها الشرعي وعصاها التي تضرب بها بقوة كل من يقف بوجهها، “والنظام العالمي الجديد، بهذا المعنى، نظام معاد للإنسان. إن دعوة النظام العالمي الجديد لنشر الديمقراطية في أرجاء العالم لا تهدف إلى تمكين الجماهير من التحكم في مصيرها، وإنما هي أداته في فتح الحدود وإضعاف الدول القومية، حتى يتسنى له ترشيد البشر. ولكن هذه الدعوة كانت ولا تزال ليخفي بها مخططات بسط السيطرة على الشعوب والاستيلاء على ثرواتها. ومن جهة أخرى، تصور الديمقراطية التي تسوق لها أمريكا من خلال سوق حرة، تصور “دينا” جديدا لا يمكن للإنسان أن يجد حقوقه خارجها”.[4] فالتغني بحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية ونقل التكنولوجيا وحماية الحريات الفردية الجماعية وغيرها في العالم جعلت منها ممارسات القوى المهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية مجرد شعارات وحبر على ورق، لأن النظام العالمي الجديد من أهدافه الرئيسية “بقاء الشعوب مشلولة الإرادة، في حالم من القصور والتبعية وهي المسؤولة عن بقائها كذلك. وعجز الشعوب هو عدم استعمال قدرتها الذاتية دون تسيير من الغير. ولعل ذلك امتداد للاعتقاد الراسخ بأن على هذه الشعوب الخضوع للوصاية لأنها لم تنضج بعد لتعي مصالحها.إن النظام العالمي الجديد له قوانينه الخاصة التي تميز ما بين التابعين لشرعته والخارجين عليها.فالخارج عن هذه الشرعنة هو “الشرير” الذي عليه أن يعاقبه ويهزمه، وكل ذلك تحت تسمية إرهابيين. إنّه التعامل الذي يتعرض له شعب العراق وفلسطين، إذ تُصنف مقاومة المحتل في خانة الإرهاب- كذلك الأمر بالنسبة للمقاومة الإسلامية في لبنان. إنّ ما يتهمنا به الغرب قد مارسه على نحو أكثر فظاعة كما تشهد موجات الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين(الهنود)، والحروب العالمية. صحيح أن الغرب ينظر إلى نفسه بوصفه أقوى أقوياء الغاب أو بوصفه مصدر المعرفة ونموذج الحضارة، فيما هو يعاملنا بوصفنا مجرد مستهلكين لسلعه وأدواته. وبذلك يخفي الوجه الآخر لحقيقته: كونه يمارس الإرهاب بتهديداته وحروبه وتدخلاته ومفاضلاته العنصرية وكونه قد حقق تقدمه وإنجازاته، بقدر ما استخدمنا أو احتاج إلينا كأسواق. من هنا فإن الإرهاب الذي يتهمنا به مردود عليه، إذ نحن وجهه الآخر الذي يحاول إخفاءه – أليس العنف يغذي العنف وينتج الإرهاب؟”.[5]

* إنّ النظام العالمي الذي فرضته وتنفذه الدول الكبرى في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية يقوم من منظور العولمة على أنّ “العولمة واضحة الأهداف.إنّها تستهدف، هي والخوصصة ربيبتها، ثلاثة كيانات: الدولة، والأمة، والوطن. وإذا نحن سحبنا هذه الكيانات الثلاثة فماذا عسى يمكن أن يبقى؟ يبقى ما يحل محلها جميعا: الإمبراطورية العالمية. والإمبراطورية الجديدة، في عصر العولمة، ركائزها ثلاث: – الشركات والمؤسسات المتعددة الجنسية التي تتولى التسيير والتوجيه والقيادة عبر العالم، وهي بذلك تحل محل الدولة، في كل مكان. – أبناء البشر في كل مكان من الكرة الأرضية القادرون على الاستهلاك والذي يوحد بينهم ويجمعهم ما تلقيه إليهم العولمة من سلع وبضائع ومنتوجات إلكترونية تخلق فيهم ميولا وأذواقا ورغبات مشتركة. إنها “الأممية” في عصر العولمة. أما غير هؤلاء من الذين لا تتوفر لهم القدرة المالية على الاستهلاك فهم لا يدخلون في عداد “أمة العولمة”. ولذلك فهم منبوذون مهمشون سيتم التخلص منهم عن طريق “اصطفاء الأنواع” الذي يتوج المنافسة التي أصبحت تعني أكثر من أي وقت مضى: “أكثر ما يمكن من الربح بأقل ما يمكن من المأجورين.” – “الفضاء السيبرنيتي” وهو بحق “وطن” جديد لا ينتمي لا إلى الجغرافيا ولا إلى التاريخ. هو “وطن” بدون حدود وبدون ذاكرة وبدون تراث. إنه “الوطن” الذي تبنيه شبكات الاتصال المعلوماتية الإلكترونية (الفضاء السيبرنيتي)”.[6]إذن فمحددات العولمة والنظام العالمي الجديد ثلاثة هي: الإمبراطورية الكونية والأممية في عصر العولمة في الإنتاج والاستهلاك، وتقنية الاتصال والإعلام والإشهار، وكل شيء مهما كبُر وعظُم أو قلّ ونقص يحدث في الإمبراطورية لا يفلت من العولمة والنظام العالمي الجديد، والإمبراطورية في ظل العولمة هي الولايات المتحدة الأمريكية التي تعمل على ” حشد تحالف دولي مؤيد لها على جانب إعادة صياغة دور الأمم المتحدة لتصبح أداة لتحقيق أهداف الولايات المتحدة مع العمل على عزل أو حصار القوى الأخرى التي تهدف إلى إيجاد مكان لها على قمة النظام العالمي وذلك في المجال الاقتصادي للسيطرة على مصادر الطاقة في العالم التي يمكنها من خلالها السيطرة على المستوى الإنتاجي العالمي بحيث يصبح للولايات المتحدة اليد الطولى في ذلك وفي المجال العسكري التفوق المطلق في تطوير نظم التسليح والقيادة والسيطرة التي تحقق لها تنفيذ مهامها بكفاءة تامة ضد أي قوى مناوئة أخرى”.[7]

* من خلال ما سبق يتضح أن العولمة والنظام العالمي في حقيقتهما مشروع تجسده الولايات المتحدة الأمريكية لا غير، وبالتالي فهي أمركة فتحت الباب واسعا للفوضى والصراع والتسابق والتنافس على السلطة والمال، الأمركة التي دعا إليها ودافع عنها الساسة والمفكرون منذ نشأة دولة الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك “عقب الفراغ من عملية الصهر أو التطهير فلتسمها ما تشاء تشكلت دولة أمريكا على أساس من إعلان الاستقلال الأمريكي وأصبح جورج واشنطن أول رئيس للجمهورية فيها، ومنذ ذلك التاريخ البعيد والأمريكيون يعتقدون أنهم ابتكروا أعظم بلد وأعظم دولة عرفها التاريخ الإنساني، بل لقد اعتبر المستوطنون الأوائل – كما قال المفكر الأمريكي الشهير امرسون- أن بلدهم هو المخلوق الأخير وأعظم صدقة تصدق بها الرب على العالم، ولم يمض190 عاما على تأسيس أمريكا حتى قال الرئيس كنيدي: إنّ الأمريكيين هم الحراس على معاقل الحرية في العالم، ومن هذا وذلك تتكشف أبعاد رؤية الأمريكيين لأنفسهم بأنهم هم الأجدر بقيادة العالم”.[8] فرؤية الأمريكيين إلى الأنا وإلى الآخر هذه جاءت من منطلق الشعور بالعظمة وحب الذات بل من منتهى النرجسية وقمّة الأثرة، وصادرة عن منازع عرقية دفينة وهم رعاة الحرية والديمقراطية، تحركهم إرادة الهيمنة والرغبة في التسلط وقهر الآخر، تنافسهم في ذلك المركزية الأوربية لتضع أوربا في قمة النظام العالمي، وتشارك الأمريكيين في الرؤية والهدف الحركة الصهيونية العالمية النافذة في مراكز السلطة والمال والقرار في العالم، فالأمركة المتصهينة هي التي تقود العالم وتفرض عليه العولمة والنظام العالمي، ولا بديل عنها حتى ولو جرّته نحو الجحيم. ومن جانب آخر يطرح فعل تغيير الأنظمة في العالم ليحل محلها النظام العالمي أزمة ويحدث عدة اختلالات، يؤكد على استمرارها لعدة سنوات قادمة المفكر “أوليفيي دافوس” في كتابه “العولمة وحقيقتها” قائلا: “والمؤكد أن الاختلالات التي عرفها العالم خلال الربع الأخير من القرن العشرين ستمتد إلى السنوات القادمة. والأرجح أن هذه الاختلالات تترجم الانتقال من نظام إلى نظام آخر. ولئن كان يتعين التزام الاحتياطات الضرورية للبشرية التي تعيش في “النظام العالمي”، في نقل نظرية الأنظمة، فإن هذه النظرية تفيدنا أن الانتقال من نظام إلى آخر يتم عبر “كارثة”(بتعبير ر.ثوم)، في صورة نظام “يتشظّى” بفعل احتداد المفعولات الرجعية الإيجابية، ليسفر عن ولادة نظام آخر، أي حدوث تفاعلات أخرى بين متغيرات تحتل مواقع مختلفة ، ومفعولات رجعية سالبة تسهم في استقرار النظام الجديد. ومن الممكن أن تجعل “العولمة/الشمولية” العالم في نهاية هذا القرن ومطلع القرن الواحد والعشرين، يدخل في حالة “كارثة”. وستكون تلك، حينئذ، مهمة محفزة، أشد ما يكون التحفيز، للأجيال القادمة، على إعادة بناء عالمي آخر، بعد أن يكون تقادم نظام التحررية الجديدة”.[9]


[1]– شوقي جلال: العولمة الهوية والمسار، ص 242-243.


[2]– شوقي جلال: العولمة الهوية والمسار، ص243.


[3]– منير بن سعيد: العولمة والنظام الدولي الجديد، ص 185.


[4]– فيصل عباس:العولمة والعنف المعاصر، جدلية الحق والقوة، ص 312.


[5]– فيصل عباس:العولمة والعنف المعاصر،جدلية الحق والقوة، ص212-213.


[6]– محمد عابد الجابري: قضايا في الفكر المعاصر، ص 147-148.


[7]– محمد نصر مهنا: العلاقات الدولية بين العولمة والأمركة، ص 388.


[8]– نقلا عن رضا هلال، تفكيك أمريكا، ص 26. 


[9]– أوليفيي دولفوس: العولمة وحقيقتها، ص 192-193.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.