بعرض القصيد كان نذر الوجع .. ينبجس من ذاته الشاسعة كـ وطن آخر , يضع الأمنيات الصغار في مهبّ الشعر, خارج زوايا التقليد وأركان إيمان الشعراء. يصنع جسور التبر على عدن .. الوطن / موطئ حلمه , وسماء عينه , ونفسه المغلّفة بعزّة , وخارج الكون ..قصيدة.
الشعر اليقظ “يحيى الحمادي” فأبصروه/جيلان زيدان
كنتُ أقول في تفكير اعترض عليّ قراءاتي , أن الشاعر الشاعر من ما زال يتعلّم الأوزان بعد ..
فالمعنيّ بحفظ ذلك وقولبة الكلام بغية سرعة التحضير ناظم , يعتصر الروح في أقماع الفراهيدي ولا يحلّق بها , ويحرمها حطّاتها الوردية فوق كؤوس العسل ..
” يحيى الحمادي ” , خبر بتوقع أكيد في أعياد الملائكة , وجنان اللغة , وانتفاضات الأرض , وهويات الأساطير , ومواليد الغفران , وجدائل الفحم , وألوان الكواكب , والحفلات التنكرية للتقليد ومن التكرار وكلّ الوجع .
كان الأحمر دم الأرض الذي نضحت به مؤخرا آناء فكّ أغلال الصمت ومصادرة الخوف خارج المدينة وخلع تفاصيل الليل ..
قليلًا من الأرواح .. لكثيرٍ من الراحة..
“رسالة بالبريد السماويّ ” عبرت الشعر واخترقت الخرافة , وأفاقت وجه الموت مرتين أو ثلاث , في كلّ مرة يحيا كأنه الأبديّ , ثمّ يموت لأغراض القصيدة – لا أكثر – ليفيق على صدره العجيب الآخر .. فيرى الأرض بأسرها تتحرك وجعًا / لوعًا / موتا غير ساكن .. متحرك بفعل حمم الألم الحيّ , وفي صدره مسكن النكبات :
والأرضُ تَزحَفُ في صَدري وتَنكَمِشُ
لا عاصمَ اليوم _ إلا الحزن يَرمُقُني
شَزراً لِيَنظُرَ في الجُدران مَن نُقِشوا
جُوعي أمامي وخلفي يَصرُخُ العَطَشُ
يا لوحةً مِن أثيرِ الخُلدِ .. ما رُسِمَت
في الأرضِ إلا لِتَحكي حُمقَ مَن خَدَشوا
الشاعر كان جسد تجربة الألم , وقوده النخوة , وتدفقات المروءة , يرتفع بشعره قدر ارتفاع عدد الموتى على وجه الليل , فيعلو بقدر الألم المستحيل صدره نارًا , بدايته قبس مشهد ..
ورقياته من القصيد للقصيد شفاء.. تقاسيمه في الحنق والغيرة مفسّرة للصباح , حادة في قوافيه
صارمة في بحوره التي يخوض.
حارَ أمري .. أصالحٌ _ أم حميدُ!
أيُّ شَعبَيكَ أصطَفي .. أو أُعادي
…جَفَّ قَلبي ، وأنتَ منهُ الوريدُ
صوتُ أيوبَ شَدَّني .. أين أمضي
حينَ يأتي مِن جانبَيك النشيدُ؟
أيُّ نَعشَيكَ أتَّقي منهُ حُزني
ياااااااا حبيبي وكل نَعشٍ شَهيد
ذاكَ شَعبي يُريد.. أدري _ ولكن
مَن أُوالي ؟
ذاكَ شَعبي يُريدُ !
أنتَ مَن أنتَ ؟
قال لي قُلتُ يحيى
قال يحيى تقولُ لي ؟
أم يَزيدُ ؟!
كل حزبٍ بما لديها يَجودُ
كل حزبٍ بجَمعِهِ صارَ شَعباً
كَسِواهُ .. عَن رأيهِ لا يَحيدُ
كيف أضحَت وجوهنا دونَ ماءٍ
و خُطانا في وَجنةِ الصُّبح سُودُ!
واقفا كـ قلاع الاحتراق وسط صخب المدينة , يلوّن دماء الشهداء بالأبيض , وأكفان الأرض بالأخضر , ويكتب لافتات الشوارع ” وطن “.
أن يُخرِجَ اللهُ مِن جَنْبَيَّ أَجنِحتي
مُذْ كُنتُ طِفلاً، لِداتي يَلعَبُون ،ولي
أَلفا طُموحٍ بِنَزعِ الشّوك مِن رئتي
تَعَجّبَ النّاس مِن حُزنٍ أُكابِدُهُ
هل يَعلَم النّاس أنّ الحُزنَ معجزتي!
الحُزنُ أمّــي التي أَنْجَـــبْتُها فَغــَدَت
مِن بَعدِ حَولينِ مَأساتي ومُلهِمَتي
شواطئُ الريح في صدري إذا التطمت
أمواجُــها أَلهَمَــتني وزنَ فَعلَلَتي
ووجده المنفعل البالغ علامات ترقيم الحيرة , صوره الفنية المبتكرة ,على غير الاعتيادي يحملها
يبعثر مكوناتها ثم يرتبها وفق إرادة ذائقته الراقية . تمكّنه من أدوات شعره جميعها شعريًا يجعله من الطراز الأول..
قلت أول ولوجي أن الشاعر من يتعلم الأوزان , فلا يرتبها على حساب الصور , ويجيء هذا على حساب إتقان ذاك..
إنما أجد في يحيى البحور في كفه , واللغة من ذَهبه , والصور من امتزاج الكواكب .
ولعلنا نرى له في كل بيت شمسًا لا تفوته ولا تنطفئ, إخاله لا يعبر إلا منيرًا كلّ حرف..
بيده للدهشة فانوس , يضيئه بفكرة جديدة , وترتب دقيق , ومشهد خلاب… ما رسمه راسم .
مِثلي يُفَتّــِشُ في عَينيــهِ عَن سِـــنَةِ
البيت الشعري عند يحيى هو توظيف حواس اللغة أجمع, والكون بزخرفة بلاغية , وفنية عالية
وبكل لمحات الضوء؛ لخلق كائن جديد يورق ما بعده وما بعده …. إلى آخر سلالات القصيدة .
حتى تظل إلى آخر براعمها غنية بالكلوروفيل.
وَجْهِ الأَخادِيدِ والبِئرِ المُعَطَّلَةِ
طَويتُ صَفحةَ أَجدادي على أثَري
وجِئت أُعلِنُ قَبلَ البَدءِ بَسْملتي
مَوتى …أضافوا تُراباً للـــترابِ …ولي
أن أكتُبَ الآنَ مِن حبري ومِن لُغتي
لي أن أُغنّي بِلا نايٍ وأُخْرِجُ مِن
حَناجِرِ الحُزنِ أَقماطي ومُرضِعَتيِ
وأرتَمي في صُخورِ الجنّتين ندىً
يُعيد بالحُبِّ جَنّاتي ومَمَلكتي
والحُبُّ موتٌ شَــهِيٌ لَستُ أَشْــــبَعُهُ
إِذْ كَيفَ أَحــيا إِذا بالحُــبِّ لَم أَمُــتِ
وانْفَضَّ عنكَ الصَّحبُ والأَهلُ
وتَبَرَّأَت مِنـك الذُّنـوبُ أيـامَن
كلُّ ذَنـبٍ دونَـهُ فَضـلُ
و جَفاكَ عَقلٌ كُنـتَ تَحمِلُـهُ-عُذراً-
أكانَ لصالحٍ عَقلُ؟!
هذا الذي مِن فَرْطِ ما اقتَرَفَت
كَفَّاهُ مِن جَهلٍ _ شَكا الجَهـلُ
لا لم يَعُد للجَهلِ مِـن سِمَـةٍ
إلاَّكَ _ أنتَ الكُنْـهُ والشَّكـلُ
بيديكَ .. حتى يَكْبُرَ النَّجْـلُ !
أتظُنُّ أنَّ النَّحسَ حينَ رَمـى
بِكَ قالَ لا بَعـدٌ ولا قَبـلُ !
أتظُنُّ أنّـكَ كال(كليـمِ) إذا
غادَرتَ يَوماً أُلِّـهَ العِجْـلُ !
يا حَبَّذا ذا العِجلُ بَعـدَكَ إنْ
جاءَت إلينا مِثلَـكَ الرُّسْـلُ
يا حَبَّذا الشَّيطـانُ يَحْكُمُنـا
إن غِبتَ عنَّا وانتهـى القَتـلُ
وتقولُ هااات
وتَعِزُّ مِن (صَبِرِ) العظيمِتَصيحُ
حَيَّ علىالثباتْ
والصَّوتُمِن عَدَنِ الحبيبةِ جاءَ
واتَّحَدَ الشتاتْ
والباقياتُ الكادِحاتُ
نَفَضنَ أَجفانَالسباتْ
الخوفُ مات ..
الذلّ مات ..
هذا زمانالكادحين
وعصرُتَرحيلِ الطغاةْ
لا تَنعِتُوني بالعُتُلِّ الزَّنيمْ
و سَبِّحوا باسمي أنا رَبُّكُم
لي هَلَّلَت (صَنعا) و صَلَّت (تَريمْ)
أنا الذي بالغازِ أمطَرتُكُم وبالرَّصاصاتِ التي في الصَّميمْ
أنا الذي بالماءِ نَجَّستُكُم
وقُلتُ ذُوقوا مِن عَذابي الأليم
وقَبلَها أحرَقتُ أحلامَكُم
بالعَيشِ حتى أَصبَحَت كالصَّريمْ
يا أيُّها الناسُ اتَّقُوا رَغبَتي بالحُكمِ ..
إنَّ الحُكمَ غُرمٌ غَريمْ
ذَبُلَ الشِّراعُ و أُنهِـكَ التَّجديـفُ
وأنا أُقَلِّـبُ كالكفيـفِ خَرائطـي
من أين يأتي مـا يـرومُ كفيـفُ!
كَأسَينِ مِن وَجَعِ الخَريفِ سَقَيتَنـي
ماذا سَيُهـدي إن أتـاكَ خَريـفُ!
أنا عامرٌ بِالقَحطِ ، فَجري حالـكٌ
و خَرابُ يأسـي تالـدٌ وطَريـفُ
صَوتي إذا ناديتُ .. صَرخةُ أبكـمٍ
دَخَلَ الحيـاةَ وحَرفُـهُ مَقطـوفُ
يُحصي النجومَ الدَّواجي ، وهوَ يَلتَمِـعُ
أُحِسُّ فـي داخلـي ضِيقـاً يُزاحِمُنـي
و أَمْتُراً مِن رصيـفِ العُمـر تُقتَطَـعُ
أُحِـسُّ بالليـلِ مِثلـي يَلتـوي ألـمـا
و يَنحَني للحَزانى ، أنْ خُذوا و دَعُـوا
أُحِسُّ في داخلـي مَوتـاً يُحَـرِّكُ فـي
صدري جَناحاً ويَنـوي .. ثُـمَّ يَمتنِـع
و أَحرُفـاً تَتشضّـى كُلمـا اجتَمَعَـت
لِجُملـةٍ .. و أنينـي حِيـنَ تَجتَـمِـعُ
أُحِـسُّ بـي و كأنـي عالـقٌ بِفَـمـي
و أنَّ حَلقـيَ حَـبـلٌ كــادَ يَنقَـطِـعُ
أُحِسُّ أرضاً سِوى ذِي الأرض تَسحَبُني
وعالَمـاً غيـرَ هـذا فِـيَّ يُخـتَـرَعُ
أُحِسُّ بالشِّعر يَحبو فـي دَمـي وعلـى
صَدري و وَجهي ، ومِن عَينيَّ يَرتِضِعُ
حَسبي مِن الـدَّاءِ أنِّـي شاعـرٌ قَلِـقٌ
و أَنّـهُ إنْ تَـضِـق دُنـيـايَ يَتَّـسِـعُ
ومن جسد الحرقة يضرم الجمال , والهذيان لغة فيه..
وهذا ما وضعته ” البرزخ” قصيدته المحتالة على الوجع ..
فكان من فوّهة الاحتراق:
مابَيـنَ نَحـري وصَـدري صَخـرُهُ نَبَتَـا
مــازالَ كَـهـلاً بِــهِ حُـزنـي وأُغنِـيَـتـي
ولَـم أَزَل رَغـمَ مَوتـي مَرَّتَيـنِ .. فَتـى
مـازال يَـسـألُ عَــن عُـمـري وأَسـأَلُـهُ
أيُسأَلُ المَـوت مِـن أَيِّ الجِهـاتِ أَتـى!
جِسـرٌ أَنـا بَيـن مَوتـي والحَيـاة .. أَلا
لَيـتَ الـذي سَـالَ وَجهـي حَولَـهُ ثَبَـتَـا