www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية8/أسامة عكنان

0

الحلقة الثامنة تابع تحليل أزمة حزيران 1970 بين النظام الأردني والمقاومة ************* وقبل اختتام حديثنا عن أزمة حزيران 1970، يجدر بنا الوقوف أمام أهم مظهرٍ رافقها، ألا وهو ذلك الذي جسَّدَتْه تصريحات الثورة عبر إذاعة “صوت العاصفة”، لنكتشفَ أدلةً جديدة على ضبابية الوعي – الذي تسَبَّبَ في الضبابية التي اكتنَفَت إدارةَ الصراع والمواجهات من ثمَّ – بمكانةِ الهويات، وبطبيعة لعبة “لوغو الهويات”، في تكوين عناصر المعركة الدائرة بين النظام والمقاومة منذ نشأتها.

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية
“دراسة في حلقات”
“جزء من بحث قُدِّمَ لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية”

أسامة عكنان
عمان – الأردن
الأردن وطن وليس مزرعة خراف
والأردنيون شعب وليسوا قطيع ماشية
والأردني مواطن يملك وطنا، وليس عابر سبيل يستجدي كسرة خبز
وحكام الأردن خدم وموظفون عند شعبهم، وليسوا سادة عليه أو مستعبدين له
فمن فهم فليعمل بما فهم، ومن لم يفهم فليذهب إلى الجحيم
قراءةٌ في دور الأردن التاريخي كوطن مُهِمٍّ يلد رجالاً أهم، ورفضُ دورِه الوظيفي كمزرعة تسمِّن الخراف لخلق فضاءٍ آمنٍ لأعداء الأمة

الحلقة الثامنة
تابع تحليل أزمة حزيران 1970 بين النظام الأردني والمقاومة

وقبل اختتام حديثنا عن أزمة حزيران 1970، يجدر بنا الوقوف أمام أهم مظهرٍ رافقها، ألا وهو ذلك الذي جسَّدَتْه تصريحات الثورة عبر إذاعة “صوت العاصفة”، لنكتشفَ أدلةً جديدة على ضبابية الوعي – الذي تسَبَّبَ في الضبابية التي اكتنَفَت إدارةَ الصراع والمواجهات من ثمَّ – بمكانةِ الهويات، وبطبيعة لعبة “لوغو الهويات”، في تكوين عناصر المعركة الدائرة بين النظام والمقاومة منذ نشأتها.
إن “تخيير الملك” بين “عزل مستشاريه رؤوس الخيانة” كما أسمتهم الإذاعة، وبين “إسقاط حكمه”، على ذلك النَّحْوِ المستَفِزِّ والواثق والمستيقن والمغمور بامتلاك الحق في ذلك في الوقت نفسِه، ينطوي على ثلاثة معانٍ هامة، تؤكِّد جميعُها ما ذهبنا إليه من وصفٍ بالضبابية لحالة الوعي والممارسة المتعلقين بمكانة الهويات في مُكَوِّنات الصراع لدى الثورة، وهذه المعاني هي..
الأول.. إمكانيةُ إسقاط النظام من حيث القدرةُ على ذلك. إذ لا يمكن أن يهدِّدَ بإسقاط النظام من لا يقدر على إسقاطه. بل إن تهديدا كهذا في حال عدم القدرة عليه، وفي ظل الظروف التي كانت تحيط بالثورة آنذاك، وبحسب ما أسهبنا في شرحه وتحليله حول لعبة “لوغو الهويات”، قد يُتَّخَذُ ذريعةً من طرف النظام للإجهازِ على كلِّ الثورة دفاعا عن وجوده، بعد أن غدا هذا الوجود يحظى بشرعيةٍ عربية خارجية يرعاها زعيم الأمة، الرئيس “جمال عبد الناصر” نفسُه ويوافق عليها، بل ويحرص على بقائها، لمساندة جبهة الحلِّ السلمي الموهوم، وبأخرى أردنية داخلية منحته إياها الثورة نفسُها بتسبُّبِها في هذا الشرخ العميق الذي قسَّم الشعب الأردني إلى فئتين ذاتيْ هويتين مختلفتين بعد ابتلاعها طعمَ “فلسطينية هويتها”، كان من السهل تحشيد إحداهما ضد الأخرى من قبلِ نظامٍ يخوض معركةَ وجوده الأخيرة والحقيقية. في حين أنه كان قبل حصول ذلك الشرخ يفتقر إلى تلك الشرعية، بل وإلى أيِّ نوعٍ من الشرعيات، حتى الشرعية العربية الخارجية، التي ما كان لها أن تتكوَّنَ أو تَتَخَلَّقَ إلا بالاعتماد على ما أسَّسَت وأصَّلَت له لعبة “لوغو الهويات” في الساحة الأردنية.
الثاني.. الفصلُ بين أشخاص النظام الأردني، وعدم النظر إليه بوصفه كتلةً واحدة متماسكة وظيفِيَّة الطابع قُطْرِيَّة المضمون، بدءا من بُنْيَتِه العسكرية، مرورا ببُناه الاقتصادية والثقافية والإعلامية، وانتهاء بقمة هرمه السياسي. وهذا ما جعل الثورة تقبلُ فكرةَ النَّظَرِ بمنظارين مختلفين إلى كلٍّ من “الملك حسين”، وهو رأس الهرم في هذا النظام، والرموز الفاعلة فيه، كاللواءين “ناصر بن جميل” و”زيد بن شاكر” اللذين لم يكونا في الواقع سوى أداتين عسكريتين من أدوات النظام العسكرية والاقتصادية والإعلامية والثقافية، والتي عملت مع “الملك حسين” على إعادة إنتاج “الدولة الأردنية” بشكلٍ أتاح للنظام ككل فرصةَ البقاء في السلطة، فالاستقواء عليها ثم الانفراد بها. وكأن الملك حسين وباقي العناصر الفاعلة في النظام شيء، و”ناصر بن جميل” و”زيد بن شاكر” ومن كان على شاكلتهما شيء آخر. وكأنما الخلاف – في الجوهر – إنما هو مع هؤلاء، بسبب ارتباطهم المباشر بجهاتٍ معادية وأجنبية ذات مصلحة في إثارة الفتن التي لا يريدها الملك شخصيا في بلاده. وهو نفسه ما كانت ترَوِّجُ له الدول العربية، حينما أحالت سبب هذه الأزمة وغيرها من الأزمات قبلها إلى طرفٍ ثالث يثير الفتنة بين “الإخوة”!! من خلال ما كانت تصفهم دائما بالعناصر المرتبطة بجهاتِ أجنبية من داخل الأردن.
الثالث.. عُمْقُ الأزمةِ التي كانت تعاني منها الثورة في الأبعاد الأيديولوجية للأزمة، بحيث لم تعد قادرة على التَّخَلُّص من تخبُّطها السياسي الناجم عن الفجوة التي تكوَّنت بين النظرية والتطبيق. فأن تكونَ الثورةُ “فلسطينيةً” – وهو الأمر الذي غدا غيرَ قابل للتراجع عنه ولا بأيِّ حال، بغرضِ العودة إلى الوضع السابق للشرعيات، عندما كانت “الهوية الأردنية” هي سيِّدَة الموقف في أيديولوجية الثورة، لأن الهويات لا تنتج إذا احتجنا إليها بكبسة زر، أو تختفي إذا لم نعد نريدها بكبسة زر أخرى – يمنحُ النظامَ الأردني شرعيةَ تمثيلِ الهوية الأخرى المقابلة، فلا يمكن لـ “الهوية الفلسطينية” أن تمثِّلَ “الهوية الأردنية” أو أن تتحدث باسمها، أو أن تهيمن عليها، أو أن تفرضَ عليها على أرضها ما تريده. لأن مثل هذه الهرطقة السياسية والقانونية لا يمكن السَّماحُ بسماعها ولا حتى في “غرزِ الحشاشين”.
لكن هاتين الهويتين قد تتحالفان ضِدَّ عدوٍّ مشترك، وقد تُرَتِّبان أوضاعَهما وعلاقاتِهما بشكل يضمن سلاسةَ التنسيق في أعمال المقاومة بما يُفَعِّلُها ويدفعُها إلى الأمام.. إلخ. وهذا لا يمنحُ المقاومةَ أيَّ حقٍّ في الحديث عن “إسقاط النظام”، ولا أيَّ حقٍّ في فرض شكل العلاقة بينها وبين ذلك النظام والشعب الذي أصبح يُمَثِّلُه. لأن كلَّ ذلك إن قُدِّرَ له أن يحدث، فلن يحدث بدون الاتفاق مع الشرعية التي غدت تمثل “الهوية الأردنية”، بعد أن غدت “الشرعية الثورية” لا تمثل إلا الفلسطينيين.
إن منحَ المقاومة لنفسها حقوقا كهذه، يؤشِّر لدي كل المراقبين والمتابعين والمعنيين بالحالة الأردنية آنذاك، في ظل وجود المُنْتَجَيْن الأردني والفلسطيني الجديدين، وفي ظلِّ الحقوق والواجبات السياسية والقانونية المترتبة على وجودهما هذا، أنها مقاومةٌ إحلالية لا ترى نفسَها ولا بقاءها ولا حياتها ولا استمرارَها، إلا في ممارسة سيادتِها على “الهوية الأردنية” وعلى “الشعب الأردني”، حتى بعد أن غدا هناك مُمَثِّلٌ لهذه الهوية غير “شرعية المقاومة”، التي كانت قبل تجَسُّدِ فلسطينيتها على أنقاضِ أردنيتها هي مُمَثلة هذا الشعب وهذه الهوية.
ولا يُقْبَلُ من هذه المقاومة الرَّدُّ بادعاء أن هذا النظام يُهَدِّدُ بقاءَها ويعمل على منعها من ممارسة ما تعتقد أنه حقُّها في المقاومة من الأراضي الأردنية. لأنها لم تعد أصلا تملك الحقَّ في ممارسة أيِّ دور سيادي في الأردن بدون موافقة الشرعية الجديدة للهوية الأردنية التي أصبحت تمثل الشعبَ الأردني، حتى وإن وقف جزءٌ من هذا الشعب في خدنق المقاومة موافقا على مطالبها، ومحاولا أن يكون هو الشرعية الأردنية البديلة لشرعية النظام، كمُنْتَجٍ وطني “شرق أردني” يحاول التجاوب الإيجابي مع نتائج لعبة “لوغو الهويات” ومنتجاتها الجديدة عبر توظيفها وطنيا. لأن هذا الطرف الأردني نفسه أصبح من السهل وصفه بالتآمر على “الهوية الأردنية” وعلى الممثل الشرعي الجديد لها، ليفقدَ قدرتَه على التأثير على الشارع “الشرق أردني” الذي كان قد بدأ يتمترس تدريجيا في خندق النظام.
وهو – أي المُنْتَج الوطني الشرق أردني – بالفعل فشلَ في ذلك، لسببن..
أحدهما أنه لم يكن قادرا على إقناع الشعب الأردني بأنه قد يكون طرفا تمثيليا أمينا على “الهوية الأردنية” بدل النظام، وهو يراه تابعا للمقاومة الفلسطينية في كلِّ شيء، ويردد كالببغاوات ما تردده هي عن النظام والشعب والهوية، دون أن تكون له شخصيتُه المستقلَّة القادرة على تجسيد إمكان تمثيله للهوية الأردنية تجسيدا موضوعيا مُقْنِعا.. إلخ، وخاصة بعد أن راح الشعب الأردني يستشعرُ الخطرَ الداهمَ على هويته من تغوُّل المقاومة التي كشفت عن تخَبُّطٍ مُسْتَحْكِم، وهي لا تَتَوِّرَع عن التهديد بإسقاطِ نظامٍ ليس من حقها أن تتحدث عنه وعن علاقتها به وهي تنازعه السيادة على أرضه على هذا النحو المستَفِز المنذر بالخطر.
أما الثاني، فهو أن “المقاومة الفلسطينية” نفسَها كما بدا من طبيعة مواجهتها مع النظام الأردني، في ظل يقينها بأنها تخوض حربا فقدت شرعياتِها القادرة على حقنها بعناصر البقاء والانتصار، أصبحت بالفعل نظاما عربيا وظيفِياًّ قُطْرِيا جديدا، يتعامل مع ما أصبح يُعْرَف بـ “القوى الوطنية الأردنية” بعد هيمنة نتائج لعبة “لوغو الهويات” على صيرورة الأحداث في الساحة الأردنية، باعتبارها ورقة تضغط بها على النظام الأردني لما تصَوَّرَت أنه إمكانية فرض إرادتِها عليه. تماما كما كانت الدول العربية تستخدِمُها هي – أي المقاومة – كورقة ضاغطة في أيِّ مشاريع سلمية مُلَوَّحٍ بها آنذاك.
لذلك فعندما وجدت المقاومة نفسَها غير قادرة على جعل “القوى الوطنية الأردنية” ورقةً فاعلة لتمرير مشروعها في تقاسم السيادة مع النظام على الساحة الأردنية – بعد ظهور قوَّتِه بشرعيته العربية والأردنية التي بناها لَبِنَةً لَبِنَةً، والتي خلَّقَها خَلِيَّةً خَلِيَّةً في رحم الوهم بالقداسة الوطنية لاهوتية الطابع للهوية الفلسطينية – فإنها ألقت بها بالشكل اللاأخلاقي نفسه الذي ألقت به الدول العربية بالمقاومة الفلسطينية إلى الهاوية، لتبدأ بترتيب أمور خروجها من الأردن مع النظام، غير مبالية بمصير القوى الوطنية الأردنية عندما ينفرد بها هذا النظام. وهكذا فقد وجدت “المقاومة الفلسطينية” نفسَها في نهاية المطاف تحارب نظاما منحَتْه الشرعيةَ وسلمَتْه هديةً مُبَرَّأَةً من كل سوء، جزءا كبيرا من الشعب الأردني، ليحاربَها به بصفتها تمثِّل عدوانا صارخا لا يُحْتَمل على هويته. فحاربها حتى قضى عليها وعلى كلِ مشاريعها في الساحة الأردنية.
لقد حاربها بالحُنْكَة السياسية، فيما حاربته هي بالهرطقة السياسية. هو حاربها بالإدراك العميق لدلالات الهويات في الأبعاد الوطنية والسياسية والقانونية، فلعب بها أدهى وأمكر لعبة “لوغو هويات” عرفتها البشرية، ليعيد إنتاجَها على النحو “السايكسبيكوي” الذي تَمَرَّدَ عليه الشعب الأردني وحشرَه في الزاوية، عندما فجَّرَ ثورتَه في منتصف ستينيات القرن الماضي، فيما حاربَته هي بلاهوت “الهوية الفلسطينية” القائم على قداسةٍ غير مفهومة لوطنيَّتِها الأزلية، معتبرةً المساس بها كفرا وزندقة وتجديفا في الدين قبل أن يكون في السياسة. هو حاربها باستقطاعاتٍ شعبيةٍ كان يدرك أنها وحدَها من سيمنحُه الشرعيتين الداخلية والخارجية، بينما لم تحاربه هي إلا بالعنجهية والغَطْرَسَة والتعالي، رغم يقينها بأنها تفقدُ خنادِقَها ومواقِعَها الشعبية خندقا خندقا وموقعا موقعا. حاربها بإعلانه الدفاع عن “هوية أردنيين” كانوا كرماء إلى حدٍّ غير مسبوق، وحاربته هي باستعلاءٍ حتى على “قوى وطنية أردنية” لم تعرف كيف تسنِدُها سياسيا وأيديولوجيا، بالتخفيف من حدِّة الاستفزازات التي أفقدت تلك القوى الوطنية قدرتَها على توسيع قواعدها الشعبية على حساب النظام في أوساط “الشرق أردنيين”، مع أنها – أي المقاومة – كانت تعلم في المراحل الأخيرة من الصراع، أن هذه القوى هي ورقتُها الأخيرة في التخفيف من حدة شرعية النظام في أوساط هؤلاء، فعجزت عن حسن استخدام تلك الورقة، لتُسْهِمَ في تدمير الأردن بتسليمه إلى النظام، وفي تدمير القضية الفلسطينية، بتحويل نفسِها إلى نظام عربي وظيفي قُطْرِي جديد أفقدَ نفسَه كل الشرعيات الثورية، واستحلبت من الشعب الفلسطيني كل طاقاتِه المتفجرة في تلك الحقبة من الزمن، لتُدْخِلَه منذ خروجها المُدَوِّي من الأردن، في سلسلةٍ متتابعة من الخروجات والدخولات التي كانت جميعها تدفع بها وبالقضية التي آمنت بأنها لها وحدَها إلها يُعبَد، والتي اعتنقت تمثيلَها لها دينا يُقَدَّس، إلى أكثر الأنفاق إظلاما في تاريخ الأمة المعاصر.
بعد هذه الوقفة التقييمية لتصريحات إذاعة صوت العاصفة المُفْعَمَة بالتهديد والوعيد الفارغين، نعود لتحليل ذيول أزمة حزيران 1970 للتعرف على المسار الذي كان النظام يختطه لعلاقته بالمقاومة من خلالها. فنحن نعرف أن وتيرة الصدامات بين الثورة والنظام كانت تتناسب طردا وبشكل ملحوظ مع حيوية مشاريع السلام. فأحداث حزيران 1970 مثلا تخلَّلَت مرحلةً من تاريخ الصراع أبدت فيها إسرائيل استعدادا للاعتراف بالقرار “242”، “ففي هذه الفترة أعلنت إسرائيل عن قبولها لقرار مجلس الأمن رقم 242، وارتفعت بالتالي أسهم الحل السلمي الذي كان لابد من تمهيد الطريق أمامه من الجانب العربي بتسوية العقبة الرئيسية التي هي المقاومة”(1).
يبدو أن النظام الأردني حاول هذه المرة إحداثَ تغييرٍ فعلي في ميزان القوى بينه وبين الثورة على الأرض، بعد أن تمَّ لمس نوعٍ من الجِدِّيَّة في التَّوَجُّه نحو التسوية السلمية للصراع. بمعنى أنه قَرَّرَ المُضِيَّ قدما في تنفيذ الخطة. ومع ذلك فقد كانت النتائج غير محقِّقَة لكامل طموح النظام، وإن كانت قد عَمَّقت مأزق الثورة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، وهو ما جعل قادتها يستشعرون دُنُوَّ لحظة الحسم. ومن المؤكَّد أن وقوف النظام في هذه الأزمة عند ذلك الحد رغم بوادر الحل التي رافقت التصريحات الإسرائيلية، يرجع – وذلك بطبيعة الحال بالتنسيق مع دول جبهة الحل السلمي وعلى رأسها مصر – إلى أن تلك الدول المهتمة بالحل السلمي لم تَتَلَقَّ بعدُ إشارةً واضحةً من “الولايات المتحدة” بهذا الخصوص تدفعها إلى تقديم الورقة التي تمتلكها على مذبح السلام المُلَوَّحِ به.
وبالتالي فبقدر ما كان من الضروري أن تُقْدِمَ جبهة الحل السلمي على اختبار مدى قدرتها على اللعب بورقة “المقاومة الفلسطينية” بكفاءة عند اللزوم، بقدر ما كان من الضروري في الوقت ذاته عدم إضاعة هذه الورقة هباءً منثورا وبلا مقابل. ويبدو أن دول جبهة الحل السلمي لم تكن تثق بالتصريحات الإسرائيلية، وكانت تريد الإشارة بهذا الخصوص من الولايات المتحدة، باعتبار أن الإشارة في مثل هذه الحالة قد تَتَّسِمُ بالمصداقية، خلافا لإشارة إسرائيل المُفْتَقِرَة إلى مثل هذه المصداقية.
وبالفعل ففي الوقت الذي كانت الأمور عَقِبَ أزمة حزيران تسير بهدوءٍ نحو تسويةٍ هُدْنَوِيَّة مرحلية جديدة كما جرت العادة بعد كل صدام من هذا النوع، حدث ما لم يتوقعه أحد، “فطرأ على الموقف عنصرٌ جديد سارع في تطور الأحداث ودفع بها إلى نقطة اللاعودة، ذلك العنصر هو مشروع “روجرز” أو ما سمي بادرة السلام الأميركية”(2). هذه البادرة وضعت الأنظمة العربية التي تمثل جبهة الحل السلمي أمام خيارٍ تاريخي لا يعوَّض، فها هو السلام أمام أعين تلك الأنظمة تجود به القوة المهيمنة على المنطقة ذاتها.
وبالنظر لسذاجة الفهم الذي كان يقضي آنذاك بتصوُّر إمكان التعايش السلمي مع إسرائيل بمبادرةٍ إمبرياليةٍ غير ناتجة مع ذلك عن ضغط عسكري عربي مميز، فإن السَّيرَ وراء سراب ووهم الحل السلمي، دفع بجبهة هذا الحل إلى أن تقبلَ الصفقة القذرة لتصفية “الثورة الفلسطينية” من على الأرض الأردنية، باعتبارها غدت هي القربان الذي يجب تقديمه لآلهة السلام، كشرطٍ لإثبات حُسْنِ النِّيَّة الموجبة لإتمام هذا السلام الذي لم يتم حتى بعد مرور أكثر من أربعين سنة على المجزرة الرهيبة.
لقد ظنَّت دول جبهة الحل السلمي أن خطَطَها في الحفاظ على الثورة كورقة ضغطٍ لتحقيق هذا الحل قد نجحت وآتت أُكُلَها، وبالتالي فقد تصوَّرَت هذه الدول أن الثورةَ قد قامت بمَهَمَّتِها وما عليها الآن إلا أن تقضي شهيدةً على مذبح الحل القومي. فما الذي حدث على وجه التحديد منذ ظهور مشروع روجرز إلى حيز الوجود كبادرة حلٍّ سلمي أميركية وحتى تنفيذ المجزرة؟
“لقد بدأت الأسئلة تطرح نفسَها بشكلٍ ملحوظ ومحسوس مع أول إشارة رسمية إلى مشروع روجرز وأهدافه. ففي مؤتمر صحفي عقده روجرز يوم 25 حزيران 1970 قال: إن الولايات المتحدة قامت ببادرة سياسية هدفها تشجيع الطرفين “العربي والإسرائيلي” على وقف إطلاق النار، وبدء التحدث تحت إشراف السفير “يارينغ” طبقا لقرار مجلس الأمن. وهدفنا من هذه البادرة هو تشجيع الطرفين على التحرك نحو سلام عادل ودائم، يأخذ في الحساب كلّ آمال وآلام جميع الحكومات والشعوب في المنطقة”(3).
وبعيدا عن الخوض في تفاصيل الأسباب الموضوعية التي أدت إلى إقدام الولايات المتحدة على اقتراح مثل هذا المشروع، فإننا نُلَخِّصُ ذلك في تَمَحْوُرِه حول سياسة الحرص على دفع الجبهة العربية للحل السلمي إلى تصفية مشروع المقاومة، بصفتها كما تَمَّ تصوير ذلك على مدى سنوات ما بعد هزيمة حزيران، حجرَ العثرة الرئيسي في طريق مثل هكذا حل. ولم يكن في نِيَّةِ الولايات المتحدة أو إسرائيل أن تساعدا حقا على خلق أجواءِ الحل السلمي الفعال أساسا بهذه البادرة التي كان هَمُّها الأوحد هو تخفيف العبءِ عن إسرائيل، بتحجيم إن لم يكن بتدميرِ الفعل الثوري الأردني الذي تَمَّ إضعافُه وتحجيمة مرتين، الأولى عندما تَمَّ اختزالُه من أردنيَّته المتجَسِّدَة القوية ذات الدلالة في السياق القومي، إلى فلسطينيةٍ مُتَخَيَّلَةِ القداسة والأهمية في مُحَصِّلَة الفعل الوطني في تلك الفترة، والثانية عندما تم استدراجه إلى مقتله بإخراجه من قاعدته الإستراتيجية، والزج به إلى تغريبات الترحال الأبدية التي لا تنتهي.
فالحلُّ السلمي الفعال يتعارض منذ البدء مع طبيعة المهام التي أنيطت بإسرائيل منذ وجودها، لأنه يُفْقِدُها ولو بشكلٍ نسبي وتدريجي مضمونَها الاستعماري، وبالتالي صلَتَها الجوهرية بالإمبريالية. وتفقد إسرائيل نتيجةً لذلك صفَتَها كقاعدة آمنة لها. لا يمكننا القول إذن إلا أن تصاعدَ المدِّ الثوري المضاد لإسرائيل بات يهدِّدُ قواعد الإمبريالية في المنطقة من جذورها – سواء ما كان منها أنظمةً وظيفِيَّةً قُطْرِيَّة، أو ما كان منها احتلالا واستيطانا إسرائيليا مباشرا – فدفع بالولايات المتحدة إلى استغلال مسألتين أساسيتين في الوضع العربي آنذاك من أجل دفع الواقع نحو توطيد أمن إسرائيل.
الأولى.. تَصَلُّبُ مواقف الثورة. وهو التصلُّبُ الناتج عن عدم وضوح تصوّر سياسي ناضج للقضية يأخذها من جميع جوانبها على أسسٍ موضوعية، تتعامل مع كل التناقضات التي خلَّقَت القضيَّة والتي خَلَقَتها القضية في سياقاتها الصحيحة، والتي على رأسها جميعها فكرةٌ إستراتيجيةٌ مفادُها “تعارضُ السِّلم الفعلي أيا كان شكلُه مع حيوية الوجود الصهيوني من حيث المبدأ”، وهو ما سنتعرض له في أحد الفصول القادمة من هذا الكتاب، حيث سنتحدث عن أن كافة المبادرات والحلول المقترحة لحل الصراع كانت تلعب على الدوام على إحداث التوازن في البُنْيَة “السايكولوجية الإسرائيلية”، عبر اقتراحِ حلولٍ تدركُ الإمبريالية والصهيونية أنها أقل من السقوف التي يمكن للعرب – في أحد جانبيهم “الشعوب أو الأنظمة” أو في كليهما – أن يقبلوا بها، كي تبقى حالة التوتر والاإستقرار قائمة.
وهذا ما كانت مبادرة “روجرز” تلعب على وترِه. فهي طَرَحَت ما لا يمكن للمقاومة قبولُه بأيديولوجيتها الثورية المُهيمنة على ساحة الفعل الجماهيري، وبالاتجاه الذهني العام للجمهور العربي الذي كان قد عقد آمالَه على الثورة. ومبادرة روجرز إذ طرحت سقفا توقن رفض الثورة والشعب له، فبهدف إظهار الثورة بصفتها مُعرقلا لمشروعِ حلٍّ أَطَّرَته الشرعية الدولية بالقرار 242(4)، وهو القرار الذي قبِله العرب الرسميون، لأنه يعيد الوضعَ إلى ما كان عليه قبل هزيمة حزيران، وهو ما لا يمكن اعتباره خسارة في نظر المنظومة العربية الرسمية آنذاك. أي أن مبادرة روجرز لعبت بإتقان على الاختلاف الجوهري بين السَّقف العربي الشعبي الذي كانت تُمَثِّلُه الثورة، والسَّقف العربي الرسمي الذي كانت تمثله جبهة الحل السلمي بزعامة الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر”، كي تضربَ تَصَلُّبَ الأولى بأوهام الثانية، فتحقِّق أمن إسرائيل عبر التخلُّص من الثورة وخداع الأنظمة.
في تصورنا الذي نقيمه باستمرار على أساس فهمنا لقواعد ومبادئ أيديولوجية التلاعب الإمبريالي الصهيوني بسقوف الحلول السلمية بشكلٍ مدروس، نستطيع التأكيد بيقين، على أن الثورة لو كانت – في ظل واقعها العسكري آنذاك – قد أعلنت قبولَها – وهو الأمر الذي ما كان ليَتِمَّ في ضوء طبيعة الثقافات والذهنيات السائدة والحاكمة للصراع – بمبادرة روجرز كإطارٍ لحل مشكلة الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967، لتمكنت من تحقيق هدفين هامين..
أولهما، استعادة كافة الخنادق التي فقدتها في صراعها مع النظام الأردني وهو يخوض معها لعبة “لوغو الهويات”، عبر كشف سقوط كل مشاريعه وأوهامه وأيديولوجياته في التعامل مع مبدإ تحرير الأرض المحتلة، وتفويت كافة الفرص التَّصْفَوِيَّة وكل مؤامرات الوظيفِيَّة القُطْرِيَّة العربية كنتيجة حتمية لذلك.
ثانيهما، فضح طبيعة إسرائيل والإمبريالية اللاسلمية منذ وقت مبكر، وهو ما كان سيُسْهِم كثيرا في تغيير مسار التاريخ في المنطقة، خالقا له صيروراتٍ تختلف جذريا عما شهدناه في العقود الأربعة التي تلت مشروع روجرز وتداعياته.
ونحن إذ نؤكد على ذلك ونتبناه بيقين، فلأننا نعرفُ أن هذا المشروعَ ما عُرِضَ إلا لكي تقبله الأنظمة العربية وترفضه الثورة التي ستتعرض للتصفية في ضوء خيارها المتناقض مع خيار الدول العربية، ثم ليوضع في الأدراج بعد ذلك باعتباره واحدا من الموروثات الأميركية سيِّئَة السمعة في تعاملها مع الصراع في المنطقة. وهو ما يعني قطعا أن إسرائيل والولايات المتحدة كانتا ستَخْلُقان كلَّ الظروف السياسية والعسكرية – الإقليمية والدولية – التي ستحول دون تطبيقه، لو حصلت المعجزة وتَمَّت موافقة الثورة عليه. ولا يسعنا أن نذكِّرَ في هذا الشأن إلا بالنُّكْتَة السياسية المعبرة جدا لـ “بن غوريون” عندما قال: “إن أكبر مقلب يمكن للعرب أن يوقعونا فيه هو موافقتهم على عقد صلح وسلام مع إسرائيل”.
الثانية.. أوهام الأنظمة العربية. وهي الأوهام التي جعلت تلك الأنظمة تندلق على أيِّ تصريح تسمعه من إسرائيل أو من الولايات المتحدة بخصوص القرار 242، وتركضُ لاهثةً وراء أيِّ بادرة تصدر من هنا أو من هناك، كي تعيد لنفسها ماءَ الوجه المفقود في أذلِّ هزيمة عرفتها الحروب المعاصرة، عندما تَمَّتْ هزيمة ثلاث دول عربية مجتمعة، على رأسها زعيمة العالم الثالث، واحتلال أراضيها في بضعة أيام دون أيِّ مقاومةٍ تذكر. وهي – أي الدول العربية – إذ كانت تندلق على ما تندلق عليه، وتركض لهاثا وراء ما تركض وراءه، بدت كالغريق الذي يتعلق بقشةٍ يتصور أنها قد تعيد له الحياة، متجاهلة طبيعة الصهيونية وجوهر الإمبريالية ومُكَوِّنات الصراع في المنطقة.
وإذا كان الموقف الرسمي الأردني في غيرِ حاجةٍ إلى تبريرٍ بالنسبة لنا، انطلاقا من إدراكنا لطبيعة النظام آنذاك، فإن النظام المصري الناصري، وبالنظر للطبيعة التقدميَّة التي تقَمَّصَها منذ نشأته، كان معنيا بتقديم تبرير ماَّ لموقفه من مشروع “روجرز”، على أساس أن الذهنية التي كانت تهيمن على الفعل الوطني في تلك المرحلة، لم تكن لتَتَقَبَّلَ فكرةً كتلك التي يطرحها هذا المشروع. وقد تَجَلَّى التبرير الناصري الذي نتحدث عنه في الكلمة التي ألقاها الرئيس “جمال عبد الناصر” في الثالث والعشرين من “تموز” أمام المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي، والتي أعلن فيها: “قبول الجمهورية العربية المتحدة للمقترحات الأميركية، مُعَلِّلا ذلك بأن المقترحات لا تعدو كونَها مجردَ اقتراحاتٍ إجرائية لتنفيذ قرار مجلس الأمن الذي سبق ووافقت عليه الجمهورية العربية المتحدة”(5).
لم يكن من السهل على الأطراف العربية ذات العلاقة المباشرة بالأمر، والتي كانت قد رفضت المشروع أن تَهْضُمَ الموقفَ المصري الرسمي. كما أن الثورة بقيت على موقفِها التاريخي المعهود. لكن الجدير ذكرُه في هذا المقام أن المواقف العربية الرسمية الرافضة لمشروع “روجرز”، وهي مواقف سوريا والعراق، لم تكن تشكِّلُ حرجا لسياسة عبد الناصر آنذاك، مثل ذلك الذي كانت تُشَكِّلُه الثورة بمشروع مقاومَتها، لأسبابٍ موضوعية.
فالدول العربية الرافضة لمشروع “روجرز”، لم تكن تقدم للصراع غيرَ الشعارات البراقة والمُدَغْدِغَة للمشاعر دون أيِّ فعلٍ يُذكر على الأرض، في حين أن الثورة كانت تقدم كلَّ يومٍ ضغطا عسكريا متزايدا على إسرائيل، وشهداء وضحايا يسقطون في قلب المعركة، وكانت تشكِّلُ الورقة الصعبة في المنطقة، عند طرح أي مشروع للتسوية السلمية للصراع، بسبب تحَكُّمِها في مفصله الأساسي ألا وهو المقاومة. وهو الأمر الذي أصبح من الطبيعي أن يُصارَ معه إلى التَّعَهُّد بتقديم الفاتورة المُسْتَحَقَّة لتمرير المشروع السلمي الوهم الذي طرحه “روجرز”، وهي الفاتورة المنطواة على أقذر مَهَمَّةٍ قامت بها “الوطنية العربية العاجزة” وهي تتحالف – مختارةً أو مكرهةً – مع “الوظيفِيِّة القُطْرِيَّة العربية”، ألا وهي تصفية مشروع المقاومة، والقضاء على الحركة الجماهيرية المصاحبة لها في الساحة الأردنية، وذلك كبادرة حُسْنِ نيّة واستعدادٍ تامٍّ لتقَيُّد العرب المعنيين، بالشروط المطلوبة لتمرير المشروع الأميركي، الذي نكادُ نجزم بأن أطرافا عديدة من الجبهة العربية للحل السلمي كانت موقنةً أنه لن يُمرَّر، بسبب إدراكها في قرارة نفسها لحقيقة أنه مشروعٌ لم يُقْتَرَح ليُمَرَّرَ، بل ليستغلَّ عناصر ثلاثة اجتمعت لتشكِّلَ التركيبة الفعلية للمنظومة العربية المعنية بالصراع، وهي “الجهل” و”التبعية” و”الجمود”.
جهلُ التقدمية العربية، حين تصوَّرَت إمكان تَحَقُّق السلام الفعلي في ظل ظروفٍ وموازين قوى كنلك التي حكمت واقع العرب آنذاك، وحين لم تدرك أهمية الحركة الجماهيرية في تغيير الواقع العربي باتجاه الصيغة التي كانت تطمح لها تلك التقدمية في جوهر دعواتها القومية.
وتبعيةُ منظومة التجزئة والوظيفِيَّة القُطْرِيَّة العربية، التي لم تكن تتورَّع عن فعل أيِّ شيءٍ لقاء ضمان استمرارها في السلطة لأداء الأدوار التَّبَعِيَّة نفسها التي نشأت وتأسست لأجل أدائها، وكأن هذا البقاء هو غاية الطوح القومي الذي يستحق أن تُبْذَلَ دونَه كلُّ التضحيات.
وجمودُ الفكر السياسي للثورة، وهو ما لم يُسْعِفْها في وضع خطةٍ تستغلُ فيها الموجةَ السلميةَ العارمة المخادعة التي بدا واضحا أنها لعبةٌ تستهدفُ إعادةَ إنتاج القضية والصراع على أساس استغلال هذا الجمود كواحد من عناصر الضَّعْفِ في الأداء الثوري. وقد كان بإمكان الثورة لو أنها تحرَّرَت من هذا الجمود فكانت أكثر مرونة ونضجا في التعامل مع مفاعيل ومفاتيح الصراع، أن تحافظَ على قوتها وزخمها، وأن تُحرجَ منظومتي التقدمية والتبعية العربيتين، ومعهما كل من إسرائيل والولايات المتحدة، وأن تدعمَ بالتالي مشروع مقاومتها بمزيد من عوامل القوة والديمومة على ضوء ممارسة سياسية فعالة.
فالأنظمة العربية التي كانت تضطلع بمهمة التصدي للثورة ولمشروع مقاومتها، رغم أنها كانت تفعل ذلك لغاية عميقة تعكسها طبيعة التناقضات في المنطقة، وهي التناقضات التي كانت مُسْتَعْصِيَة في الغالب على إدراك المواطن العادي، لا بل حتى على إدراك الثائر العادي، لم تكن تَقْدِر على إحرازِ خطواتٍ عملية إيجابية على صعيد مواجهَتِها لذلك المشروع، بدون تقديم التبريرات التي من شأنها إقناع ذلك المواطن بضرورة تلك المواجهات، حتى وإن كانت تبريراتٍ بسيطة ولا تنطوي على ذلك القدر من الحُجِّيَّة. ومن ذلك وعلى رأسه، ادعاء تعطيل الثورة للأجندة القومية الرسمية للتحرير، من خلال عملها الموازي لعمل الأنظمة في اتجاه تنفيذ تلك الأجندة.
نعتقد جازمين أن جبهةَ الحلِّ السلمي العربية، وعلى رأسها منظومة التجزئة والوظيفِيَّة القُطْرِيَّة، كانت ستفقِدُ ورقتَها الأهم في مواجهة الثورة، فيما لو أن هذه الأخيرة تجاوبت بطريقتها – التي لا تصطدمُ بالاندفاعة الجماهيرية العارمة، والتي لا تُغيِّرُ من مستوى التعبِئَة والاستعداد التامين للمعركة في كلِّ لحظة – مع التوجُّه السِّلْمي الذي بدا أنه يهيمنُ على المنطقة في مُكوِّنِها الرسمي، والذي اتضح أنه سيكون غطاءً ومبرِّرا للإقدام على ضرب الثورة ضربة قاصمةً بحجَّة وقوفِها المتعنِّت وغير المُبَرَّرِ ضد التَّوَجُّه التَّسْوَوي الذي كان يُرَوَّجُ لفكرةِ أنه سيعيد الأراضي التي احتلت عام 1967 في ضوء القرار 242.
كان بإمكان الثورة – كي تخلطَ كلَّ الأوراق، وتُحْرِجَ كلَّ المواقف، وتكسبَ الكثير من المواقع، وتستعيدَ معظمَ ما فُقِدَ من الخنادق – أن تقبلَ بإعلانِ وقفٍ مُؤَقَّتٍ لإطلاق النار ضد إسرائيل من جانبٍ واحد، تحدِّدُ له سقفا زمنيا أعلى، لإعطاء الحلِّ السلمي المقترح فرصتَه لرؤية النور إن كان القائمون عليه جادين، وأن تعلن أنها في حال فشل هذا المشروع في تلك الفترة الزمنية المحددة سوف تعود إلى بندقيتها، كي تثبتَ للجميع أنها ليست ضد أيَّ خطة رسمية لاستعادة الحقوق المغتصبة، إذا تمكنت هذه الخطة حقا من استعادتها، كما أنها ليست مع أيِّ مشروع لتحييد البندقية الشعبية من ساحة المواجهة، إذا فشلت الخطة الرسمية في ذلك. وهي لو فعلت ذلك، لجعلت من نفسها ورقة ضاغطة حقيقية لصالح النظام العربي، إذا كان جادا في التوصل إلى حلول جادة، محافظة في الوقت نفسه على نفسها بصفتها مشروعا جماهيريا للمقاومة.
من الواضح أن مثل هذا الرؤية السياسية العملية المرتكزة إلى وعيٍ متميزٍ بطبيعة المشروع الإمبريالي الصهيوني، وبطبيعة علاقاته المتشعبة بالوظيفِيَّة القُطْرِيَّة العربية، لم يكن لها مكانٌ داخل الذهنية الثورية للقائمين على المقاومة وعلى قيادة الجماهير، لذلك لم يتمَّ اللجوءُ حتى إلى شيء قريب منها، مع أنها كانت رؤيةً لو تمَّ التعامل مع “الهوجَةِ التَّسْوَوِيَّة” بحيثياتها، ستسهِمُ فعليا في تغيير نمط المعادلات الأيديولوجية، والممارسات السياسية المهيمنة على الحراك الثوري من جهة، وعلى الحراك المضاد للثورة من جهة أخرى.
فإسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة، ما كانتا لتقبلا ببقاء المقاومة في الساحة الأردنية، تحت أيِّ ظرف، وبسبب أيِّ مشروع، ولقاء أيِّ حلٍّ فيه إعادةٌ لأيِّ قدرٍ من الأراضي المحتلة التي يتحدث عنها القرار الأممي 242. وكانتا ستظهران في سياق أيِّ مفاوضات – لو حصلت – وهما تستهدفان أولا وآخرا ودائما، القضاءَ على المقاومة، وتغييب البندقية الشعبية، وعدم الثقة في سكونها المؤقت. وكانت كلُّ مفاوضاتِهما وطلباتِهما وشروطِهما ستدور حول هذه النقطة قبل تقديم أيِّ تنازل، بل وقبل إبداء أيِّ استعدادٍ مخادعٍ لتقديم أيِّ تنازل.
هذه بدهية يقينية لا مجال للتشكيك فيها، وكلُّ من يتجاهلها في التعامل مع إسرائيل والولايات المتحدة، سيكون عبئا على هذا التعامل وخطرا عليه في الوقت ذاته، لأن كلَّ من يتعامل مع عدو لا يعرف البُنيَة الإستراتيجية لتفكيره، هو أشدُّ خطرا على قضيته من سلاح ذلك العدو أيا كانت شراسته. وبالتالي فإن سياق التسوية المُرَوَّجِ لها والمُلَوَّحِ بها، كان سيتضح للجميع أنه سياقٌ مخادع، وألا هدف من ورائه سوى الإجهاز على المقاومة، التي كانت دوائر التعاطف معها ودعمها ستتزايد، لأنها ستكون قد أثبتت عدمَ وقوفِها حجرَ عثرةٍ في طريق أيِّ تسوية حقيقية لتداعيات حرب 1967، كما يزعم النظام الأردني ومن ورائه دول جبهة الحل السلمي.
عندئذٍ سيفقد المشروع العربي القائم على تحييدها – أي على تحييد الثورة – زخَمَه ومصداقيَّتَه. وستَتَّخِذُ ممارسات النظام الأردني ضدَّها طابعا مغايرا لفحوى دعواتِه التي حاول إقامتَها على فكرةِ تمثيله لـ “هوية أردنية” تتعرض للخطر بفعل ثورةٍ أصبحت “فلسطينية” فتغوّلَت على تلك الهوية، أو على فكرةِ تفعيلِ خطةٍ قومية تتعرض للتعطيل بفعل ممارساتٍ غير مسؤولةٍ من قبل فدائيين لا يرون القضية في غير الحماس والاندفاع نحو الشهادة والموت، لأن كل ذلك كان سيبدو كلاما فاقدا لقيمته أمام وضوح الرؤية الصهيونية الإمبريالية في مشروع “روجرز”، والقائمة على فكرة تقديم الطعم الذي يستدرج الفريسة إلى مقتلها، كي تموتَ وفقط، وليس لأيِّ شيءٍ آخر.
لم يكن مشروع “روجرز” في حدِّ ذاته هو سبب الاتجاه نحوَ تصفيةِ الثورة في الأردن من حيث المبدأ. إن تصفيَتَها كانت أمرا مفروغا منه من الناحية الإستراتيجية على مستوى الضرورة، بحكم طبيعة أطراف الصراع في المنطقة، وعلى رأسها النظام الأردني وهو يمارس لعبةَ “لوغو الهويات” في معركته من أجل البقاء، و”المقاومة الأردنية” وهي تبتلعُ الطعومَ التي كان يلقيها لها النظام الواحدَ تلوَ الآخرَ، وتقع في الشراك التي كان ينصبها لها شَرَكا في إِثْرِ شَرَكٍ، لدفعها إلى الانسلاخ من أردنيتها والغرق في مُكَوِّنات “الهوية الفلسطينية” البديلة التي أريدَ لها أن تُجَسِّدَها وتَتَقَمَّصَها، وهو ما أسهبنا في شرحه وتوضيح مُكَوِّناته وصيرورتِه فيما مضى.
إن المشروع التَّصْفَوي المضاد والمعادي لمشروع الثورة، كان يسير بخطىً متسارعةً حينا ومتباطئة حينا آخر بحسب الظروف والتطورات. الظروفُ والتطوراتُ في المواقف والأوضاع على الأرض، كانت إذن بمثابة الرَّوافِد التي تَرْفِدُ التناقضَ بين الثورة والنظام بمُقَوِّمات التنامي المُتَّجِهِ نحو الحسم. وكانت بادرة “روجرز” أهمَّ تطوُّرٍ فعلَ في التناقض بين النظام الأردني والثورة فعلَ السِّحر، رافعةً إياه إلى مستوى استنفادِ كافة مخزونِه المُؤَجِّلِ للحسم، بعد أن غدت هذه البادرة بمثابة العُنْصُر المُسْتَحْضِر لكافة مبررات المواجهة الحاسمة وبصورة نهائية. فبعد أن كان هذا التناقض جاهزاً للحسم بمعايير لعبة “لوغو الهويات” التي مثلت بالنسبة للنظام ساحة المعركة من أجل البقاء، منتظرا جاهزيةَ عنصرٍ من نوعٍ آخر يُحدِّدُ توقيت الحسم، جاءت بادرة روجرز لتكون هذا النوع الأخير من أنواع الحسم. وكانت هذه البادرة ولهذا السبب بالذات هي المقدمة المباشرة لمجزرة أيلول ولكلِّ ما نشأ بعد ذلك من تطوراتٍ وأحداث.
بإزاءِ هذه التطورات السريعة، وأمام شعورِ قادة الثورة بالمؤامرة التي دُبِّرَتْ بليل لتطويق ثورتهم والإجهاز عليها، راحوا بدلَ اختراقِهم للمشروع الأميركي وقفزِهم نحو المستقبل باقتحامه من الداخل، عبر تكوين رؤيةٍ سياسيةٍ تكتيكيةٍ، ديناميكيةٍ وعمليةٍ تقوم على “الموافقة” عليه، بهدفِ استعادةِ كلِّ أو بعضِ ما خسروه في معاركهم المتتابعة مع النظام الأردني على الصعيدين الأيديولوجي والسياسي..
نقول.. بدل ذلك، فإنهم راحوا يواجهونه – أي مشروع روجرز – بكل ما أوتوا من قوة. ولم يَدُرْ بخَلَدِ أيٍّ منهم أن مواجهتَه ومعاندتَه ورفضَه بعد موافقة جبهة الحل السلمي العربية عليه، كانت هي مواقفُ الثورة المطلوبةِ أميركيا وإسرائيليا، لتسهيلِ مَهَمَّةِ الإجهازِ عليها من قبل النظام الأردني، بسبب أن تلك المواقف تشكِّلُ أرضيةً أيديولوجيةً وسياسيةً تبَرِّرُ الكثيرَ من عناصر ذلك الإجهاز، عبر منحها نوعا من “المشروعية القومية العربية” بزعامة “جمال عبد الناصر” المتجاوب مع الطروحات الأميركية، ونوعا من “المشروعية القُطْرِيَّة الأردنية” بزعامة “الملك حسين” الذي كان قد مَهَّدَ الطريق أردنيا، ليظهرَ بمظهرِ الحامي لـ “الهوية الأردنية” ومنقذِها من تَعَسُّفِ “الهوية الفلسطينية” المُسْتَعْلِيَة والمُتَغَوِّلَة على رحمها الأردني.
إن المجابهةَ بين النظام والثورة في الأردن، بدت واضحةَ المعالمِ كحدثٍ مركزي مرتقبٍ في صيرورةِ التسوية السلمية المُتَوَهَّمَة. وملاحظة ذلك كانت أمرا سهلا وميسورا، سواءٌ على صعيد الاتجاه الذي اختَطَّتْهُ الجهودُ الرامية إلى عرقلة تلك التسوية، وهي جهود الثورة، أو على صعيد الاتجاه الذي اختَطَّتْهُ الجهود الرامية إلى تحقيقه وإنجازه، وهي جهود النظام. فإذا كان على النظام الأردني أن يُثْبِتَ حُسْن وصِدقَ نِيَّتِه في السَّير في مشروع السلام المطروح أميركيا وإسرائيليا، فإن ذلك لم يكن ليَتَحَقَّقَ له سوى عبر الاعداد والاستعداد لضرب الثورة وتصفية وجودها في الساحة الأردنية. كما أنه إذا كان على الثورة في المقابل، وانطلاقا من فلسفتها وارتكازا إلى تصوراتها على الصعيدين الأيديولوجي والسياسي آنذاك، أن تحارب ذلك الطرح وتقف في مواجهته، فلم يكن لديها من مكان تحاربُه فيه سوى الأردن، ولا كان لديها من آلية لذلك سوى مواجهة النظام الأردني.
لقد أثبتت الثورة في الأردن أنها كانت لا تعرف سوى استخدامِ البندقية أداةً ظنَّتْها الأداةَ الوحيدةَ لـ تحرير “الأرض المحتلة”، ولإثبات “الذات الوطنية”، وللدفاع عن “الأنا الثورية”، لأنها كانت قادرةً على الدوام – أي الثورة – عبرَ ما بدا من ممارساتِها غير العسكرية، على خسارة مواقعِها الراسِخَة بسهولةٍ منقطعة النظير، بالانحدار الأيديولوجي تارةً، وبالسذاجة السياسية تارةً أخرى.
فبالانحدار الأيديولوجي انزلقت الثورة إلى “فلسطينيةٍ” كان تَجَسُّدُها في تلك الحقبة من الزمن الذي انتصر فيه الأردنيون على وظيفِيَّة هويتهم القُطْرِيَّة، خالقين من هويتهم “الأردنية” أكبر نقيض للصهيونية والإمبريالية والرجعية العربية.. وعلى ذلك النحو الذي بدا مناددا للهوية الأردنية “الرَّحِم الأمُّ” للثورة.. وعبر ذلك السياق الذي انطوى على منافسةٍ للنظام الأردني المترَنِّحِ، على السيادة، عبر ازدواجيةِ سلطةٍ لا تستند إلى أيِّ شرعية ثورية أو شعبية أو قانونية..
نقول.. كان تَجَسُّدِ “الهوية الفلسطينية” في تلك الظروف المشار إليها، سقوطا لا نهوضا، وخسارةً لا مكسبا، وضررا لا منفعةَ فيه. لأنه تَجَسُّدٌ منحَ النظامَ الذي كانت “الهوية الأردنية” الثائرة أكبرَ خطرٍ يتهدَّده، ويتهدَّدُ من ثم كلّ منظومة التجزئة القُطْرِيَّة الوظيفِيَّة المساندة له، أمصالَ الحياة، وحقنَهُ بترياقِ البقاء والاستمرار ثم الاستقواء من جديد.
أما بالسذاجة السياسية، فقد منحت الثورة من خلال موقفها التاريخي العَدَمي المُعْلَن والمعروف من مشروع “روجرز”، لكلِّ المنظومة العربية الرسمية بِبُنْيَتِها الفسيفِسائيَّة التي تعصى على التَّكَوُّن في أيِّ مكان آخر في العالم غير “المشرق العربي”، فرصةَ إخراجها محطمَةً أيديولوجيا وسياسيا وعسكريا من قاعدتها الإستراتيجية الآمنة “الأردن”، والزجِّ بها إلى أتونِ ترحالٍ أبديٍّ لا ينتهي، قصارى ما ستقضي حياتَها – أي الثورة – في الحرصِ عليه خلال تغريباتِه المتعاقبة – أي تغريبات ذلك التِّرحال الأبدي – هو الإبقاء على ما ظنَّتْه إنجازا تَسَبَّبَ الحرصُ عليه في طردها من الأردن، ألا وهو “فلسطينية الهوية”، الذي تعاملت معه وما تزال بقداسةٍ لاهوتيةٍ غير مُقْنِعَة ولا مفهومة ولا مُبَرَرَة، لا أيديولوجيا ولا سياسيا، في أمة كالأمة العربية، وفي قضية كتلك التي اصطلِحَ على تسميتها بـ “القضية الفلسطينية. مع أنه كان هو ذاتُه الإنجاز الذي أدخلَ القضيةَ منذ تحقيقه، في متاهاتِ التغييبِ والترحيلِ والتَّسويفٍ التي كانت على الدوام هي الإطار الذي تمَّ التعامل من خلاله مع القضية بما يربو على الأربعين عاما من الفشل المتكرِّر.
لقد أدمنت “الثورة الفلسطينية” الفشلَ لأنها أدمنت اعتناق “الهوية الفلسطينية” كمرجعية معيارية تقاسُ بمدياتِ الاقتراب منها أو الابتعاد عنها طرديا، مدياتُ المكاسب والخسائر على صعيد القضية، وهي المعادلة الأشَدُّ جنوحا عن الطريق السليم، والأكثر ابتعادا عن الحق والصواب، لأن الحق والصواب في هذا الشأن منذ انتصر الأردنيون في منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي على وظيفِيَّة وقُطْرِيَّة هويتهم الأردنية، محوِّلين إياها إلى هويةٍ مقاومةٍ قومية وحدوية نهضوية حاضنة لأنبل ثورة عربية في التاريخ المعاصر، إنما يقوم على المعادلة الضِّدِّ، وهي أن الدلالة المعيارية لـ “الهوية الفلسطينية” على المكاسب والخسائر فيما يتعلق بالأهداف الإستراتيجية للأمة العربية وهي التحرر والوحدة والعدالة والنهضة، والتي تَجَسَّدَت فيما اصطلح عليه بالصراع العربي الإسرائيلي، هي دلالة عكسية وليست طردية، أي أنه مع كل تَجَسُّدٍ وتَرَسُّخٍ تَحَقَّقَ للهوية الفلسطينية على حساب “أردنية الثورة” في تلك الحقبة من الزمن، كانت تتضاءل فرص الإنجازات القومية على صعيد الأهداف الإستراتيجية سالفة الذكر، ولا تتزايد كما تصور هؤلاء الذين اعتبروا هذه الهوية دينا يُعْتنَق وإلها يعبد، بعد أن أوقعهم النظام الأردني في حبائل هذا الدين الوثني الجديد.
منذ أن فَجَّرَ الأردنيون ثورتهم فقدت “الهوية الفلسطينية” دلالتها الوطنية التي كانت لها عقب صدور قرار التقسيم. لأنها عندما فشلت في التجَسُّد في ذلك الوقت الذي كان أنسب فرصة لتجَسُّدِها بكل دلالاتها الوطنية، كان التاريخ قد بدأ يتغيَّر، ومعادلات الوظيفَيِّة واللاوظيفِيِّة قد بدأت تنقلب رأسا على عقب. فما كان وظيفِياًّ قُطْرِيا بدأ يعيد إنتاج نفسه على أسسٍ مغايرة، وما كان ثوريا ووطني الدلالة راح يفقد دلالاته هذه في ضوء المتغيرات التي راحت تعتمل في الخفاء. فمن أرادوا بهذه المؤامرة على “الهوية الفلسطينية” أن يدمجوها في وظيفية “الهوية الأردنية”، كي تفقدَ وطنيَّتَها وثوريتَها المرتقبتين، انقلب عليهم سحرهم، فتحولت “الهوية الأردنية” التي تمَّ الرِّهان على وظيفِيَّتها، بعملية التخصيب التاريخية التي تسبَّبَ فيها مؤتمر أريحا، إلى هوية ثائرة متحرِّرَة من وظيفِيَّتِها. وغدا منذ ذلك التاريخ أيُّ عمل على تجسيد “الهوية الفلسطينية” على حساب “الهوية الأردنية” الثائرة، هو العمل الوظيفي القُطْري المناجز للأهداف الإستراتيجية للأمة. وهذا ما حصل على أرض الواقع.
فكيف تكون “الهوية الفلسطينية” إذن عندما تنشأ وتتجسَّد في ظروفٍ كهذه، هويةً متناغمة مع إستراتيجيات الأمة، وهي التي أدخلتها منذ تجسُّدها في ستينيات القرن الماضي في أنفاقِ التِّيهِ التي ما نزال نعاني منها حتى الآن؟!
…   يتبع في الحلقة التالية
الهوامش..
1 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 95).
2 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 96).
3 – (عن جريدة الأهرام القاهرية، العدد الصادر بتاريخ 26/06/1970).
4 – (تضمن هذا القرار 242 الانسحاب الصهيوني الكامل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، كما أتاح هذا القرار حرية الملاحة في المياه الإقليمية، وتم ذلك بموافقة كل من الكيان الصهيوني ومصر وسوريا.
نص القرار 242..
 إن مجلس الأمن،
إذ يعرب عن قلقه المستمر بشأن الوضع الخطر في الشرق الأوسط،
وإذ يؤكد عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب، والحاجة إلى العمل من أجل سلام دائم وعادل تستطيع كل دولة في المنطقة أن تعيش فيه بأمان،
وإذ يؤكد أيضا أن جميع الدول الأعضاء بقبولها ميثاق الأمم المتحدة، قد التزمت بالعمل وفقا للمادة 2 من الميثاق،
1 – يؤكد أن تطبيق مبادئ الميثاق يتطلب إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط ويستوجب تطبيق كلا المبدأين التاليين:
أ – انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من أراضي احتلتها في النزاع الأخير،
ب – إنهاء جميع ادعاءات أو حالات الحرب، واحترام واعتراف بسيادة ووحدة أراضي كل دولة في المنطقة، واستقلالها السياسي وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها، حرة من التهديد بالقوة أو استعمالها.
2 – يؤكد أيضا الحاجة إلى:
أ – ضمان حرية الملاحة في الممرات المائية الدولية في المنطقة،
ب – تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين،
ج – ضمان حرمة الأراضي والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة عن طريق إجراءات من بينها إقامة مناطق مجردة من السلاح.
3 – يطلب من الأمين العام تعيين ممثل خاص ليتوجه إلى الشرق الأوسط كي يجري اتصالات بالدول المعنية ويستمر فيها بغية إيجاد اتفاق، ومساعدة الجهود لتحقيق تسوية سلمية ومقبولة وفقا لأحكام هذا القرار ومبادئه.
4 – يطلب من الأمين العام أن يرفع تقريرا إلى مجلس الأمن بشأن تقدم جهود الممثل الخاص في أقرب وقت ممكن.
طلب وقف إطلاق النار والدعوة إلى تنفيذ القرار رقم 242 بجميع أجزائه.
إن مجلس الأمن،
1 – يدعو جميع الأطراف المشتركة في القتال الدائر حاليا إلى وقف إطلاق النار بصورة كاملة، وإنهاء جميع الأعمال العسكرية فورا في مدة لا تتجاوز 12 ساعة من لحظة اتخاذ هذا القرار وفي المواقع التي تحتلها الآن.
2 – يدعو جميع الأطراف المعنية إلى البدء فورا بعد وقف إطلاق النار، بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 بجميع أجزائه.
3 – يقرر أن تبدأ فور وقف إطلاق النار وخلاله، مفاوضات بين الأطراف المعنية تحت الإشراف الملائم بهدف إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط). “على الرابط التالي http://www.islamicnews.net/Document/ShowDoc09.asp?DocID=59516&TypeID=9&TabIndex=3“.
5 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 97).  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.