www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية/أسامة عكنان

0

الأردن وطن وليس مزرعة خراف والأردنيون شعب وليسوا قطيع ماشية والأردني مواطن يملك وطنا، وليس عابر سبيل يستجدي كسرة خبز

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية
“دراسة في أحد عشرة حلقة”
“جزء من بحث قُدِّمَ لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية”
“نظرا لحساسية ودقة الدراسة، الرجاء عدم إهمال الهوامش المرفقة وتثبيتها كما هي مع الشكر”

أسامة عكنان
عمان – الأردن
الأردن وطن وليس مزرعة خراف
والأردنيون شعب وليسوا قطيع ماشية
والأردني مواطن يملك وطنا، وليس عابر سبيل يستجدي كسرة خبز
وحكومات الأردن خادمة وموظفة عند هذا الشعب، وليست سيدة عليه أو مستعبدة له
فمن فهم فليعمل بما فهم، ومن لم يفهم فليذهب إلى الجحيم
قراءةٌ في دور الأردن التاريخي كوطن مُهِمٍّ يلد رجالاً أهم، ورفضُ دورِه الوظيفي كمزرعة تسمِّن الخراف لخلق فضاءٍ آمنٍ لأعداء الأمة

الحلقة الأولى
 ملامح أكبر جريمة سطو سياسي في التاريخ العربي المعاصر يتعرض لها الشعب الأردني

إنها الجريمة التي أخَّرَت تحرير فلسطين، وأطالت في عمرِ إسرائيل، وأَبْقَت على أنظمة التجزئة حيَّةً حتى الآن تمارسُ بغيَها وسفَهَها وصهيونيتَها على شعوبها وعلى باقي الأمة بلا رقيب ولا حسيب، مُمْعِنَة في تمرير العلاقات الإمبريالية في المنطقة العربية، ومتماهية مع تفاصيل دورها الوظيفي دون أن تحيدَ عنه قيدَ أُنمُلَة. إنها الجريمة التي ارتكبها نظام “الملك حسين”، فسطا بها على ثورة الشعب الأردني، وأهداها لمنظمة التحرير الفلسطينية.
للوهلة الأولى يثير العنوان أعلاه والمرفق بذلك التوصيف الإداني لملامح الجريمة، مجموعةً غير معهودة ولا مسبوقة من المفاهيم التي يؤدي كلٌّ منها إلى إشكالية قائمة بذاتها. فنحن نتحدث عن جريمة “سطو سياسي”، وهو نوع من الجرائم لم نتعود على التعاطي معه في أدبيات الموروث السياسي العربي المعاصر، ارتكبها نظام نقول أنه هو نظام “الملك حسين”، فسرق بموجبها ثورةً نزعُم أنها ثورةٌ “الشعب الأردني”، ليمنحَها لطرف آخر لم يكن له فضل السَّبْقِ فيها، هو “منظمة التحرير الفلسطينية”، ما أسفر عن نتيجةٍ كارثية على الصعيد القومي العربي، تمثلت في “إطالة عمر إسرائيل” وفي تأجيل “تحرير فلسطين” وفي استمرار أنظمة التجزئة والتبعية حتى الآن. وبالتالي فنحن معنيون في السياق التمهيدي لمعالجة هذا التَّوصيف، بالتقديم لمجموعة من المصطلحات والمفاهيم التي بدونها يغدو حديثُنا ضربا من الهرطقَة السياسية والتاريخية.
فعن أي ثورة أردنية نحن نتحدث؟
وإلى أي جريمة من جرائم السَّطْوِ السياسي نحن نشير؟
وما هي الحيثيات التي جعلت ثورةً كهذه تُسْرق ممن أسهم إسهاما فعالا في تفجيرها وصيرورتها لتُمْنَح لمن لم يفجِّرها فتصبحَ ملكا خالصا له؟
ولأي غايات كُلِّيَّةٍ أو جزئيَّةٍ ارتُكِبَت مثل هذه الجريمة؟
ولماذا شاءت الأقدار أن يكون مرتكب الجريمة هو النظام الحاكم للشعب الأردني ذاتُه، خلال الفترة التي حدثت فيها ثورته المسروقة تلك؟
ثم، ومادامت النتيجة من كل ذلك هي ما نراه من كوارث قومية معاصرة على كل الصعد، كيف يمكننا إصلاح الخلل المترتب على تلك الجريمة، وإعادة الأمور إلى نصابها والمياه إلى مجاريها الطبيعية، بأن يستردَ الشعب الأردني ثورتَه المسلوبة منه ليكملَ المشوار؟
بداية، وقبل الخوض في أيِّ تفاصيل ذات علاقةٍ بالمعضلةِ الإشكاليةِ التي تثيرها مقولة السَّطْو السياسي الذي تعرض له الشعب الأردني، نجد أنفسَنا معنيين بالتأكيد على أن هويتين طارئتين مصطنعتين وظيفيتين أنتجتهما معادلة “سايكس بيكو”، إلى جانب ما أنتجته من هويات لا رائحةَ ولا طعمَ ولا لونَ لها – لتكونا عبر تطوراتِ العلاقة المُقَرَّرِ تكريسُها بينهما من خلال تَلَوُّنِهما بما تتطلبه لهما من ألوانٍ، منحنياتُ السياسة الإقليمية وتغيُّراتُها، جزءا لا يتجزأ من مُكَوِّنات الصيرورة التاريخية للمنطقة – شكَّلَتا على مدى التاريخ المعاصر لإقليم “بلاد الشام” – بوصفه الإقليم الذي احتضن رأس حربةِ المشروع الاستعماري الذي مهَّدت له “الخريطة السايكسبيكوية”، مستهدفةً الأمة العربية منذ مطلع القرن الماضي – محورَ القضية التي تُعْنى بها مقولتنا التي نحت بصدد التأصيل والتأسيس لها في هذا القسم من الكتاب. وهاتان الهويتان هما “الهوية الأردنية”، و”الهوية الفلسطينية”، ما يجعل من الولوج إلى عمق الموضوع عبر استحضار تداعياتهما التاريخية والقانونية والسياسية، أمرا لا مفرَّ منه.
لن نكون معنيين في هذا المقام بمناقشةِ السياق التاريخي الذي تشكَّلَت في ضوء صيرورتِه هاتان الهويتان – اللتان غدتا جزءا من الماضي والحاضر والمستقبل – كي نحكمَ عليهما من ثمَّ من الناحية الأخلاقية والفلسفية، فنحن في هذه الدراسة لسنا بصددِ استهدافِ الوصول إلى حكمٍ من هذا القبيل، لأننا نَتَفَهَّم جيدا كيف يمكن للخطإ التاريخي الذي ارتُكِبَ بالأمس، أن يصبحَ بمثابة صوابٍ لا يمكن تجاوزُه أو القفز عليه اليومَ أو غدا، إذا ارتبط به العدل، وارتكز إليه المنطق، واستندت عليه الحقوق، في ضوء مُكَوِّناتها الحتمية، راهنةً كانت هذه المُكَوِّنات أو مرتقبةً(1). هكذا هما الهويتان “الأردنية” و”الفلسطينية”. وبالتالي فهما في ذاتهما من حيث هما تُعَبِّران عن واقعٍ موضوعي فرضَ نفسَه، رغم هشاشةِ البداياتِ والمُسبباتِ والآلياتِ التي احتضنته وخَلَّقَته، قد غدتا عدلا ومنطقا وحقّا، ولن نختلف على ذلك.
إننا سنحاول الإشارة إلى بعضٍ من معالمِ التوظيف الإمبريالي الصهيوني لهاتين الهويتين، وإلى الدور الذي لعبه القائمون على تجسيدهما واقعيا – إما انطلاقا من أدوارهم الوظيفية، وإما ارتكازا إلى مشاريعهم وبرامجهم الوطنية المبتورة القاصرة – كي يحولوهما من باطلٍ نشأ متحديا طبيعةَ الطموح العربي في مطلع القرن الماضي، باطلٌ كان يمكنه أن يصبح حقا، وأن يخدم عدلا وأن يُؤَسسَ لمنطق، لو أن الذين اضطلعوا بإدارته – أي بإدارة ذلك الباطل – تحرروا من الأدوار الوظيفية التي أوكِلَت إليهم.. نقول.. كي يحولوهما من باطل إلى حقٍّ قبلناه وناضلنا لأجله، بعد أن غدا أمرا واقعا لا مجال للفكاك من قبضته، لنكتشفَ أنه حقٌّ لم يخدم إلا باطلا، ولم يؤد إلا إلى ظلم ولم يتفق يوما مع أي منطق.
ما أصعب وأعقد هذا التقديم، لكن مهلا، لن يلبث إلا قليلا حتى تَتَفَكَّكَ كلُّ عقدِه!!
لقد تم التلاعب بهاتين الهويتين تلاعبا ماكرا كشف عن كل معاني الدَّجل السياسي، لتَصُبَّ مواقعهما – أي الهويتين – في خانةِ خدمةِ العلاقات الإمبريالية، والأدوار الوظيفية للدول والتحالفات الطبقية، بل وحتى للأفراد في “إقليم الشام”، وفي المنطقة العربية ككل من ثمَّ. إن المتابع لطبيعة التَّلَوُّنات السياسية والمجتمعية والثقافية التي رافقت الأداءات الأيديولوجية لحاملي لواء الهويتين على مدى العقود الستة الأخيرة، لن تُعْوِزَه الفطنة، ولن يحتاج إلى حنكةٍ سياسيةٍ خارقةٍ في قراءة الأحداث، كي يدركَ أنهما كانتا – أي هاتان الهويتان – بمثابة المخزون الإستراتيجي الخادم للتقلبات التي راحت تفرضها في المنطقة صيرورة الصراع من وقت لآخر.
نظرا لأن إعلان بلفور(2) القاضي بإقامة كيان قومي لليهود على جزء من أرض هذا الإقليم، يقتضي أن تَتَحَدَّدَ المُكَوِّنات الجيوسياسية والديموغرافية، وأن تَتَشَكَّل البُنى الأساسية للهويات بالشكل المناسب لاحتضان هذا الحدث التاريخي الكبير، فقد رُسِمَت الجغرافيا المسماة “فلسطين”، وإلى جوارها تلك المسماة “الأردن”، وفُرِضَت “الهوية الفلسطينية” كهوية مستقلة، وإلى جوارها فُرِضَت الهوية الرديفة الأخرى “الأردنية”، كلاهما على أنقاض “الهوية السورية” الأم، التي تم اختزالها إلى ما نعرفه من واقعها الجغرافي والديموغرافي الحالي(3).
أثبت السياق التَّكْويني للمشروع الاستعماري “إسرائيل”، منذ إعلان “بلفور” وإلى تاريخ عرض المسألة برمتها على الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، وما استدعاه هذا المشروع استدعاءَ ضرورةٍ واقتضاءٍ من مشاريعَ إقليمية مُكَمِّلَة، وعلى رأس تلك المشاريع كلِّها، المشروع المستحدَث، “الهوية الأردنية”، أن الوعاءَ الجغرافي المُسْتَحْدَث للهوية الفلسطينية المستحدَثة، ألا وهو “أرض فلسطين” كما تمَّ تحديدها استعماريا، هو وحده المكان الأنسب المقدور على جعله يحتضن ذلك المشروع الاستعماري الطارئ والدَّخيل “إسرائيل”. أي أن الهوية الاستعمارية الصهيونية “إسرائيل”، ما كان لها في ضوء مُحَصِّلَة القوى، ونمطِ صيرورةِ الأحداث في الإقليم، خلال فترة الاحتلال البريطاني وما قبلها، إلا أن تنشأ على جزء من الجغرافيا الفلسطينية المستحدَثة، التي لم يكن هناك من مفرٍّ من أن ينشأ على الجزء الآخر منها، هذا المُكَوِّن المستحدَث، ألا وهو “الهوية الفلسطينية”.
وانطلاقا من هذا الواقع الضرورة، لم يكن أمام صُناع المشروع الإقليمي “إسرائيل” وتوابعه ومُكَمِّلاته الوظيفية، بعد أن غدت الجغرافيا الفلسطينية المُسْتَحدَثة هي الوعاء المرتقب للهويتين “الفلسطينية” و”الإسرائيلية”، على الأقل في مراحلهما التكوينية الأولى، سوى أن يتحكموا في تشكيل وتكوين ونماء التابع الوظيفي الأهم لهذا المشروع، ألا وهو التابع الأردني الذي أُسِّسَ ليكون الحاضنة القادرة على استيعاب كافة تداعيات الحالة الناجمة عن المشروع الاستعماري الإقليمي “إسرائيل”، سواء على صعيد الجغرافيا أو على صعيد الهوية “الديموغرافيا”. وهذا الذي كان، ومن هنا انطلقت لعبة تبادل المواقع والمَهَمات، في ضوء الأدوار الوظيفية المرسومة لكل من الجغرافيتين والهويتين، وبالتالي للقضيتين “الأردنية” و”الفلسطينية”، في صيرورة المشروع الاستعماري والعلاقات الإمبريالية التي يفرضها في المنطقة.
لم تنشأ “الهوية الفلسطينية” وإلى جانبها “الهوية الأردنية” الطارئتين وغير المنطقيتين في طريقة تَكَوُّنِهما ونشأتهما، إلا لأداء أدوارٍ وظيفية مُحَدَّدَة مرتقبة ومُحْتَمَلة، فرضها المشروع الاستعماري “إسرائيل”. فهذا ما تدل عليه بوضوح مسيرة تبادل المواقع، ومستويات التناقض التي كانت تنشأ بينهما أو تختفي، حسب حاجة ومتطلبات الصراع في كل مرحلة من مراحله، منذ انبثق المشروع الصهيوني إلى حَيِّزِ الوجود، وإن كانت “الهوية الفلسطينية” قد نشأت قبل رديفتِها ومُكَمِّلَتِها “الأردنية”، لأن “بلفور” الذي منح وطنا قوميا لليهود على قاعدةٍ استعماريةٍ مسنودة برؤية دينية توراتية ظلامية مُمْعِنَة في لا حضاريتها، كان مُلزَما بخلق “جغرافيا” ينطوي عليها إعلانُه ويتعلق بها، كي يكون له معنى. وكانت هذه الجغرافيا في المُسَمَّى العام هي “فلسطين” كمصطلح ومفهوم “توراتيين”، لتصبحَ في الواقع الموضوعي هي تلك المساحة المستحدَثَة بحدودها المستحدَثَة أيضا.
إعلان بلفور الذي لا قيمة شرعية له، ومن ثُمَّ لاحقا قرار التقسيم المسنود بشرعية الأمم المتحدة، أوجدا “الهوية الفلسطينية” ذات البعد الوظيفي المُرتقب، إلى جانب “الهوية الإسرائيلية الصهيونية” ذات البعد الاستعماري المرتقب، بمُكَوِّناتهما الجغرافية والديموغرافية المعروفة، كل منهما على الجغرافيا العربية السورية المُسْتَحدثة “فلسطين”، التي أَلْزَمت استحداثَها بشكلها ذاك طبيعةُ الإعلان البلفوري سيئ السمعة. في الأثناء كانت “الهوية الأردنية” ذات البعد الوظيفي المرتقب المُكَمِّل للدور الوظيفي للهوية الفلسطينية، تتشكل وتنحتُ مُكَوِّناتِها بالتنسيق الكامل بين بقايا وفلول “الثورة العربية” القادمة من جزيرة العرب و”سلطات الاحتلال البريطاني” على الجغرافيا العربية السورية المستحدثة الأخرى المجاورة لـ “فلسطين”، ألا وهي “الأردن”، التي انتقلت من مُسَمى “إمارة شرق الأردن” عندما كانت تحت الاحتلال منذ عام 1917، إلى مُسَمى “المملكة الأردنية الهاشمية” عندما أصبحت دولة مستقلة في عام 1946(4).
جاءت طبيعة الأمور الناجمة عن زرع المشروع الاستعماري “إسرائيل” في قلب الأرض العربية السورية، مُكرّسة لمعادلةٍ جعلت “الهوية الفلسطينية” تمثلُ النقيضَ المباشرَ الأشدَّ خطورة على “الهوية الصهيونية”. وهي المعادلة التي كان عِلْمُ الاستعمار البريطاني المسبق بها، وعدم قدرته على فرض حالةٍ واقعيةٍ تتجنبُها في سياق صناعة المشروع الاستعماري “إسرائيل” خلال مرحلة التأسيس، دافعا أساسيا لخلق عناصر لعبة “لوغو الهويات” في الإقليم العربي السوري، عبر البدء بخلق الهويتين الطارئتين الوظيفيتين “الفلسطينية” و”الأردنية”، اللتين ستُمارسُ اللعبة بإتقانِ جرِّهما إلى تبادلِ المواقع، بحسب متطلبات الصيرورة التاريخية لتداعيات المشروع “السايكسبيكوي” في المنطقة.
أثبتت طبيعة الأمور ومنذ البدايات الأولى، أنه كلما كانت ظروف الواقع الموضوعي في الإقليم العربي السوري تساعد على إبراز “الهوية الفلسطينية”، كلما بدا أن ذلك يهز “الهوية الإسرائيلية الصهيونية” في الصميم، لأن تجسيدَ هذه الهوية “الفلسطينية” على أي جزء من أرض فلسطين العربية السورية، سيُذَكِّر دوما بأن “الهوية الإسرائيلية” قائمة على الجزء الآخر من هذه الأرض، والذي هو أيضا “فلسطين”، مادام الإعلان البلفوري الذي نشأت “إسرائيل” بموجبه يتحدث عن إقامة وطن قومي لليهود في “فلسطين”. وهنا مكمن المعضلة في بعدها التأصيلي والأيديولوجي.
وبالتالي فقد كان من متطلبات استكمال عناصر التثبيت والديمومة للمشروع الاستعماري “إسرائيل”، أن تختفي “الهوية الفلسطينية” كلما كان ذلك ممكنا، وبالتحديد إذا كان ذلك ممكنا مع بداية تبلور ونشوء أول تجسيد واقعي وعملي للهوية الصهيونية “إسرائيل”، وهو التجسيد الذي أعقب حرب النكبة عام 1948(5). ولا يمكن لجهة أن تقوم بذلك خيرَ قيام إلا الهوية الطارئة المُكَّملة والرديفة، ألا وهي “الهوية الأردنية”. ولقد كانت هذه المهمة واحدة من أهم عناصر الدور الوظيفي للدولة الأردنية الحاضنة لتداعيات المشروع الاستعماري “إسرائيل”. لقد شيء لها أن تكون هويةً طارئةً مصطنعةً، قادرة على احتضان واستيعاب هويةٍ طارئةٍ مصطنعةٍ أخرى، هي “الهوية الفلسطينية”، إذا تطلب الأمر ذلك.
ولكن إذا كان هذا هو أحد وجهي الحالة الممكنتين، فإن الوجه الآخر المتمثل في أن المُكَوِّن الديموغرافي للهوية الأردنية الطارئة، والذي أصبح هو “الشعب الأردني”، هو جزء لا يتجزأ من “الشعب العربي السوري”، كما هو حال من أصبح يسمى “الشعب الفلسطيني” ولا فرق.. إن الوجه الآخر هذا ينطوي على فكرةٍ مفادُها أنه لا يمكن اختزال انتماء “الشعب الأردني” إلى “هويته السورية” الأم بهذه الرشوة التاريخية المتمثلة في مَنْحِه هوية مستقلة طارئة، لأنها – أي هويته الطارئة هذه – ستغدو بالنسبة إليه معدومة القيمة، مادامت ستَتِمُّ على حساب امتداده الطبيعي في الجغرافيا الفلسطينية، كما تم رسم ذلك والتخطيط له بريطانيا وصهيونيا.
أي أن احتضانَه للهوية الفلسطينية التي أُريدَ ويُرادُ لها أن تختفي وتذوب في جوفه للأسباب الموضوعية آنفة الذكر، حمايةً لـ “الهوية الصهيونية الإسرائيلية” من مخاطر التناقض المؤدية إلى الاهتزاز، ما كان ليعني له إخفاء الهوية وإخفاء القضية، بل هو عنى لديه احتضانَه للهوية وللقضية معا، ليصبح التناقض التأصيلي والأيديولوجي مع “الهوية الإسرائيلية الصهيونية”، والذي تم الحرص على تَجَنُبِه بتغييب “الهوية الفلسطينية” التي هي بمثابة النقيض الفوري والمباشر للهوية الصهيونية، تناقضا قائما بين “الهوية الأردنية” وتلك الهوية الاستعمارية، بالقدر نفسه الذي كان قائما من قبل مع الهوية التي تم تغييبها أو ربما بقدر أكبر.
لقد بدا واضحا في الرؤية الإستراتيجية الاستعمارية البريطانية، ومعها الرؤية الصهيونية، وخلفهما الرؤية الاستعمارية العالمية، عبر مختلف الأذرع الوظيفية لها في الإقليم، أن الهوية الفلسطينية التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرار التقسيم “181”، يجب ألا تتجَسَّد واقعيا، كي يتسنى للمشروع “إسرائيل” أن يعيشَ وينموَ ويقوى، بعد أن نشأ بموجب القرار الأممي خداجا لا يمكنه الاستمرار بموجب ذلك القرار وما تتيحه فضاءاته، إذا جاوره وفي وقت مبكر من ولادته الهشَّة، أي نوع من أنواع التجسيد العملي لـ “الهوية الفلسطينية” النقيضة له على المستوى الوجودي الحقيقي.
فما كان من حاملي لواء الدولة الأردنية الوظيفية، إلا أن بادروا وعلى الفور بعد وقف إطلاق النار الذي تلى حرب النكبة الكبرى، إلى عمل ما يلزم لضم الأرض التي بقيت مما قررته الأمم المتحدة للفلسطينيين إلى الأردن، ظنا ممن أرادوا ذلك وممن نفذوه، أن هذا الأمر كافٍ لمنح ترياق الحياة الآمنة للدولة الصهيونية. إذ مادام الفلسطينيون بوصفهم النقيض المباشر الأشد تهديدا لـ “الهوية الصهيونية” قد اختفوا ككيان سياسي يُعَّبِّر عن هوية أو تُعَبِّر عنه هوية، ومادامت هويتهم هذه قد ذابت وتلاشت في هويةِ غيرهم، فيحق لإسرائيل أن تهنأ وتطمئن، مع أنه – أي الكيان الفلسطيني محل التآمر عليه – كيان مُصْطَنع أساسا إذا ما نُظِر إليه بالمنظار القومي الأوسع، شأنه في ذلك شأن الكيان الأردني ولا فرق، وهو ما يعني أن ذوبانه في أي كيان عربي آخر إذا كان سيُقَوِّي الاندفاعَ نحو الوحدة والتَّحَرُّر، فهو ذوبان لا ضير فيه إن لم يكن واجبا أصلا(6)!!
لكن الأمور سارت على غير ما تم التخطيط له في الدوائر الاستعمارية. فمن أراد بتغييب “الهوية الفلسطينية” دفعَ الفلسطينيين الذين أصبحوا أردنيين بالتابعية، كي ينظروا صوبَ الشرق حيث يقيم شركاؤهم في المواطنة الطارئة، وإهمال النظر صوبَ الغرب حيث بقايا أهلهم وأرضهم التي طردوا منها بعد أن تم احتلالها، فوجئ بالأردنيين جميعا، وعلى رأسهم أولئك الذين كانوا شرق النهر منذ الأزل عربا سوريين، يصوِّبون نظرهم صوب الغرب، للعمل على استعادة ما اغتصب من فلسطين، بعد إذ لم تشغلهم على الإطلاق قضيةُ “الهوية”، التي أدرك الجميع أنها سواء كانت “أردنية” أو “فلسطينية” فهي طارئة ومصطنعة، وليس من حقها أن تقفَ حجر عثرة في طريق أيِّ طموحٍ قومي أوسع وأشمل. لقد نظروا جميعا إلى “الهوية القُطْرية” الضيقة أيا كانت، بوصفها خنجرا في خاصرة الهوية الأم، وسَهْما ساما يمزق قلب العروبة، إذا انكفأت على ذاتها واختزلت نفسَها من أمتها وقضايا أمتها، وتمحورت حول تقديس نفسها واعتبار مُكَوِّناتها أجدر بالدفاع عنها وبالحفاظ عليها من الدفاع عن المحتل من الأرض، ومن السعي إلى إعادة بناء الهوية الأم ولملمة أشلائها.
لقد آمن “الفلسطينيون” من ثَمَّ، أن هويتَهم الطارئة مادامت هوية مرتبطة بأرض عربية مستقلة، فلتكن تحت سيادة أي عربي، فهذا لا يهم. المهم هو الانشغال بالأرض المحتلة التي لم تشغلهم أيضا هويتُها، بقدر ما شغلهم احتلالها. فانقلب السحر على الساحر، لينقلب غياب “الهوية الفلسطينية” إلى نهر بشري صبَّ في قلب “الهوية الأردنية”، ليتحول معها وبها إلى الهوية التي غدت هي النقيض المباشر لـ “الهوية الصهيونية” في حقبةٍ من تاريخ الصراع المنبثق عن وجود المشروع الاستعماري إسرائيل في قلب المنطقة العربية السورية.
لقد عنى ذلك أن “الهوية الأردنية” الطارئة فشلت في أداء الدور الوظيفي المنوط بها استعماريا حسب ما تصورته الأيديولوجية “السايكسبيكوية”، عندما احتضنت “الهوية الفلسطينية” و”القضية الفلسطينية” معا، بدل أن تحتضنَ الهوية لتغيِّبَ القضية كما كان مخططا له. وهنا، ومن منطلق تبادل الأدوار الوظيفية في لعبة “لوغو الهويات المصطنعة” كما بلوره التصور الاستعماري الإستراتيجي في الإقليم، جاء الدور على “الهوية الفلسطينية” الطارئة التي غدت العودةُ إلى تجسيدها بعد تغييبها السابق بإذابتها في جوف “الهوية الأردنية”، مُتطلبا تقتضيه صيرورة الأحداث، لتؤديَ مهمتَها الوظيفية في تخفيف العبء الضاغط على المشروع الصهيوني “إسرائيل” جراء ظهور نوع من التناقض المدمر له مع “الهوية الأردنية” التي قاومته وحاربته بشراسة.
فإذا كان تغييب “الهوية الفلسطينية” في جوف “الهوية الأردنية” قد فَعَّلَ العنصر المقاوم للمشروع الصهيوني “إسرائيل”، بدل أن يضعفَه ويقوِّضَه، وأبرز على السطح عناصر الدفع القومي العروبي في الهوية الأردنية الطارئة، محوِّلا إياها من تاريخٍ نشأ على باطلٍ إلى حاضرٍ مُحقٍّ، ومن ماضٍ ظالمٍ ومظلمٍ إلى مشروعِ مستقبلٍ عادلٍ ومشرقٍ، فلا مفر الآن من العودة إلى تجزئة الجسم الأردني الجديد القوي المتين الثائر في وجه المشروع الاستعماري “إسرائيل”، ولتعد “الهوية الفلسطينية” إلى التَّجَسُّد من جديد، فهذا أقل إضرارا بالمشروع الاستعماري من استمرار ذوبانها في جوف “الهوية الأردنية” التي تحولت بها ومعها إلى مشروعٍ ثوري كان لو استمر سيقضي حتما على وجود “إسرائيل”.
وتم وضع الخطط الكفيلة بإحداثِ التجزئة والفصلِ المستهدفِ بين مُكَوِّني الهوية الأردنية الثائرة في وجه المشروع الاستعماري “إسرائيل” في منتصف ستينيات القرن الماضي، بشكلٍ فاجعٍ خلق كل عناصر التنافر والاحتكاك والشك والتدابر والكراهية. لقد لعب صُناع المشروع الاستعماري “إسرائيل”، ومديرو الدولة الأردنية الوظيفية، وقادة المشروع الثوري العاجزون وضيقو الأفق، لعبةً تراوحت بين القذارة والتآمر والجهل، وأدت في نهاية المطاف إلى تمزيق “الهوية الوطنية الأردنية” التي كانت قد نجحت في القفز على مؤامرة تغييب “الهوية الفلسطينية” قبل ذلك، وتجاوزتها وتركتها وراء ظهرها بلا أدنى اهتمام، لتتحول رغم أنف الأعداء والرجعيين، إلى مشروع ثورة عربية، أريد لها أن تُجْهَض كي لا تغير وجهَ العالم!!
نعم، عندما أدرك الأردنيون والفلسطينيون الذين غُيِّبوا، أن المسألة ليست مسألة هويات فارغة من الحركة والدلالة والفعل، ولا هي فكرة انتماءات لمعانٍ صماء استحدِثَت كرشاوىَ يتم إغداقُها على حمقى ومغفلين يبحثون عن صور زائفة للوجود تُخفي وراءها دمارا وكوارث قومية، بقدر ما هي مسألة مقاومة ومواجهة وثورة ضد المشروع الاستعماري.. عندما أدرك الأردنيون والفلسطينيون ذلك، تمكنوا من تحويل المؤامرة التي حيكت ضد “الهوية الفلسطينية” رغم أنها هوية طارئة ومصطنعة ولم تكن تعني الفلسطينيين أو الأردنيين لا في الكثير ولا في القليل، إلى أرضية لثورة تعيد للهويات معانيها وقيمتَها، وللأرض حريتَها، وللأمة مكانتَها.
عندئذ تم لجوء قادة المشاريع والدول الوظيفية في المنطقة إلى تبادل المواقع، وإلى البحث عن عناصر أخرى في لعبة “لوغو الهويات”، لتكون “الهوية الفلسطينية” هذه المرة هي التي يتم استخدام تجسيدِها على أرض الواقع، لرفد إسرائيل بعناصر الديمومة والبقاء، ولحمايتها من “ثورة شعب الأردن” العظيمة، شعب الأردن الذي قوِيَ وتعاظم عندما تم تغييب “الهوية الفلسطينية” في جوفه، لأن هذه الحادثة ثَوَّرَت الجميع بدل أن تسَكِّنهم!! غابت الهوية الفلسطينية وذابت في قلب الهوية الأردنية لتحوِّلَ المجموعَ إلى كتلة ثائرة بدل أن تحولهم إلى كتل متناحرة متنافرة، أو إلى كيانات بلهاء ساكنة كما توقع جميع المتآمرين.
لقد كانت المؤامرة التي حيكت للقضاء على ثورة الشعب الأردني من قبل نظام “الملك حسين”، هي تلك التي راحت تبحث للهوية الفلسطينية عن مكان في قلب الأحداث والتحركات الإقليمية والدولية منذ منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي، من خلال التمهيد لذلك بكل ما يساعد تلك الهوية على التَّشَكُّل من قلب العداء والكراهية التي راحت تبذرها حلقات المؤامرة في مُكَوِّنات الهوية الأردنية الثائرة، كي تهزمَ الثورة وتحميَ إسرائيل وتؤجلَ الوحدة وتطيلَ عمر التجزئة.
إن هذا ما سوف نتتبع صيرورته التاريخية خطوة خطوة. كيف بدأ؟ وكيف نما؟ وكيف حدث في ساحة الوطن الأردني الذي نجح “الملك حسين” ومخابراته ورجالاته المقربون وعبر التعاون الواعي أو غير الواعي من قبل قادة ومديري المشروع الثوري، في الحيلولة دون أن يتحول إلى قاعدة آمنة لدحر المشروع الاستعماري “إسرائيل”؟ وكيف استمروا في التآمر على الوطن والمواطنة والهوية منذ ذلك الوقت وحتى الآن، تحت مسميات مختلفة حسبما تفرضه كل مرحلة؟
إننا نقدم في هذا الجزء من الدراسة (الإشارة هنا هي إلى الدراسة التي قدمت كبحث لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، والتي تعتبر الحلقات الأحد عشر مجتمعة والتي نقدمها للقارئ هي فصوله) إجابة دقيقة وشاملة وموثَّقة، وتحليلا نحسبه وافيا يعتمد الأساليب العلمية للوصول إلى الحقيقة، لكل حلقات المؤامرة التي أشرنا إلى مفاصلها العامة. وسوف نتحرى الموضوعية ما استطعنا، وليس لنا من همٍّ سوى كشف الحقيقة بلا مجاملة أو تزييف أو نفاق أو توجُسٍ من ردة فعل.
فبلدنا “الأردن” بيع ورُهِن واستُلِب، وشعبنا الأردني وصل إلى حافة الهاوية التي ما وصل إليها عبر حلقات متتابعة من التآمر، إلا بعد أن نجحت أمُّ المؤامرات كلِّها، ألا وهي تلك التي حيكت ضد ثورته العظيمة في النصف الثاني من عقد الستينيات من القرن الماضي، في شق صفوفه وهزيمة روحه وتحييده وتحويله من شعب كان يعيش قَدَرَه في قيادة الأمة إلى التحرير، إلى شعب يستجدي العلاج من مرضه في مَكْرُمَة ملكية، والعمل من أجل رغيف الخبز في مِنْحَة حكومية، وبعضا من حريته المهدورة في لفتة حانية من صاحب عرشٍ ملَّكته الحكومات كلَّ السلطات، بعد أن لم يعد أحد يُغَنِّي إذا غَنَّى إلا له، بعيدا عن معاني العزة والكرامة والكبرياء والاستحقاق الناتج عن فكرة المُواطَنَة.
في هذا الجزء من الدراسة سيكتشف القارئ ألاَّ قداسة للهويات الوظيفية المُصطنعة، خاصة عندما يَتَجَلَّى الدور الوظيفي لتلك الهويات من خلال ما تُقْحَم فيه من مهماتٍ تتعارض مردوداتها الإستراتيجية مع المصلحة الوطنية والقومية في بعدَيها الوحدوي والتحرري المُفترضين. من هنا فلن يكون موقفنا من الهويتين “الفلسطينية” و”الأردنية” الوظيفيتين وتعاطينا معهما منفصلا عن الواقع الذي يجعلنا نقيِّمُهما في ضوء ما تقدمه كل منهما من دفعٍ لمشروع التحرر الوطني والمجتمعي من جهة، ومن زخمٍ للمشروع الوحدوي القومي من جهة أخرى.
قد يهيؤُ لقارئ هذه الدراسة أننا نقف حينا إلى صف “الهوية الأردنية” على حساب رديفتها الوظيفية “الهوية الفلسطينية”، وقد يبدو له حينا آخر أننا نفعل العكس تماما، مساندين “الهوية الفلسطينية” على حساب رديفتها في الوظيفية “الهوية الأردنية”، وهذا في الواقع مجرد تهيؤ خاطئ، ننبه القارئ إلى ضرورة عدم الانجرار وراءه والوقوع في حبائله، لأنه لن يكون إلا نتيجةَ العجز عن التَّحَرُّر من وطأة التداعيات التاريخية للدلالات والمفاهيم والمعاني، وعدم القدرة على التخلص من تراكمات الموروث السياسي للحقوق والواجبات التي أفرزتها صيرورة الصراع في الإقليم “العربي السوري”.
نقول ذلك ونؤكد عليه، لأننا في الواقع سنكون على الدوام إلى جانب مشروع التحرر الوطني والمجتمعي في هذه المنطقة الأكثر حساسية من الوطن العربي، فضلا عن أننا سوف نقف باستمرار إلى جانب المشروع القومي الوحدوي ونحن نتعاطى مع حزمةِ الهويات وهي تتصارع وتتناقض وتتبادل المواقع، أو وهي تتحالف وتتآلف وتتمازج، وهو ما يجعلنا نركز على التوصيف الوظيفي لهاتين الهويتين في مختلف المراحل التاريخية التي سنتعرض لها، لنكشف عما يمكنه أن يكون خادما لما أعلنا الوقوف إلى جانبه، وعما يمكنه أن يكون خادما للمشروع المضاد له والمناهض للوحدة وللتحرر.
وهذا يتطلب منا أن نتابع الظروف الموضوعية التي اقتضت – عبر تاريخ التفاعل بين الهويتين – أن يتم التآمر على هذه الهوية منهما أو على تلك، بشكل مُحَدَّد في حقبة من الزمن، بينما جعلت الأمر يختلف في حقبةٍ لاحقة أفرزتها ظروفٌ موضوعية مختلفة، لتُسْهِم هي في إفراز ظروفٍ موضوعيةٍ أشد اختلافا، قد تؤدي إلى نمط مختلفٍ من التعامل مع الهويتين.
إن دقة العلاقة بين الهويتين “الأردنية” و”الفلسطينية”، وحساسية الظروف الموضوعية التي كان الإقليم يمر بها من حين لآخر وما يزال، وعمق التضليل الكامن في الممارسات المُرْتَكَبَة من قِبَل مديري مشروعي هاتين الهويتين، جعلت التداخل الوظيفي بينهما – أي بين الهويتين – يُمْعِن في إفقادِنا البوصلةَ الحقيقيةَ لما يُفْتَرض أن يكون عليه المسار الدافع باتجاه مراحل متقدمة من فكرتي التحرر والوحدة، ليتم التركيز – بناء على فقدان البوصلة هذا – في التعاطي مع الواقع وحيثياته التي يفرضها الصراع في الإقليم، على قاعدة قداسةِ الحقوق المترتبة على الهويتين رغم اصطناعهما في الأساس، بمعزلٍ عن باقي الظروف الموضوعية المُكَوِّنَة لهذا الواقع، وليتمَّ تجاهل المضامين الإستراتيجية الكامنة في نمط اللعب بالهويتين معا، وهما تُدْفَعان دفعا إلى تبادل المواقع لخدمة المشروع الإمبريالي الصهيوني.
سنكتشف معا في مسيرة التحليل التاريخي الذي سنقدمه والذي نجزم بأنه سيكون مثيرا للجدل بقدرٍ غير مألوف، أن التناقض أو التآلف بين الهويتين “الأردنية” و”الفلسطينية”، كانا يسيران جنبا إلى جنب مع المشاريع السياسية التكتيكية الخادمة للمشروع التاريخي الإستراتيجي.
فعندما تكون مُكَوِّنات الواقع بصدد الانكشاف عن حراكٍ دافعٍ باتجاه خطوات فاعلة على صعيدي التحرر الوطني أو المجتمعي، وعلى صعيد مشروع التوحد القومي، تظهر بجلاء من قِبَل مديري المشروعين الوظيفيين “الهوية الأردنية” و”الهوية الفلسطينية”، كلُّ الدعوات والمشاريع التي تؤصل للتناقض بين الهويتين، ولاستقلال كل منهما عن الأخرى بشكل فاجع، ولضرورة الحرص على عدم تداخلهما، دفاعا عن القضية الأم “القضية الفلسطينية”.. إلخ.
وعلى العكس تماما من ذلك عند صانعي الحراك التقدمي الفاعل على صعيدي التَّحَرُّر الوطني والمجتمعي، إذ كلما كانت مطالب التَّحَّرُّر المجتمعي والوطني – وتحديدا في الأردن – متقدمة ومربكة للنظام، كلما كان ذلك على قاعدة حالة غياب حقيقية للفروق المصطنعة بين الهويتين، على طريق تقليص الدور الوظيفي فيهما، لتحويلهما إلى رأسِ حربةِ مشروعٍ تحرري ووحدوي رائد في الوطن العربي.
إننا في واقع الأمر أمام جريمةٍ ارتكبت وما تزال ترتكب من قبل النظامين الوظيفينن “الأردني” و”الفلسطيني”، اللذين يداران من قبل تحالفات طبقية كومبرادورية بيروقراطية مدعومة إلى النخاع بمؤسساتٍ أمنية تُحْكِم قبضتَها الحديدية على كافة مرافق الدولة في الأردن، وعلى كافة مرافق السلطة في الأرض المحتلة، لإبقاء الوضع على ما هو عليه، وإدخاله من ثَمَّ في نفق المسارات الإمبريالية الصهيونية، إما تآمرا وإما جهلا.
إن مُكَوِّنات لعبة الصراع الذي اصطلح عليه بـ “الصراع العربي الإسرائيلي”، إذا كانت تَتَّخِذُ في دول الجوار الإسرائيلي “سوريا” و”مصر” ولبنان”، شكلَ الصراع بين الدول بالمعنى المتعارف عليه إلى حدٍّ بعيد، لتتحدَّدَ أدواتُه في ضوء ما هو معتاد في صراعات الدول، بعيدا عن أي تجاذبات سياسية غامضة ومربكة ومتداخلة، فإن هذا الصراع يتخذ في دولة الجوار الأهم “الأردن” شكل لعبةٍ تمكن تسميتها لعبةَ “لوغو الهويات”(7). وهذه اللعبة تُعْتَبَر من أصعب اللعب وأشدها استعصاء على التفكيك، إذا لم يتم اللجوء في ذلك إلى تأصيلٍ حاسمٍ وعميقٍ يتجاوز حدود العواطف الوجدانية، إلى البُنى الفكرية والأيديولوجية الأكثر وضوحا وجلاء، بعيدا عن كل أنواع المجاملات والدَّجَل السياسيين.
لذلك فإن موقفنا من هذه الهوية أو من تلك، في هذه المرحلة أو في تلك، سيتحدَّدُ في ضوء الأدوار الوظيفية المرسومة للهويتين، ومدى انسجامهما أو تناقضهما – أي الهويتين – مع هذه الأدوار، وفي ضوء أدوارهما الوطنية المفترضة أيضا، ومدى قربهما أو بعدهما عن هذه الأدوار، على قاعدة أن الدور الوظيفي يخدم المشروع الإمبريالي الاستعماري “إسرائيل” المناهض للتحرر والوحدة، فيما الدور المفترض يجب أن يخدم المشروع المضاد. وإنه على أساس مدى فعالية الهويات وواقعها في رفد ودعم المشروع الوطني، سيتحدَّدُ موقفنا منها بالسلب أو بالإيجاب، بالدعوة إلى البروز هنا والاختفاء هناك أو العكس.
إننا نضع نصب أعيننا بؤرةَ استهدافٍ إستراتيجيةٍ متمثلةٍ في تحرير الأرض المحتلة، والعمل بما يتناسب وأجندة الوحدة والنهضة العربيتين من المنظور القومي التكاملي، لنحاكِم صيرورة الأحداث المتعلقة بالهويتين “الأردنية” و”الفلسطينية” من ثمَّ، في ضوء مدى القرب أو البعد عن تلك البؤرة، وفي ضوء فعالية الإسهام أو تدنيه في تجسيد تلك البؤرة في أرض الواقع.
أي أن أيا من الهويتين لا قيمة لها في ذاتها، ولا تعنينا في شيء، بل لتذهب إلى الجحيم هي وكل من يدافع عنها وهي معلقة في الفراغ بمعزل عن دورها الرافد للحراك المُجَسِّد لتلك البؤرة، ولا أهمية حقيقية لأي من الهويتين دون أن تكون تلك الأهمية منبثقة عن مكانةٍ ماَّ ضروريةٍ لها في الفعل الدافع نحو التحرير ونحو الوحدة. إننا في الواقع نحرص على الدفع نحو إعادة إنتاج الهويتين “الأردنية” و”الفلسطينية” اللتين نشأتا في سياق تاريخي غير منطقي ومناهض للوحدة القومية، وبهدف أداء دور وظيفي رجعي، لتصبحا بعد أن غدتا تمثلان أمرا واقعا، هويتين تعملان – من خلال التَّحَّكُّم الناضج في شكل العلاقة بينهما – على تحريك مفاعيل التحرر والوحدة والنهوض.
إن هذه المعادلة وحدها هي ما نعتبره المرجعية التقييمية لأيٍّ من الهويتين في سياقات التَّجَسُّد والتَّخَلُّق، أو الظهور والاختفاء، أو التآلف والتناقض، وهي ما نؤكد على أنه يمثل مرجعيةَ تقييمِنا لطبيعة العلاقة المُفترضة بينهما، وهو ما تعمل ضده كل قوى التبعية والتراجع من مديري مشروعي الهويتين، سواء في الأردن أو في الأرض المحتلة. فليتابعنا القارئ الكريم بمنتهى الدقة والرَّوِيَّة والحذر، فنحن إنما سنسير معه وبه في حقل ألغام حقيقي غير مسبوق زرعته أجهزةٌ أمنيةٌ متغوِّله ونخبٌ سياسية وظيفية محَنَّكة.
إننا سنتابع معا لعبة “لوغو الهويات” في الجغرافيا المستحدَثَة “الأردن” ورديفتها المستحدَثَة الأخرى “فلسطين”، لنجد أنفسنا أمام لعبةٍ مورِسَت على مدى يقارب القرن من الزمان، امتد من عام 1917 حتى الآن. وقد مرت اللعبة بثلاث مراحل كبرى تنطوي كل منها على مراحلها الفرعية.
فهناك المرحلة الكبرى الأولى التي امتدت من بدء الاحتلال البريطاني عام 1917 ولغاية استتباب الأمر للمشروع الاستعماري الإمبريالي “إسرائيل”، بعد الهجمة الأولى على “الهوية الفلسطينية” لحساب “الهوية الأردنية” بمؤتمر “أريحا” المنعقد في عام 1948، والذي مثل المسرحية الأولى في تاريخ مسرحيات تداول الأدوار الوظيفية بين الهويتين، وهي ما يمكننا الاصطلاح عليه بمرحلة التأسيس للهويتين المصطنعتين “الأردنية” و”الفلسطينية”.
وهناك المرحلة الثانية التي امتدت من عام 1948 وحتى عام 1988 عندما تم الاعتداء على “الهوية الأردنية” هذه المرة لحساب “الهوية الفلسطينية”، عقب ذلك المؤتمر الذي مثل المسرحية الثانية في ذلك التاريخ المسرحي لتبادل الأدوار، والذي فُوِّضَ بموجبه الملك “حسين بن طلال” من قِبَلِ فئة لا تُمَثِّل الشعبَ الأردني تمثيلا حقيقيا، اختيرت وانتقيت بعناية تضمن تمريرها للإرادة الملكية المقررة سلفا، باتخاذ قرار فك الارتباط القانوني والإداري بالضفة الغربية، دون الرجوع إلى الشعب الأردني واستفتائه، وهي المرحلة التي يمكننا الاصطلاح عليها بمرحلة استغلال الهويتين في الصراع الدائر بين مديري المشروعين الوظيفيين “الأردني” و”الفلسطيني”. وهي المرحلة التي مهدت الطريق للمرجعيات التي دمرت كل شيء في الأردن وفي فلسطين على حد سواء، بدءا من مرجعية “مدريد”، مرورا بمرجعية “أوسلو”، وربما ليس انتهاء بمرجعية وادي عربة”، وقبل ذلك كله مرجعية “تفاهمات واشنطن” التي مثلت الوعاء الأيديولوجي لكل الكوارث التي راحت تنهال على الإقليم وعلى الأمة العربية قاطبة منذ قرار فك الارتباط القانوني والإداري.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن، ونحن نمر بالمرحلة الثالثة التي مثلت أحداثُها الكارثية على صعيد كل من الهويتين ثمرةَ كل المراحل السابقة، ويمكننا الاصطلاح على هذه المرحلة بعنوان حسم العلاقة بين الهويتين المصطنعتين، وهي المرحلة التي يبدو أنها انتهت وبدأت شمسُها بالغروب مع بدء مرحلة الثورات العربية، والتي تمثل معالمَ بداية المرحلة الرابعة التي لن تكون إلا مرحلة إعادة الامتزاج بين الهويتين المصطنعتين بالشكل الأكثر قدرة على الدفع باتجاه مشروع التحرر والوحدة والنهضة، على طريق إعادة بناء الهوية الأم في أرض الشام كنواة لوحدة عربية أعم وأشمل.
ولكننا نجد أنفسنا مدفعوين قبل ذلك إلى أن نؤسِّسَ لحقيقة الفساد الأيديولوجي الذي قامت عليه الدولة الأردنية، فذلك سيساعدنا أكثر على تَلَمُّس تفاصيل لعبة “لوغو الهويات” عبر تاريخ العلاقة بين الهويتين الأردنية والفلسطينية.
            … يتبع في الحلقة الثانية

الهوامش..
1 – “إن الخطأ التاريخي قد يصبح أمرا واقعا لا مجال للتنكر له، ويصبح هو الحق والعدل الذي ندافع عنه ونقبل به، ولا يمكن الرجوع عنه إلى الوراء. ومثال ذلك نشأة الأمتين الأميركية والأسترالية. حيث أنه لا يمكن القول بضرورة إعادة التاريخ إلى الوراء لإقامة العدالة، عبر إبادة هذه الأمم ومنح الأراضي الأميركية والأسترالية لبقايا الشعوب التي أبيد معظمها لتقوم على أنقاضها الحضارتان الأميركية والأسترالية!! وذلك فقط لأن هاتين الدولتين قامتا على إبادة الشعوب الأصلية لتلك البلاد. ولا يمكن محاكمة الدولتين الأميركية والأسترالية الحاليتين على جرائم الآباء والأجداد، بالدعوة إلى إعادة التاريخ إلى الوراء، بشكل يستحيل تحقُقُه. فالعدالة في مثل هكذا قضايا تاريخية لها شكل آخر غير العقاب بمعناه المباشر، بل بتحيق أقصى ما يمكن فعله لمحو آثار الجريمة التاريخية، مع الاعتراف بالأمم الحالية بكل ما لكلمة الاعتراف من معنى. وهذا هو على وجه التحديد نمط التعاطي مع الهويات المُصْطَنَعة عندما تصبح أمرا واقعا تجاوز التاريخ إمكان إعادة الواقع بخصوصها إلى نقطة البداية. ومن ذلك الهويات القطرية العربية وعلى رأسها الهويتان الأردنية والفلسطينية، حيث يجب أن يصار إلى توظيفهما توظيفا وطنيا وقوميا ووحدويا وتحَرُّريا ونهضويا، وفق الأسس الصحيحة للتوظيف الوطني والقومي والتحرري والنهضوي، بدل إضاعة الوقت في ندب الحظ على التاريخ العاثر أو الدعوة المجنونة إلى إعادة التاريخ إلى الوراء”.
2 – “نفضل أن نقول إعلان بلفور بدل وعد بلفور، استنادا إلى الترجمة الصحيحة للنص الأصلي للوثيقة البلفورية، والتي تنص على هذا المعنى، وهو المعنى المتضَمَّن في الكلمة Declaration، وليس وعد الوعد المتضمَّن في الكلمة Promise”.
3 – “إن الهوية “السورية” كانت هي الهوية التي تنتمي إليها ما عرف فيما بعد بفلسطين والأردن، حتى أن بيانات الثورات الفلسطينية في ثلاثينيات القرن الماضي كانت تصدر بعبارة “ثورات جنوب سوريا”.
4 – “تطور مسمى الأردن منذ انتدابها وحتى الاستقلال من “إمارة شرق الأردن” إلى “المملكة الأردنية الهاشمية”. أي أن الإنجليز الذين صنعوا هذه الهوية وغيرها من الهويات العربية القطرية، عرفوا أنها لا تحظى بالقداسة، وتعاملوا حتى مع مظاهرها الخارجية وتجَسُّداتها القانونية والسياسية، بما يخدم متطلبات المرحلة. بينما نحن تعاملنا مع كل تفاصيل تلك الهويات ومُكَوِّناتها القانونية والسياسية، بقداسة غير مفهومة، حتى لو كان ذلك يتعارض في مراحل محددة مع الفعل التحرري والقومي والنهوضوي، ما يعني أننا قبلنا وظيفية هوياتنا القطرية المصطنعة أكثر من صانعيها أنفسهم”.
5 – “إن الهوية الصهيونية تتناقض جوهريا مع كل الهويات الإنسانية بموجب المضمون العنصري الإمبريالي الاستعماري في هذه الهوية، ولكن بتفاوتٍ نسبي يبدأ من اعتبار التناقض مع “الهوية الفلسطينية” هو التناقض الأشد عندما كان تجَسُّد هذه الهوية يمثل هذا القدر من التناقض عقب صدور قرار التقسيم مباشرة، يليه التناقض مع “الهوية الأردنية” التي احتلت مكان “الهوية الفلسطينية” خلال ثورة ستينيات القرن الماضي كما ستكشف عن ذلك هذه الدراسة، ليصبح تجَسُّدُ “الهوية الفلسطينية” على النحو الذي تم به وفي السياق الذي حدث من خلاله في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الأمة، أكثر قطريةً ووظيفيةً من “الهوية الأردنية” عند نشأتها وممارستها لدورها الوظيفي عقب صدور قرار التقسيم”.
6 – “إن الصواب والخطأ والحق والباطل والمصلحة والمضرة في ظهور واختفاء الهويات، أمر نسبي ذو طابع سياسي محض، ولا ثوابت في هذا الشأن خصوصا عندما يكون الأمر متعلقا بهويات كلها طارئة ومصطنعة. إذ ليس كل اختفاء لهوية في هوية أخرى باطل دوما أو اعتداء على الهوية المختفية، وليس كل تجسيد لها حق دائما ومصلحة وإعطاء الحقوق لأصحابها، والعكس أيضا ليس صحيحا، فقد يكون اختفاء هوية في هوية أخرى مطلبا وقد يكون اعتداء، والعكس أيضا قد يكون مطلبا وقد يكون اعتداء، والأمور ليست مجردة ومفصولة عن سياقاتها التاريخية والسياسية والقومية. ويتجلى هذا المعنى أكثر ما يتجلى في العلاقة التاريخية التي حكمت الهويتين الفلسطينية والأردنية، باعتبارها النموذج الأكثر وضوحا في الدلالة على ما نعنيه هنا.
7 – “اللوغو كمفهوم فلسفي كما ظهر عند بعض فلاسفة الإغريق القدماء أمثال “فيثاغورث” لا يعنينا في هذا السياق. وكل ما يعنينا، هو الدلالة الحركية المتعارف عليها لهذا المفهوم، وهي الدلالة التي رأينا أنها أنسب ما تكون للتعبير عما قصدنا إليه في السياق التاريخي الذي مارسه النظام الأردني بدءا من ستينيات القرن الماضي. واللوغو بهذا المعنى عبارة عن لعبة تُعْني بتركيب جسم معين من قطع متناثرة، أو تغيير تركيب القطع بترتيب مختلف ليظهر جسم آخر مختلف، وكأن ما يحدث على صعيد تبادل الأدوار الوظيفية بين الهويتين الأردنية والفلسطينية يشبه لعبة اللوغو، فأطلقنا عليه لعبة “لوغو الهويات”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.