www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية/6/أسامة عكنان

0

الحلقة السادسة الأزمة الثالثة بين المقاومة الأردنية والنظام الأردني شباط/فبراير/1970

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية
“دراسة في حلقات”
“جزء من بحث قُدِّمَ لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية”

أسامة عكنان
عمان – الأردن
الأردن وطن وليس مزرعة خراف
والأردنيون شعب وليسوا قطيع ماشية
والأردني مواطن يملك وطنا، وليس عابر سبيل يستجدي كسرة خبز
وحكام الأردن خدم وموظفون عند شعبهم، وليسوا سادة عليه أو مستعبدين له
فمن فهم فليعمل بما فهم، ومن لم يفهم فليذهب إلى الجحيم
قراءةٌ في دور الأردن التاريخي كوطن مُهِمٍّ يلد رجالاً أهم، ورفضُ دورِه الوظيفي كمزرعة تسمِّن الخراف لخلق فضاءٍ آمنٍ لأعداء الأمة

الحلقة السادسة
الأزمة الثالثة بين المقاومة الأردنية والنظام الأردني شباط/فبراير/1970

ما لا شك فيه أن الثورة نمت نموا مذهلا، واتسعت اتساعا لم يكن يَتَصَوَّرُه أحد، في الفترة التي تلت معركة الكرامة بوجه عام، وفي الفترة التي تلت أزمة تشرين ثاني من العام نفسه بوجه خاص. ولقد أوصلها هذا النمو وهذا الاتساع، إلى مستوىً من الحضور الجماهيري جعلها تُعْتَبَرُ سلطة رديفة وموازية لسلطة النظام، تُمارسُ الكثيرَ من الأمور، وتضطلعُ بالعديد من الصلاحيات التي هي من صميم سلطة النظام. ونجمت عن هذا الوضع تلك الحالة الغريبة وغير الطبيعية والمتناقضة مع ما يُفترضُ أن تكون عليه الأمور، الا وهي حالة “ازدواجية السلطة”، وهي الحالة التي لا يمكنها أن تستمرَ طويلا دون أن يتم حسمها لصالح أحد الطرفين.
فكما كانت للنظام مؤسساته التي تعكس سلطَتَه – وإن كان هو في الوقت ذاته السلطة الرسمية المعترف بها قانونا، وتحديدا خارج الدولة الأردنية – كانت للثورة مؤسساتُها وهياكلها التي بدأت تسحب بُسُطَ السلطة تدريجيا من تحت أقدام النظام، “وقد كان لابد للمقاومة من أن تُنشِئَ سلطةً أخرى إلى جانب سلطة النظام، واستمرت هذه السلطة في النُّمُو وفي تطوير مؤسساتِها الخاصة بها: قيادة الكفاح المسلح وانضباط الكفاح المسلح، المنظمات الشعبية، الميليشيا، المنظمات النسائية، الاتحادات المهنية والنقابية، الهلال الأحمر، مؤسسات الرعاية الاجتماعية.. إلخ. كما بدأت تسنُّ قوانينَها وتشريعاتها الخاصة بها، وبدأت الجماهير الأردنية بوجه عام، ومنها وعلى رأسها في المراحل الأولى الجماهير الشرق أردنية تلتف حول السلطة الجديدة وتتجه إليها لحل قضاياها اليومية وإدارة شؤون حياتها”(1).
ولكن استمرارَ “ازدواجية السلطة” لم يكن أمرا طبيعيا، وليس من شأنه أن يكون كذلك، ولا يعدو كونَه وضعا انتقاليا يُفْتَرَض أنه يفصل بين مرحلتين، الأولى هي مرحلة التَمَدُّد والانتشار في سلطات الثورة، بحكم “الديناميكية الحركية” التي تفرض على الثورة أن تتمدَّدَ جماهيريا، وبالتالي أن تتواجد سلطويا في صفوف جماهيرها، والثانية هي مرحلة حسم “الازدواجية” وما تخلقُه من تناقضات، بعد وصول هذه التناقضاتِ حداًّ غيرَ مقدورٍ على استمرار التعايش الطبيعي في ظلِّ وجوده وديمومته، ما يولِّدُ الانفجارَ الذي سيكون مدخلا لقيام إحدى السلطتين بحسم الازدواجية وتحويلها إلى سلطة أحادية لصالحها.
لكن الملاحظَ فيما يخصُّ العلاقة التي ربطت النظامَ في الأردن بالثورة ومشروعِ مقاومتها لغاية أيلول 1970، انها تَضَمَّنَت فترةً طويلةً من العيش في ظلِّ “ازدواجية السلطة”، صَوَّرَت لنا بصدقٍ طبيعةَ موقف كلّ طرفٍ من طرفي التناقض – وهما النظام والمقاومة – من الطرف الآخر. ففي الوقت الذي مارس فيه النظام الأردني بشكل عملي واعٍ كلَّ ما يتطلّبُه تناقضُه مع مشروع المقاومة من سياسات، في سعيٍ متواصلٍ منه للتمهيد لظرفٍ مناسبٍ يحسم فيه حالة “ازدواجية السلطة” لصالحه، بعد أن يكون قد حقَّقَ بلعبةِ “لوغو الهويات” التي كان يمارسُها بإتقان، كل ما كان يُعِدُّ له من حركة تَنَقُّلات في سيادة الهويات وتَمَوْقُعاتِها على الساحة الأردنية، فإن الثورة لم تَتَّجِه مطلقا – على ما بدا من سلوكها العام في كافة مراحل عملها على الساحة الأردنية – لإحداث هذا الحسم لصالح الجماهير تحقيقا لتطلعاتها وآمالها المعقودة على الثورة وعلى مشروع المقاومة.
ولم يكن التَّوَجُّه إلى تَجَنُّبِ حسمِ “ازدواجية السلطة” من قبل الثورة في كل مراحل الاحتكاك بالنظام، يؤشر على أيِّ افتراضٍ بتكتيكية ذلك التَّوجُّه، فقد أثبتت فترات المقدرة على الحسم مع الحرص على تجنُّبه من جهة، وحالة الارتباك الأيديولوجي التي وَضَعَت الثورة نفسَها فيها، بسبب الانتقال من “أردنية الهوية” إلى “فلسطينية الهوية”، عبرَ الوقوع في الشَّرَك الذي نصبه لها النظام ليُقَزِّمَ حيِّزَ فعلها الجماهيري من جهة أخرى، أن عدمَ الحسم كان موقفا إستراتيجيا، فرضَتْه طبيعةُ الحالة الأيديولوجية التي أدت إليها لعبة “لوغو الهويات” التي كان يمارسها النظام بوعي تام، لتستجيبَ لها المقاومة بسذاجة لا تتناسب مع زخمها الجماهيري الذي كان يتصاعد بشكل كبير بعد معركة الكرامة.
وهكذا فقد شَهِدَت الساحة الأردنية “ازدواجية السلطة” لمدة زمنية قاربت الثلاث سنوات، رغم ما كان يتخلل هذه الازدواجية من صدامات جزئيةٍ لا تخلو من العنف بين الحين والآخر، عبَّرَت في جوهرها عن عمقِ وأصالة التناقض المُفْتَرَض والقائم بين الثورة والنظام، بوصفه كان يمثل آنذاك شكلا هاما من أشكال تمرير العلاقات الإمبريالية في المنطقة، والعنصرَ الأشَدَّ فاعلية في منظومة التجزئة القطرية، بسبب التعويل عليه في حماية مشروع التجزئة من الانهيار، بالإصرار على عدم فشل سياسته الدافعة باتجاه القضاء على الثورة الأردنية، وبأيِّ ثمن.
وإذا حاولنا استقراءَ الأسباب التي أطالت فترة “ازدواجية السلطة” على الساحة الأردنية، لأمكننا حصرها فيما يلي..
1 – عدم سعي الثورة بوعي وإرادة وتخطيط إلى تكريسِ ازدواجية السلطة، تمهيدا لحسمها لصالح الجماهير التي تُمَثِّلُها، باعتبار ذلك – سواءٌ تكريسُ الازدواجية في مرحلةٍ من صيرورة الثورة، أو حسمُها في مرحلة لاحقة من هذه الصيرورة – الطريقَ المُفترضَ بدايةً ونهايةَ، للعلاقة بين نظامٍ أردني قُطْري وظيفي يخدم العلاقات الإمبريالية والصهيونية في المنطقة، وثورةٍ شعبية أردنية قامت ونمت وتطورت على قاعدةِ دفعِها في الاتجاه المضاد على طول الخط لدور هذا النظام ووظيفته.
أي وبمعىً آخر، أن “ازدواجية السلطة” التي كان يجب أن تدورَ حول تخليقها وتفعيلها ممارساتُ الثورة عن قصد ووعي وإدراك، لتعميق التناقضات بين النظام والجماهير، سعيا إلى إسقاطه في نهاية المطاف، عندما تصل هذه الازدواجية حداًّ لا يستقيم أمرُ التعايشِ بين النظام والثورة بوجودها.. نقول.. إن هذه الازدواجية تخليقا وتفعيلا لم تكن ضمن إستراتيجيات الثورة، وخاصة منذ اللحظة التي وقعت في الفخِّ وبلعت طعمَ فلسطينيتها التي حاصرتها بالإغراءات الجوفاء القائمة قياما لاهوتيا على تقديسٍ غير مفهوم سياسيا للدلالات الوطنية الأزلية للهوية الفلسطينية.
فمنذ أن تمَّ الوقوع في شَرَكِ “فلسطينية المقاومة”، أصبحت هذه الأخيرة معنيةً بالتعامل مع بُنْيَةٍ أيديولوجيةٍ جديدة راحت تتشكل من رحم الطُّعْم الذي تمَّ بلعه، ألا وهي أيديولوجية أنها والنظامَ كيانان سياديان مختلفان، لا يتنافسان على إدارة الدولة الأردنية وممارسة السلطة فيها، بل على كيفية تنظيم آليات تعايشهما كسلطتين منفصلتين إحداهما عن الأخرى، مع اعترافِ كلِّ سلطة منهما بالأخرى – إذ من غير المقبول ولا بأيِّ شكلٍ من الأشكال القانونية أو الدستورية أو السياسية أو الأخلاقية، أن ينافسَ الفلسطينيون النظامَ الأردني على ممارسة سلطته على أرضٍ أردنية – في تجاهلٍ وتغاضٍ تامين عن حقيقة أن هذا الذي بدأت تدور حوله إستراتيجياتُ الثورة بخصوص علاقتها بالنظام هو أمرٌ لا يستقيم. فلا يوجد نظام في العالم يقبل بأن تُمارَسَ على أرضٍ تقع تحت سيادته سلطةٌ من خارج عباءته، لكنه قد يَفْهَم أنه يخوض صراعا وجوديا مع فئةٍ من شعبه على تلك السلطة ككل من حيث المبدأ.
فعندما كانت “أردنية الثورة” تطرحُ الأمرَ على النحو الأخير الذي كان يُهَدِّدُ النظامَ فعليا، ألا وهو أن التناقضَ قائمٌ بين شعبٍ ونظامه على السلطة، بسببِ تعارض الإستراتيجيات السياسية التي يتبناها ويعيش لأجلها كلٌّ من هذا الشعب وذلك النظام، فإن النظامَ حرص من خلال الزَّجِّ بالثورة إلى حاضنةِ “فلسطينيتها” على أنقاض “أردنيتها”، على تحرير نفسه من تبعات تناقضٍ فرض نفسه في البدايات على أنه تناقضٌ ناجمٌ عن تنافسٍ بين مواطنين أردنيين ونظام أردني على السلطة، ليحوِّلَ المسألة إلى كونها تناقضاً مرفوضا على جزءٍ من السيادة، حتى من قِبَل “الشرق أردنيين” الذين كانوا يمثلون أحد المُكَوِّنات الأساسية لجسم الثورة، قبل البدء بصياغة القضية والتناقض الذي تثيره على هذا النحو الغريب على أدبيات الثورة الأردنية أساسا..
نقول.. لقد حرص النظامُ على تحرير نفسه من تبعات ذلك النوع القاتل من التناقضات، والقائم على أن المناجزة هي بين “نظام أردني” و”شعب أردني ثائر”، ليصبح التناقض قائما على أن المناجزة هي بين “نظام أردني” و”شعب فلسطيني ثائر” قد يتعاطف معه الأردنيون، وهي مناجزةٌ يفرضُها واقعُ أن “الفلسطينيين” المقيمين على الأراضي الأردنية لم يلتزموا بأصولِ الضيافة وقواعدِ السيادة، فراحوا يمارسون سلطةً موازيةً لسلطةِ النظام على تلك الأرض الأردنية، التي راح “الفلسطينيون” أنفسُهم يعترفون بأردنيتها الموازية لفلسطينيتهم – إذ لا خلاف على أردنيتها من حيث المبدأ، إذا كانت هذه الأردنية تُطْرَحُ كهويةٍ محتوية لفلسطينيتهم لا موازية لها – وخاصة منذ أن بدأت الثورة – عقب عُلوقِ سِنَّارَة إستراتيجية النظام في أعماقها – تعلن بوضوح في كل الأزمات والاحتكاكات، أنها حريصة على “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للأردن”. ليحقِّقَ النظامُ بِتَجَلِّي هذا المفهوم على سطح العلاقة بينه وبين الثورة، أول بوادر انتصاره على هذه الأخيرة بالضربة القاضية.
نعم، لم تكن الثورة هي خالقة الصدامات مع النظام، ولا هي الدافعة لها عن قصد. كما أنها لم تكن هي المُخَطِّطُ عن وعي وبنضوجِ رؤيةٍ لخلق مؤسساتها السلطوية الموازية لسلطة النظام بغيةَ تفعيل التناقض الشعبي الأردني ضدَّه لدحره في نهاية المطاف، لأنها لو كانت تفعل ذلك على هذا النحو، لما أجَّلَت الحسمَ عندما كانت تقدر عليه، ولما أطالت في عمر “ازدواجية السلطة” التي كانت تُفَعِّلُ من قُوَّتِها وحضورها الجماهيريين يوما بعد يوم، ولما بلعت طعم “فلسطينية المقاومة” على حساب وأصالة “أردنيتها” الأكثر قدرة على الحسم، ولما رفعت شعارَها المدمر “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للأردن”، وهو الشعار الذي أعلنت بتبنيها له أنها أصبحت تعتنق “فلسطينية المقاومة” ديناً، ولم تعد هذه الفلسطينية تناغش أحلام الثائرين مجرد مناغشة.
النظام الأردني كان من الذكاء والدهاء بحيث أدركَ جيدا أن المقاومةَ التي أصبحت تدين بالولاء لفلسطينيتها بعد أن تَحَرَّرَت إلى حدٍّ بعيدٍ من أردنيتها، لن تكون قادرة ليس من الناحية العسكرية فقط، بل من الناحية الأيديولوجية وبالتالي القانونية والسياسية بالدرجة الأولى، على أن تسقطه لتستلم السلطة بدلا منه، حتى لو كانت تملك القدرة العسكرية التي تُمَكُّنَها من تحقيق ذلك. إذ كيف يحق لثورة فلسطينية تستخدم أراضي الأردن لتنطلقَ منها، أن تتجاوزَ حدودَها وتسقطَ النظام صاحبَ السيادة على تلك الأراضي مُتَحَوِّلَةً إلى شكل من أشكال الاحتلال، بينما هي تحارب الاحتلال أساسا.
لقد حرص النظام بتغاضيه عن استفحالِ الاحساس بفلسطينية الثورة، وبالتالي بفلسطينية الضفة الغربية، لدى من أراد لهم أن يكونوا هم وحدهم الفلسطينيون، في مواجهة من أراد لهم أن يكونوا هم وحدهم الأردنيون، على تفريغ كلِّ الصدامات التي ستنشب بينه وبين الثوار والمقاومين، وخاصة الصدام الأخير المُزْمَع تفجيره في الوقت المناسب لتوجيه الضربة القاضية النهائية للثورة، من دلالات أنه صدامٌ بين نظام وشعبه اقتتالا على السلطة، بجعله يَتَجَلَّى على أنه صدام بين نظام أردني وثورة فلسطينية تنافسه على السيادة على جزءٍ من الأرض، وبالتالي على جزء من الشعب، وكأنها بالتالي تهدِّدُ الهوية الأردنية.
ولقد كان النظام يعلم أن المقاومة لن تقاتلَه عندما تقاتلُه لتسقطَه وتحكمَ بدلا منه – فهي قد أسقطت هذا الطرح من أجندتها منذ أن تخلت عن أردنيتها أيديولوجيا وقانونيا وسياسيا – بل فقط لكي تحاولَ إجباره على تنظيم العلاقة بينها وبينه بالشكل الذي يسمحُ لها بممارسة أعمال المقاومة من على الأرض الأردنية. وهو من جهته كان يعي أن أحدا لن يَفرضَ عليه لا داخليا ولا خارجيا القبولَ بتنظيم هذه العلاقة في إطار “ازدواجية السلطة” التي سيتعاطف الجميع وعلى رأسهم زعيم الأمة آنذاك الرئيس “جمال عبد الناصر” مع حقه في أن يحسم أمرَها لصالحه. مع أنه كان هو – أي النظام الأردني – المُسْهِمَ الأولَ في توسيع دائرتها، في الوقت الذي كان مع كل توسُّع فيها يدفع المقاومة باتجاه استشعار فلسطينيتها لتحقيق المراد في الوقت المحدد.
إن النظامَ وإدراكا منه لحساسية مسألة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين لدى جميع الأطراف، ما كان ليقدرَ على تحقيق أهدافه في القضاء على مقاومة الشعب الأردني، إلا إذا تمكن من تنفيذ أجندته في السَّطْوِ على “ثورة الأردنيين” عبر ثلاثة محاور أساسية.. الأول بالدفع باتجاه تجسيد “فلسطينية الثورة”، والثاني بالدفع باتجاه “ازدواجية السلطة”، والثالث بالدفع باتجاه “التعبئة ضد الثورة في الوسط الأردني” وتحديدا “الشرق أردني”.
فبالأول يُغَيِّرُ من جوهر التناقض بينه وبين المقاومة، بجعلها “مقاومةً فلسطينية” تنافسه على السيادة على الأرض والهوية، وليس “مقاومة أردنية” تنافسه على السلطة السياسية وعلى إدارة دولة هي دولة الجميع. وبالثاني يجعلها مقاومة غير قادرة على العودة إلى الوراء إلا بالانهيار التام، بل ويجعلها مُشَتَّتَةً بشكلٍ مربك بين حرصها على أن تستمرَ في تجسيد فلسطينيتها التي تَعْتَبِرُ تجسيدَها إنجازا تاريخيا مقدسا يمكنها أن تتنازل لأجل المحافظة عليه بالغالي والنفيس، حتى لو كان هذا الغالي والنفيس هو الإصرار على بقاء المقاومة على الساحة الأردنية، وبين حرصها على ألا تظهرَ بمظهر المتدخل في شؤون الدولة الأردنية، فتفقد كلِّ تعاطفٍ داخلي وخارجي. وبالثالث يكون قد جَهَّزَ لنفسه خندقا قويا يتمترسُ فيه مُتَرَبِّصاً بفريسته كالصياد المحنَّك، ليصطادَها بمشروعية وطنية أردنية لا تشكيك فيها.
الثورة إذن وعلى صعيد علاقتها بالنظام، لم تكن تملك أكثر من ردات الفعل، ولم تكن تملك المبادرات أو تفكر فيها لتحسمَ التناقض الذي بدأت تراه يستفحل أمامها دون أن تعرف كيف تتعامل معه، لأنه ليس من صنعها بل هو مفروضٌ عليها، ولم تكن تملك إلا لملمةَ تبعاتِه ما استطاعت. فلسطينيتها التي تجسَّدت فرضت عليها تناقضا جديدا وخطيرا مع النظام ولكنه لغير صالحها، لأنه تناقض “أردني – فلسطيني” على السيادة لا يحظى بالدعم والتعاطف والمساندة، وليس تناقضا “أردنيا – أردنيا” على السلطة يحظى بكل الدعم والتعاطف والمساندة. ازدواجية السلطة التي لا تَتَّجِه إلى الحسم بسبب تَجَسُّد “الفلسطينية” التي ما كان لها إلا أن تقف حائلا دون ذلك، فرَضَتَ عليها تناقضا أشَدَّ خطورة، جعلها دائما في موقف الدفاع حتى عن مشروعيتها وعن مشروعية مقاومتها للاحتلال من الأرض الأردنية، والتي أصبحت فلسطينيتها أكبرَ عبءٍ عليها.
ولقد تعمَّقت المسألة وتفاقمت خطورتُها واستفحل العجزُ عن التعامل مع التناقضات المفروضة على الثورة بما تتطلبه وتقتضيه، بعد أن رُفِعَ ذلك الشعار المدمرَّ الذي كان بمثابة تتويجٍ لخُطَّةِ النظام واعترافٍ بانتصاره المُدَوِّي على الشعب الأردني، ألا وهو شعار “الحرص على عدم التدخل في شؤون الأردن الداخلية”، والذي غدا لاحقا شعارا إستراتيجيا للثورة بأن تَطَوَّرَ قليلا ليصبحَ هو “الحرص على عدم التدخل في الشؤون العربية الداخلية”، لتُتَوِّجَ الثورة نفسَها منذ رفعته شعارا لها “نظاما عربيا” جديدا يؤدي دورا وظيفيا قُطْرِيا وإن يكن تحت مظلة البندقية، بدل أن تكون طليعةً تُغَيِّرُ التاريخ بتثوير جماهير الأمة.
لقد كان شعار “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للأردن” ثم “للدول العربية” اعترافا فلسطينيا أحمقا بنظامِ التجزئة القُطْري الوظيفي العربي، على قاعدة الوَهْمِ بأن “الهوية الفلسطينية” التي كان تجَسُّدها ومن ثمَّ الحفاظ عليها والدفاع عن مشروعيتها سببَ هذا الاعتراف، هي من “القداسة الوطنية” بحيث يُغْني تجَسُّدُها هويةً قُطْرِيةً عربية جديدة عن كل النَّجاسة التي تفوح روائحُها من نظام التجزئة القُطْري العربي كلِّه. فما أكبرَه من وهم، وما أحمقَها من إستراتيجية تلك التي قامت على أن القُطْرِية والوظيفِيَّة ستُحارَبان بالقُطْرِية والوظيفِيَّة ذاتهما.
“والخلاصة أن المقاومة بقواها المهيمنة لم تكن تُكَرِّسُ ازدواجية السلطة أو تجذب بخيوطها إلى جانبها عن وعي، فقد كان همُّها ينصبُّ أولا وفي الأساس على حقها في حرية العمل ضد العدو الصهيوني، وفي تنظيم الجماهير بغية رفدِ هذا العمل وحماية ظهر المقاومة، ولم تكن تسعى عامدة إلى انتزاع المواقع لسلطتها وإضعاف سلطة النظام، بل ويمكن القول أن آلية ازدواج السلطة قد فرضت نفسها على المقاومة فرضا”(2).
إن هذه الفقرة التي تُلَخِّص ما أسهبنا في شرحه، هي ما استنتجَه أربعةٌ من كبار مفكري ومنظري المقاومة بعد أن طُرِدَت من الأردن مع الأسف. الأساتذة “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى” بإشراف الدكتور “نبيل شعث”، هم من أدركوا منذ وقت مبكر “1971”، وإن كان متأخرا بالنسبة لما كان يفترض أن يكون، أن المقاومة لم تكن تبادر وتصنع إستراتيجياتها في مواجهة النظام، بل هي كانت تستجيب فقط وتتعامل مع ما كان يُفرض عليها. ونحن نضيف إلى ما ذكروه، أنها كانت تستجيب بالشكل الذي رسمه النظام وأراده، فأسهمت بسذاجة “التصورات اللاهوتية” التي تَبَنَّتْها للهوية الفلسطينية في تدمير كلّ شيء جميل كان الشعب الأردني قد حقَّقَه بثورته التي انطلقت في منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي.
2 – أما السبب الهام الثاني الذي أسهم في إطالة عمر مرحلة “ازدواجية السلطة” في الأردن آنذاك، فهو موقعه المُمَيَّز في جبهة الدول العربية الساعية وراء الحل السلمي، وهو الأمر الذي أجبرَ النظامَ على العمل دوما، سواءٌ بإرادته أو بتوجيهٍ من الدول العربية الأخرى الأعضاء في هذه الجبهة، وعلى رأسها الدولة المصرية، على الإبقاء على الوضع العام في البلاد غيرَ متعارضٍ مع متطلبات هذا الحل، والتي هي الحفاظ على الثورة كورقة ضاغطة، ما يُسْهِم في إتاحة مجالٍ من المرونة لعمل هذه الجبهة في وجه المعسكر المعادي، عبر إظهار القدرة على التَّحَكُّم في مصدر إزعاجِ وإقلاقِ وإرباكِ إسرائيل والذي هو المقاومة. إذن فحتى التَّحَكُّم في عمرِ حالة “ازدواجية السلطة” إطالةً أو تقصيراً، لم يكن شيءٌ منه في يد المقاومة، بل هو كان كلُّه في يد النظام الأردني.
لقد تسبَّب النظام بسياساته المدروسة والمسنودة من قبل كلِّ من يعنيه أمرُ المقاومة، إما رغبةً في القضاء عليها، وإما رغبةً في توظيفها ورقةً ضاغطة في أيِّ مفاوضاتٍ أو مشاريعَ تسوَوِيَّة محتملة، في خلقِ حالةِ “ازدواجية السلطة” وتطويرها وتوسيعها لأسبابٍ ذكرناها فيما مضى. وبقي هذا النظام مع ذلك، ومن خلال تحَكُّمِه في توقيت الصدامات والاحتكاكات بالمقاومة، وتوقيت إيقافها، ونمط توجيهها، وشكل استثمارها، هو وحده المهيمن على مُكَوِّنات موقعِها كورقةٍ يلعب بها أو يُقَويها أو يَحْرِقُها وقت يشاء. وهذا ما كان يحدث بالفعل على مدى كاملِ الحقبة الزمنية الممتدة من شباط 1968 ولغاية أيلول 1970، عندما ظهر إلى الوجود “مشروع روجرز”(3)، لتكون المجزرة الرهيبة هي الخطوة التي كان النظام يُعِدُّ لها ليحقق هدف القضاء على المقاومة من جهة، على ألا يكون هذا القضاء بلا ثمن كما كانت كل جبهة السلام العربي تتصور أو تتوهَّم من جهة أخرى.
لقد أثبت النظام الأردني من خلال حسنِ إدارته لمعركةِ حسمِ التناقضِ في الساحة الأردنية، جدارتَه في تمرير العلاقات الإمبريالية الصهيونية في المنطقة بالشكل المطلوب، وذلك عبر “الهوية القطرية الأردنية” التي عرف كيف يعيدُها إلى “وظيفيتها السايكسبيكوية”، بعد أن تمكنت من التمرُّدِ على هذه الوظيفِيَّة بثورتها التي فجَّرَتها في منتصف عقد الستينيات، خالقا إلى جانبها “هوية قطرية وظيفِيَّة” أخرى تلعب الدورَ نفسَه، ألا وهي “الهوية القُطْرِية الفلسطينية” التي تسبَّبَ ظهورُها – في ذلك السياق التاريخي المسكوتِ عنه بلا سببٍ، غير الخوف على قداسةٍ وطنيةٍ وسياسيةٍ وشرعيةٍ موهومةٍ لهويةٍ أضرت أكثر مما نفعت – في تغيير مجرى الصراع والقضية، وإدخاله في أنفاقٍ مظلمة لم تنته حتى الآن، ولن تنتهِيَ ما لم يتم الوعيُ بأن الهوية الفلسطينية كانت منذ تَجَسُّدِها مُمَثِّلَةً للمقاومة الأردنية بدل “الهوية الأردنية”، الطعنةَ القاتلةَ التي وُجِّهَت لأنبل ثورةٍ عربية ضد الإمبريالية وأقدرها وأجلِّها وأعظمِها، ألا وهي “ثورة الشعب الأردني”.
وهو – أي النظام الأردني – عندما وصل بلعبة “لوغو الهويات” في الأردن إلى المستوى المطلوب الضامنِ لقدرته على حسمِه بالشكل الذي يريده في الوقت الذي يريده، تعامل مع المقاومة التي أصبحت من الناحية الإستراتيجية لعبةً في يد سياساته – منذ أن أعلنت صراحة تدثُّرَها بالدثار الفلسطيني ونزعها الدثار الأردني عن نفسها – باعتبارها رصيدا إستراتيجيا له، ادخرَه ليناورَ به – عبر نصائح الزعامة العربية الأولى آنذاك ممثلة في الرئيس جمال عبد الناصر – مُؤَجِّلا حسم اللعبة كلها حتى تعطيَه الإمبريالية إشارةً واضحةً بأن هناك ثمنا سيجنيه بعد أن أثبتَ أنه تلميذٌ نجيبٌ.. ثمنٌ لم يكن يرضى بأن يكون أقل من عودة الضفة الغربية إلى سيادته، لتكتمل بعودتها “الموهومة” التي لم تَتَحَقَّق حتى بعد أكثر من أربعين عاما من المجزرة، أحقِّيَّتَه بالتَّفَوّق على المقاومة ذاتها، بعد أن يكون عندئذ قد أثبت أنها كانت بالفعل كما تقول جبهة “الحل القومي العربي”، هي حجر العثرة في طريق التحرير وعودة الحقوق.
ولكن، وقبل أن يستحضرَ “أيلولُ الأسود” نتائجَ قرابةِ ثلاثِ سنواتٍ من العمل الدؤوب في أقبية المخابرات وكواليس الارتهان والتبعية، أياما من القتل والتدمير والترويع وإهلاك الحرث والنسل شهده الأردن، فلنعد إلى شباط من عام 1970، لنستطلعَ روحَ أيلول المرتقبَة في ثنايا أزمةٍ خاطفةٍ، بدا أنها أقربُ لأن تكون جسَّةَ النَّبْضِ الأخيرة قبل توجيه الطعنة القاتلة، من أن تكون أيَّ شيءِ آخر.
“فقد بدأت بوادر الأزمة بتاريخ “10/02/1970″، عندما عقدت الحكومة الأردنية اجتماعا برئاسة “بهجت التلهوني”، وقد حضر الملك الذي كان قد عاد في اليوم السابق إلى عمان من مؤتمرٍ لدول المواجهة عُقِدَ في القاهرة، جانبا من الاجتماع، كما حضره أيضا الأمير “حسن بن طلال” وليُّ العهد، وكذلك القائد العام للقوات المسلحة، ومدير المخابرات العامة. وصدر عن الاجتماع بيان من اثنتي عشرة نقطة، تستهدف تقييد حركة المقاومة وإخضاعها لسلطة النظام، والحدِّ من تنامي الحركة الجماهيرية وأشكال الوعي الجماهيري”(4).
ولقد كان ردُّ فعلِ الثورة على هذه المبادرة سريعا وحاسما، ويدل على شعورها بالخطر المحدق بها وبمشروع مقاومتها وبجماهيرها على حدٍّ سواء. “فبعد ساعاتٍ قليلةٍ من إذاعة بيان الحكومة تداعت منظمات المقاومة إلى اجتماعٍ طارئٍ حضره ممثلون عن عشر منظمات، أبدوا رغبة عميقة في التعاون المشترك، وقرَّروا إنشاء قيادة موحدة سياسيا وعسكريا عُرِفَت باسم “القيادة الموحدة”، وتطورت فيما بعد إلى “اللجنة المركزية”، وحملت إذاعة “فتح/صوت العاصفة” على الإجراءات الأردنية، وحذَّرَت من أن هذا القرار قد يكون مقدمةً لمذبحة مريعة في الأردن، وأن الجماهير لن تتخلى عن بنادقها”(5).
في البداية من السهل علينا ملاحظة أن هذه الإجراءات من النظام قد اتُّخِذَت فور عودة “الملك حسين” من القاهرة بعد حضوره اجتماعا لدول المواجهة. وبالتأكيد فإن “الملك حسين” لا يستطيع أن يقدِمَ على خطوة تصفها الثورة بأنها تصفوِيَّة، وبأنها مقدمة لمذبحة مُريعة، ما لم يكن الضوء الأخضر قد أُعْطِيَ له في القاهرة، وخاصة من طرف الرئيس “جمال عبد الناصر”. كما أنه ليس من السهل على “الملك حسين” ونظامِه – في ظل وحدة مواقف جبهة الحل السلمي العربية واتفاقها على اللعب المتقن بورقة المقاومة – أن يخوضَ تجربةً من هذا النوع دون موافقة الأطراف المعنية بالسلام بصفته مشروعا مُلَوَّحاً به من قِبَلِ إسرائيل والولايات المتحدة، وبالثورة بصفتها ورقة عربية ضاغطة في هكذا مشروع، وعلى رأسها مصر عبد الناصر، نظرا لما تمثله مصر من عمقٍ ومدٍّ كبيرين لقوى التَّحَرُّر، في حال رغبتها الحقيقية في مساندة هذه القوى، كما اتضح جليا في كلٍّ من الجزائر واليمن، وفي مناطق أخرى من العالم في كل من إفريقيا وآسيا. “الملك حسين” يتصرف إذن بناء على “أمرٍ دُبِّرَ بليل”، من خلال خطةٍ أحكمها الساسةُ العرب المجتمعون في القاهرة، للتصرف مع المقاومة بالشكل المناسب، الذي يُبْقي عليها ورقةً ضاغطة فاعلة ومؤثرة في مشروع الحل السلمي المُتَوَهَّم.
لقد كشف الزعيم الراحل “جمال عبد الناصر” بمجمل مواقفه ومحصِّلَة سياساته، أنه لم يكن قد أدرك بعد رغم وطنيته العميقه ورؤيته الثاقبة، أن تمثيلَه الحقيقي للجماهير العربية، وأن مضمونَ زعامته القومية لها، إنما هما في قيادته لها لتحسمَ تناقضاتِها مع “أنظمة التجزئة” القطرية والوظيفية، ومع إسرائيل في الوقت ذاته، إن كانت هناك رغبة حقيقية في التقدم والوحدة والحرية والاستقلال، وليس في الحرصِ على سلام مُتَوَهَّمٍ على حساب الحركة الجماهيرية الكفيلة وحدها بتغيير كل شيء نحو الأفضل إذا تمَّ احتضانها(6).
ولقد أثبت التاريخ طيلة ما يقرب من عشرين عاما صحة هذا القول، فقد انكشفت على الدوام ضبابية السياسة المصرية الناصرية إزاء إسرائيل، بعجز هذه السياسة عن أن تَتَفَهَّمَ المضمونَ التقدمي والتحرري المتطور والناضج في “ثورة الشعب الأردني” التي حاربها الجميع بأشكالٍ مختلفة، من خلال تحالفاتٍ مشبوهةٍ ومُشَوِّهَةٍ وغير مفهومة، جعلت نظاما وطنيا قوميا مثل نظام “جمال عبد الناصر”، يتمترس في خندقٍ واحدٍ مع نظام ممعن في تبعيته وقُطْرِيَّتِه ورجعيته مثل النظام الأردني، ضد ثورة الشعب الأردني الطليعية، فقط لاستخدامها ورقة يتِمُّ التلويح بها للحصول على مواقع متقدمة في حلٍّ سلمي موهوم.
فأيُ نوع من القِيَمِ هذا الذي يجعل ثورةَ شعبٍ ضد أكبر مُجَسِّدٍ للإمبريالية وهو إسرائيل، تُعاملُ دعما أو تآمرا، مساندةً أو نحرا، من منطلق النظر إليها فقط بوصفها ورقة ضغط في حسابات الأنظمة والدول بكل فسيفسائيتها العصية على الاجتماع الطبيعي، دون أيِّ اعتبار لدلالاتها التاريخية والتقدمية والتحرُّرِيَّة والنهضوية والوحدوية؟!
“في هذه الأثناء كانت منظمات المقاومة قد شكَّلَت لجانا وقياداتٍ مشتركة في عمان وإربد والزرقاء والمدن الأخرى، كما أن القوات الأردنية استنفرت إمكاناتِها، وأخذت تلك القوات – بواسطة مجموعات مدرعة – توقِفُ السيارات الداخلة إلى عمان وتفتِّشُها وتحتجزُ السلاح من كلِّ القادمين. وفي المقابل اجتمعت القيادة المُوَحَّدَة للمنظمات، واتخذت عدة قرارات أظهرت من خلالها تصميمَها على عدم التراجع واستعدادها للصدام، معلنةً حالة الاستعداد، واتُّخِذَت الإجراءات لحماية المراكز الحيوية، وأُقيمَت الاستحكامات واتُّخِذَت كافة الاحتياطات للمواجهة، وصدرت الأوامر للفدائيين بأن يكونوا تحت إمرة القيادة الموحدة، وأعلنت المقاومة استعدادَها لاستخدام القوة من أجل منع تنفيذ قرار الحكومة الأردنية”(7).
ومع أن النظامَ على ما بدا من مجمل مواقفه وتحركاته كان عازما على تنفيذ الخطة التي تمَّ الاتفاق عليها في القاهرة، إلا أن مواقف الثورة الحاسمة حالت دون تفاقم الوضع، فشعر النظام بأن لحظة الحسم لم تحن بعد، فالمبادرة الأميركية “روجرز” ما تزال لم تتكامل على نحوٍ يغري بتقديم الثورة قربانا على مذبحِها. وقد اقتصر الصدام على اشتباكات محدودة في “جبل التاج” وبعض المناطق المجاورة في عمان، وذلك بتاريخ “11/02/1970″، على الرغم من أن الخسائر في هذا الصدام لم تكن قليلة. “فقد أسفرت هذه الاشتباكات عن 19 قتيلا من الطرفين، الثورة ورجال البادية”(8).
إلى هنا تكون أزمة شباط/فبراير 1970 قد انتهت، ليوقعَ الطرفان على اتفاقٍ ظهر جليا أنه يمثل مجردَ هدنةٍ مؤقتةٍ فقط. وليس أدل على ذلك من انفجار الوضع بعد حوالي أربعة أشهر من ذلك التاريخ، وهي فترةٌ تتيحُ لنا التأكيد على أنها كانت تندرج في إطار المدى الزمني للخطة المتفق عليها في القاهرة، وإن كانت المُتَغَيِّراتُ الحاصلة في تلك الفترة، ساعدت على إعطاء الخطة بعدا جديدا، وادخالِها منعطفا حادا، يصبُّ في المُحَصِّلَة في خدمة المواقف المنبثقة عنها.
ولنا أن نتصورَ أن الأزمةَ كانت حلقة جديدة في سياسة التآمر على “الثورة الأردنية”، التي بدا أنها كانت قد دخلت مرحلة “الاحتضار الأيديولوجي” رغم قوَّتِها العسكرية المتضخِّمَة التي كان النظام يعلم أنها وحدها لا تكفي لإبقاء الثورة في الأردن حَيَّةً بالشكل الذي تريده، مادامت قد انتقلت من مرحلة منازعته على “السلطة” بأردنيتها القوية المنحورة، إلى مرحلة منازعته على “السيادة” بفلسطينيتها الخداج المولودة حديثا والمُنْطَواة على عناصرِ ضعفِها وهُزالِها المزمنة. لقد كانت الخطة التي فجَّرَت الأزمة في شباط 1970، تهدف فقط إلى توتير الوضع لإيصاله إلى مستوىً محدد يكشف للنظام عن كل التطورات الحاصلة على الساحة بعد أكثر من عام من عدم الصدام ومن الإعداد، على ضوء النتائج التي فرضتها أزمة تشرين ثاني 1968 السابقة.
أثبتت أزمة شباط/فبراير 1970، أكثر من كلِّ الأزمات التي سبقتها، أن المقاومة تعيش حالة من التناقض بين النظرية والتطبيق عَصِيَّة على الفهم، إلا بافتراض إصرار قادتها على مناكفة المنطق، أو بافتراض قدرٍ غير مسبوقٍ من انعدام الوعي لديهم بطبيعة لعبة “لوغو الهويات” التي كان يمارسها النظام. فهي – أي المقاومة – في الوقت الذي تقع على الصعيد النظري ضحيةَ استدراجِها أيديولوجيا وفي “الأرض الأردنية”، إلى الحاضنة “الفلسطينية” بوصفها هوية جديدة لها بديلة عن هويتها “الأردنية”، بكل ما يُفْتَرَض أن يترتبَ على ذلك من تبعاتٍ سياسية وقانونية لا يختلف عليها عاقلان يمارسان السياسة، فإنها كانت على الصعيد التطبيقي تمارسُ سلوكا يتناقض أشَدَّ ما يكون التناقض مع هذا الإطار النظري.
إنها تقول للنظام الأردني بكل بساطة: “أنا مقاومة فلسطينية، ولست أردنية، أُمَثِّلُ الفلسطينيين ولا أُمَثِّلُ الأردنيين، سأقاوم الاحتلال من أرضك التي لا أنافسُك عليها، وأمارس سلطتي على الفلسطينيين المقيمين على أرضك رغما عنك، ولا يحق لك أن تمنعني أو أن تتدخل في ذلك، أو أن تطالبني بحل ازدواجية السلطة على أرضك لصالحك، لأن سلطتي على الفلسطينيين ستبقى قائمة أحببتَ ذلك أم كرهتَه، وسأحاربك حتى النهاية إن منعتني، مع أنني لا مطمعَ لدَيَّ في أرضك ولا في سلطتك على هذه الأرض الأردنية وعلى هذا الشعب الأردني، لأنني ببساطة لست طرفا أردنيا حتى أعطي لنفسي الحق في ذلك، وهذا قراري الذي لا رجعة عنه، وعليك أن تقبل بهذه المعادلة وأن ترتب أوضاعك على هذا الأساس”.
يعني أن “المقاومة” التي أعلنت فلسطينيتها وتَخَلَّت عن أردنيتها بعد أن استدرجَها النظام الأردني إلى هذا الوضع النشاز، تطلب من هذا النظام في الواقع أن يقبلَ بالمعادلة السياسية والسلطوية والقانونية التي لم يحدثُ أن قبل بها أحد في التاريخ كلِّه، لا فردا ولا زعيما ولا نظاما سياسيا، لا في زمن الصراعات القبلية ولا في زمن الإمبراطوريات ولا في زمن القوميات، وتتصور أنها ستنجح في تحقيق مطلبها، وأن على الآخرين أن يوافقوها على ذلك، وأن يعتبروا مطلبَها شرعيا ووطنيا وثوريا وألا غبارَ عليه، وأن كلَّ من يقف ضده فهو متآمر على الثورة وعلى القضية وعلى الأمَّة بأسرها.
فأيُّ تناقضٍ بين النظرية والتطبيق هذا الذي تمارسُ المقاومة في ضوء حيثياته سلوكَها الثوري؟! ومن سيوافقها على هذا المطلب، حتى من أولئك الذين استطاع النظامُ جعلَهم يَسْتَحْلِبون من هذا الواقع النشاز الذي حرص على إيصال المقاومة إليه، حالةً من الغباء المقابل لغباء المقاومة هذا، زاجا بهم إلى أتون “الهوية الأردنية الوظيفية” التي ستستميت هي الأخرى في الدفاع عن نفسها من هذه “الوقاحة السياسية”، ومن هذا العدوان على “الشرعية الأردنية”، بهذا الشكل غير المسبوق المُتَدَثِّر بقداسة “فلسطين” وبغيبية ولاهوتية “الهوية الفلسطينية”؟!
ما نقوله في واقع الأمر ليس نوعا من الشَّرْعَنَة لما فعله النظام عندما قرَّر حسم “ازدواجية السلطة” لصالحه مسنودا بقوة “الشرعية الشكلية”، المُنطواة في واقعةِ أن الثورةَ أصبحت “فلسطينية” ولم تعد “أردنية” منذ غرقت في أوحال الحرص على تجسيد “الهوية الفلسطينية” للثورة على “أرضٍ أردنية”، نازعة عنها قُوَّةَ أردنيتها. فالنظام الأردني الوظيفي القطري المُمَرِّر للعلاقات الإمبريالية الصهيونية في الإقليم، لم يكن شرعيا من منطلق قُطْرِيَّتِه ووظيفِيَّته، وهو سيبقى كذلك ما بقيت وظيفيته وقطريته قائمتين. إن ما أردنا التأكيدَ عليه بقولنا ما قلناه وما كررناه كثيرا، هو أن المقاومةَ استجابت لحبائل النظام وهو يخوض معركةَ وجوده وبقائه واستمراره، فمَنَحَتْه مُبَرِّرَ هذا الوجود وذلك البقاء والاستمرار.
إنه نجح في وضع خطَّتِه التي كان يستعِدُّ لخوض آخر فصولها ضد المقاومة، في قوالب من الحَدِّ الأدنى من الشرعية الشكلية التي استطاع بواسطتها إعادة إنتاج الأردن أرضا وشعبا، والمحيط العربي سياساتٍ ومواقف، بشكلٍ استحوذَ من خلاله على قاعدةٍ واسعة مما كان يعتبر قاعدةً للثورة، فأضعفها كي يُجْهِزَ عليها، وهو قد فعل. انتقادنا إذن موَجَّهٌ لعجز الثورة على أن تكون في مستوى الطموح الشعبي الذي انطلقت به ووسطَه، فانتكست وتراجعت وأسهمت بعجزها ذاك في نجاح منظومة التجزئة العربية جميعها. 
فلنستمع إلى ما يقوله بهذا الشأن مُنَظِّرو المقاومة الأربعة الذين ذكرْنا حسرَتَهم المتأخرة فيما مضى، في كتابهم الضخم الذي اختفى اختفاء شبهَ تامٍّ من التداول على مدى عقودٍ أربعةٍ من الزمن، إلا في أضيق الحدود البحثية المتخصصة؟!
“لقد كان من الطبيعي أن تجدَ الجماهير التي ذاقت الكبت والاضطهاد والقمع والحرمان عشرين سنة، في ازدواجية السلطة متَنَّفَسا لها، فتندفع إلى المطالبة بحقوقها التي كانت محرومة منها، ولا تكتفي بالنضال المطلبي، بل تلجأ إلى النضال المباشر. فكيف يُطْلَبُ منها أن تعرضَ مطالبَها على سلطةِ النظام وهي لم تعد تعترف به، بعد أن أصبحت تعترف بسلطةٍ أخرى؟! وكيف يُطْلَبُ منها أن تقتصِرَ في نضالها على الوسائل المسالمة وسلاحُها في أيديها تستطيع أن تفرض به مطالبَها؟! ولم يكن أمام المقاومة سوى واحدٍ من ثلاثةِ سُبُلٍ. فهي إما أن تقفَ في وجه حركة الجماهير، وهذا مناقض لطبيعتها بوصفها هي ذاتها حركة جماهيرية، كما أن ذلك يعني أن تجعلَ من نفسها سلطة قمعية إلى جانب السلطة القمعية الأخرى. أو أن تقفَ على الحياد بين حركة الجماهير والنظام، فتفقد صلاتها بالجماهير، أي أن تفقد جذورَها وتصبح معلقة في الهواء. أو أن تَتَّحِدَ بحركة الجماهير فتخوضَ معها نضالاتِها وتسمحَ لها بإطلاق مبادراتها”(9).
ترى بماذا أجابت المقاومة على تساؤل الأساتذة “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى” والدكتور “نبيل شعث” السابقة؟ وأيُّ الخيارات اختارت من بين الخيارات الثلاثة التي وجدوا بوعيهم ألا رابع لها أمام المقاومة كي تواجه بها “ازدواجية السلطة” التي فُرِضَت عليها في تلك الحقبة من الزمن؟
بكل تأكيد، وبحسب طبائع الأمور، ما كان أمام المقاومة إلا أن تنحازَ إلى الخيار الثالث، فتعمل على ما يُفْتَرَض أنه اتحادٌ بحركة الجماهير لتخوضَ معها نضالاتِها، سامحة لتلك الجماهير بالتالي بإطلاق مبادراتِها. وهو ما لا يجدُ له تجسيدا خارج إطار ما ذَكَرَ هؤلاء المفكرون الأربعة أنفسُهم أنه يُمَثِّلُ حركة الجماهير، ويُعَبِّرُ عن شكل خوضِها لنضالاتِها، وعن مفهوم إطلاقها لمبادراتِها، وهو ما رأوا أنه يَتَمَثَّلُ في العناصر التالية..
أ – التعامل مع ازدواجية السلطة باعتبارها مُتَنَفَّسا تندفع منه الجماهير للمطالبة بحقوقها.
ب – عدم عرض الجماهير لمطالبها على سلطة النظام،ٍ بعد أن غدت تعترف بسلطة المقاومة.
ج – عدم اكتفاء الجماهير بنضالها المطلبي، وهو ما يعني قطعا، العمل على إسقاط النظام.
د – عدم اكتفاء الجماهير بالنضال السلمي، وسلاحُها بأيديها تستطيع أن تفرض به مطالبَها.
وهذا هو ما حصل على أرض الواقع، أي من الناحية العملية. المقاومة تلتحمُ بالجماهير في الميدان جاعلةً من ازدواجية السلطة الرِّئَةَ التي تتنفس منها هي وجماهيرُها، ومستخدمةً برفقة تلك الجماهير سلاحَها الذي في أيديها، لتحقيق مطالبِها والدفاع عن حقوقِها.
ولكن، وفي ضوء ما كان النظام قد نجح في استدراج المقاومة إلى التعامل معه بخصوص لعبة “لوغو الهويات”، كانت المواقع الجديدة التي أسفرت عنها عملية التَّنَقُّلات في تلك الهويات قد فعلت فعلَها الحتمي، جاعلة عملية الالتحام المشار إليها تلك بين المقاومة والجماهير قائمة على “مَلاطٍ” هشٍّ وضعيف ما لبث أن انكشف عن لحمةٍ متداعية بسبب أن أحد طرفي اللحمة كان يتحرك لتحقيق المبادئ الأربعة سالفة الذكر في “سياق أيديولوجي” مختلفٍ عن “السياق الأيديولوجي” الذي كان يتحرك فيه الطرف الآخر لتحقيقها.
فالجماهير أو لنقل معظم الجماهير، كانت ما تزال تتحرك في قلب أيديولوجيةٍ مفادُها “أن هويةَ المقاومة أردنيةٌ” مع ما يستتبع ذلك من اعتبارِ النزاع بينها – أي بين الجماهير – وبين النظام، نزاعا على “السلطة” وليس نزاعا على ترتيب “علاقاتِ تعايشٍ بين سلطتين تمارسان السيادة” لتنشغلُ كلُّ واحدةٍ منهما بمشروعها دون التدخل في مشروع الأخرى. وكنتيجة لهذه الأيديولوجية اهتمت الجماهير بإسقاط النظام، لتستلمَ المقاومةُ التي كانت تعَبِّرُ عن مطالبها، السلطةَ والدولة بدلا منه بعد أن لم تعد تعترف بسلطته.
في حين أن المقاومةَ كانت قد بدأت تتحرك في قلب أيديولوجية أخرى جديدة جُرَّت إليها ووقعت في حبائلها، هي أيديولوجية “إن هويةَ المقاومة فلسطينيةٌ”، مع الالتزام بما يستتبعُ ذلك من اعتبار النزاع بينها – أي بين المقاومة – وبين النظام، نزاعا على “ترتيب علاقةِ تعايشٍ بين سلطتين تمارسان السيادة”، هما “سلطة النظام” و”سلطة المقاومة”، على نحوٍ تخيَّل قادة المقاومة أنه ممكن، إذا انشغلت كلٌّ منهما بشأنها ومشروعها ولم تتدخل في شأن ومشروع الأخرى، وهو الشعارُ المُهْلِك الذي رفعه قادة المقاومة، دون أن يخطر ببال هؤلاء القادة أن مشروعَ كلٍّ منهما هو ذاتُه النقيضُ لمشروع الأخرى، وهو ما يعني أن حياةَ هذه واستمرارَها كامنٌ في موتِ الأخرى وفنائِها. وهو ما يعني أن النزاع إنما هو كما اعتنقته الجماهير، خلافا لقادةِ مقاومتِها وثورتِها نزاعٌ على السلطةِ نفسِها، من حيث هي تعبير عن “إدارة الدولة” ككل ومن حيث المبدإ.
إن هذا التعارض بين مسار الأيديولجيتين جعل قادةَ المقاومة يهتمون باستخدام بندقية الثورة لفرض هذا التعايش المستحيل، بين ثورةٍ تعمل على محاربة الإمبريالية والصهيونية والقُطْرِيَّة، ونظام يعمل على تثيب كل ذلك والدفاع عنه، فضاعت جهود الثورة وطموحات جماهيرها هدرا وبلا أيِّ نتيجة ذات قيمة على الصعيد الإستراتيجي، إذا ما قيست النتائج بما انطلقت ثورة الشعب الأردني لتحقيقه.
ماذا يعني هذا فعليا؟!
بما أن هذه الخطة أو لنقل هذه المؤامرة بدأت عَقِبَ هزيمة حزيران تقريبا، واستمرت تجاذباتُها عبر الأزمات المتعاقبة بين الثورة والنظام حتى أيلول 1970، أي لمدةٍ تزيد قليلا عن ثلاثِ سنوات، فإن الخندقَ الأيديولوجيَّ الواحدَ الذي كان يَضُمُّ المقاومةَ وجماهيرَها مجتمعين قبل البدء في ممارسة لعبة “لوغو الهويات” من قِبَلِ النظام، ما انفكَّ يعاني ومنذ ذلك التاريخ من شرخٍ راح يتسِعُ يوما بعد يوم، مُفرِّخا خندقين، انقسمت الجماهير ليتحرك جزءٌ منها في أحدهما والجزءُ المتبقي في الآخَر، فيما راحت المقاومة بأكملها تتحرك في هذا الآخَر. ومع مرور الأيام وما حملته من اتضاحٍ متراكمٍ في عناصر الأيديولوجية الجديدة للمقاومة، راح الخندقان يتباعدان، وراح “المَلاطُ” الهشُّ الرابط بينهما يَتَحَلَّل مباعدا بين الخندقين، إلى أن تمكن من فصل أحدهما عن الآخر في نهاية المطاف فصلا فاجعا أشبه بفصل الجلد عن الجسد.
إن من رأوا في الحاضنة الجديدة لهوية الثورة ألا وهي “الحاضنة الفلسطينية” عدوانا على الثورة الأردنية، وتفريغا لها من أردنيتها، وتَنَكُّرا لهويتها الأصيلة، وأولئك الذين سَهُلَ إقناعهم بأن هذه الحاضنة ستعتدي على هويتهم، وأنها تتربص بهم وبهويتهم الدوائرَ في ضوء ممارسات المقاومة وقادتها وتصريحاتهم وادعاءاتهم وفَتْوَناتِهم.. إلخ، فضلا عن كلِّ المترددين والمتشككين والصامتين الأزليين، وجدوا أنفسهم أكثر أمنا، ورأوا مستقبلَهم ومصيرَ هويتهم أضمنَ صيرورةً ووجودا في الخندق الذي راح النظام يُغَذِّيه بكل ما يستطيعه، ليكون خارج خندق المقاومة يوم الحسم.
وبالفعل فما أن جاء اليوم الموعود حتى غدا الأردنيون الذين كانوا جميعا بالأمس القريب في خندق الثورة التي كانت “أردنية”، ينقسمون على أنفسهم، ليصبحَ بعضُهم في خندقها بعد أن وجدها تناغش “فلسطينيته” التي راح يستشعرُها كاستجابةٍ لاواعية منه للعبة “لوغو الهويات”، مادامت قيادات المقاومة نفسُها قد استجابت لها قَبلَه، فيما خرج البعضُ الآخر من خندقِها، بل وقف بعضُ هذا البعض ضدَّها، بعد أن وجدها كما قال النظام عنها “أنها ستقفز على هويته”، وأنها لا تجدُ استمرارَها وديمومتَها إلا في القضاء عليها، في حين أن هويَّته الكبيرة هذه كانت بالأمس القريب والقريب جدا هي حاضنةُ الثورة وأمُّها وراعيتُها ومصدر قوتها ورمز طليعيتها ومُبَرِّر قداستها الحقيقية.      
…  يتبع في الحلقة التالية

الهوامش..
1 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 53). 
2 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 54).   
3 – (مبادرة وزير الخارجية الأمريكية وليم روجرز
أولاً – نص المقترحات المقدمة إلى مصر والأردن
(9 /12 /1969)
أ – المقترحات المقدمة إلى مصر
• النقطة الأولى
إن الفريقين، في وصولهما إلى اتفاق نهائي لتسوية شاملة على أساس المبادئ الأساسية، يقرران قائمة زمنية وطريقة لانسحاب القوات الإسرائيلية المسلحة من أراضي الجمهورية العربية المتحدة، التي احتلت أثناء نزاع عام 1967، إلى حدود تحدد وفقاً للنقطة الثالثة. كما توضع أيضاً خطة متفق عليها للقيام بالمتبقي المتداخل لكافة نصوص قرار مجلس الأمن الرقم 242.
• النقطة الثانية
تنتهي حالة الحرب القائمة بين كل من الجمهورية العربية المتحدة وإسرائيل، وتقوم بينهما حالة سلم عادية، ويمتنع كل فريق من الفريقين عن الأعمال، التي تتناقض وحالة السلم وانتهاء حالة الحرب، وبوجه خاص:
1. ألاّ تقوم القوات المسلحة أو قوات غيرها، لأي من الفريقين، البرية أو البحرية أو الجوية بأي أعمال عدوانية، أو تهدد بالقيام بها، ضد شعب أو قوات الفريق الآخر.
2. يتعهد كل فريق بعمل ما في وسعه، لضمان عدم نشوب أعمال عدوانية أو حربية في أراضيه، وعدم ارتكابها داخل أراضيه، سواء من قبل الأجهزة الحكومية أو الموظفين أو الأشخاص العاديين أو المنظمات.
3. يمتنع كل من الفريقين عن التدخـل بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، في الشؤون الداخلية للفريق الآخر، لأي سبب.
4. يؤكد الفريقان أنهما في علاقاتهما ببعضهما، سوف يسترشدان بالمبادئ المنصوص عليها في المادة 2 من الفقرتين 3 و 4 من ميثاق الأمم المتحدة.
• النقطة الثالثة
يتفق الفريقان على وضع حدود آمنة ومعترف بها، ترسم على خريطة أو خرائط مصدقة من الفريقين، وتصبح جزءاً من الاتفاق النهائي في إطار السلام، آخذين في الحسبان الاتفاق بين الفريقين على إقامة مناطق منزوعة السلاح، واتخاذ الترتيبات الأمنية العملية في منطقة شرم الشيخ، لضمان حرية الملاحة في مضيق تيران، وإنهاء قضية غزة بصورة نهائية. وتكون الحدود الدولية السابقة، بين مصر والسلطة المنتدبة على فلسطين، هي الحدود الآمنة المعترف بها بين إسرائيل والجمهورية العربية المتحدة.
• النقطة الرابعة:
لأغراض تأكيد حرمة حدود وأراضي الفريقين، ولضمان أمن وسلامة الحدود المعترف بها، يعمل الفريقان، متبعين الإجراءات المبينة في الفقرة الأخيرة من هذه الوثيقة، على التوصل إلى اتفاق على:
1. المناطق التي ستكون منزوعة السلاح، والإجراءات التي تضمن ذلك.
2. الإجراءات الأمنية العملية في منطقة شرم الشيخ، التي تضمن حرية الملاحة في مضيق تيران.
3. الإجراءات الأمنية العملية، في شأن إنهاء موضوع غزة.
• النقطة الخامسة
يتفق الفريقان، ويصدق مجلس الأمن على:
1. أن مضيق تيران طريق مائي دولي.
2. أن مبدأ حرية الملاحة لسفن جميع الدول، بما في ذلك إسرائيل، ينطبق على مضيق تيران وخليج العقبة.
• النقطة السادسة
إن الجمهورية العربية المتحدة في ممارساتها لسيادتها على قناة السويس، تؤكد أن لسفن جميع الأمم، بما في ذلك إسرائيل، الحق في حرية الملاحة، من دون تمييز أو تدخل.
• النقطة السابعة
يتفق الطرفان على الأخذ بشروط التسوية العادلة لمشكلة اللاجئين، حسبما يجري الاتفاق عليه بين الأردن وإسرائيل، وأن يشاركا، وفق ما يراه السفـير يارينج، أو يرغب فيـه، في العمل على التوصل إلى شـروط تلك التسوية.
ومن المفهوم أن الاتفاق بين الجمهورية العربية المتحدة وبين إسرائيل، سيكون متوازناً مع الاتفاق بين الأردن وإسرائيل، في شأن اللاجئين، ويبدأ وضع الاتفاق موضع التنفيذ بعد التوصل إلى الاتفاق المشار إليه.
• النقطة الثامنة
تتفق الجمهورية العربية المتحدة وإسرائيل اتفاقاً متبادلاً، على احترام السيادة وسلامة الأراضي وحرمتها والاستقلال السياسي، وحق كل منهما في العيش بسلام، ضمن حدود آمنة ومعترف بها، وخالية من التهديد وأعمال القوة.
• النقطة التاسعة
يسجل الاتفاق النهائي في وثيقة، تُوَقّع من قِبَل الطرفين، وتودَع، فوراً، لدى الأمم المتحدة. وبعد إيداع هذه الوثيقة، يطلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة، من قبل الفرقاء، أن يخبر مجلس الأمن وجميع الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة بذلك.
وتصبح الوثيقة، منذ لحظة إيداعها، ملزمة للفرقاء، وغير قابلة للنقض. ويبدأ الفرقاء تنفيذ ومراعاة شروط الاتفاق. وينبغي أن يكون مفهوماً، من قِبَل الفرقاء، أن التزامات كل طرف متبادلة ومترابطة. وينص الاتفاق النهائي، على أن نكثاً أساسياً للاتفاق النهائي، من قِبَل فريق، يعطي الحق للفريق الآخر، أن يتخذ من هذا النكث سبباً لتوقفه عن القيام بالتزاماته، كليّاً أو جزئياً، إلى أن يُعالج النكث ويزال.
• النقطة العاشرة
يتفق الفريقان على أن يقدَّم الاتفاق النهائي إلى مجلس الأمن للتصديق عليه. ومن المفهوم أن فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، ستؤيد قرار الحل من قبل مجلس الأمن، وتتعهد بأن توحد جهودها المقبلة بمساعدة الفرقاء على الالتزام بتنفيذ جميع نصوص الاتفاق النهائي أو الاتفاقات النهائية.
ب – المقترحات المقدمة إلى الأردن:
هي النقاط العشر السابقة، إضافة إلى ثلاث نقاط هي:
• النقطة الأولى
يقوم الطرفان بالتوصل إلى اتفاق نهائي، في ميثاق أو مواثيق نهائية، لحل شامل لكافة القضايا المعلقة، على أساس المبادئ العامة المذكورة. ويقرر الطرفان:
1. جدول أعمال.
2. أصول الانسحاب للقوات الإسرائيلية من أراض أردنية، احتلت خلال نزاع عام 1967، إلى حدود، تُرسم ويُتفق عليها طبقاً للنقطة الثالثة، ووفقاً لمخطط يتفق عليه، لتنفيذ كل البنود الأخرى المعلقة من قرار مجلس الأمن في 22 /11 /1967.
3. إنهاء حالة الحرب والعداء بين إسرائيل والأردن. وإقامة حالة رسمية من السلام بينهما، ستمنع كلا من الطرفين القيام بأي أعمال مناقضة لحالة السلام، وتوقف حالة الحرب، خاصة الامتناع عن القيام بأي عمل عدواني، أو التهديد بالقيام بأي عمل عدواني من قبل القوات المسلحة، وغيرها من القوى الأخرى، البرية والبحرية والجوية، لأي من الطرفين، ضد الشعب أو القوات المسلحة للطرف الآخر.
• النقطة الثانية
يتفق الطرفان على تحديد حدود آمنة ومعترف بها، تظهر على خرائط، ويوافق عليها الطرفان، وتصبح، فيما بعد، جزءاً من الاتفاق النهائي في إطار السلام آخذين بعين الاعتبار الاتفاق بين الطرفين على:
1. إقامة مناطق منزوعة السلاح.
2. وضع القدس والترتيبات النهائية المتعلقة بها، وتكون الحدود الآمنة أقرب ما تكون إلى خطوط الهدنة، باستثناء ما ورد في النقطة الرابعة، والتغييرات التي يتفق عليها الطرفان، لأسباب أمنية وإدارية.
• النقطة الثالثة:
يقوم الأردن وإسرائيل بالعمل على التوصل إلى اتفاق حول وضع القدس، وحول الترتيبات النهائية، بما فيها الحدود البلدية المتعلقة بالمدينة الموحدة.
يتفق الطرفان على أن ” للقدس ” وضعاً خاصاً، ينطلق من المبادئ التالية:
1. يجب أن تكون المدينة موحدة بحيث لا يكون هناك أي قيد على حرية تنقل الأشخاص والبضائع إليها.
2. يجب أن لا يكون هناك أي قيد على حرية الوصول إلى المدينة الموحدة، من أي ديانة أو أي جنسية.
3. يجب أن تراعي الترتيبات الإدارية للمدينة الموحدة، مصالح جميع سكانها، ومصالح الطوائف اليهودية والإسلامية والمسيحية العالمية، وأن يضمن لحكومتَي إسرائيل والأردن دورهما في الحياة المدنية والاقتصادية والدينية للمدينة.
ثانياً – المشروع المعدل المقدم إلى مصر والأردن وإسرائيل (25/6/1970)
تقدم الولايات المتحدة الأمريكية المقترحات التالية:
1. تتعهد إسرائيل والجمهورية العربية المتحدة بأن تتقيدا بوقف إطلاق النار، لفترة محددة على الأقل.
2. إن إسرائيل والجمهورية العربية المتحدة، وكذلك الأردن وإسرائيل، تقبل بالبيان التالي، والذي سيكون على شكل تقرير من السفير يارينج إلى الأمين العام يوثانت:
” لقد أشارت كل من الجمهورية العربية المتحدة والأردن وإسرائيل، إلى أنها توافق على:
أ. أنهم يقبلون ويعلنون رغبتهم في تنفيذ القرار 242، بكل أجزائه، وسيعيِّنون ممثلين عنهم في مناقشات تجري تحت إشرافي وفي الأماكن والمواعيد، التي أحددها، واضعاً في الحساب ما يلائم كل طرف، في ضوء البروتوكول والخبرة السابقة بين هذه الأطراف.
ب. أن الغرض من المناقشات، التي سبق ذكرها، الوصول إلى اتفاق لبناء سلام عادل ودائم بينهم، يقوم على:
1. الاعتراف المتبادل من قبل كل من الجمهورية العربية المتحدة والأردن وإسرائيل بالسلطة والسيادة الإقليمية والاستقلال السياسي.
2. الانسحاب الإسرائيلي من أراضٍ احتلت في نزاع عام 1967 (كلا النقطتين 1و2 وفقاً لقرار 242).
3. ولتسهيل مهمتي في الوصول إلى اتفاق كما جاء في القرار 242، تتقيد الأطراف بحزم بقرارات مجلس الأمن لوقف إطلاق النار اعتباراً من 1 يوليه حتى 1 أكتوبر 1970″.
http://www.almatareed.org/vb/showthread.php?t=7071، ولمزيد من التفاصيل يرجى الاطلاع على الموقع التالي: http://www.almatareed.org/vb/showthread.php?t=7071#ixzz1Tr6IJ6UF).
4 – (عن صحيفة النهار اللبنانية، العدد الصادر بتاريخ 11/02/1970).
5 – (عن جريدة الهدف، العدد الصادر بتاريخ 14/02/1970)).
6 – (في سياق عرضنا لفلسفة الرئيس جمال عبد الناصر في القومية وفي الوحدة وفي القضية الفلسطينية، وبرجوعنا إلى كل من كتاب “البعد القومي للقضية الفلسطينية” لإبراهيم أبراش، و”فلسفة الثورة” لعبد الناصر، و”المقاومة والنظام الأردني” الذي اعتمدنا عليه كثيرا في هذه الدراسة، يتبين لنا وبصريح تعبيرات الرئيس عبد الناصر أنه لم يكن يملك خطة لتحرير فلسطين على الصعيد العملي، وأن هناك بونا واسعا بين الإطار النظري للفكر القومي العروبي الذي كان يؤمن به ويعمل في سبيل تحقيقه، والإطار العملي المتعلق بفلسطين تحديدا والذي كان يتطلب تغيرات من نوع مختلف لتهيئة المنطقة لتحريرها على ما بدا من فلسفة الرئيس الراحل. ولقد زادت نكسة 1967 المسألة تعقيدا، إذ غدت الأولوية للأرض التي احتلت حديثا، وبالتالي تأجل التخطيط العملي لتحرير فلسطين حتى لدى الرئيس عبد الناصر. ولا نستطيع في هذا السياق إلا التأكيد على أن الرئيس عبد الناصر كان يفكر بعقلية الجيوش النظامية في الأداء العسكري، ولم يكن ينطلق في وضع تصوراته من إدراكٍ واضح لما يمكن للحركة الثورية الشعبية أن تحققه حتى على صعيد تغيير موازين القوى لصالح الجيوش النظامية. ولعل هذا الإطار النظري لفسفة عبد الناصر في التعامل مع تفاصيل الحالة القومية هو الذي جعله لا يقف موقفا معارضا بحزم لسياسات الملك حسين ضد الثورة الأردنية في ذلك الوقت، عندما أحس بأن بالإمكان استخدام الثورة كورقة ضاغطة لتحصيل حقوق أشارت إليها مبادرة روجرز. وما يؤكد لنا عدم تصور الرئيس عبد الناصر لفعالية حقيقية للثورات العربية الشعبية في مواجهة الاحتلال مواجهة مؤثرة، هو حالة القلق التي اعترته بعد احتلال سيناء خشية أن تتجرأ إسرائيل وتهاجم القاهرة التي لم يعد هناك جيش قادر على الدفاع عنها، لولا أن الرئيس هواري بومدين هو الذي طمأنه بعد أن عبر عن تمنيه أن تقع إسرائيل في مثل هذه الحماقة القاتلة، كي يستريح العرب منها إلى الأبد بعد أن تكون قد وضعت جيشها على تماس مباشر مع الشعب المصري في القاهرة).
7 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 57).   
8 – (عن جريدة الأهرام القاهرية، العدد الصادر بتاريخ 11/02/1970).
9 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 55).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.