www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

التنمية أيديولوجيا قبل أن تكون تكنولوجيا/أسامة عكنان

0

إن أي حديث عن برنامج تنموي صحيح وغير مغلوط، أو عن رؤية تنموية مجدية وغير مشوهة في الوطن العربي، يغدو لغوا لا معنى له، وهدرا للجهد والموارد، وإمعانا في التضليل، إذا حصر آليات التصحيح المطروحة وآفاق الرؤية المقترحة، في نطاق التقنيات الكلاسيكية التي تزخر بها أدبيات مُنَظِّري اقتصاد السوق.

التنمية أيديولوجيا قبل أن تكون تكنولوجيا

أسامة عكنان
عمان – الأردن

    إن أي حديث عن برنامج تنموي صحيح وغير مغلوط، أو عن رؤية تنموية مجدية وغير مشوهة في الوطن العربي، يغدو لغوا لا معنى له، وهدرا للجهد والموارد، وإمعانا في التضليل، إذا حصر آليات التصحيح المطروحة وآفاق الرؤية المقترحة، في نطاق التقنيات الكلاسيكية التي تزخر بها أدبيات مُنَظِّري اقتصاد السوق.
فمادامت هذه التقنيات قد أوجدت في الأصل لتمرير ما من شأنه الإبقاء على زخم الحياة ورمق الروح في نظام اقتصادي محدد، سواء على الصعيد العالمي بالدرجة الأولى من جهة، أو على صعيد الاقتصادات المحلية للدول التي تنتهجه نظاما اقتصاديا لها من جهة أخرى، ألا وهو الاقتصاد الرأسمالي، المسمى اصطلاحا – بناء على الركيزة الفلسفية الأساس له – “اقتصاد السوق”.. نقول.. مادامت هذه التقنيات قد أوجدت في الأساس لذلك الغرض، فكم يكون أحمقا ذلك الذي يتصور أن التصحيح التنموي قضية فنية وليست أيديولوجية أولا وقبل كل شيء.
تتبارى أقلام المحللين الاقتصاديين، ويتلاهثون وهم يتسابقون على تحليل المؤشرات الاقتصادية في بلدانهم، بين محاولٍ لإثبات أن الخطط التنموية التي وضعتها المؤسسات الرأسمالية ونَظَّرَت لأجلها مناسبة للاقتصاديات العربية, ومحاولٍ لإثبات أن هذه الخطط غير مناسبة لذلك. وفي غمرة التشنجات التي تسود أولئك الذين يفتخرون بما يزعمون أنه تحرر من إسقاطات الأيدولوجيا في المجال الاقتصادي, تغيب الأسس التأصيلية الحقيقية القادرة وحدها على تشخيص مرض اقتصادي سيزداد تفاقما كلما تصورنا أنه راجع ابتداء إلى خلل فني وإداري وليس إلى خلل أيديولوجي ومبدئي.
فكل تنمية تتخذ طابعا تكنولوجيا وإداريا عندما تنصب باتجاه وضع الحلول للاختلالات الهيكلية في اقتصاد ما يراد الحفاظ على ركائزه المبدئية دون أن تُمَس، فيما تتخذ طابعا أيديولوجياً، إذا كانت غايتها تحقيق الأهداف الاقتصادية المعلنة والمحددة كإستراتيجيات، للبحث بعد ذلك عن النظام الاقتصادي الذي من شأنه أن يسهل تحقيقها والوصول إليها.
    فعندما نتحدث عن تصحيح تنموي أو عن تنمية غير مشوهة, أليس ذلك لأننا ننطلق من قاعدة أن هناك خطأً وتشويها يحتاجان إلى هذا التصحيح؟ وبالتالي ألا تقتضي الحكمة والمفردات البديهية للموضوعية، أن نبحث عن آليات التصحيح المفترضة، في سياق آخر غير السياق السائد، يبدأ قطعا وبلا أدنى ريبة أو شك من تشريح ظاهرة الخطأ والانحراف والتشويه لمعرفة الأسباب العميقة التي سببت كل ذلك وأدت إليه, قبل ممارسة أسلوبٍ مفعمٍ بتضليل الآخرين، عبر تصوير سبب التشويه بأمور ظاهرة ذات طبيعة تقنية؟
جميل جدا أن نستشعر الحرقة والمرارة في أقلام هؤلاء الذين تصدوا للحديث عن ظاهرة التشويه التنموي الذي نعاني منه, ففي هذه الحرقة وفي تلك المرارة دلالة على الانتماء. ولكن المؤلم حقا أن معظم إن لم يكن كل هؤلاء لم يبحثوا في العمق, ولم يحاولوا الكشف عن الأسباب الجوهرية لهذا التشوه الذي يعاني منه اقتصادنا وتعاني منه تنميتنا، منذ أن نلنا استقلالنا السياسي، هذا إن كنا قد نلناه فعلا!!
    إن المعضلة التي تفرض نفسها على الطبيب فيما يتعلق بمرض السرطان, تتبدى في أن العلم لم يصل إلى معرفة السبب العميق للورم السرطاني بعد, الأمر الذي لا يكفي معه استئصال الورم الخبيث من مكان وجوده الظاهر ما دام ظهوره في مكان آخر بعنف أكثر شراسة، وبقوة أكثر تدميرا ممكن في ظل بقاء مسبباته العميقة بعيدة عن مبضع الجراح. وهذا التشخيص هو على وجه الدقة ما نراه ينطبق على برامج إنقاذ التنمية العربية من التشوه الذي نعاني منه.
إن المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد العربي أو أي اقتصاد رأسمالي حر يعتمد السوق نظاما لآلياته – والاقتصاديات العربية هي في معظمها اقتصاديات سوق في شكلها وظاهرها العام – هي مشكلات ذاتية مرتبطة بطبيعة هذا الاقتصاد وهذا النظام أولا وأخيرا, قبل أن تكون ناتجة عن خلل في الوصفات الفنية أو في تطبيقها، أو عن فسادٍ وسوءِ إدارةٍ فقط.
الخلل في الوصفات هو نتاجُ جهلٍ وعدم درايةٍ وقلة خبرةٍ، والفساد هو نتيجة دكتاتورية في الحكم تغيب معها الحرية والرقابة الصارمة على حركة المال العام وفق منظومة من القيم التي تحترم هذا المال وتقدس مصدره وتحرص على وضوح وشفافية وجهته. ولا هذه ولا تلك موجودتان في دول مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا واليابان وكندا والولايات المتحدة وغيرها من دول قمة الهرم الرأسالي المركزي الأكثر تطورا في العالم. ومع ذلك فالمشكلات التي تعاني منها اقتصادات تلك الدول، هي ذاتها التي تعاني منها دول التخوم الرأسمالية. وهذه مسألة غاية في الأهمية جديرة بالوقوف عندها.
فالبطالة والتضخم والمديونية وتذبذب الأسعار وتقلبات السوق وغيرها, ليست قضايا دخيلة على اقتصاد السوق بسبب انحرافات فنية هنا ومظاهر فساد هناك، بل هي قضايا لصيقة بهذا الاقتصاد لن يتحرر منها وان حاول, إلا أن يتغير على أرضية أيديولوجية. وبالتالي فإن كل وصفة أو خطة توضع للتحرر من تلك المشكلات وتبقى متمحورة حول أسس هذا النظام عموما وحريصة على عدم المساس بها أو تهديد حقيقة كونها عماد الحراك الاقتصادي في الاقتصاد المستهدف بتلك الوصو أو الخطة، هي كذبة وفرية كبيرة آن الأوان كي تكف عنها كل الأطراف المضللة التي لا تجد رواج سلعها إلا في مستنقعات التخدير والترحيل.
    يجب أن نعي أن اقتصاد السوق الرأسمالي له مركز وتخوم, المركز هناك حيث الشمال المتخم بفائض القيمة التاريخي الذي أتاحته قرون طويلة من الاستعمار والاستنزاف البشع لتلك التخوم، وبفائض القيمة العالمي الراهن الذي أتاحته آليات ما بعد الاستعمار, أما التخوم فهي هنا حيث الجنوب المتخم بالتبعية وبمحاولة التحرر من آليات التراجع التي خلفها الاستعمار.
ومع أن المشكلات الاقتصادية في كل من المركز الرأسمالي والتخوم الرأسمالية تكاد تكون واحدة ومتشابهة في الجوهر, فإن طبيعة المراكز الاقتصادية التي خلفها التاريخ جعلت تأثيراتها في المركز تختلف عنها في التخوم, كما جعلت التعاطي معها هناك يختلف عنه هنا. إن البطالة موجودة في الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وكندا وايطاليا وغيرها من الدول المتقدمة, وهي موجودة في الكاميرون والكونغو والبرازيل والأردن والهند وإيران.
وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية مثقلة بأكبر مديونية في العالم, والتضخم يتفشى في الدول المصنعة كما يتفشى في الدول الجائعة بنسب متفاوتة. إلا أن التراكم التاريخي الذي أتاح لدول المركز أن تتمتع بموقع الصدارة في السيادة على ثروات العالم, جعلها تتحكم في آليات التعاطي مع تلك المشكلات، بحيث غدا للبطالة في واشنطن وباريس وبون معنى آخر غير المعنى الذي هو لها في دول العالم الثالث.
    وإذا كانت دول المركز الرأسمالي صاحبة الهيمنة والنفوذ على معظم آليات الحراك في الاقتصاد العالمي لم تتمكن من حل معضلات هي بطبيعتها لصيقة بالنظام الرأسمالي, فلماذا تُمارس ضدنا وفي حقنا كذبة أن وصفات المؤسسات الدولية كفيلة بتخفيف حدة المعضلات عندنا. إن الغرب الرأسمالي عبر تاريخه, وعندما كانت تتفاقم مشكلاته المترتبة على طبيعته الرأسمالية إلى حد ينذر بالخطر، لم يكن يملك حلا حقيقيا لها إلا على الصعيد الأيديولوجي الذي من شأنه أن يدخل تعديلات مبدئية على فلسفة النظام الرأسمالي ذاته, وليس تعديلات فنية على بعض مرافق الآلية الاقتصادية.
وليست الكينزية التي ظهرت قبيل منتصف القرن العشرين، إلا دليلا على صحة ما نقوله. وليست إرهاصات التغيير الأيديولوجي في النظام الرأسمالي العالمي ليتمكن من تجديد نفسه بعد أزمة عام 2008 إلا تأكيد جديد على ما نقوله.
    إن حل مشكلة معينة مرهون أولا بالقدرة على تشخيصها وتشريح أبعادها وتحديد مكوناتها العميقة والجوهرية, ذات الطبيعة الأيديولوجية. لكل من يريد الإدلاء بدولة في مسألة إحداث تنمية عربية مستدامة، مجدية وغير مشوهة، أن يدرك أنه إذا كان حريصا على الحفاظ على آليات اقتصاد السوق، وعلى عرض رؤاه التنموية دون أن يمس بها، ويتجنب من ثم اختراع الخطط أو الرؤى التي قد تخلخل تلك الآليات، فهو إنما يحاول تخديرنا بحلول مؤقتة ستؤول إلى واقع مشكلاتي أكثر تفاقما وأشد عنفا يفرض معاناة أوسع وأصعب مع مرور الوقت وتراكم الحلول الجذرية عبر سياسة الترحيل الأبدية التي لا تنتهي.
وأما من يسعى إلى وضع الحلول الفعلية لمشكلاتنا الاقتصادية ولمستقبل تنميتنا، فعليه أن ينطلق في تصوره للتصحيح التنموي من قاعدة أيديولوجية. فقد وصلت اقتصاديات الوطن العربي عموما إلى مستوى من الترهل والتبعية وتفاقم المشكلات، يتطلب حلولا مبدئية أيديولوجية وليس فنية وتقنية.
فحتى لو كانت الحريات السياسية في بلادنا، والشفافية في الرقابة على المال العام عندنا، لا تقل عن نظيراتها في دول مثل بريطانيا وألمانيا، فستبقى تنميتنا مشوهة قاصرة، لأن ذلك المستوى من الحرية والشفافية، يحولان دون نشأة الفساد أو تفاقمه واستشرائه، لكنهما لن يحولا بأي حال دون الوقوع في مستنقعات مشكلاتٍ هي في الأساس ناتجة عن الأيديولوجيا في فكرة “اقتصاد السوق”، والتي يزيدها تفاقما أنها مشكلات تحدث في اقتصاداتِ دولِ تخومِ هذا الاقتصاد وليس مركزه الأقوى والأقدر على التكيف والنهوض من أزماته للأسباب التي ذكرناها سابقا.
ولكن دعونا نتساءل: ما معنى أن يرتكز التصحيح التنموي إلى بعد أيديولوجي وإلا فأنه سيغدو ترقيعا مؤقتا لا تصحيحا مؤسسا؟
أن يرتكز أي تصحيح تنموي في الوطن العربي إلى بعد أيديولوجي يعني أن يطال ذلك التصحيح الأسس الفكرية المرجعية للاقتصاد العربي، وألا يَكتفي بمعالجة البناء الفوقي لهذا الاقتصاد. إن الأساس الذي وضع ليتحمل بناء مكونا من خمسة طوابق فقط, لن يكون صالحا لاحتمال أكثر من ذلك، ولابد لضمان سلامة البناء المكون من عشر طوابق من أن يُعاد التأسيس له وفق ما يناسب العشرة طوابق.
إن أي برنامج للتصحيح التنموي إذا انطلق من قاعدة عدم المساس بالأساس المرجعي للاقتصاد السائد, ومن قاعدة عدم طرح آليات تصحيح من شأنها التأثير السلبي على هذا الأساس, يشبه تماما من يريد أن يبني عمارة مكونة من عشرة طوابق على أساس لا يحتمل إلا خمسة طوابق, مع انطلاقة من ضرورة الإبقاء على هذا الأساس سليما معافى. ومن الواضح أن هذا أمر غير ممكن وهو أمر ينذر بالخطر على مستقبل البناء كله.
    ومن خلال الإسقاط التشبيهي، فإن محاولة تفعيل وتصحيح بناء تنموي بدون تغيير أسسه التي لا تحتمل هذا التفعيل وهذا التصحيح بدون التأثير على أداء هذا الاقتصاد وفعاليته سلبا، هي بمثابة تحرير آليات الاقتصاد من كل مقومات تماسكه ومقاومته للأزمات, بحيث يغدو اقتصادا هشا قابلا للترنح عند أقل هزة.
هذا هو إذن معنى قولنا بأن أي برنامج للتصحيح التنموي بحاجة إلى الانطلاق من إحداث تغييرات أيديولوجية في منظومة قواعد اقتصاد السوق الرأسمالي. هذه القواعد التي تعتبر الأساس المرجعي الأيديولوجي لمجمل اقتصاديات الوطن العربي. وبعبارة أخرى تجب إعادة النظر في القواعد الأساسية لهذا الاقتصاد, بدءاً من إعادة النظر في قواعد الملكية، وقواعد توزيع العمل، وقواعد الإنتاج وتوزيع الإنتاج، مرورا بإعادة النظر في الموقف الأخلاقي المذهبي من الفرز الطبقي على أساس اقتصادي, ومدى الحرية الاقتصادية المسموح بها، وانتهاء بإعادة النظر في الإطار الذي يجب أن تتحرك في داخله آليات الاقتصاد العربي عموما على الأصعدة القطرية والقومية بالارتكاز إلى طبيعة قضاياه ومشكلاته ذات الطبيعة السياسية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية.
فالتنمية يجب أن تخدم المجتمع في كل شيء، ويجب أن تأخذ في الاعتبار واقعه ومستقبله ومرجعياته الثقافية ومشكلاته السياسية وبناه القيمية. إنها بمعنى آخر “الدلتا” الذي تصب فيه كافة فروع حياته. كل فرع يصب في الدلتا مُعلنا عن طبيعة المجتمع من خلال محتواه الذي القاه في الدلتا. والدلتا عندما تتجمع فيه مكونات كل المجتمع فإنه ينتقل بها إلى المصب النهائي الذي هو التنمية بالشكل المطلوب.
وإذا لم تكن التنمية كذلك، فإنها لن تكون تنمية لذلك المجتمع، وستعمل في الفراغ، وتهدده من ثم بالدمار وباستفحال الشروخات التي ماوضعت خطط التتنمية تلك إلا رغبة في التخلص منها. وسوف نكتشف بعد فوات الأوان – وهذا هو واقع الحال غالبا إن لم يكن دائما – أن هذه التنمية  قد فُصِّلَت على مقاس عناصر ومكونات البناء الطبقي السائد في ذلك المجتمع، وليس بناءً على ما يفترض أن يكون عليه حاله ومستقبله.
    إن صيغة تصحيح تنموي كالتي نتحدث عن الإطار العام لآلياتها، لا تنطلق  من أرضية البحث عن حلولٍ لمعضلات اقتصادية قائمة بصورة تضمن الإبقاء على البناء الرأسمالي لاقتصاد السوق في الوطن العربي قائما وثابتا, مهما كانت النتائج المترتبة على تلك الحلول بعد ذلك على صعيد مساسها أو عدم مساسها بحقيقة معاناة المواطن العربي نتيجة تلك المعضلات. بل إن صيغة كهذه تنطلق من أرضية البحث عن حلول توضع كأهداف يتم السعي إليها أيا كانت التعديلات التي ستطرأ في سياق هذا السعي على الآليات التي تحكم حراك الاقتصاد العربي, أساسية كانت هذه الآليات أو ثانوية.
    إن التركيز على أهمية البعد الأيديولوجي في أي برنامج للتصحيح التنموي في الوطن العربي يعني في المحصلة تحديد الأهداف التي نتوخاها من أي تصحيح أولا، لنبحث بعد ذلك وليس قبله عن البرنامج التنموي الملائم. البرنامج لاحق للهدف وليس سابقا له. وهذه المعادلة التصحيحية تعني بكل بساطة أن الأساس المرجعي للآليات أصبح قابلا للتعديل بدون حساسية, ولم تعد هناك آلية تتصف بالقداسة, ما دامت كل الآليات عبارة عن وسائل.
إن القداسة هي للهدف, ولما كانت الآليات ليست أهدافا فلا قداسة لها, وبالتالي فكل الصيغ التي يحاول طارحوها إقناعنا بنجاعتها وجدواها, مادامت تنطلق من قاعدة تقديس آليات هي في الأساس جوهر المعضلة التنموية بمستوياتها الراهنة, هي صيغ تخديرية مضللة عارية عن المصلحة الوطنية والقومية, وتحاول تكريس التراجع الحاصل في الاقتصادات العربية. بل وتدافع من حيث تحاول أن تخفي أنها تدافع، عن الظلم والتلفاوت الطبقي، وعن الفقر وعن البطالة، وعن البنية المصلحية القائمة على تقسيم جائرٍ للعمل.
    يجب أن نحدد الأهداف على النحو التالي: ” نريد إلغاء البطالة, نريد أن نتحرر من سطوة المديونية وما تفرضه من تبعية, نريد أن نحقق اكتفاءً ذاتيا في المحاصيل الزراعية الغذائية التي تمثل الغذاء الرئيسي في الوطن العربي, نريد تثبيت حد معقول للأسعار عبر تحقيق حالة من التوازن في أسعار صرف العملات بالقياس لعملتنا الوطنية, نريد أن ننهي حالة الفقر ونخفف الفوارق الطبقية في المجتمع بنسبة كذا, نريد أن نتعامل اقتصاديا على قاعدة أن هناك ضغوطات تُمارسُ ضدنا لاحتواء قرارنا السياسي, وتوجيهه نحو الصب في خانة الأعداء.. نريد كذا.. نريد كذا.. إلخ”.
وبعد أن نحدد الأهداف على النحو الذي ذكرناه، وبالصراحة والوضوح اللازمين، بناء على تشخيص علمي موضوعي لطبيعة مشكلاتنا المرتبطة بجوهر قضايانا على صعيد الحياة والوجود والتحرر والعدالة والهوية، نبدأ بالبحث عن الوسائل التي من شأنها أن تسارع في تحقيق تلك الأهداف. وعلينا أن نقبل بها حتى لو نسفت قضايا اعتبرت ولمدة طويلة من المقدسات, كالملكية، ودور القطاع الخاص, وحرية العمل, وحرية الاستثمار والادخار، وملكية الموارد الأساسية ووساءل الإنتاج.. الخ.
    ولقد أسهم في تعميق هذا المأزق في دول العالم الثالث أن خطط التنمية نفسها في ظل التقسيم الطبقي القاسي الذي عمقه نهج التنمية الغربي المتبع فيها, لم تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعوب بقدر ما أخذت مصالح تلك الطبقات عملا بمبدأ الأولية الذي ينتهجه المستغلون سبيلا للثراء, وقد أكد الواقع على ذلك حين كشف عن الوهم المتضمن في فكرة أن تقوم الطبقات البرجوازية في دول العالم الثالث بالتخلي عن مصالحها ومواقعها لصالح شعوبها. ولعل الوطن العربي هو أكبر مخزن معاصر للأثرياء المهيمنين على أهم ثروات العالم تحت مظلة آليات اقتصادية تمثل أبشع أنواع الاستغلال والظلم والتفاوت الطبقي.
وليس أدل على ذلك من أن آخر إحصائية للمليارديرات العرب، كشفت عن أن أغنى “50” مليارديرا عربيا – من رجال الأعمال الذين ليس من بينهم المفسدون واللصوص من السياسيين والحكام والملوك والوزراء وكبار موظفي الدول الذين يسرقون المال العام ويتحكمون في موارد البلاد والعباد، فيثرون بسبب فسادهم الذي أتاحته مواقعهم النافذة في ظل انعدام الحريات والرقابة الشفافة على ثروات الأمة – يملكون ما مقداره “254” مليارا من الدولارات، أي أن خمسين رجلا وعائلاتهم يملكون ما يزيد على الناتج القومي لكل من مصر والعراق والسودان وسوريا ولبنان والأردن مجتمعة. نعم خمسون شخصا يملكون أكثر مما يملكه أكثر من “180” مليون مواطن عربي. إنها أبشع صورة للتفاوت الطبقي عرفها تاريخ الإنسانية. ومع ذلك فمعظم هذه الثروات الفلكية لا تعود بالنفع على التنمية العربية حتى بصورها المشوهة. “فالإطلاع على التاريخ ولو بصورة مختصرة يبين أن الطبقات العليا لا تتنازل تلقائيا عن امتيازاتها, فهذه الطبقات ستصدر رؤوس أموالها إلى البنوك الخارجية الآمنة البعيدة عن ملاحقة الاحتياجات المحلية، أو تمارس استهلاكا تفاخريا بدلا من القيام باستثمارات منتجة تساعد على خلق العمالة في هذه البلدان”.”1″
النموذج الأميركي أسوأ نموذج للتنمية في العالم
إن اقتصادات الدول المتحررة حديثا من الاستعمار انتهجت سياسات كان الهدف منها ومن كل خططها التنموية تحقيق مستويات معيشية عالية تقارب مستويات المعيشة التي ترفل فيها الدول الرأسمالية (ونتغاضى هنا لغايات النقاش عن التفاوتات المخيفة بين مستويات المعيشة في داخل معظم الدول الرأسمالية ذاتها), وغالبا ما اتخذ مستوى المعيشة في الولايات المتحدة نموذجا يحتذى وهدفا يتم السعي إلى تحقيقه دون أن يخطر على بال من يسعى إلى ذلك استحالة تحقيق الأمر من الناحية العلمية بدون خلق فجوة طبيعية قاتلة في المجتمع, وبدون التأثير على الموارد وعلى البيئة بصورة ستسارع في تقريب الكوارث البيئية على كوكبنا الأرضي.
    فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد “أن تعميم متوسط استهلاك المواطن الأمريكي من الطاقة (قرابة 12 طن فحم مكافئ) على الناس جميعا, يعني مثلا زيادة الإنتاج العالمي السنوي من الطاقة حوالي عشرين مرة. كذلك لو ساد العالم نمط إنتاج الغذاء ونقله واستهلاكه المعروف لدى الولايات المتحدة لكان من الضروري تخصيص 30% من الطاقة المتاحة لإنتاج الغذاء وحده. ومن المعروف أن معدل ملكية السيارات في الولايات المتحدة أكثر قليلا من سيارة لكل شخصين من السكان بما في ذلك الأطفال والعجزة، ويترتب على ذلك أن نسبة “41%” من إجمالي السيارات المستخدمة في العالم سنة “1976” كانت في هذا البلد. ولنا عندئذ أن نتخيل ماذا لو أنتشر هذا النمط من الاستهلاك في العالم. إنه يعني زيادة عدد السيارات المستخدمة بحوالي “25” مرة، ولنا عندئذ أن نتصور كمية المعادن والموارد الأولية الأخرى اللازمة لتحقيق هذا الإنتاج، وأن نقدر حجم الطاقة اللازمة لتشغيل المليارات من السيارات وكذلك حجم الاستثمارات اللازمة لشق الطرق والشوارع التي تمكنها من الحركة.. إلخ. وهذا فضلا عن الارتفاع الكبير في مستوى التلوث الناشئ عن استخدام تلك السيارات”.”2″
    ومن جهة أخرى فإن أنماط الإنتاج الأمريكي في مختلف المجالات هي عبارة عن أنماط تبدد الموارد البيئية بحيث لم تعد خيارات واعية لمن ينتهجها في اي مشاريع تنموية. ففي الزراعة على سبيل المثال “نجد أن متابعة التطور في مدخلات ومخرجات “إيكر “واحد – والإيكر هو “4000” متر مربع – من الذرة الصفراء في الولايات المتحدة الأمريكية عبر الفترة ” 45-70″، وحيث نأخذ في الاعتبار الكلفة فقط حتى أماكن التوزيع بالجملة، سوف تظهر الآتي: كان الإيكر الواحد من الذرة عام “45” يحتاج إلى حوالي “265” رطلا من الأسمدة و”25″ ساعة عمل، بالإضافة إلى المبيدات واستخدامات أخرى كالغازولين وغيرها. وفي عام “1970” احتاج ذلك إلى “954” كيلو كالورى و”200″ رطل من الأسمدة و”9″ ساعات عمل، بالإضافة إلى مقادير أعلى من الغازولين والمبيدات وغيرها. عبر هذه الفترة وصلت إنتاجية الإيكر من الذرة إلى “2,36” ضعف سابقتها، ولكن بالقدر نفسه نقص الطلب على العمل وتضاعفت حاجات الطاقة “3,5” مرات وحاجات الأسمدة والمبيدات عشر مرات، حتى أننا نستبعد هنا مؤقتا الآثار التلوثية ونستبعد الحديث عن الآثار على العمل الغير مباشر”.”3″
    ومع ذلك فإننا نستطيع أن نستقرئ عشرات الأمثلة من الواقع الاقتصادي الأميركي خاصة والرأسمالي الغربي عامة، تؤكد كلها على أن أي تنمية في العالم تنتهج النهج المنتهج هناك أو تسعى إلى الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها الاقتصاد الأمريكي أو الأوروبي هي تنمية فاشلة لن تحقق الأهداف المرجوة منها، وسوف تسهم في إيقاع الوطن العربي تحت وطأة ما بدأ يعاني منه الغرب في الوقت الحاضر من تبديد للموارد وتلويث للبيئة.
وبعبارة أخرى فما دمنا نمتلك الخيارات والبدائل التنموية، فلماذا نختار منذ البداية نهجا تنمويا لا يحفظ لنا مواردنا وبيئتنا على المدى البعيد؟ ولماذا نختار بأيدينا نفس النهج الذي نرى بأم أعيننا معاناة أصحابه التاريخيين من آثاره في وقتنا الحاضر؟
    إذن فهناك سياسة رأسمالية عالمية تعمل على توجيه العالم الثالث تنمويا بصورة تدخله نفقا مظلما ووتعيد إنتاج علاقاته الثقافية والاجتماعية بشكل مشوه، وتكون قادرة على إبقاء حركة دوران الموارد سلسة باتجاه الصب في أسواق المراكز الرأسمالية.
الهوامش
1- كتاب “المفاوضات بين الشمال والجنوب”, الرهانات , نظرية وتطبيق النظام الاقتصادي الدولي الجديد, تأليف “د. عبد القادر سيد احمد “, ترجمة ” عبد الحميد حاجيات وإبراهيم تايزي”, منشورات ديوان المطبوعات الجامعية, الجزائر, طبعة عام “1987” , ص”33 – 34″.
2- كتاب “صور المستقبل العربي”, تأليف د. سعد الدين إبراهيم ود. إسماعيل صبري ود. علي نصار ود. محمود عبد الفضيل، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، بيروت، كانون ثاني 1985، ص”41″.
3- نفس المرجع السابق, ص “165 – 166”.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.