القبو قصة : طلعت سقيرق السماء تمطر.. الزجاج الأمامي يغطيه الغبش.. ترسم المسّاحة وهي تتحرك جيئة وذهاباً جزءاً كبيراً من دائرة… السائق يرفع زجاج الشباك إلى الأعلى… يصفّر.. ينحني قليلاً محدقاً في الطريق… أضواء الشوارع تحاول أن تزيح عتمة المساء.. أغصان الأشجار العارية تحدق في الفراغ…
القبو
قصة : طلعت سقيرق
السماء تمطر.. الزجاج الأمامي يغطيه الغبش.. ترسم المسّاحة وهي تتحرك جيئة وذهاباً جزءاً كبيراً من دائرة… السائق يرفع زجاج الشباك إلى الأعلى… يصفّر.. ينحني قليلاً محدقاً في الطريق… أضواء الشوارع تحاول أن تزيح عتمة المساء.. أغصان الأشجار العارية تحدق في الفراغ… وجوه المارة تقبض على حالة هلامية.. تقطع السيارة المسافات ببطء.. وحده العجوز كان يضحك.. يهز رأسه مثل بندول الساعة ويضحك… قلت بملل: كأنَّ هذا الدرج لا نهاية له . قالت: ستجد في القبو كل ما تريد… أتعرف؟ كان جدي رحمه الله مولعاً بهذا القبو.. أذكر أنه كان يمضي فيه ساعات طويلة… قلت: أشعر أن النزول لا يتوقف… غريب أمر هذا الدرج… تأمَّل العجوز الدرج ..من جديد هزَّ رأسه وأخذ يضحك… أذكر أن رأسي كان على الوسادة.. عيناي مفتوحتان تحدقان في الخطوط المرسومة على الجدار.. ربما كانت غير ماهي عليه الآن قبل حلول الظلمة وانعكاس هذا الضوء الباهت عليها.. أخذت الخطوط تتلوى.. أعرف أنه الوهم.. كنت مدركاً لهذا تماماً.. رغم ذلك خفت.. اضطربت أنفاسي.. الهواء أخذ يقل.. مجرد شعور.. لكن متى كان حدوث الأشياء ينفصل عن الشعور… أدار العجوز ظهره وآثر الصمت.. أخذ يمر بعينيه على الأشياء.. فرقعت ضحكته دون مقدمات ..السائق أنزل زجاج الشباك قليلاً.. دخل الهواء محملاً برائحة المطر.. مالت السيارة قليلاً عند المنحنى.. الفتاة الجالسة إلى جانبي التصقت بي.. عيناها تغرقان في المسافات البعيدة… شعرت أنها تحاول أن تبعد الجزء الملتصق بي… أحد الركاب نظر إليّ بارتياب.. انكمشت قليلاً مع أنني كنت مرتاحاً لالتصاقها بي… حاول العجوز إطباق شفتيه دون جدوى… يومها قال أبي: أنت لا تريد أن تفهم… الحياة ليست هكذا يابني .. قلت: لكنني أحبها . قال: تحب، وماذا ستطعمها؟ أريد جواباً محدداً.. هل ستطعمها حباً؟ حاول أن تتخلص من هذه الأحلام الوردية.. افهم الحياة أكثر يابني .. كنت أظن أنني الوحيد الذي يفهم.. الوحيد الذي يستطيع أن يرسم أبعاد الحياة… كان العجوز وقتها متكئاً على طرف الأشياء.. عيناه تشعان بحكايات كثيرة.. تمنيت أن يتحدث.. أن يترك ضحكاته ويقول أي شيء .. قالت: أمرك غريب.. أريد ولداً واحداً فقط.. من حقي أن أشعر بالأمومة .. قلت: ولماذا تذكرت الولد الآن؟ لاأريد.. ألف مرة قلت لك لا أريد.. – لكن أسبابك غير مقنعة . – أنا مقتنع… هذا يكفي بالنسبة لي على الأقل .. العجوز أمسك يد الولد وأخذا يركضان ويضحكان…. تركت الخطوط وأخذت أنقّل طرفي في الغرفة.. الزوجة تنام بهدوء.. صوت أنفاسها يرتفع.. الأولاد يتوزعون هنا وهناك.. لا أدري لماذا توقفت نظراتي عند الولد الأصغر.. كانت ابتسامته تنقط عسلاً وتتلون بخيوط سحرية يعكسها النور الخافت.. العجوز أعجبه المنظر فشارك الطفل ابتسامته.. قال أبي: عندما كنت في عمرك.. كنت رجلاً حقيقياً.. أنتم غريبون يا ولدي .. قلت: لكنكم تركتم كل شيء ورحلتم.. كان عليكم أن تبقوا هناك.. إنها جريمة .. لأول مرة أرى في عينيه ألق الدموع.. ندمت… . حاولت صياغة الكلمات من جديد… كان الوقت قد فات.. أعرف تماماً أنه يحب البيت الذي تركه أكثر من أي شيء في الدنيا.. حدثني عنه من قبل طويلاً.. كان عاشقاً حقيقياً لهذا البيت.. ضحكة العجوز تزيد الوضع تأزماً… أخرج السائق من صندوق صغير خرقة أخذ يمسح بها زجاج السيارة الأمامي، بصعوبة استطاعت أن تبعد الجزء الملتصق من جسمها.. أحد الركاب نظر إلى ساعة يده.. كانت دون عقارب.. تنهد.. السائق أدار رأسه إلى الخلف، ثم عاد إلى مقوده والطريق المبتل.. كان عليه أن يخفف السرعة.. عدة مرات أفهمنا أن أيّ خطأ يمكن أن يودي بنا.. كأنّ المطر صورة من صور الخيال وهو ينزلق ببطء مختلطاً بالأنوار الباهتة… أخذ الصمت يتسع.. الأنفاس تزداد انضغاطاً.. فتح العجوز مظلته داخل السيارة وأخذ يضحك لحالة الاضطراب التي سادت… قلت: صدقيني تعبت.. الدرج لا نهاية له.. لماذا لا نعود أدراجنا.؟؟ قالت: العودة تعني صعود الدرجات التي نزلناها.. تصور !!… قلت: لكن متابعة النزول أمر مستحيل… قالت: يا عبد الرحمن درجات قليلة ونصل إلى القبو…. استرخيت وجلست على الدرجة ..حاولت أن أفرد النصف الأعلى من قامتي.. قلت محدثاً نفسي:” عبد الرحمن.. من عبد الرحمن هذا “؟؟ نظرت في وجهها.. لم تكن هي.. الدرجات معلقة في الهواء.. القبو مازال بعيداً..” لكن من هو عبد الرحمن هذا “؟؟ العجوز ضرب كفاً بكف وأخذ يضحك… السيارة تنزلق بهدوء.. حبات المطر تتجمع أمام الأضواء وترسم حالات لا نهائية من الأشكال.. عاد جسدها إلى الالتصاق بي.. نظر إلى ساعة يده.. هزّ يده عدة مرات.. سألني” كم الساعة “… عادت إلى المحاولة من جديد، أخذت تبعد الجزء الملتصق من جسمها بهدوء.. كان الأمر مثيراً.. كرر بإلحاح” كم الساعة ” ؟؟ السائق رفع زجاج الشباك مرة أخرى… أخذ يصفر من جديد… ” كم الساعة “؟؟ رفعت يدي.. نظرت.. زجاج مطر.. وجوه هلامية.. العجوز يضحك.. – أتدري يا ولد الأمر لم يكن كذلك .. – ماذا تقصد يا أبي .. – نحن لم نترك شيئاً.. أجبرونا على ذلك .. – أعرف .. – أنت لا تعرف شئياً وهنا المصيبة ..!! خرج العجوز من الغرفة ونظر في المرآة، كانت ابتسامته عميقة إلى حد ما… الوسادة تنزلق… أعيدها.. أرفع رأسي.. أترك السرير.. أمد يدي.. أمشي ببطء.. أصل إلى الصالون الصغير.. أدخل إلى المطبخ.. أقترب من الصنبور.. أفتحه .. ظمأ شديد يغتالني.. أنحني.. أفتح فمي لأشرب.. لاشيء.. أصرخ برعب.. الماء ينزل من الصنبور ولا يصل منه شيء إلى فمي.. أغلق الصنبور.. يتوقف تدفق الماء.. أفتحه، يندفع الماء.. أضع فمي من جديد .. لكن دون جدوى.. لا يصل شيء من الماء.. تضيق أنفاسي.. يخفق قلبي بشدة.. يجف حلقي أكثر… تغيم الأشياء.. تتراقص الصور… يمدّ العجوز رأسه ويضحك… . الدرجات المتبقية كثيرة.. القبو بعيد… حاول السائق أن يزيد السرعة.. مالت السيارة قليلاً.. قال أبي:” الأمور لا تفهم هكذا “.. الوسادة تزرع رأسي في الخطوط.. يضحك الولد الأصغر.. قلت” لا أريد… الأولاد، جحيم في هذا الوقت” المطر يطرق زجاج السيارة.. تحاول أن تسحب جسدها فتزداد التصاقاً بي… صاح بنزق” قلت لك كم الساعة “.. أخذ يشرح لنا مخاطر السرعة في هذا الجو… فتح المذياع.. حرك المؤشر.. خرج العجوز من بين المحطات وأخذ يضحك.. قال أبي:” افعلوا شيئاً قبل أن تقولوا أشياء كثيرة” قلت:” الأولاد.. كفى… لا أريد “.. أحد الركاب حاول النزول.. مدَّ قدمه فلم يجد الأرض.. أعادها برعب ..كان القبو بعيداً.. قالت” وماذا تريد يا عبد الرحمن “؟ قلت: صدقيني لا أدري.. لكن أريد أن أعرف… من هو عبد الرحمن هذا ؟؟
*********
أبو الريش.. وحالة ضياع·
قصة : طلعت سقيرق
حمد حمدان الطاوي أبو الريش.. في الثلاثين من العمر كان… طويل القامة إلى حد يلفت الأنظار.. أصلع الرأس.. محمر الوجه دائماً.. يمشي، فتظن أنه يسحب نفسه سحباً. كثيرون استمعوا إلى كلماته اللاهبة عن الاستعمار والفقر وطبقة الأوزون… وكثيرون ضحكوا أو تضاحكوا.. وكان على الدوام، ينسحب لاعناً شاتماً هذا الزمان الرديء، زمان الجيل الذي لا يهمه إلا الرقص والخلاعة، وسقط الكلام.. الله يرحم الأيام الماضية، هذه الأيام التي كانت رائعة وجميلة ومموسقة حسب ما يريد الواحد منا ويشتهي… حين يتذكر أبو الريش، يبصق، ويلعن.. وعندما يشتد به الأسى ويزداد، يغمض عينيه وكأنه لا يريد أن يرى ما يحيط به من مناظر مؤذية… . وحسب اعتقاده الراسخ، فقد أصبح الناس، دون تفريق لا يساوون شيئاً… في هذا الوقت، وهو وقت سابق على ما تبع من أحداث، لم يكن حمد حمدان الطاوي أبو الريش قد وصل بعد إلى الحالة التي جعلت الناس يصفونه بالجنون.. لابد هنا، والحق يقال، من التأكيد، على أنه كان أقرب إلى الهدوء.. صحيح إن بعض الثورات كانت تأخذ به كل مأخذ، لكنه لم يصل في مرة من المرات، إلى عرض مواهبه في ضرب الجدران برأسه.. ولم يصل في مرة من المرات – وهذه حسنة من حسناته الماضية – إلى حد التحرش بالبنات والسيدات علناً، مسقطا كلّ ضوابط الأخلاق… فالرجل والله يشهد ، كان غريباً.. ربما كان أغرب من غريب.. لكن حتى مثل هذه الأحداث، لا تستطيع أن تقدم حالة شبه نهائية عن أحوال حمد حمدان الطاوي أبو الريش… فجأة وفي منتصف الشارع المزدحم بالمارة والسيارات والعربات والبائعين، وقف المدعو حمد حمدان الطاوي أبو الريش، وأعلن بصوت مرتفع أن الساعة قد “أزفتْ “… ولما كان الجميع دون استثناء، لايعرفون شيئاً عن طيبة أو سيئة الذكر ” أزفتْ ” هذه، فقد وقفوا صامتين حائرين مأخوذين، ينظرون إلى الطاوي، المحمر الوجه، الطويل العود، وهو يشرح ويطنب ويمد ويمتد في معنى “أزفت”.. متناسياً أو ناسياً في كثير من الأحيان ما أراد أن يقول… المهم بالنسبة له، أن الجمع الطيب أخذ يستمع، والأهم أن الرؤوس كانت تهتز مأخوذة مدهوشة، أو ربما متناغمة مع حركة رأس حمد حمدان الطاوي أبو الريش.. ولأن حمد حمدان الطاوي أبو الريش أطال وشدّ الأعصاب حتى آخرها، فقد ضاق الصدر، وتلاحقت الأنفاس، وتساقط الريش ريشة ريشة… ووصل الأمر حتى صارت فيه الكلمات تختنق وتسقط صريعة في أكثر الأحيان .وللحقيقة، وهي حقيقة لم ينتبه لها أبو الريش، فإن أكثر الكلمات لم تعد مفهومة.. عندها انفرط عقد الناس وانحل.. وبقي أبو الريش وحيداً دون ريش.. وهناك من روى أن المدعو حمد حمدان أبو الريش، هز رأسه وأعلن أن هؤلاء الذين ذهبوا مجرد رعاع لايريدون أن يفهموا.. وحسب ظنه أن الرعاع لايمكن أن يخرجوا عن منطق الرعاع ولو حشوت رؤوسهم بكل الكتب التي في العالم.. يومها مضى حمد حمدان الطاوي أبو الريش في الشوارع والحارات والأزقة يحدث نفسه، وكان يلوح بيديه مع كل خطوة، ويهز رأسه بعنف، وأحياناً يتوقف للحظات ليبصق ويلعن هذا الزمان وكل رعاع الأرض…….. وحين أكد الناس، بعد واقعة” أزفت” المشهورة أنه مجنون وأن جنونه من النوع الخطير المؤذي.. لم يكن حمد حمدان الطاوي أبو الريش مجنوناً ولا يحزنون. لكن مشكلته التي لا يستطيع أحد إنكارها، تتعلق – حتى ذلك الحين – في كونه كثير الشرود والنسيان.. يتكلم، وفجأة ينسى الموضوع الذي يتحدث حوله، فيضيع كلامه ويصير كلمات متقاطعة لا تعبر عن شيء.. وإذا ذهب إلى مكان ما، فإنه ينسى تماماً المكان الذي يريد أن يصل إليه، لذلك تتوه خطواته، ويتجول في الشوارع دون هدف. هل كان كل هذا نوعاً من الجنون؟ حتى ذلك الحين، كان الأمر مجرد تخمين.. ولم يكن أبو الريش مجنوناً… في تطور لاحق للأحداث، وهو تطور مهم في قضية المذكور.. أعلنت الزوجة الطيبة سلافة النهري، أن زوجها المدعو حمد حمدان الطاوي أبو الريش ما عاد يطيق فراش الزوجية… وأنه أصبح يتهمها – والله يشهد أنها تعشق النظافة – بالتعفن، ويقسم أنها تحمل رائحة جثة متحركة… لذلك، وبناء عليه، ما عاد بمقدوره – والكلام على لسان المدعو حمد حمدان الطاوي أبو الريش – أن ينام معها.. وآثر أن يتمدد على فرشة يفردها على الأرض في غرفة أخرى… سلافة النهري هذه، وهي امرأة عشقها كثيرون من رجال وشبان الحي لجمالها ودلالها ورقتها، أعلنت أيضاً أن رجلها حمد حمدان الطاوي أبو الريش ، أصبح يحدث الجدران والأبواب والشبابيك… يقول أشياء غريبة عجيبة… وحين تحاول في بعض الأحيان أن تتقرب منه ملاطفة، يدفعها وكأنها جرباء… وقالت والدموع تملأ عينيها، أنها ستطلب الطلاق… فالرجل ما عاد يطاق… حتى أولاده، كما تقول سلافة النهري الحسناء المغناج .. ما عاد يطيق الجلوس معهم، يرمق الواحد منهم، ويهز رأسه، ثم يأخذ في بكاء طويل مرير…. وحين تسأله عن السبب يقول:” لم نترك لهم شيئاً يفرحون به “.. وتحاول أن تفهم، فيأخذ في ضرب رأسه بالجدار ويبكي.. عندها كانت سلافة النهري تصر أنه مجنون .. هل وصلت قضية حمد حمدان الطاوي أبو الريش إلى حالة ماعاد ينفع معها حديث أو دواء .. وهل وضعت زوجته سلافة النهري النقاط على الحروف بشكل نهائي؟؟ ربما يمكن القول إن هناك بقية من حديث علينا أن نتابعها… إذ يفترض أن قضية حمد حمدان الطاوي أبو الريش قضية شغلت الرأي العام في الحي الذي يقع فيه، وفي الأحياء المجاورة، ولايمكن أن تطوى أوراقها هكذا ببساطة… صحيح أن الجدار، أو الجدران، قد اهتزت من ضربات رأسه، وصحيح أن الجيران قد ضجوا من بكائه ونواحه ووقوفه على الأطلال دون أن يشاهدوا أطلالا أو ما يشبه الأطلال.. وصحيح أن زوجته ملت الحياة دون رجل يداعبها ويناغشها ويضمها إلى صدره، وهو حلالها على كل حال… كل هذا صحيح.. لكن علينا أن نعترف حتى هذا الوقت أن حمد حمدان الطاوي أبو الريش لم يكن مجنوناً… لم يكن على الإطلاق كما يظنون… كان البكاء أعلى من قدرتهم على الاستيعاب والفهم، فظنوا ما ظنوا… . وبقي هوكما هو.. أو هكذا بدت الأمور حتى ذلك الحين… . يمكن هنا أن نتحدث عن تطور آخر في قضية أبو الريش، حيث كان رئيسه المباشر في العمل جالساً خلف مكتبه العريض الطويل يمسد كرشه بيد غليظة منتفخة، وينفث الدخان من فتحتي أنفه الكبيرتين. وللحقيقة، فقد كان – أي رئيسه المباشر – يشعر بسعادة حقيقية بعد أن استطاع إقناع الموظفة الجديدة، التي اعتبرها في غاية الجمال، أن تذهب معه بعد الدوام مباشرة لتناول الغداء في أحد المطاعم. كان السرور يسيطر عليه.. إلى هنا والأمور تبدو في أحسن صورة.. لكن ما حدث وقلب كل شيء، تعلق بصاحبنا الذي نبحث في جوانب قضيته.. فماذا حدث؟؟ لا أحد يعرف من أين نبت حمد حمدان الطاوي أبو الريش وأمسك برئيسه ورفعه من خلف مكتبه وانهال عليه بالضرب الذي لايرحم ولا يعرف حدا… الأمور حدثت بسرعة غريبة لا تصدق… !! الموظفون الذين التموا، وقفوا مأخوذين، كأنّ على رؤوسهم الطير، لا أحد يتنفس، لا أحد يستطيع أن يتحرك، المفاجأة شلتهم تماماً. وحين تعالت صرخات رئيسهم في العمل بدأوا يتحركون ببطء… ثم بسرعة، وقع حمد حمدان الطاوي أبو الريش بين أيديهم. ولم يتركوه إلا بعد أن قطع النفس أو كاد. ولأن الرجل الذي كان منتفخاً وراء مكتبه قد وقع له ما وقع، فقد ألقوا بحمد حمدان الطاوي أبو الريش خارج الشركة، ونفضوا أيديهم . كان كل واحد منهم يؤكد أنه أول من ضرب، وأول من خنق وأول من أبعد أبو الريش عن سيادة رئيسهم المباشر المحترم… ولأن رئيسهم المباشر كان يلعن ويشتم، ويهز كرشه بغضب، فقد آثروا أن يصمتوا، وأن يجلسوا في أماكنهم، وراء مكاتبهم بهدوء… مسكين حمد حمدان الطاوي أبو الريش فقد صار حديث الناس في كل مكان وزمان… يحكون ولا يصمتون.. يحكّون رؤوسهم ويذهبون في الحديث كل مذهب.. يؤلفون القصص والروايات عنه ويستفيضون.. ووصل الأمر بهم إلى أن أعادوه ثلاث مرات إلى مشفى الأمراض العقلية… يهرب لأيام أو ساعات.. ثم يعاد… وهناك يتعرض لكل أنواع التعذيب والتجارب التي تجرى عليه بأسماء مختلفة.. ومرة أخرى يخطط من أجل الهرب.. رغم زيادة المراقبة والحصار.. جنون حمد حمدان الطاوي أبو الريش، حسب التقارير المضروبة على الآلة الكاتبة، تقول انه قد وصل إلى حالة يصعب معها الشفاء… الرجل ضيع آخر ذرة عقل.. وما عاد له في الدنيا أحد بعد أن استطاعت الزوجة أن تحصل على الطلاق والأولاد.. كان الرجل حزيناً… يشرح للمحيطين به عن الساعة التي ” أزفت”.. عن الزمن الرديء.. عن الجيل الذي لا يحب إلاّ الخلاعة والرقص.. عن الجثث التي تتحرك ليل نهار في ثياب الأحياء..
************
زهرة حب لنهار جديد… .
قصة : طلعت سقيرق
البحر يمتد بزرقة لانهاية لها….. الشمس تسعى نحو الغروب… … الناس يتجولون هنا وهناك جماعات وفرادى… . نفض ما علق على جسمه من ماء بحركات متتابعة… نسمات لطيفة لامست خلايا جسده، فشعر بقشعريرة… . رمقه أحد الأطفال بنظرة صافية متأملة، فابتسم له… . الشاطئ المسكون بالحركة والسحر والجمال، يمتد… الوجوه هادئة كأنها ذاهبة في عالم من حلم . توقف قليلاً… مسح شعره بيد مرتعشة.. تابع خطواته… الرمل الناعم يلتصق بقدميه ثم ينزلق تاركاً بقية لا تريد أن تغادر.. شعر في لحظة ما أنه يسقط عن كتفيه تعب سنين طويلة.. عندها تمنى أن يعيش ماتبقى له من عمر إلى جانب هذا الأزرق الساحر… كان يعرف أن البحر رائع بكل ما فيه… . اقترب من الكرسي.. نفض عنه بعض الرمال بحركة آلية ساهمة…. جلس بهدوء… غرز قدميه في الرمل الرطب… . أغمض عينيه… جاءه صوت الموج مثل موسيقى تثير الأحلام وتحرك مراكب الحنين والشوق… بين تناوب المد والجزر، بحركات بطيئة هادئة، كانت قصيدة الوجود الساحر تحفر ظلالها في كل كرية من كرياته… أذناه تسكنان النغم، تأخذانه، تذهبان معه… أحس أنهما معلقتان على طرف موجة تفرد جناحيها وتطير كعصفور في الفضاء الرحب الواسع.. انبعثت في داخله صرخة مأخوذ ” يا ألله كم أنت رائع أيها الكون “… ثم قال بصوت دافئ: – ليتها أتت معي… الوجود أجمل من أن نشوهه بأشيائنا الصغيرة… !! كان صوت الموج يسكنه تماماً.. العالم من حوله استرخى.. قفز وجهها الجميل إلى مخيلته، وأخذ يرسم صور الأيام الماضية… انبعث صوت الداخل: ” الحياة تستحق أن نعيشها… كل شي فيها جميل ” نام على ذراع موجة وأخذ يحلم بأشياء جميلة . ***
من غرفة إلى غرفة أخذت تنتقل… خطواتها هامسة… تداعبُ الأشياء وتحدثها في بعض الأحيان… ما أن تجلس، حتى تتذكر شيئاً ما كانت قد نسيت أن تفعله.. تذهب إلى غرفة أخرى… تضع الوسادة على السرير… . ترتب الأغطية.. تذهب إلى المطبخ، تأخذ في تلميع الصحون بخرقة بيضاء جافة… ودون أن تهدأ تذهب إلى الشرفة، تسقي النباتات واحدة، واحدة… تدور وتدور.. يداهم الألم ظهرها، فتقف جامدة وترفع يديها إلى الأعلى وتنزلهما عدة مرات… . هناك في الغرفة التي أحبتها دائماً، تجلس على الكرسي، تمد قدميها على البلاط النظيف… تقع عيناها على جهاز الهاتف.. تتمنى أن ينبعث الرنين.. تتخيل حديثه العذب.. تندفع في أذنيها موسيقى الحروف وهي تخرج من فمه.. تقول بهمس : – ليته بقي هنا… لماذا ذهب ؟؟؟ كانت تتمنى أن يتصل من هناك.. أن يقول أي شيء… اقترب وجهه من مساحة نبضها… شعرت بأن آلاف الأوتار تعزف لحنها المحبب.. في فسحة الحلم تحولت إلى عصفور أخذ يحلق في الفضاء الرحب.. ارتسمت على شفتيها ابتسامة لا حدود لها. وحلّقت في فرح… ***
في الإناء الزجاجي الصغير، كانت السمكة تدور باحثة عن مخرج… كان الطفل مأخوذاً بحركاتها وألوانها الغريبة إلى حد ما… قال : – اصطدتها من البحر ياعم.. الحقيقة أبي اصطادها لي… نظر في عيني الطفل البريئتين وقال : – لكنها صغيرة يا بني… ماذا ستفعل بها ؟ أجاب الطفل : – سآخذها إلى البيت عندما نعود.. ربما سيصطاد أبي واحدة أخرى… – لا تحرمها من البحر يابني.. أعدها .. قبل أن يكمل ابتعد الولد فرحاً بسمكته.. ارتسمت الضحكة على شفتيه، ثم رفرفت في الفضاء القريب.. عندما كان صغيراً، ربما بعمر هذا الولد، كان يصطاد الأسماك بشبكة معدنية صغيرة.. يحدق في حركاتها قليلاً… ثم يعيدها إلى البحر.. يتذكر كيف كان والده يضحك ويهز رأسه باستغراب ربما !! أمه كانت تقول:” هذا الولد مليء بالحنان… لا يحب أن يعذب أي مخلوق”. ذهبت عيناه في البعيد.. قفزت الصورة إلى ذهنه صافية لامعة.. كانت زوجته هدى إلى جانبه… معاً أخذا يستمتعان بجمال البحر وسحره.. ذات مرة، أمسكا شبكة معدنية صغيرة، أنزلاها بهدوء، رفعاها، خمس سمكات أخذت ترف.. أعادها بحركة آلية إلى البحر.. ضحكت هدى… قالت: – لماذا اصطدتها مادمت ستعيدها إلى البحر؟؟ قال: – سبحان الله ما أجملها.. لكن من الصعب أن نحرمها من بحرها… أخذ يحكي لها عن طفولته.. عن عشقه للبحر.. عن حبه للحرية… قال: أتدرين ياهدى لاشيء مثل البحر يعبّر عن الحرية.. البحر هو الحرية..” عندما عادا في القطار.. أخذت تحدثه عن طفولتها.. قالت : أتدري لم أعرف البحر من قبل.. عندما ذهبت معك أول مرة كنت في غاية الخوف.. أتذكر؟؟ أرسل ضحكة صافية.. رنت ضحكته مثل شلال.. التفت بعض الركاب، نظروا إليه، وانتقلت إليهم صورة الابتسامة… عاد الطفل فرحاً بعد أن اصطاد أبوه سمكة أخرى… السمكتان تدوران في الإناء الضيق.. نظر إليهما وشعر بالحزن.. ابتعد الطفل.. بقيت دوائر الحزن معلقة في عينيه.. أخذ ينقل خطواته على الشاطئ الفسيح.. اقترب من الماء المالح.. ألقى جسده وأخذ يسبح.. استلقى على ظهره… . أغمض عينيه.. ترك جسده لحركة المد والجزر… كان البحر أمَّاً لا تعرف إلا الحنان… أخذت المسافات تتراقص بهدوء وجمال.. زوجته هدى إنسانة رائعة.. تذكرها بعمق… قال: – لماذا أصرت أن تبقى وحيدة في البيت ؟؟ ما أن يغضب الإنسان حتى تتطور الأمور.. هز رأسه بأسف… شعر أنه يسرق أشياء كثيرة من حياتها بابتعاده عنها.. فتح عينيه.. وقف على قدميه.. وأخذ يمشي بهدوء نحو الشاطئ… ***
الجارة أم ربيع قالت : – الله يعيده لك بالسلامة .. أخذت تحكي عن حب الجيران له….. هزت هدى رأسها موافقة… كانت تعرف مدى حب الناس لزوجها عبد العزيز…” ولماذا لا يحبه الجميع “؟؟ رجل بكل معنى الكلمة… مسكون بالحب… يساعد الجميع.. ابتسامته لا تعرف الانطفاء.. تركتها أم ربيع لشرودها وذهبت… في العام الأول من زواجهما، وبعد مرور عدة أشهر كانت الصدمة، قالت الطبيبة يومها: – التحليلات تثبت أنك غير قادرة على الحمل ياسيدة هدى…. لاتدري كيف استطاعت أن تبتلع الصدمة… عندما وصلت إلى البيت، وقفت أمامه حائرة ضائعة، تائهة.. بارتعاش قالت: – اسمع يا عبد العزيز… بإمكانك أن تتزوج من أخرى… لن أحرمك من الأولاد.. أعرف كم تحب الأطفال… بعدها أخذت تحكي عن أشياء كثيرة… من خلال دموعها تفجر حزن العالم كله… وضع يده بحنان على كتفها وقال: – اسمعي يا هدى… كل شيء بيد الله.. أنت عندي أهم من الأولاد.. لا تقلقي… رجته أن يتزوج… كانت تتمزق.. ترجوه وتنزف ألماً وانكساراً… أرادت أن يكون سعيداً في حياته.. لكنه بإصرار أبى، كان حبه لها أكبر من كل شيء….. ضمها إلى صدره…… مسح دموعها بقلبه وضلوعه.. ومضت السنوات.. السنوات الطويلة.. دون أن يشعرها في يوم من الأيام بأنه حزين.. أحياناً كثيرة كانت تشعر أنها ظلمته.. لكن ماذا كان عليها أن تفعل؟؟ هو لا يريد سواها… وهي في داخلها سعيدة بقراره هذا.. مرة قالت له : – لماذا لانتبنى ولداً يا عبد العزيز ؟؟ قال: – لا يا هدى ..تعودت على الحياة هكذا.. اطمئني… وقتها، ورغم سعادتها، شعرت بغصة في القلب… لكنها آثرت الصمت… . في بعض الأحيان كان يثور.. لابد من حدوث بعض المنغصات… كلمات.. عتاب… يتطور الأمر ويكبر.. ثم تعود المياه إلى مجاريها صافية هادئة.. لكنها المرة الأولى التي يتطور فيها الأمر إلى هذا الحد.. فجأة، وبعد ثورة من ثوراته، قرر أن يذهب إلى البحر… قال” بإمكانك أن تأتي” لكنه كان يريد أن يذهب وحيداً.. قرأت كل شيء في عينيه الثائرتين.. ما تعودت أن تبقى هكذا وحيدة.. كانت تشعر أنه الهواء الذي تتنفسه.. فكيف مضى هكذا… وتركها….. ملأت الدموع عينيها، وأخذت تبكي بحرقة . ***
شعر أنها تناديه.. سمع صوتها رغم طول المسافات.. لا أحد يستطيع أن يصدق أنه سمع صوتها.. لكن كثيرين من الأهل والأقارب آمنوا أنهما يستطيعان التخاطر عن بعد.. سنوات طويلة من الحب والتفاهم والقرب، جعلتهما متوافقين إلى حد غريب.. انبعث صوتها حاداً وكأنها تطلب النجدة.. بقلق وضع ملابسه في الحقيبة . ***
أخذت ترتب البيت.. عرفت أنه سيعود.. نظفت للمرة العاشرة الكرسي الذي تعود الجلوس عليه… مسحت الكتب.. صفّتها بالطريقة التي تعجبه… جهزت الطعام الذي يحب… وقفت أمام المرآة وأخذت تمشط شعرها، وتحاول أن تخفي الشعرات البيضاء.. ارتدت أجمل ملابسها.. وضعت في المزهرية عدة وردات.. جلست على الكرسي الذي تحبه.. كانت تشتعل بأروع انتظار… ***
صعد أول درجة.. تركتْ الكرسي.. الثانية.. خطتْ خطوتين… الثالثة.. الرابعة.. الخامسة.. السادسة.. كان باب البيت أمامها.. أخرج المفتاح من جيب بنطاله… وضعت يدها على مقبض الباب… وضع المفتاح.. أداره… أدارته.. انفتح الباب.. وارتسمت على الوجهين ابتسامتان بحجم العالم… عندها كانت الزهور التي في المزهرية، وتلك التي في الشرفة، ترسل عطرها وتحاول بكل ما لديها من فرح، أن تضحك لنهار جديد… …..
واشتعل الرأس جنوناً… !!
قصة : طلعت سقيرق
لا أدري بالتحديد من أين أبدأ… . أحياناً تصبح الأشياء والأمور غائمة إلى حد مرعب.. يا سيدي أنا المدعو سحبان التائه أبو الندى… . لا يهم على ما أعتقد، أن أشرح كيف ركب هذا الاسم، وكيف جاء على هذا الشكل الغريب العجيب.. هكذا شرفت إلى الدنيا… .وهكذا طاب للأهل رحمة الله عليهم، أن يلصقوا بي هذا الاسم، ليكون عنواني الشخصي الذي بقي معي طوال سنوات العمر.. أعرف أنّ الأمر بهذا الخصوص لا يعنيك.. لذلك سأترك هذه النقطة معلقة.. وعليّ حسب رأي سيادتك، أن أشرح وأحلل الوقائع التي جرت، قبل مثولي بين يديكم.. والفاصلة الأهم في كل ذلك، أنك تعتبرني غير مجنون… وهنا المصيبة.. الجنون شرف أدّعيه، وأنت، أقصد سيادتك، ترفض أن تمنحني الحق في اكتساب هذا الشرف… !!.. خمسة أطباء من خيرة أطباء المدينة، قالوا وأعلنوا أنني مجنون.. لماذا تكذّبُ كل هؤلاء، وتصر على وجود مساحة كبيرة من العقل في رأسي؟؟.. وعلى هذا الأساس، وهو أساس متين متماسك بالنسبة لك، تصر على تعذيبي، لتجعلني عبرة لمن يعتبر.. وأنا في الحقيقة،
أختلف معك حول هذه النقطة بالتحديد ؟، نقطة من” يعتبر” !!.. إذ أن الجميع على حدّ علمي، ودون أي استثناءات تذكر، يعتبرون ويسيرون على الصراط المستقيم… فما الداعي، وما الدافع، لأن أكون عبرة… . صدقني أنا لست أكثر من إنسان مسكين، مجنون… .!!.. ولا
تجوز على أمثالي، إلا الشفقة.. لأن الشفقة على المجانين حسنة !!.. كل هذا لن يغير رأيك.. لا بأس… يا سيدي، سأدخل في لبّ الموضوع كما يقولون.. وأقول لك بالمختصر المفيد، إنني كنت أنا سحبان التائه أبو الندى، مثل الكثيرين من خلق الله، لا أعرف إلا الحب والجمال والروعة… ابتسامتي ابتسامة حقيقية، تنبع من الداخل.. سعادتي سعادة متوقدة تعبر عن صدق إحساسي بجمال الأشياء.. وهي لا تشبه أي سعادة معلبة تظهر على الوجوه دون مرتكزات حقيقية.. هكذا كنت، فتصور جمال الحياة، حين تكون هكذا؟؟..!!.. كانت زوجتي جميلة.. أجمل مما تتصور.. رائعة، أروع من أي وصف.. وقد تهمك مثل هذه الأمور التي تتعلق بجمال النساء . هذا هم مشترك على ما يبدو عند الرجال.. صفاء هذه، أقصد زوجتي، كانت أجمل الجميلات.. ربما تريد أن تسألني عنها ؟؟؟… وحتى أختصر أقول لك، زوجتي هذه ماتت قهراً.. لذلك لا يهم أن أصفها لك كما يحلو لي.. أتدري ما معنى أن يموت الإنسان قهرا؟؟ قد تسأل عن الأسباب التي جعلتها تفطس قهراً؟؟ وسأجيب أيضاً باختصار: كل شيء حولها كان يدعو إلى القهر.. ماتت رحمها الله، وتركت لي كمّاً من المشاكل، ما كنت أعرف عنه أي شيء.. كانت المسكينة تحمل هموم الدنيا وحدها.. وما كنت أنا المدعو سحبان التائه أبو الندى، إلا الرجل الذي يعطي الأوامر، والمصروف الهزيل المتهالك، ويمضي شاعراً بنشوة الرجولة والذكورة.. المسكينة ماتت ..!! وبعدها حدث ما حدث… كان عليّ، ودون مقدمات، أن أرعى تسعة أولاد.. هل تظن يا سيدي أن المسألة سهلة.. لا تحدثني عن تحديد النسل، لأن الأولاد موجودون، لا أستطيع أن أعيدهم من حيث أتوا… . أيضاً الأمر لا يعنيك، لكنه يعنيني.. تصور، تسعة أولاد… كان عليّ أن أعمل طوال النهار مثل الحمار، لتأمين لقمة العيش لهم.. إضافة إلى ذلك، عليّ أن أطبخ، وأغسل، وأكوي، وأنظف.. والأهم من كل ذلك، وهو المثير في الموضوع ” أن أبتسم “… كيف تأتي الابتسامة، وبأي شكل من الأشكال يمكن أن ترسمها على شفتيك؟؟ لا يهم.. عليك أن تبتسم، وإذا لم تبتسم، كما قال لي أحد الأطباء المحترمين، ستتشكل عند كل واحد منهم عقدة نفسية.. يا لطيف ألطف.. تصور عقدة نفسية… ولأن البلاد تحتاج، كما قيل لي بالتفصيل الممل، إلى جيل ممتلئ بالصحة النفسية.. فقد كان عليّ أن أبتسم.. و جربت ..!! بعد مدة، لا أدري طولها أو عرضها بالتحديد، شعرت بأنني أشيخ.. الهرم دخل قاموس حياتي قبل الأوان.. أنا الذي كنت ممتلئاً بالصحة والشباب والعافية.. صرت إنسانا هرماً.. أسحب خطواتي سحبا.. داخلي يبكي.. يصرخ، يتمزق.. وأنا أبتسم ..رفعت شعاراً لا أحيد عنه” ابتسم رغم كل شيء”… . شعار جميل كما ترى.. لكن الصغير المدعو أحمد، وهو أصغرمن سعيد بثلاث سنوات على ما أذكر، لاحظَ أنني أبتسم ببلاهة وهبل، وبرود.. عندها – أبعد الله عنك كل مكروه – تشكلت عنده عقدة نفسية.. الجيران الذين لا يعرفون إلا الابتسام، علموا.. وقامت القيامة.. عقدوا مجلساً تأديبياً، لمحاكمة المتهم سحبان التائه أبو الندى.. وصدر القرار، وهو قرار حكيم منصف لا أعترض عليه، بأن أبتسم بإشراق وود وصفاء.. هل أخبرتك أن زوجتي المسكينة كان اسمها صفاء ..؟؟ وأنني سأوضع تحت الرقابة لمدة محددة.. المهم في الموضوع أنني أخذت أبتسم بشكل جديد.. كان عليّ أن أنفّذ.. الأولاد كما تعلم، أولاد الوطن.. وأنا أعبد الوطن بعد الله.. صحيح أنني لا أملك شيئاً من حطام الدنيا، لكنّ حبي للوطن لا تشوبه شائبة… أرجوك يا سيدي دعني أتابع… لا يمكن أن تفهم قصتي دون سرد كل هذه الأحداث.. كما تشاء، سأنتقل إلى المهم.. كل هذه الأشياء التي ذكرتها غير مهمة… . تسعة أولاد ليذهبوا إلى الجحيم.. !! كما قلت لك، كنت ومازلت – وإن كنت مجنوناً – مسكوناً بحب الوطن. لا تظن أنني تغيرت.. حب الوطن لا يتغير ولا يتبدل.. لكن – عليك أن تنتبه جيداً إلى لكن هذه – الحالة التي وصل إليها الوطن العربي أربكتني.. شغلتني عن التفكير بالأولاد، وهم تسعة كما أخبرتك.. صرت عن سابق إصرار وترصد، أتابع الأخبار.. وأي أخبار.. تصور هكذا أنا المدعو سحبان التائه أبو الندى، صرت مشغوفاً بمتابعة الأخبار.. وليتني لم أفعل… كل شيء كان يبعث على الأسى والاشمئزاز.. مرات عديدة بعد سماع الأخبار كنت أتقيأ.. أدخل إلى المرحاض – وهو ضيق إلى حد الاختناق – وأتقيأ.. الأولاد كلهم أصبحوا معقدين… . قلتُ:” الأخبار أهم “… . رصاص.. حرائق.. انتهاكات.. دمار.. جوع.. تخمة.. صراعات وقتال بين الأخوة.. صحت:” لماذا يحدث كل هذا “؟؟.. جاء الجواب سريعاً: ” عليك أن تبتسم “… هنا يا سيدي، قامت قيامتي، رفضت أن أبتسم، رفضت أن أرضخ لأوامر الابتسام العجيبة هذه… . عدة مرات حوكمت.. وكادت قضيتي، لأهميتها القصوى كما قيل لي، أن تنتقل لمجلس
الأمن… مجلس الأمن يحكم كثيراً بمثل هذه الأمور الفردية.. ورغم ذلك – ومع خوفي وارتعاشي من تدخل قوات مجلس الأمن – بقيت كئيباً… هل أبتسم والحال وصلت إلى ما وصلت إليه؟؟.. عندها قرّ قرار الجميع على ضرورة تحويلي لمصح.. وجاءت التقارير لتؤكد أنني ” مجنون “.. قلت جاء الفرج.. المهم: لا أريد أن أبتسم.. أتدري من حسنات الجنون، أنه يتيح لك أن تقول وأن تفعل ما تريد.. مثلاً تستطيع أن تقول ببساطة: كيف يجوز لشمعون بيريز – وكان رئيساً لوزراء العدو كما تعلم – أن يتجول في عواصم عربية كثيرة بكل حرية، وكأنه من أبناء جلدتنا أو أعز؟؟ وكيف يجوز للوفود الإسرائيلية أن
تسرح وتمرح في الكثير من الأماكن العربية؟؟ وفي الوقت ذاته تقصف القوات الإسرائيلية جنوب لبنان، وتقتل وتذبح أهل هذا الجنوب الصامد؟؟ ثم كيف وعلى أي أساس يصير” السلام” مع القاتل قطعة حلوى يتناولها كل واحد وهو يرقص ويهلل، وكأنه حقق نصراً مبيناً؟؟ و الأنكى من كل ذلك، أن يتسابق المسؤولون، لفتح أبواب بلادهم أمام هؤلاء القتلة !!..ياسيدي دم الشهداء لم يجف بعد.. هذا حرام… . ” إشارة عاجلة للمؤلف: نظرا للتطور الهائل في الاختراعات والتقنيات، وبما أنه صار بإمكاننا أن نطلع على أوراق الكاتب أثناء الكتابة، لذلك يطلب من المؤلف المدعو طلعت محمود سقيرق، وحفاظاً على شعور وأحاسيس بعض الإخوة العرب،يرجى حذف الجمل والعبارات التي تمس مشاعر سعادتهم.. يرجى التنفيذ الفوري “.. … ” جواب عاجل جداً: إلى هؤلاء الواقفين على ريشة القلم، لا أستطيع يا سادتي أن أفرض على الشخصية القصصية تغيير مجرى الأحداث.. أنتم تعرفون يا كرام أن الفن فن… وحرية الفن !!…”…!! .. إشارة عاجلة: يطلب من المدعو طلعت محمود سقيرق الاحتفاظ بقصته في الدرج بعد الانتهاء من كتابتها، مادام مصرا على زعزعة الثقة المتبادلة بين الأخوة العرب “..” جواب غير عاجل: إلى هؤلاء الواقفين على السطور.. سأفعل ما تريدون.. سأخفي القصة بعد الانتهاء من كتابتها.. رجاء ترك المجال للشخصية حتى تكمل سيرتها.. ولكم كل الشكر والتقدير والاحترام “… …” إشارة: تابع “.. أين كنا ياسيدي.. أما قلت لك إن الأشياء تصبح في بعض الأحيان غائمة إلى حد مرعب.. تصور: أنا المدعو سحبان التائه أبو الندى، المجنون المسكين، يريدون شطب كلامي… لماذا ..؟؟؟ وما الداعي إلى ذلك، ما دام كلامي كلام مجانين ؟؟… لا بأس.. لا بأس.. سأعود إلى الموضوع، أعرف أنك تغضب بسرعة، وأن غضبك يقيم الدنيا ولا يقعدها ..لكنني في الحقيقة ضعت.. ما عدت أعرف من أين أبدأ أو أتابع.. تصور خمسة أطباء قالوا إنني مجنون وأنت لا تريد أن تصدق.. أظن أنني كنت أتحدث عن أطفال فلسطين.. لا.. لا.. ربما عن المجازر.. مجزرة الحرم.. مجزرة قانا… لا.. لا.. أظن أنني كنت أتحدث عن أشياء أخرى.. أي نظام شرق أوسطي جديد هذا الذي يريدون أن يقيموه ؟؟؟ هل قلت لك إن نصف الأولاد تشردوا في الشوارع.. ليس نصفهم تماماً.. أربعة أولاد
فقط.. الكذب غير جائز… والمثير في الأمر أنهم أصبحوا أفضل بكثير من ذي قبل.. تصور أن يكون التشرد والتسكع عنوان صحة وعافية.. يأكلون.. يشربون… . ويدخنون أفضل أنواع السجائر المستوردة.. ينامون على الأرصفة.. يصرفون على بقية إخوتهم.. هل هناك أروع من هذا الأسلوب الحضاري.. المتشرد يصرف على بقية القوم… . سأعترف لك الآن بشيء هام.. أحد هؤلاء المتشردين، وهو ابني سامر، طلب مني أن أتزوج، وقال إنه سيتكفل بكل المصاريف.. لا أعرف بالتحديد من أين يأتي بكل هذا المال.. أنت تريد أن أبتعد عن موضوع السياسة.. فماذا أقول لك؟؟ بقية الأولاد بصحة جيدة والحمد لله.. كل عقدهم النفسية حلت.. أنا الوحيد الذي بقيت معقداً في العائلة.. ووصلت إلى هذا الحد من الجنون الذي لا تريد أن تعترف به… !! أعرف أن جملي أصبحت مفككة.. أظن وهذا أمر في غاية الأهمية، أن الكاتب أصبح خائفاً بعد الإشارات التي وردت دون سابق إنذار.. تصور أن يكتب المؤلف وهو يرتعش.. كيف تريد لكلماته أن تكون مترابطة .؟؟ حقاً لقد تطور العلم بشكل مذهل.. كنت أشعر أحياناً أنهم يراقبونني وأنا أمارس الجنس مع زوجتي.. قلت لك زوجتي صفاء كانت في غاية الجمال ..ربما وصلوا إلى أشياء جعلتها تموت قهراً.. المسكينة ذوت وذبلت مثل الوردة.. !!يتمتني ويتمت الأولاد.. العلم تطور بشكل مثير يا سيدي.. تصور أن تتحرك وأنت تشعر أن فوق كتفيك رقيباً عتيداً من البشر ..؟؟ كيف لك عندها أن تدوزن خطواتك.. المسألة طبعاً تحتاج إلى وقت حتى تتعود على هذا التطور العلمي الرائع.. أقمار صناعية في كل مكان.. كأنهم زرعوا هذه الأقمار الملعونة في رؤوسنا.. بيريز راح، نتنياهو جاء.. نتنياهو راح بيريز جاء.. وجه واحد صدقني.. حتى الايدز حاولوا أن يهربوه إلى البلاد العربية.. ماذا ؟؟.. ماذا تقول” كل كلامي كلام مجانين “… أصبحت تعتقد الآن أنني مجنون ..؟؟ يا لسعادتي.. صدقني هذا من دواعي سروري وغبطتي.. هذا يعني أنني غير مطالب بالابتسام.. أنا المدعو سحبان التائه أبو الندى غير مطالب بالابتسام… . هذا أروع خبر أسمعه في هذا الزمان… ياسبحان الله كم أنت ودود وكريم.. أعرف أن حركاتي وسكناتي ستكون تحت رقابة تقنيات العلم الحديث.. لا يهم.. كل شيء سيكون تحت عنوان الجنون.. أرجوك، لا داعي لإرسال أحد معي.. أعرف الطريق جيداً. أتدري هناك في مشفى الأمراض العقلية كلهم مثلي… ما أجمل أن أعيش بينهم.. أرجوك ابتسم.. إياك أن تنسى الابتسام ..المكان عندنا غص بالقادمين، وما عاد يتسع… لذلك ابتسم أرجوك.. حافظ على ابتسامتك حتى لا نضطر لتوسيع المكان عندنا.. !! أرجوك ..!! ابتسم!!.. ” نداء من المؤلف المدعو طلعت محمود سقيرق: الرجاء نشر هذه القصة في مكان لم يصب بالايدز الإسرائيلي.. ولكم الشكر والاحترام “..
|
|
![]() |
|
|
![]() |
زهرة حب لنهار جديد… .
قصة : طلعت سقيرق
البحر يمتد بزرقة لانهاية لها….. الشمس تسعى نحو الغروب… … الناس يتجولون هنا وهناك جماعات وفرادى… . نفض ما علق على جسمه من ماء بحركات متتابعة… نسمات لطيفة لامست خلايا جسده، فشعر بقشعريرة… . رمقه أحد الأطفال بنظرة صافية متأملة، فابتسم له… . الشاطئ المسكون بالحركة والسحر والجمال، يمتد… الوجوه هادئة كأنها ذاهبة في عالم من حلم . توقف قليلاً… مسح شعره بيد مرتعشة.. تابع خطواته… الرمل الناعم يلتصق بقدميه ثم ينزلق تاركاً بقية لا تريد أن تغادر.. شعر في لحظة ما أنه يسقط عن كتفيه تعب سنين طويلة.. عندها تمنى أن يعيش ماتبقى له من عمر إلى جانب هذا الأزرق الساحر… كان يعرف أن البحر رائع بكل ما فيه… . اقترب من الكرسي.. نفض عنه بعض الرمال بحركة آلية ساهمة…. جلس بهدوء… غرز قدميه في الرمل الرطب… . أغمض عينيه… جاءه صوت الموج مثل موسيقى تثير الأحلام وتحرك مراكب الحنين والشوق… بين تناوب المد والجزر، بحركات بطيئة هادئة، كانت قصيدة الوجود الساحر تحفر ظلالها في كل كرية من كرياته… أذناه تسكنان النغم، تأخذانه، تذهبان معه… أحس أنهما معلقتان على طرف موجة تفرد جناحيها وتطير كعصفور في الفضاء الرحب الواسع.. انبعثت في داخله صرخة مأخوذ ” يا ألله كم أنت رائع أيها الكون “… ثم قال بصوت دافئ: – ليتها أتت معي… الوجود أجمل من أن نشوهه بأشيائنا الصغيرة… !! كان صوت الموج يسكنه تماماً.. العالم من حوله استرخى.. قفز وجهها الجميل إلى مخيلته، وأخذ يرسم صور الأيام الماضية… انبعث صوت الداخل: ” الحياة تستحق أن نعيشها… كل شي فيها جميل ” نام على ذراع موجة وأخذ يحلم بأشياء جميلة . ***
من غرفة إلى غرفة أخذت تنتقل… خطواتها هامسة… تداعبُ الأشياء وتحدثها في بعض الأحيان… ما أن تجلس، حتى تتذكر شيئاً ما كانت قد نسيت أن تفعله.. تذهب إلى غرفة أخرى… تضع الوسادة على السرير… . ترتب الأغطية.. تذهب إلى المطبخ، تأخذ في تلميع الصحون بخرقة بيضاء جافة… ودون أن تهدأ تذهب إلى الشرفة، تسقي النباتات واحدة، واحدة… تدور وتدور.. يداهم الألم ظهرها، فتقف جامدة وترفع يديها إلى الأعلى وتنزلهما عدة مرات… . هناك في الغرفة التي أحبتها دائماً، تجلس على الكرسي، تمد قدميها على البلاط النظيف… تقع عيناها على جهاز الهاتف.. تتمنى أن ينبعث الرنين.. تتخيل حديثه العذب.. تندفع في أذنيها موسيقى الحروف وهي تخرج من فمه.. تقول بهمس : – ليته بقي هنا… لماذا ذهب ؟؟؟ كانت تتمنى أن يتصل من هناك.. أن يقول أي شيء… اقترب وجهه من مساحة نبضها… شعرت بأن آلاف الأوتار تعزف لحنها المحبب.. في فسحة الحلم تحولت إلى عصفور أخذ يحلق في الفضاء الرحب.. ارتسمت على شفتيها ابتسامة لا حدود لها. وحلّقت في فرح… ***
في الإناء الزجاجي الصغير، كانت السمكة تدور باحثة عن مخرج… كان الطفل مأخوذاً بحركاتها وألوانها الغريبة إلى حد ما… قال : – اصطدتها من البحر ياعم.. الحقيقة أبي اصطادها لي… نظر في عيني الطفل البريئتين وقال : – لكنها صغيرة يا بني… ماذا ستفعل بها ؟ أجاب الطفل : – سآخذها إلى البيت عندما نعود.. ربما سيصطاد أبي واحدة أخرى… – لا تحرمها من البحر يابني.. أعدها .. قبل أن يكمل ابتعد الولد فرحاً بسمكته.. ارتسمت الضحكة على شفتيه، ثم رفرفت في الفضاء القريب.. عندما كان صغيراً، ربما بعمر هذا الولد، كان يصطاد الأسماك بشبكة معدنية صغيرة.. يحدق في حركاتها قليلاً… ثم يعيدها إلى البحر.. يتذكر كيف كان والده يضحك ويهز رأسه باستغراب ربما !! أمه كانت تقول:” هذا الولد مليء بالحنان… لا يحب أن يعذب أي مخلوق”. ذهبت عيناه في البعيد.. قفزت الصورة إلى ذهنه صافية لامعة.. كانت زوجته هدى إلى جانبه… معاً أخذا يستمتعان بجمال البحر وسحره.. ذات مرة، أمسكا شبكة معدنية صغيرة، أنزلاها بهدوء، رفعاها، خمس سمكات أخذت ترف.. أعادها بحركة آلية إلى البحر.. ضحكت هدى… قالت: – لماذا اصطدتها مادمت ستعيدها إلى البحر؟؟ قال: – سبحان الله ما أجملها.. لكن من الصعب أن نحرمها من بحرها… أخذ يحكي لها عن طفولته.. عن عشقه للبحر.. عن حبه للحرية… قال: أتدرين ياهدى لاشيء مثل البحر يعبّر عن الحرية.. البحر هو الحرية..” عندما عادا في القطار.. أخذت تحدثه عن طفولتها.. قالت : أتدري لم أعرف البحر من قبل.. عندما ذهبت معك أول مرة كنت في غاية الخوف.. أتذكر؟؟ أرسل ضحكة صافية.. رنت ضحكته مثل شلال.. التفت بعض الركاب، نظروا إليه، وانتقلت إليهم صورة الابتسامة… عاد الطفل فرحاً بعد أن اصطاد أبوه سمكة أخرى… السمكتان تدوران في الإناء الضيق.. نظر إليهما وشعر بالحزن.. ابتعد الطفل.. بقيت دوائر الحزن معلقة في عينيه.. أخذ ينقل خطواته على الشاطئ الفسيح.. اقترب من الماء المالح.. ألقى جسده وأخذ يسبح.. استلقى على ظهره… . أغمض عينيه.. ترك جسده لحركة المد والجزر… كان البحر أمَّاً لا تعرف إلا الحنان… أخذت المسافات تتراقص بهدوء وجمال.. زوجته هدى إنسانة رائعة.. تذكرها بعمق… قال: – لماذا أصرت أن تبقى وحيدة في البيت ؟؟ ما أن يغضب الإنسان حتى تتطور الأمور.. هز رأسه بأسف… شعر أنه يسرق أشياء كثيرة من حياتها بابتعاده عنها.. فتح عينيه.. وقف على قدميه.. وأخذ يمشي بهدوء نحو الشاطئ… ***
الجارة أم ربيع قالت : – الله يعيده لك بالسلامة .. أخذت تحكي عن حب الجيران له….. هزت هدى رأسها موافقة… كانت تعرف مدى حب الناس لزوجها عبد العزيز…” ولماذا لا يحبه الجميع “؟؟ رجل بكل معنى الكلمة… مسكون بالحب… يساعد الجميع.. ابتسامته لا تعرف الانطفاء.. تركتها أم ربيع لشرودها وذهبت… في العام الأول من زواجهما، وبعد مرور عدة أشهر كانت الصدمة، قالت الطبيبة يومها: – التحليلات تثبت أنك غير قادرة على الحمل ياسيدة هدى…. لاتدري كيف استطاعت أن تبتلع الصدمة… عندما وصلت إلى البيت، وقفت أمامه حائرة ضائعة، تائهة.. بارتعاش قالت: – اسمع يا عبد العزيز… بإمكانك أن تتزوج من أخرى… لن أحرمك من الأولاد.. أعرف كم تحب الأطفال… بعدها أخذت تحكي عن أشياء كثيرة… من خلال دموعها تفجر حزن العالم كله… وضع يده بحنان على كتفها وقال: – اسمعي يا هدى… كل شيء بيد الله.. أنت عندي أهم من الأولاد.. لا تقلقي… رجته أن يتزوج… كانت تتمزق.. ترجوه وتنزف ألماً وانكساراً… أرادت أن يكون سعيداً في حياته.. لكنه بإصرار أبى، كان حبه لها أكبر من كل شيء….. ضمها إلى صدره…… مسح دموعها بقلبه وضلوعه.. ومضت السنوات.. السنوات الطويلة.. دون أن يشعرها في يوم من الأيام بأنه حزين.. أحياناً كثيرة كانت تشعر أنها ظلمته.. لكن ماذا كان عليها أن تفعل؟؟ هو لا يريد سواها… وهي في داخلها سعيدة بقراره هذا.. مرة قالت له : – لماذا لانتبنى ولداً يا عبد العزيز ؟؟ قال: – لا يا هدى ..تعودت على الحياة هكذا.. اطمئني… وقتها، ورغم سعادتها، شعرت بغصة في القلب… لكنها آثرت الصمت… . في بعض الأحيان كان يثور.. لابد من حدوث بعض المنغصات… كلمات.. عتاب… يتطور الأمر ويكبر.. ثم تعود المياه إلى مجاريها صافية هادئة.. لكنها المرة الأولى التي يتطور فيها الأمر إلى هذا الحد.. فجأة، وبعد ثورة من ثوراته، قرر أن يذهب إلى البحر… قال” بإمكانك أن تأتي” لكنه كان يريد أن يذهب وحيداً.. قرأت كل شيء في عينيه الثائرتين.. ما تعودت أن تبقى هكذا وحيدة.. كانت تشعر أنه الهواء الذي تتنفسه.. فكيف مضى هكذا… وتركها….. ملأت الدموع عينيها، وأخذت تبكي بحرقة . ***
شعر أنها تناديه.. سمع صوتها رغم طول المسافات.. لا أحد يستطيع أن يصدق أنه سمع صوتها.. لكن كثيرين من الأهل والأقارب آمنوا أنهما يستطيعان التخاطر عن بعد.. سنوات طويلة من الحب والتفاهم والقرب، جعلتهما متوافقين إلى حد غريب.. انبعث صوتها حاداً وكأنها تطلب النجدة.. بقلق وضع ملابسه في الحقيبة . ***
أخذت ترتب البيت.. عرفت أنه سيعود.. نظفت للمرة العاشرة الكرسي الذي تعود الجلوس عليه… مسحت الكتب.. صفّتها بالطريقة التي تعجبه… جهزت الطعام الذي يحب… وقفت أمام المرآة وأخذت تمشط شعرها، وتحاول أن تخفي الشعرات البيضاء.. ارتدت أجمل ملابسها.. وضعت في المزهرية عدة وردات.. جلست على الكرسي الذي تحبه.. كانت تشتعل بأروع انتظار… ***
صعد أول درجة.. تركتْ الكرسي.. الثانية.. خطتْ خطوتين… الثالثة.. الرابعة.. الخامسة.. السادسة.. كان باب البيت أمامها.. أخرج المفتاح من جيب بنطاله… وضعت يدها على مقبض الباب… وضع المفتاح.. أداره… أدارته.. انفتح الباب.. وارتسمت على الوجهين ابتسامتان بحجم العالم… عندها كانت الزهور التي في المزهرية، وتلك التي في الشرفة، ترسل عطرها وتحاول بكل ما لديها من فرح، أن تضحك لنهار جديد… …