www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية للدولة الأردنية3/أسامة عكنان

0

تأكيدا منه على أن ما يعتبرُه “عملا فدائيا”، لا يمكنه تهديدُ وجودِ “إسرائيل” ولا المساس الجوهري بأمنها، يقول صلاح خلف “أبو إياد” في كتابه “فلسطيني بلا هوية”: “إن العمل الفدائي كان يهدف إلى مناوشة العدو وإبقائه في حالة يقظة، ورفع الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، وفي أفضل الأحوال إرباك الاقتصاد الإسرائيلي. ولم نفكر في أيِّ لحظة من اللحظات أن عملنا يضع أمان الدولة اليهودية في خطر”(1).

  الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية للدولة الأردنية
“دراسة في حلقات”
“جزء من بحث قُدِّمَ لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية”

أسامة عكنان
عمان – الأردن
الأردن وطن وليس مزرعة خراف
والأردنيون شعب وليسوا قطيع ماشية
والأردني مواطن يملك وطنا، وليس عابر سبيل يستجدي كسرة خبز
وحكام الأردن خدم وموظفون عند شعبهم، وليسوا سادة عليه أو مستعبدين له
فمن فهم فليعمل بما فهم، ومن لم يفهم فليذهب إلى الجحيم
قراءةٌ في دور الأردن التاريخي كوطن مُهِمٍّ يلد رجالاً أهم، ورفضُ دورِه الوظيفي كمزرعة تسمِّن الخراف لخلق فضاءٍ آمنٍ لأعداء الأمة

الحلقة الثالثة
     البدايات الأولى

تأطير عناصر الجريمة
تأكيدا منه على أن ما يعتبرُه “عملا فدائيا”، لا يمكنه تهديدُ وجودِ “إسرائيل” ولا المساس الجوهري بأمنها، يقول صلاح خلف “أبو إياد” في كتابه “فلسطيني بلا هوية”: “إن العمل الفدائي كان يهدف إلى مناوشة العدو وإبقائه في حالة يقظة، ورفع الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، وفي أفضل الأحوال إرباك الاقتصاد الإسرائيلي. ولم نفكر في أيِّ لحظة من اللحظات أن عملنا يضع أمان الدولة اليهودية في خطر”(1).
مع التنويه إلى أن “صلاح خلف” ألَّفَ كتابه “فلسطيني بلا هوية”، في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي، أي بعد أن تم القضاء على المقاومة في الأردن ودحرها إلى لبنان، لتمارسَ عملها “المناوش” الذي أشار إليه، من ساحةٍ هي أضعف في جميع النواحي الإستراتيجية من الساحة الأردنية التي كانت المقاومة تعمل فيها ومنها خلال عقد الستينيات.
ولعل قادة الثورات العالمية قد أدركوا حقيقة تَمَيُّز القضية الفلسطينية بخصوصيات عديدة، يصعب معها بل يستحيل، تطبيق قواعد “حرب الشعب” و”حرب العصابات”(2) في حدود الجغرافيا الفلسطينية ذاتها، لتحقيق الدحر النهائي للاحتلال وحسم التناقض الذي يثيره في المنطقة. ولقد كان “ماو تسي تونغ” أحد أساطين الثورة الصينية، أكثر من غيره إدراكا لهذه الحقيقة في قضية الشعب الفلسطيني، لأنه بعد تَفَهُّمِه لها وَعَى بحسه الثوري العميق أن القواعد المعهودة للتحرير، والتي انطبقت على تحرير الصين من النظام الإمبراطوري الإقطاعي، لا يمكنها أن تنطبق هنا. ففي لقاء له مع وفدٍ من الذين كانوا يُجَهِّزون للثورة في عام 1964 قال: “يا رفاق، لقد تبادلنا الحديث بحرارة، ولكني أريد أن أقول: لقد درست قضيتَكم والظروفَ المحيطة بها بدقة، إنها قضية صعبة، تتداخل فيها المشاكل تداخل أسنان القرش. وإذا تمكنتم من تفجير ثورة والاستمرار فيها، فإني سأكون سعيدا لدراسة قوانين جديدة لحرب الشعب في ظروفٍ لا تنطبق عليها حرب الشعب”(3).
وهنا نعود لننوِّهَ إلى أن هذا التصريح الخطير من تلك الشخصية الخطيرة، تمَّ قبل انطلاق العمل الفدائي المقاوم لإسرائيل من الأراضي الأردنية. أما الاستشهاد به في مقال كُتِبَ في الذكرى الخامسة عشرة لانطلاقة الثورة، فقد كان من قِبَلِ “هاني الحسن” عضو اللجنة المركزية لحركة فتح في عام 1980. ولا يمكن لاستشهادٍ من هذا النوع، في مقامٍ كهذا، من قِبَلِ رجل في موقع “هاني الحسن” أن يكون مفرَّغا من الدلالات التَّنْظيريَّة والتَّأصيليَّة.
إن حالةً من الإدراك الواضح لِما يمكن للمقاومة الشعبية المواجِهَة لإسرائيل أن تضطَّلِعَ به في أقصى مدياتها، تجلَّت من خلال تصريح “صلاح خلف” في كتابه، واستشهاد “هاني الحسن” في مقاله. إن هذه القناعة التي عبرَّ عنها “صلاح خلف” في منتصف عقد السبعينيات، ليؤكد عليها “هاني الحسن” في بداية عقد الثمانينيات، هي في الواقع تلك القناعة التي رافقت مشروعَ المقاومة منذ التأسيس له، عَبْرَ اعتراف مؤسسيه بموضوعيةِ حالةِ الوعي الخاص بالقضية، كما عبَّرَ عنها “ماو تسي تونغ” للوفد الزائر له في “بيجين” عام 1964، أي قبل انطلاق الثورة واندلاع أعمال المقاومة.
إنها حالة الوعي الصارم والحازم الذي يؤكد على أن مقاومة إسرائيل في ظل الوضع العربي القطري الوظيفي، الذي يحول حتما دون خلق القاعدة الآمنة التي تستطيع تحقيق شروط المقاومة الشعبية، ما هي إلا نوعٌ من التَّسخين تمهيدا وتجهيزا لأمرٍ ماَّ، يجب أن يكون مؤسسو المقاومة على وعي كامل به، وعلى دراية تامة بطبيعته، وعلى استعداد قاطع للتعاطي مع ضرورته وحتميته.
فأن يدركَ “هاني الحسن” أحد مُنَظِّري حركة “فتح، من خلال استشهاده بقول ماو تسي تونغ العلمي الحاسم، وأن يقرِّرَ “صلاح خلف” أحد قادة ومؤسسي الثورة ومُفَجِّري المقاومة، من خلال تعميمه الذي أورده في كتابه، عجزَ المقاومة المُوَجَّهَة إلى إسرائيل، عن تحقيق الإستراتيجيات الفلسطينية المُعْلَنة سواء في أدبيات فصائل المقاومة، أو في ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، بل وأن يؤكدا على أن هدف المقاومة منذ انطلقت لم يكن هو تهديد أمن ووجود إسرائيل، لتنطلق المقاومة مع ذلك في مطلع عام 1965 رغم كل ما سمعه المؤسسون في “بيجين”، لهو دليل قاطع على أن المقاومة يجب أن تكون انطلقت للعمل في اتجاهين هما، مناوشة إسرائيل من جهة، ومناوشة أنظمة التجزئة القطرية ذات العلاقة المباشرة بالحالة الإسرائيلية، لدفعها نحو الانكشاف أمام الحراك الجماهيري المقاوم، تمهيدا لإسقاطها أو تغييرها أو تثويرها من جهة أخرى.
عندما يُزَيِّنُ “صلاح خلف” كتابَه بإعلانَه الخطيرَ ذاك حول مبدإ المقاومة باعتباره يمثل جوهرَ وإستراتيجيةَ أيِّ عملٍ مقاوم لإسرائيل، أيا كانت ساحة انطلاق هذا العمل، وأن يأتي هذا التزيين بعد أن فقدت هذه المقاومة أكثر الساحات إستراتيجية وقدرة على مناوشة نظام التجزئة والقُطْرِيَّة العربي، في أهم معاقله وقواعده التي تقع على تماسٍّ مباشر مع الحالة الصهيونية، وعلى حدود تصل إلى حوالي 500 كيلومتر، هي أقدرُ ما تكون على إفقاد إسرائيل كل عمقٍ وقوةٍ ومنعة.. نقول.. عندما يزين “صلاح خلف” كتابَه بذلك الإعلان الخطير، في ذلك الوقت وعلى ذلك النحو، فإنه إنما يبعث برسالةِ اعترافٍ واضحةٍ مفادُها أن مشروعَ المقاومة الذي نشأ في الأردن بعجزه الإستراتيجي المزمن، هو في لبنان أكثر عجزا بالضرورة.
وهو بهذه الرسالة الضمنية يُعِدُّ العدَّة للمستقبل السياسي المتراجع للمقاومة، وهو المستقبل الذي تراءى له بحكم بصيرته منذ ذلك الوقت المبكر، لكنه لا يجيب على سؤال محيِّرٍ فرض ويفرض نفسَه دائما ألا وهو: “إذا كانت المقاومة قد نشأت باعتبارها تمثِّل فقط حالةَ “مناوشة” لإسرائيل، منطويةً بذلك على عجز إستراتيجي مزمن، بسبب الطبيعة الجيوسياسية للإقليم، الذي يجب أن يتغيرَ ليصبح مؤهلا لاحتضان قاعدةٍ آمنة للتحرير. ألم يكن من المُحَتَم على هذه المقاومة إذن أن تتحرك بثِقَلِها الكبير باتجاه المناوشة على المحور الصهيوني الآخر، حيث أهم معقل لأنظمة التجزئة، ألا وهو النظام الأردني، كي تضمن ألا يكون فعلُها المناوش لإسرائيل فعلا بلا جدوى وبلا قيمة وبلا منفعة؟!”
إن إتحافَنا بأحد طرفي معادلة الوعي بطبيعة الصراع، ألا وهو الطرف المنطوي على الإقرار بعجز المقاومة عن أن تتجاوز حدودَ المناوشة في ظل التجزئة الوظيفية العربية، وتجاوز الطرف الآخر من المعادلة، ألا وهو الطرف المنطوي على الإقرار بضرورة مناجزة النظام الأردني بوصفه كان يمثل في تلك الحقبة من الزمن، أعتى نظام تجزئة وظيفي يعرقل أيَّ فعل مقاوم ضد إسرائيل، لرفدِ مناوشة إسرائيل بعنصر محفِّزٍ ومفعِّل، هو أمر مريب يثير الدهشة ويطرح التساؤلات.
في الفترة التي امتدت من منتصف ستينيات القرن الماضي وحتى نهاية العقد، كان نظام الملك “حسين بن طلال” على وعي تام بما هو كائن، وبما يجب أن يكون، وقام بممارسة كل سلوكٍ على الأرض يجسِّد حالة الوعي هذه. خلافا للمقاومة التي وإن كانت على وعي بما هو كائن وبما يجب أن يكون على الصعيد النظري، إلا أنها لم تمارس على الأرض سلوكا إستراتيجيا ينُمُّ عن مبادرة جادة لتجسيد هذا الوعي، كما كان يفعل الملك حسين ونظامُه. بل إن متابعة صيرورة الأحداث في تلك الفترة من الزمن، تثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن المقاومة كانت تتحرك برداتِ الفعل، وبشكلٍ يعكس تجاوبا لاواعيا مع المخطط الذي رسمه النظام. لقد نجح نظام الملك حسين في جرِّ المقاومة إلى خدعة كبرى، نتج عن وقوعها في شَرَكِها كلُّ الدمار الذي عانت منه القضية، والشعبان الأردني والفلسطيني، بل والأمة العربية حتى الآن. إنه الشرك الناجم عن إتقانه اللعب على وتر “لوغو الهويات” بكفاءة منقطعة النظير.
لقد كان ملفتا أن المقاومة التي انطلقت عام 1965، أي بعد إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست عام 1964، لم تجد تعارضا بين فعلها المقاوم على الأرض – وهو الفعل الذي كان ينطلق من الأرض الأردنية التي كانت الضفة الغربية جزءا لا يتجزأ منها، وبفعل وأداء ومبادرة الشعب الأردني الذي ذاب في داخله شعب الضفة الغربية وأصبح جزءا لا يتجزأ منه، باتجاه الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948 – وبين ميثاق المنظمة الذي دعا إلى إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية على أرض فلسطين المحررة، من حيث الهدف، وإن تم الاختلاف على الأساليب. لا منظمة التحرير الفلسطينية، ولا المقاومة التي انطلقت منتصف عقد الستينيات، تعاملتا مع الضفة الغربية ولا بأي شكل، باعتبارها أرضا محتلة ينطبق عليها ما ينطبق على الأرض التي تحتلها إسرائيل، رغم الحساسية التي أبداها النظام الأردني تجاه الحالتين “المنظمة” و”المقاومة”.
فهمَ الكل أن المقاومة تناضل من أجل فلسطين المحتلة عام 1948، مادامت الضفة الغربية ليست محتلة، وأن منظمة التحرير معنية بالحديث عن الأرض الفلسطينية عام 1948 للسبب نفسه، إذ لم يقم أي دليل على أنهما تعاملتا مع حقيقة أن الضفة الغربية كانت جزءا من الأرض الأردنية، بتلك الحساسية التي تفرضها الهويات المتنازعة والمتناقضة عادة. لقد بدا واضحا أن تحرير المحتل من الأرض هو الهم الأساسي لجميع الوطنيين الذين اعتبروا أنفسهم أردنيين هوية وتابعية، وفلسطينيين قضية وهدفا، بكل مشاربهم ومنابتهم. كما بدا واضحا أن الحيلولة دون تفاقم المقاومة التي تُهَدِّدُ المشروع الصهيوني الإمبريالي الوظيفي في المنطقة، هو الهم الأساسي لجميع القوى الرجعية التي كان أهمها على الإطلاق، النظام الأردني بحكم دوره الوظيفي المتميز في منظومة الوظيفية العربية آنذاك. وبقيت الحساسية التي أثارتها نشأة المنظمة على ذلك النحو الرسمي العربي المفعم بحالات الاستقطاب، تدور رحاها – وإن يكن إلى حين – داخل كواليس التنافس بين أنصار النزعة القومية الناصرية من جهة، وأنصار النزعة القطرية الوظيفية من جهة أخرى.
في هذه الأجواء، كانت الأرض غير المحتلة أرضا “أردنية”، وكانت الأرض المحتلة هي الأرض “الفلسطينية”، وكان الشعب المقيم في الأرض غير المحتلة شعبا “أردنيا” بسكانه الأصليين وبلاجئيه الذين كانوا الشرارة الأولى والأهم للمقاومة، باعتبارهم الأردنيين اللاجئين، ليلحقَ بهم بعد ذلك الأردنيون النازحون بعد نكسة عام 1967. لقد كانت المقاومة “مقاومة أردنية”، وكانت الثورة “ثورة أردنية”، بحكم الأمر الواقع وبحكم القانون والشرعية وبحكم التابعبة، مقاومة وثورة قوامهما الشعب “الأردني” من ضفتي الأردن، بفلاحيه وبَدْوِه وسكان مدنه ولاجئيه ولاحقا نازحيه، إلا لدى من لا يريد أن يعتبرَ سكان الضفة الغربية أردنيين، وهذا مخالف للقانون وللشرعية، ولم يدعُ إليه أحدٌ أو يقل به في تلك الفترة المبكرة من تاريخ المقاومة. ولم يظهر على الصعيدين السياسي والنفسي إلا في وقت لاحق، وفي سياقات سوف نحللها، ليظهر لنا بجلاء جوهرُ الجريمة ومحتوى المؤامرة من خلالها. بل إن المقاومة عندما واجهت نظام الملك حسين، فقد واجهته بكل مُكَوِّناتها. لم يكن أحد يتعامل مع الحالة على قاعدة الهويات القطرية المصطنعة، واعتُبِرَت الهوية الأردنية هي الحاضنة الفعلية للمقاومة، لأن المهم هو المقاومة، ولتكن حاضنتها بعد ذلك ما تكون.
إذن فقد انطلقت المقاومة الأردنية بمادةٍ بشريَّةٍ أردنية، من الأرض الأردنية، وباتجاه فلسطين المحتلة، بكل ما لكلمات “أردني” و”فلسطيني” من معاني ذات دلالات وطنية وتثويرية ووحدوية، بعيدا عن أي معاني إقليمية أو قطرية أو هيمنيَّة لها. ولقد انطلقت المقاومة محكومة ومحاطة بالعناصر الموضوعية والأيديولوجية التالية..
1 – الوعي بأن النظام الأردني نظام وظيفي سوف يواجه المقاومة ويعمل على محاصرتها بكل السبل ما أمكنه ذلك.
2 – الوعي بأن المقاومة لن تستطيع بالنسبة لإسرائيل أن تحقق أكثر من المناوشة والإشغال وليس تهديد الأمن والوجود الحقيقيين.
3 – الوعي بأن الأردن هو المكان الأنسب لاحتضان الحرب الشعبية، ولأن يكون قاعدة آمنة للتحرير في المستقبل.
4 – الوعي بألا مجال لحرب الهويات التي اقتنع الجميع بأنها ليست معركتهم، فهي صنيعة استعمارية، مادام الجميع متفقين على التحرير، فأن يكون الفلسطينيون أردنيين لا يعني مساسا بحقوقهم إذا أمكن جعل الأَرْدَنَة هي الطريق إلى تحرير فلسطين والحاضنة لتحقيق أعلى درجات الوحدة الوطنية والحشد والتعبئة باتجاه الأرض المحتلة.
5 – وجود منظمة التحرير الفلسطينية التي نشأت بقرار عربي رسمي كجهة تمثيلية للشعب الفلسطيني.
وكما أن المقاومة الأردنية نشأت في هذه الظروف، محاطةً بهذه المعطيات التي كان عليها أن تحسنَ التعاملَ معها، كذلك كان النظام الأردني الذي وضع خططَه وبدأ بتنفيذها على قاعدة التعامل مع هذه المعطيات نفسها، ليثبت التاريخ أنه أحسن توظيفَها، فيما فشلت المقاومة في ذلك، لتكون النتيجة هي القضاء على أكبر فرصة تاريخية كانت متاحة لخلق القاعدة الآمنة للتحرير. فقد لعب نظام الملك حسين بذكاء منقطع النظير على “لوغو الهويات”، وحرَّكها ونقلها من موقع إلى آخر، وأزاحها من أماكنها ليضعها في أماكنٍ غيرِها، إلى أن حقَّقَ غايتَه وضرب ضربته القاضية في أيلول 1970. فلنتابع بتؤدة وروية ما الذي حدث منذ الأول من كانون ثاني/يناير من عام 1965، وحتى أيلول/سبتمبر من عام 1970.
من انطلاقة المقاومة الأردنية وحتى آذار عام 1968
“انطلق الكفاح المسلح رسميا بتاريخ “1/1/1965″، عندما تمكنت “قوات العاصفة” التابعة لحركة “فتح” من تنفيذ أولى عملياتها ضد إسرائيل ومنشآتها. وكنتيجة للضغوط التي ولَّدتها مبادرة حركة فتح إلى الكفاح المسلح، على القوى والتشكيلات الوطنية العاملة آنذاك، شكلت “حركة القوميين العرب” منظمة مقاتلة أسمتها “أبطال العودة” التي أعلنت عن عملياتها العسكرية الأولى في تشرين الثاني/نوفمير 1966. وبعد ظهور “أبطال العودة” ببضعة شهور ارتبطت بـ “جيش التحرير الفلسطيني” لأسباب مالية، وبعد ذلك قامت “حركة القوميين العرب” بإنشاء منظمة مقاتلة أخرى تحت اسم “شباب الثأر” أذاعت أول بيانين عسكريين لها قبل حرب حزيران/يوليو ببضعة أيام”(4).
في الفترة ما بين عامي 1965 و1967 وُلِدت عدة تنظيمات مقاومِة امتد الحوار بينها بقصد توحيدها، إلا أن الجهود المبذولة لأجل ذلك باءت جميعها بالفشل، وليس أدل على هذه التَّعَدُّدِيَّة، من المذكرة التي قدمها “المكتب السياسي للقوى الثورية” إلى مؤتمر “قوى المقاومة الثالث” الذي انعقد في القاهرة بتاريخ 31/05/1965. “وقد تضمنت المذكرة بعض الاقتراحات والانتقادات، ووقعتها ثماني منظمات هي: جبهة التحرير العربية الفلسطينية، تكتل الفدائيين الفلسطينيين، حبهة الفداء، جبهة التحرير الفلسطينية، جبهة التحرير الفلسطينية/ج.ت.ف، جبهة التحرير الوطني الفلسطيني، الجبهة الثورية لتحرير فلسطين”(5).
استمر العمل من أجل توحيد كافة تنظيمات المقاومة العاملة. ففي عام 1966 بُذِلَت جهود خاصة ومضنية لأجل ذلك، حيث تمَّ عقد اجتماعات خاصة لهذا الغرض بدعوةٍ من “منظمة التحرير الفلسطينية” وتحت إشرافها، وشاركت في تلك الاجتماعات القوى التالية: “التنظيم الفلسطيني لحركة القوميين العرب، الفرع الفلسطيني لحزب البعث، جبهة التحرير الفلسطينية/طريق العودة، المكتب السياسي للقوى الثورية للعمل الموحد، التنظيم الثوري الفلسطيني، ممثلون عن بعض العناصر اليسارية الفلسطينية. ورفضت حركة فتح الاشتراك في الاجتماعات على اعتبار أن التوحيد يجب أن يكون على أرض المعركة. وعلى أي حال لم تتمخض المحادثات عن أي نتيجة”(6).
فلنتأمل بادئ ذي بدء ما الذي يمكن للمسميات التنظيمية والحركية التي انتشرت في أوساط العاملين في المقاومة بمختلف تشكيلاتها آنفة الذكر، أن تدل أو تؤشر عليه. إذ يمكننا تقسيم أسماء منظمات المقاومة التي انتشرت على الساحة الأردنية في تلك الفترة المبكرة من عمر الثورة إلى ثلاث مجموعات..
المجموعة الأولى هي تلك المجموعة التي خلت المُسميات فيها من أي إشارة إلى اسم “فلسطين”، مثل منظمات “أبطال العودة”، “شباب الثأر”، “جبهة الفداء”، “المكتب السياسي للقوى الثورية للعمل الموحد”.
المجموعة الثانية هي تلك التي نَسَبَت المسمياتُ فيها الفعلَ أو الحركةَ إلى “فلسطين”، باعتباره أو باعتبارها “فلسطيني” أو “فلسطينية”، مثل “جبهة التحرير العربية الفلسطينية”، “تكتل الفدائيين الفلسطينيين”، “جبهة التحرير الفلسطينية”، “جبهة التحرير الفلسطينية/ج.ت.ف”، “جبهة التحرير الوطني الفلسطيني”،  “التنظيم الثوري الفلسطيني”، “حركة التحرير الوطني الفلسطيني/فتح”.
المجموعة الثالثة هي تلك التي انطوت المُسميات فيها على ذكر أن الهدف من العمل أو من المنظمة هو “تحرير فلسطين”، مثل “الجبهة الثورية لتحرير فلسطين”، وهي المجموعة التي سينضم إليها لاحقا كل من “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين”، و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” باعتبارهما – إلى جانب حركة “فتح” – من أهم تشكيلات المقاومة.
إننا إذا أمعَنا النظرَ في كافة الكلمات التي تمَّ التعبير بواسطتها عن شكل وجوهر الحراك المقاوِم في تلك الفترة، سنجد أنها جميعها لا تخرج عن توصيفِ فعلِها المقاوم بأنه فعلُ “تحريرٍ” يستهدف “العودةَ” ويتعامل تحريرا أو عودة مع “فلسطين”. والتحرير لا يمكنه أن يتعلق إلا بأرضٍ محتلة، والعودة لا يمكنها أن تتعلق إلا بأرضٍ تم الخروج منها ظلما، وبالتالي ففلسطين التي يرادُ تحريرُها لعودة أهلها الذين طُرِدوا منها إليها، هي قطعا ذلك الجزء المحتل من الأرض، والذي باحتلاله طُرِدَ أهلُه منهه. ولا جزءَ محتلا من الأرض إلا ذلك الذي تم احتلاله من قبل إسرائيل عام 1948.
إن هذا لا يمكنه أن يعني إلا أمرا واحدا مُهِمَّا، هو أن هناك إطارا وطنيا مُختلفا وغير تقليدي، تَخَلَّقَت في داخله حالةُ الوعي المُمَيَّزَة بهذه العلاقة التكاملية واللاتنافرية واللاتناقضية، بين أن أكون “أردنيا” من الناحية القانونية والإدارية المؤصِّلَة لمفهوم المواطَنَة الأردنية، وأن أكون “فلسطينيا” من الناحية السياسية والنضالية المُؤَسِّسَة للفكر الثوري المقاوم للاحتلال. أي بين أن أكون أردنيَّ الهوية القانونية، وأن أكون فلسطيني الهوية النضالية. وهو ما يعني أنني أنا “الأردني” قانونيا، لا أتخلى عن “فلسطينيتي” النضالية، فأناضل من أجل تحرير “فلسطين” ومن أجل عودة اللاجئين، دون أيِّ تكلُّفٍ أيديولوجي بغرض التأصيل والتأسيس لهذه الحالة، مما قد يخيَّل للبعض أنه ازدواجية في “الهوية”. وأنني أنا “الفلسطيني” نضاليا، لا أتخلى عن أردنيَّتي القانونية، وأناضل من أجل تحريرها من الفساد والتبعية والوظيفية التي يراد لها أن تنصبغَ بها، من خلال وجود نظام لا دور له إلا أن يضرب أردنيتي بفلسطينيتي بحجة الدفاع عن إحداهما من الأخرى، كي أفقد الاثنتين معا في نهاية المطاف. وهذا أيضا بعيدا عن أيِّ تكلّف أيديولوجي مما قد يُخَيَّل للبعض أنه يمثل شكلا من أشكال الازدواجية في الهوية.
إن كلمة “الأردن” أو “الأردني” أو “الأردنية”، لم ترد لا من قريب ولا من بعيد، لتوصيف أيِّ مضمون من مضامين أعمال المقاومة، لا باعتبار أن الأردن قد “احتل أرضا فلسطينية” كان قرار التقسيم قد منحها للفلسطينيين، وأنه ضمَّها إلى أراضيه بالقوة أو بغير إرادة أهلها أو بتزوير تلك الإرادة على أقل تقدير، على الرغم من إدراك الجميع أن الغاية من هذا الضَّمِّ الذي أُسْبِغَت عليه عناصر الشرعية لم تكن بريئة، وأن الهدف منه هو تلجيم أيِّ مقاومة ضد إسرائيل والعمل على حماية هذه الأخيرة، وهو ما مارسه النظام الأردني دائما وبكفاءة عالية ومنقطعة النظير. ولا بالإشارة إلى أن الأرض التي تمَّ ضمُها للأردن عقب “مؤتمر أريحا” هي أرض “فلسطينية” يجب التعامل معها على هذا الأساس. ولا حتى باعتبار أن المسألة مسكوتٌ عنها ومؤجلة إلى حين!!
إن كل أعمال المقاومة ومنظماتها وحركاتها وبلا استثناء، لم تعرض في أيٍّ من حواضِنِها الفكرية والأيديولوجية ما يشير إلى أيِّ توصيفٍ من القبيل المذكور لعلاقة الضفة الغربية بالأردن، على الرغم من أن الكثيرين كان لهم رأيهم في واقعةِ أن ضمَّ الضفة إلى الأردن قد غيَّب الهوية الفلسطينية التي كان وجودها وتجسُّدها على أرض الواقع سيشكِّل أهم نقيض للهوية الصهيونية، ما جعلهم ينظرون إلى هذا التغييب باعتباره أحد عناصر المؤامرة ضد القضية، وهو أمر قلما اختلف عليه المناضلون والمتصدون للصراع وللقضية.
ومع ذلك فقد صيغت المسألة في الوعي وفي اللاوعي الفلسطينيين والأردنيين على حدٍّ سواء ببساطةِ العرض التالي: الأرض المحتلة هي فلسطين، و”الضفة الغربية لنهر الأردن” ليست أرضا محتلة، وهي الآن أردنية بإرادة فلسطينية عبَّر عنها مؤتمر أريحا، فهي الآن ليست فلسطين إذن، وبالتالي فلا فلسطين خارج حدود الأرض المحتلة. ولا قيمة لتنافس الهويات عليها – أي على الضفة الغربية – إذا أمكن حشد كل مُكَوِّنات الهوية الأردنية لتحريرها. وهذا ما فعلته كل فصائل المقاومة. لذلك لم يكن غريبا أن تظهرَ منظماتُ مقاومةٍ يترأسها ويتزعمها “شرق أردنيين”، وأن ينضوي الكثيرون من هؤلاء تحت لواء كل المنظمات الفدائية التي انطلقت في أعمال المقاومة، بغرض تحرير الأرض المحتلة.
إن من كان يعتبر نفسَه “فلسطينيا” لم يعترض على أردنيته القانونية والإدارية، ولم يجد فيها ما يجبرُه على التخلي عن فلسطينيته النضالية، بل هو قد ذاب فيها ليفعلَها ويثورَ بها ومعها ومن قلبها ضد الاحتلال. ومن كان يعتبر نفسه أردنيا لم يعترض على فلسطينيته النضالية ولم يجد فيها ما يجبرُه هو أيضا على التخلي عن أردنيته القانونية والإدارية، وذاب فيها ليثور بها ومعها ومن قلبها ضد الاحتلالِ نفسه.   
انطلقت المقاومة إذن وهي تشير إلى أن فلسطين المحتلة هي الوجهةُ والهدفُ، ولم تُشِرْ إلى أردنيتها، لأنها كانت تتعامل مع أردنيتها القانونية والإدارية باعتبارها أمرا واقعا بَدَهِياًّ لا يحتاج إلى نقاش. إن ما عاناه الأردنيون – الفلسطينيون – في الضفة الغربية من ألوان القمع والحصار، لتغييب بندقيتهم ولطمس روحهم النضالية منذ ضم الضفة الغربية إلى الأردن، جعلهم يصرون على توصيف نضالهم بأنه نضال يتجه نحو فلسطين المحتلة. فهم لم يكونوا بحاجة إلى تذكير أحد بأردنيتهم القانونية والإدارية، لكنهم كانوا في أمس الحاجة لتذكير أنفسهم وشعبهم والنظام الأردني والعرب وكل العالم بفلسطينيتهم النضالية التي حوربت وطمست على مدى الأعوام السبعة عشر التي سبقت انطلاق أعمال المقاومة. لهذا السبب بدا واضحا أن الأردنيين الذين ثاروا لأجل تحرير فلسطين باعتبارها أرضَهم التي طُرِدَ منها الكثيرون منهم، كانوا محتاجين إلى تأكيد الحقيقتين التاليتين اللتين كان يجب أن ترتبطا بالمقاومة منذ بدايتها..
الحقيقة الأولى.. إن الأرض التي لم تحتلَّها إسرائيل مما هو من حقِّ الفلسطينيين بموجب قرار التقسيم، هي “أرض أردنية”، وأهلها سواءٌ منهم الأصليون أو من لجأ منهم إليها بعد الحرب، هم “أردنيون”، بكل ما لهذه الكلمات من معاني قانونية وإدارية تُؤَصِّل لمفهوم المواطَنَة الحقَّة. وليس في تنازل سكان “الضفة الغربية” عن هويتهم الفلسطينية المعترَف لهم بها بموجب قرار التقسيم، ليصبحوا جزءا من مادة بشرية لهوية عربية سورية أخرى هي “الأردنية”، أيُّ مثلبٍ أو مظهرٍ من مظاهر التنازل عن الحقوق، مادامت “الضفة” أرضا محررة، ومادامت الهوية الأخرى لا تختلف عن هويتهم من حيث جذورهما السورية، ومن حيث إمكان تَمَرُّدِهما على الخريطة “السايكسبيكوية” التي صنعت الاثنتين لتؤديا أدوارا وظيفية محددة خدمة للمشروع الصهيوني. وذلك على قاعدة أن كل هذه الهويات “الأردنية” و”الفلسطينية”، بل وحتى “اللبنانية” و”السورية” وغيرها، هي في المُحَصِّلَة هوياتٌ مصطنعة وطارئة ومستحدَثَة خلَّقتها خريطة “سايكس بيكو”، ولا قيمةَ لأيٍّ منها إلا بقدر ما تكون هويةً قوميةَ التَّوَجُّه، تَحَرُّرِيَّةَ المضمون، مستقلة الأداء، بعيدة عن كل معاني التَّبَعِيَّة والقُطْرِيَّة والوظيفِيَّة.
الحقيقة الثانية.. إن “الهوية الأردنية” التي ذاب فيها أهل الضفة الغربية بعد الحرب متخلين عن هويتهم “الفلسطينية” في جانبها القانوني والإداري، ليصبحوا بموجب هذا التخلي وذلك الذوبان مواطنين أردنيين، والتي هي هوية أريدَ لذوبانهم فيها أن يكون سببا في تحييدهم وتغييبهم عن فلسطينيتهم في جانبها النضالي، هي ذاتها الهوية التي غدت تمثل النقيض المباشر للصهيونية المحتلة للأرض الفلسطينية. فإذا كان قد أريد للهوية الفلسطينية أن تختفي في قلب هوية أخرى هي الهوية “الأردنية” ظنا ممن فعل ذلك أن هذا سينهيها ببعدها النضالي المقاوِم، فإن “الهوية الأردنية” التي استهْدِفَت لتكون الوعاء الحاضن لهذا التغييب وهذا التحييد، تمرَّدَت على هذا المشروع الإمبريالي الصهيوني الرجعي، لتصبحَ هويةً نضاليةٍ، بأن تَقَمَّصَت – إلى جانب أردنيتها القانونية والإدارية المُؤَصَّلَة على قاعدةِ المواطَنَة – فلسطينيتها النضالية بكامل المعاني المنطواة في مصطلح “الهوية النضالية الفلسطينية”.
وبروحٍ وطنية متفرِّدَة وغير مسبوقةٍ في عوالمِ العمل الوطني المحاصر بكلِّ المُربِكات والمثبِّطات، روحٌ وطنيةٌ تحكمها هاتان الحقيقتان، أطلق الشعب الأردني مقاومتَه، وفجَّر ثورتَه، عبر سمفونيةِ توفيقٍ بين أردنيته القانونية وفلسطينيته النضالية حيَّرت العالم وأربكت دهاقنة المشروع القُطْري الوظيفي، لتأخذ مسيرة التآمر التي سيضطلع بها أكثر أنظمة التجزئة العربية قُطْرِيَّةً ووظيفِيَّةً وتبعِيَّةً، منحنياتٍ هي أيضا غير مسبوقة في عوالم التآمر والتبعية وتمرير العلاقات المعادية.
تناقض العمل الفدائي وتناقضت أعمال المقاومة ومنذ البدء، أشدَّ ما يكون التناقض مع النظام الأردني، نظرا لما كان هذا النظام يمثله – نتيجة ممارساته التي كشفت عن ذلك ودلَّت عليه – من حارس أمين لحدود إسرائيل من تسرُّب الفدائيين، وذلك كجزء لا يتجزأ من فضاء الدور الوظيفي للدولة الأردنية. ولقد تجلَّت أوجه تعاون النظام الأردني مع إسرائيل فيما يلي..
أ – قيام السلطات الأردنية بنزع سلاح سكان الضفة الغربية، بهدف إفراغها من أيَّ قدرة مستقبلية على مواجهة إسرائيل.
ب – قيام السلطات الأردنية بمحاربة القوى الوطنية الأردنية والتضييق عليها، سعيا إما نحو تصفيتها وإما نحو تحجيمها، بسبب ما كانت تشكِّلُه من خطرٍ عليها، خاصة وأن القضية الفلسطينية كانت مدرجة على برامج معظم تلك القوى والتشكيلات الوطنية.
ج – قيام السلطات الأردنية ولمدة طويلة قبل اندلاع الكفاح المسلح وبعده بلعب دور الشرطي الحامي لحدود إسرائيل من هجمات الفدائيين. فقد كشف “جون غلوب” القائد السابق للجيش الأردني النقاب عن ذلك في إحدى رسائله التي قال فيها: “لقد اتخذ الأردن طوال عشرين عاما كل إجراءٍ ممكن لتجَنِّب استفزاز جارته بالغة القوة “إسرائيل”.. إن الأردن يعارض التخريب في إسرائيل.. ولقد بَذَلتُ خلال السنوات الثماني التي تسلَّمت فيها القيادة، جهودا مُتَكَرِّرَةً لضمان تعاون الحكومة الإسرائيلية في منع التَّسَلُّل، وقد اقترح الأردن تعاونا بوليسيا وثيقا، وإقامة اتصال مباشر بين ضباط البوليس على جانبي الحدود، وعرض الأردن أن يسمح للبوليس الإسرائيلي وكلابه بتعَقُّبِ آثار المخربين عبر الحدود داخل الأردن، حيث يمكن أن يقابلهم البوليس الأردني ويساعدهم”(7). وهو الأمر الذي يجعلنا لا نستغرب كيف يمكن لأول شهيد من حركة فتح يقضي إلى ربه “برصاص القوات الأردنية، وهو الشهيد أحمد موسى”(8). ونشير هنا للأهمية إلى أن الحدود الأردنية التي كان يشير إليها “جون غلوب” هي خط الهدنة لعام 1948.
وأمام فشل السلطات الأردنية في القضاء على العمل الفدائي بصورة فورية وجذرية، راحت تناصبُه العداءَ منذ انطلاقته، بالارتكاز إلى مبادئ “النَّفَس الطويل”، وبدأت تخطِّطُ لاحتوائه وتفريغه من مضمونه، وتعمل على إفقاده قاعدتَه الشعبية التي يستند إليها، عاملة على إسقاط الحقيقتين اللتين ارتبط بهما عمل المقاومة في الأردن منذ بداياته، واللتين أشرنا إليهما سابقا. وعندما راحت إسرائيل تصبُّ جام غضبها على أماكن انطلاق هذا العمل، مُدَشِّنَةً بوادر المعضلة التي بدأ يعاني منها النظام الوظيفي الأردني، لم يجد النظام أمامَه سوى العمل بشكل إستراتيجي، للوصول إلى هدف القضاء على المقاومة في الساحة الأردنية.
ومع أن العمليات الإسرائيلية المضادة للعمل الفدائي والمنصبَّة باتجاه الأراضي الأردنية، كانت عديدة، إلا أن عملية “السَّموع” كانت فريدة من نوعها بكل نتائجها وتداعياتها الفورية وغير الفورية. “فقد ضربت إسرائيل قريةَ السَّموع في شهر تشرين ثاني/نوفمبر من عام 1966، ليتضحَ عجزُ النظام عن حماية التراب الوطني، ولنتشب المظاهرات الجماهيرية العفوية تطالب بتسليح الشعب وتحصين القرى، ما نقل التناقض الكامن بين النظام والعمل الفدائي إلى مستوى مرتفع من الحِدَّة. فقامت السلطات بحملة واسعة من التنكيل والإرهاب والسجن والاعتقالات، شملت قطاعاتٍ واسعةً من الجماهير، وخاصة الجماهير المنتظمة في صفوف العمل الفدائي أو المؤيدة له”(9). وهكذا بدأت تتضح وتتجلى الآليات التي تحكم التناقض بين كل من أنظمة التجزئة – إفرازات سايكس بيكو – ومشروع المقاومة من جهة أولى، وبين إسرائيل والمشروع نفسه من جهة ثانية، علاوة على نوعٍ خجول من التناقض حكم بين الحين والآخر آلية التعامل بين تلك الأنظمة وإسرائيل من جهة ثالثة.
“فالمقاومة تنطلق للتصدي لما ترى أنه التناقض الأساسي، أي التناقض القومي الوطني بين الأمة العربية وإسرائيل، عبر طليعة هذه الأمة مُمَثَّلَةً في الشعب الأردني، فتقوم بتنفيذ غاراتها على إسرائيل. إسرائيل من جهتها تعتبر الدولَة العربيةَ التي تنطلق منها الغارات الفدائية مسؤولة عن العمل الفدائي، فتضرب ضرباتها الانتقامية على هذه الدولة. هذه الضربات تُعَرِّي النظام أمام الشعب وتكشفُ عن عجزه. ولهذا العجز بالذات لا يستطيع الردَّ على الضربات الإسرائيلية، فيحاول اتقاءَها بفرض الحصار على العمل الفدائي أو بمحاولة احتوائه إن أمكن، فيقمعُه. وحينئذٍ ينتقل التناقض المؤجَّل بين المقاومة والنظام ليصبحَ هو التناقض الحاسم الذي يقف بينها وبين الانصراف لمعالجة التناقض الأساسي”(10). وجاء حزيران عام 1967 بنكسته التي كانت فاجعةً أصابت العقل العربي الجماهيري بالذهول، وكشفت عن عجزٍ غير مُتَصَوَّر في الأنظمة العربية التي ما برِحَت تصف العمل الفدائي بالمشاكس والمشاغب والمعرقل للخطط القومية التي تَبَدَّى عجزُها الهائل في ذلك الشهر الكئيب. وكنتيجة لذلك “أطلت الاتجاهات التي ما برِحَت تتنازعُ العقلَ العربيَّ برأسها، لتجدَ في الهزيمة مبَرِّرا لوجودها واستمرارها. فقام الشيخ يلقي بتبعة الهزيمة على الفجور والضلالة والفِسْق. وقام داعيةُ التِّقَنِيَّة يطالب بالصناعة والتصنيع. وقام الزعيم المطرود يلقي بالتبعة على الزعماء القائمين. وقام الزعيم الطامح يطالب بتغيير الزعماء. ووجد كل واحد من هؤلاء ومن غيرهم، في الأوجه المختلفة للعدو الصهيوني وللحدث المزلزل ما يدعم به حُجَّتَه”(11).
كانت الهزيمة فاتحةَ تَغَيُّرٍ في العقل العربي عامة والأردني – الفلسطيني خاصة. كما كانت دافعا لقلبِ كل معادلات التفكير السياسي التي اختمرت في العقل العربي حينا من الدهر. ورغم الهزيمة ومرارتها، وبرغم كل الدعوات الفارغة هنا وهناك، كانت الثورة الأردنية وكان مشروعُها المقاوم، هما وحدهما اللذين امتلكا في أحلك الظروف الإجابةَ الصحيحة على سبب الهزيمة والتَّرَدِّي، فقامت المقاومة بتحديد سُبُلَ العمل المقبل للتخلص من وقع هذه الهزيمة وهزائمَ أخرى قد لا تكون بعيدة. “ففي 11 حزيران 1967، اقتحم رجال “العاصفة” بالسلاح، الأرضَ المحتلة لأول مرة بعد الهزيمة. وقيمةُ المبادرة بالعمل في 11 حزيران، هي تَخَطِّي كل مواقف اليأس والذهول، وترجمةٌ لإرادة الشعب العربي عامة والأردني خاصة، في عدم الاستسلام، والاستمرار في محاربة العدو دون انقطاع”(12).
وهكذا ومن قلب الهزيمة أطلَّت برأسها المرحلة التي غدا فيها مشروع “المقاومة الأردني” هو التعبير الموضوعي عن إرادة الأمة العربية كاملة، وليس عن إرادة الشعب الأردني وحده. وراح هذا المشروع ينمو بشكلٍ غير متوقع، وليس أدلَّ على ذلك من تلك السرعة والقوة اللتين نما بهما منذ الهزيمة وحتى عام 1968، حيث استطاعت قوى الثورة تنظيم “عشرات الآلاف في فترة قصيرة نسبيا، في حين استغرق إعداد الأنوية الأولى لفتح سنواتٍ سبعاً، من عام 1958 ولغاية عام 1965، ولم تستطع أن تتخطى حجما محدودا قبل عام 1967″(13).
وإذا كانت هزيمة حزيران سببا قويا مكَّن لمشروع المقاومة مواقِعَه الجماهيرية وامتداداتِه الشعبية، بسبب خيبة الأمل في الأيديولوجية النظامية الرسمية في التحرير، فقد كان انتصار الكرامة ذا أثر كبير في توسيع دائرة هذا التمكين. فبقدر ما كان يوم “5 حزيران 1967” يوما مشؤوما، بقدر ما كان يو “21 آذار 1968” يوما مشهودا بأروع معاني التفاؤل التي زرعها في النفوس، مُدَعِّما سلطانَ مشروع المقاومة ومُفَعِّلا قوَتَه.
لقد كان مشروعُ المقاومة يطرح أيديولوجيةَ تحريرٍ جديدة، تختلف عن الأيديولوجية التي كانت قائمة. فقد طرح أيديولوجيةَ حربِ الشعب على أنقاض أيديولوجية الحرب النظامية التي كانت تدافع عنها وتُنَظِّرُ لها الأنظمة العربية التي كان معظمُها يدور في فلك الهَوِيَّة القُطْرِيَّة ومنظومة التجزئة، وهو الأمر الذي كان يدفعها إلى محاصرة المقاومة والعمل الفدائي، مُتَّهِمَةً إياه باختراق المشروع القومي النظامي الرسمي للتحرير.
ولكن في ظل هيمنة أيديولوجيةٍ معينة على نمطِ التفكير في بيئةٍ اجتماعية معينة، يغدو الحديث عن اتساع وانتشار أيديولوجيةٍ معارضةٍ جديدة، حديثا يثير السُّخرية ما لم نأخذ في الاعتبار ضرورة خلقِ عواملِ وعناصرِ هذا التوَسُّع وذاك الانتشار. وبالفعل فقد قفز مشروعُ المقاومة من مشروعٍ محدودٍ جدا بين عامي 65 – 67، إلى مشروع واسعٍ جدا في عامي 67 – 68.
كانت الهزيمة في حزيران، وكان الانتصار في آذار إذن هما أجلى عوامل الدَّفع باتجاه التَّوَسُّع والانتشار في مشروع المقاومة المرتكز إلى قاعدة الحرب الشعبية والكفاح المسلح. فهزيمة عام 1967 هزمت الأيديولوجية القائمة وخفَّفَت من حدَّة سيطرتها على العقول وعلى طرائق التفكير. وغدا الحديث التَّشْكيكي عند مناقشة تلك الأيديولوجية أمرا ميسورا وسهلا ومتداولا، مادام الميدان قد أثبت عجزَها وفشلَها وهزيمتَها. لقد كانت الهزيمة بمثابة الخطوة الأولى على طريق الانقلاب الأيديولوجي المرتقب.
أما الخطوة الثانية، فهي نصر عام 1968 في معركة “الكرامة”، هذا النصر الذي عرفت الثورة كيف تُجَيِّرُ نتائجَه لصالح مشروعِها المُقاوِم، خلقَ القناعة بالأيديولوجية الجديدة لتعيدَ ملءَ النفوس والعقول بالثقة والأمل. ولم يكن من السهل الارتماء في أحضان أيديولوجية جديدة في ظل الوضع النفسي الذي أحدثته الهزيمة، ما لم تستطع هذه الأيديولوجية أن تثبتَ جدارتَها. إذ من غير المعقول إقناع الشعوب، وخاصة الشعب الأردني المعني المباشر والأول بالحالة الإسرائيلية، ورأس الحربة في أي مشروع مواجهة ضدها، بجدوى البندقية والمسدس وبفعالية القنبلة واللَّغم، بعد هزيمة الطائرة والدبابة واندحار المدفع والصاروخ، بمجرد التَّنْظير غيرِ المُرْفَق بصيَغٍ عملية تؤكِّدُه. وكانت معركة “الكرامة” هي هذا الامتحان الكبير الذي أعاد ملء الفراغ الذي أحدثته الهزيمة معَبِّئا الجماهير بأيديولوجية الثورة. فاتسع نتيجة لذلك مشروع المقاومة أيَّما اتساع في فترة توصف بأنها لم تكن تكفي قبل عام 1967 لتنظيم خليتين أو ثلاث خلايا.
ولو حاولنا تَفَحُّصً الانقلاب الأيديولوجي الذي حصل في الفترة ما بين حزيران 1967 وآذار 1968 – أي في أقل من سنة – لأمكننا إثارة تساؤل يستعصي على الإجابة، ما لم نفترض أن هناك تناقضا في التصورات لدى قادة مشروع المقاومة، انعكس على شكل تناقضٍ عملي خلقَ فجوةً كبيرة بين النظرية والتطبيق لدى هؤلاء القادة، ولدى المقاومة نفسِها بالتالي، أفقدها في مراحل مُبَكِّرَة من عمرها أي قُدْرَةٍ على الحفاظ على نفسها ومشروعها بشكله التقدمي المناجز للأدوار الوظيفية في المنطقة.
ففي الوقت الذي يؤكد فيه “صلاح خلف” كما مرَّ معنا، على أن العملَ الفدائي لا يرقى في ذاته إلى مستوى القدرة على تهديد أمن إسرائيل، لأنه لا يستطيع ذلك بما هو مجرد عمل فدائي، وذلك بحكم طبيعته من جهة أولى، وبحكم طبيعة إسرائيل ومحيطها العربي في المنظور الجيوسياسي من جهة ثانية – وهذا التأكيد من قبل “صلاح خلف” يعكس تصوُّر الثورة ككل – فإننا نجد حرصا على تنمية الثورة والفعل المقاوم وتوسيع دوائره. فلماذا هذا الحرص؟! أي لماذا هذا الحرصُ على تنميةِ فعلٍ مقاومٍ وعملٍ فدائي يقتنع قادتُه وأصحابُه ويدركون أنه ليس هو الذي سيحقِّق التَّحْرير الكامل، ولا هو الذي سيدحر الاحتلال، ويهزم العدوَّ بالضربة القاضية؟!
في ظل الحقيقة التي يُكَرِّسُها “صلاح خلف” عن العمل الفدائي، لا يمكننا أن نتصورَ هدفا فعليا يقف وراء تنمية هذا العمل وتفعيله إلى جانب فكرةِ “المناوشة” التي أشار إليها في كتابه “فلسطيني بلا هوية”، سوى التأثير على الواقع العربي المحيط بفلسطين، وخاصة في الأردن – باعتباره الساحة الأكثر أهمية وحساسيَّةً بالنسبة للوضع الجيوسياسي لإسرائيل – عبر تأجيج تناقضات الأنطمة مع شعوبِها من خلال ذلك الفعل المقاوم، الكاشف لعوراتها ولعجزها ولتحالفاتها الإمبريالية الصهيونية، وذلك تمهيدا لتغيير هذا الواقع ودفعه خطواتٍ إلى الأمام على طريق حسم تناقض تلك الشعوب مع قوى التجزئة ومنظومة الهويات القُطْرِيَّة، التي كان النظام الأردني يقف على رأسها جميعها رأسَ حربةٍ وطليعةً تتقدم صفوفَها في مواجهة مشروع المقاومة والتحرير. وبالتالي فقد كان لزاما علينا أن نفهمَ أن الحرص على تقوية مشروع المقاومة كان عملا يصبُّ في هذه البَوْتَقَة، أو يُفْتَرَض أنه يُصُبُّ فيها.. شيء جميل وهو المطلوب. 
ولكن كيف يمكننا تفسير الدعوات التي ظهرت خلال صيرورة الثورة في الساحة الأردنية، من قِبَلِ قادة مشروع المقاومة التي هي “مقاومة أردنية”، لعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة الأردنية؟! كيف يمكننا تفسير هذا التَّعَفُّف المفاجئ عما يُسَمَّى “تدخلا في شؤون الأردن” الذي يعتبر “دولة الثورة”، و”دولة شعب الثورة”، و”دولة ساحة الثورة”، و”دولة عمق الثورة”، بل و”دولة كل شيء يتعلق بالثورة”؟!(14)
فإذا كان التحرير غيرَ مقدور عليه بالعمل الفدائي وحدَه، وإذا كان من يدركون ذلك ويعونه جيدا، يمارسون العمل الفدائي ويصرون عليه وعلى تفعيله وتقويته، فهم يفعلون ذلك إذن لتحقيق غايتين، إحداهما مناوشة “إسرائيل”، والثانية تفعيلُ التناقض ضد النظام لتفريغه من محتواه المناهض لقضية الثورة والمقاومة. ولكن، إذا كان هذا لا يتم إلا بالتدخل المدروس والمُمَنْهَج في شؤونه باعتباره نظامَ حكمٍ يعادي الشعبَ وثورتَه، سعيا نحو تغييره، ألا يعني ذلك أن العمل الفدائي برمته يفقد قيمتَه ودلالتَه وهدفَه، إذا تمَّ إعلان الامتناع عن واحدة من أهم حلقاته، ألا وهي مناجزة النظام نفسِه، بهذه المقولة النشاز “عدم التدخل في شؤون الدولة الأردنية”؟!   
في واقع الأمر لا يعلن امتناعَه عن التدخل في شؤون دولةٍ ماَّ وتعفُّفَه عن ذلك، إلا من يعترف حتما بأنه ليس من تلك الدولة ولا ابنا لها، أو أنه مجرد ضيفٍ عليها، لذلك فهو يُعْطي هذا الوعدَ بـ “الامتناع عن التدخل في شؤونها”، للسماح له بممارسه عمله على أرضها وانطلاقا منها. ألا يعني ذلك إذن أن الثورة الأردنية التي انطلقت وهي متدثرةً بروح حقيقةٍ مفادُها ذلك التمازج غير المسبوق، والذي أشرنا إليه فيما مضى، بين الهوية الأردنية القانونية والإدارية على قاعدة المواطنة، والهوية الفلسطينية النضالية على قاعدة المقاومة، بدأت تَتَعَرَّى من دثارِها الحامي والواقي والمُشَرْعِن لها، باعتبارها لنفسِها ظاهرةً غير أردنية تستسمح النظام الأردني للعمل على أرض دولته، واعدة إياه بالالتزام بأصول الضيافة؟! أولا يعني ذلك بالتالي أن فاجعة أيديولوجية بدأت تتخلَّق وتتكوَّن في أعماق بُنْيَة المقاومة، عَبَّرَت عن نفسها في ذلك الامتناع غير المفهوم عن التدخل في شؤون دولة يُفْتَرضَ أنها دولةُ الثورة ودولة شعب الثورة؟!
فالأردني من حيث هو مواطنٌ أردني بالمعاني القانونية والإدارية لهذه المواطنة، يحق له التدخُّل في شؤون دولته، وهو لا يستأذن من النظام القُطْري التَّبَعي المرتبط، كي يناضل، إذا كان هذا النظام يقف في وجه نضالاته المشروعة ويصادر حقوقَه ويمعن في مناجزة ثورته ومقاومته للاحتلال، بل هو – في مثل هذه الحالة – يوجه نضالاتِه ضدَّه مباشرة، ويعمل على إسقاطه، لتغيير هذا النظام المتغوِّل على دولته ومؤسساتها بنظام وطني. ولا يمكن لأي شيء من ذلك أن يُسمى تدخُّلا في شؤون الدولة الأردنية بالمعنى الذي راح يروج في تلك الفترة من الزمن. بل هو يسمى عملا يهدف إلى تنظيف هذه الدولة التي هي دولته – أي دولة الأردني – وتطهيرها لتضطلعَ بدورها المأمول في قضاياه كما يتصورها.
وإذن فما الذي حدث وراح يحدث ويتكرَّسُ ويتجذَّرُ في قلب أيديولوجية الثورة، وفي قلب الشعب الأردني – وقود الثورة ومادتها البشرية – من ثمَّ، بشكلٍ جعل لمقولةِ “عدم التدخل في شؤون الدولة الأردنية” مكانا ماَّ في قواميس النضال والمقاومة والثورة الأردنية، ليطعنَها بذلك الإسفين الفاجع الذي أدَّى بها إلى ما صارت إليه مع نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي؟!  
حاول الكثيرون تفسير هذا الامتناع بالقول بأنه كان عَرْضاً تكتيكيا طرحته المقاومة لتَجَنُّب استفزاز النظام الأردني في فترات ضعفها، بينما هي تدرك من الناحية الإستراتيجية أنها ستناجزه مناجزة وجودية في مرحلة متقدمة. لكن مع الأسف، يفقدُ هذا التفسير أيَّ قيمةٍ استدلالية له، عندما نعلم أن المقاومة لم تطرح مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية عامة، وللأردن خاصة، إلا بعد أن قويَ عودُها، أي بعد جرعة القوة الأولى التي أعقبت هزيمة حزيران 67، ثم بشكل أوضح بعد جرعة القوة الثانية التي أعقبت انتصار الكرامة عام 68. أما في مراحلها الأولى، أي في حالات الضعف، فقد كانت أبعد ما تكون عن طرح مثل هذه المقولات المتعارضة منذ البدء مع المبدأين الإستراتيجيين اللذين قامت عليهما الثورة، ألا وهما “هويتها الأردنية” في الأبعاد القانونية والإدارية للهوية، و”هويتها الفلسطينية” في الأبعاد النضالية للهوية. أي أن الثورة بدأت بعد هاتين الجرعتين المقويتين تُشَّكِّل لنفسها جراءَ تطوراتٍ ماَّ، مُكَوِّنات هويتها الخاصة والتي راحت تنسلخ تدريجيا عن أردنيتها القانونية والإدارية، لتبحثَ لها عن وعاءٍ قانوني وإداري آخر هو “الهوية الفلسطينية”.
إن القراءة المعَمَّقة لأحداث تلك الفترة سوف تكشف لنا – وهو ما سيظهر جليا في سياق تَتَبُّعِنا لفصول جريمة السَّطو على ثورة الشعب الأردني – عن أن بدءَ تشَكًّلِ القاموس السياسي لمفردات “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة الأردنية” ولتوابِعِها، التقى من الناحية التاريخية مع سياسة النظام الأردني في ممارسة لعبة “لوغو الهويات”، وبالتحديد حين بدأ يعمل بذكاءٍ على استبدال “الهوية الأردنية” كوعاءٍ للمقاومة، بالهوية الفلسطينية كوعاء لتلك المقاومة، لتتحوَّلَ من “مقاومة أردنية” إلى “مقاومة فلسطينية”. أي أنه بدأ يُجْري عملية تَنَقُّلات خطيرة في المواقع الوظيفية للهويات بشكل مدروس ومُمَنْهَج.
فبعد أن كانت “الهوية الأردنية” هي الوعاء القطري الوظيفي الذي كان مرسوما له أن يبتلعَ البعد النضالي المرتقب والمتوقَّع في “الهوية الفلسطينية”، عبر مؤتمر “أريحا”. جاء الوقت الذي يجب فيه على “الهوية الفلسطينية” أن تكون هي الوعاء القطري الوظيفي الذي يبتلع البعد النضالي في “الهوية الأردنية”. أي وبمعنى أكثر وضوحا، بعد أن أدت “الهوية الأردنية” دورَها الوظيفي في ابتلاع “الهوية الفلسطينية” التي كان يُخشى من تداعيات تَجَسُّدِها في الواقع على المشروع الصهيوني “إسرائيل”، أصبح على “الهوية الفلسطينية” غير الموجودة وغير المتجسِّدة أصلا، أن توجدَ وأن تَتَجَسَّدَ للقيام بدورها الوظيفي، المتمثل هذه المرة في حماية إسرائيل من “الهوية الأردنية” التي أصبحت مخاطرُها بعد فشل الرؤية “السايكسبيكوية” في توظيفها التوظيفَ المرسوم، أكبر من مخاطر تَجَسُّد “الهوية الفلسطينية”، التي أصبح ينظر إلى تَجَسُّدِها بعد استفحال أمر “المقاومة الأردنية”، باعتباره المُنْقِذ الذي سيحمي النظام الأردني وإسرائيل معا، بخلق “هوية وظيفية” جديدة ستقوم بادئ ذي بدء بتفريغ “الهوية الأردنية” من كل مضامينها الثورية والنضالية المناجزة للنظام ولإسرائيل على حدٍّ سواء، لتقوم بعد ذلك باختزال المقاومة والثورة من فضائها الأردني الواسع المنفتح على الفضاء العروبي القومي الأوسع والأرحب، إلى فضائها الفلسطيني الضَّيِّق. وهذا على وجه التحديد هو ما حصل بعد أن مارس النظام الأردني بقيادة الملك الداهية “حسين بن طلال” كل ما أمكنه من سياسات، لتحقيق هذه الغاية.
ولقد ساعد على البدء في التأسيس للعبة “لوغو الهويات” هذه وممارستها بالتالي، احتلال الضفة الغربية وخروجُها واقعيا وعمليا من السيادة الأردنية. فالهوية القانونية والإدارية للضفة الغربية بعد الاحتلال أصبحت شكلية، وأصبح من الممكن التأسيس لمبدأ أن “الضفة الغربية” هي “أرض فلسطينية محتلة”، في الوعي واللاوعي الشعبيين المقاومين للاحتلال، دون أن يتمكن النظام من مقاومة هذا المبدأ حتى لو حاول، مع أنه لم يحاول في حدود ما يساعده على تمرير خطته الجديدة، مادام نظاما مهزوما، ومادام من يؤسسون لهذا المبدأ منتصرين واقعيا خاصة بعد معركة الكرامة.
فمع احتلال “الضفة الغربية” بشكل أفقد النظام الأردني جزءا كبيرا من زخم سيادته القانونية والإدارية عليها، ومع تَجَلِّيات عجزِ هذا النظام عن الدفاع عن أرضٍ تقع تحت سيادته تعرضت للاحتلال، ومع انتصار المدِّ الثوري في الكرامة عام 1968، ومع ضرورة أن يؤدي النظام دورَه الوظيفي المرسوم حفاظا على وجوده وعلى هويته “السايكسبيكوية” بفضائها الصهيوني الأرحب، غدت لعبة “لوغو الهويات” لعبة سهلة الممارسة، ووجد النظام نفسه مدفوعا إلى التفكير، ومن ثَمَّ إلى السلوك بشكلٍ يوصلُ الأيديولوجيةَ الجديدةَ التي بدأت تتكوَّن كوعاءٍ للثورة إلى أقصى مدى لها.
وفي خِضِمِّ ظروفٍ سياسية وجماهيرية كهذه، أصبحت كل مقاومةٍ ومواجهةٍ يبديها النظام للثورة، وغدا كل صدامٍ يحدث بينهما، بمثابة جرعةِ قوَّةٍ تُحْقَن بها شرايين الحالة الأيديولوجية الجديدة التي راحت تَتَخَلَّق وتَتكَوَّن في بيئةٍ خصبة حقنتها كل الظروف بأقصى درجات الخصوبة المُتَصَوَّرَة. هذا فضلا عن أن النظام نفسَه ورغم حرصه الشديد على ألا يتنازل عن أردنية “الضفة الغربية” التي احتُلَّت وهي تحت سيادته، تصورا منه أنها يمكن أن تعود إلى سيادته إذا هو تَمَكَّن من تخليص “إسرائيل” من “المقاومة” مثبتا بهذا التخليص إمكان الاعتماد عليه في كل مشروع يستهدف صهينةَ المنطقة، إلى درجة أنه لم يعلن ذلك التنازل إلا بعد مرور أكثر من عشرين عاما على الاحتلال(15)..
نقول.. إن النظام رغم حرصه الشديد على ذلك، لم يقف في وجه أيِّ دعوة كانت تؤسس لفلسطينية الضفة، مادامت هذه الدعوة تعمل على تنفيذ الخطة المرسومة والمتمثلة في تجسيد “هوية فلسطينية”، ستساعده على حماية نفسه أولا، باعتباره المدافع عن “هوية أردنية” شهيدة وضحية، تحاول “الهوية الفلسطينية” ابتلاعَها بعد أن تنكرت هذه الأخيرة لأردنيتها عندما بدأت الظروف تساعدها على ذلك، وعلى القضاء على المقاومة الأردنية بشكل يحيِّد الشعب الأردني تحييدا كاملا ثانيا، وللمفارقة بهويةٍ كانت تُجَّسِّد أخطر ما يهدد إسرائيل عندما تم تغييبها في البداية، لتصبحَ في هذا الظرف التاريخي الخاص هي الهوية التي شيئَ لها أن تحضنَ صيرورة الأحداث التي أدت إلى ذلك الفصلِ الفاجعِ بين مُكَوِّنات “الهوية الأردنية”، على النحو الذي ما زلنا نتجرعُ مرارةَ نتائجِه حتى الآن.
لقد أثبت قادة الثورة ومديرو مشروع المقاومة بوعي منهم أو بغير وعي، أنهم أعجزُ من أن يقودوا ثورة تغير خريطة “سايكسبيكو”، لأنهم في الوقت الذي اكتسبت ثورتهم مدَّها الجماهيري الواسع الضامن لاستمرارها وبقائها وتطوُّرِها وتمدُّدِها نحو الفضاء القومي العربي انطلاقا من الفضاء الأردني، قاموا بتفريغها من كل عناصر قوتها القادرة على تحقيق ذلك. فهم عوضاً عن أن يحولوها من ثورةٍ أردنية إلى ثورةٍ عربية شاملة، كان يمكنها أن تكون هي “الثورة العربية الكبرى” الحقيقية، بدل تلك الظاهرة المسخ التي فُرِضَت علينا ثوريتها وعروبيتها وكِبَرُها، رغم تواطئها مع الاحتلال البريطاني، فقد اختزلوها لتصبح “فلسطينية”.
فما أخطر ما فعلوه، وما أنجح من أقحمهم إلى هذا الخندق القُطْري الضَّيِّق الذي نحروا فيه ثورتهم عندما تجاوبوا مع مُكَوِّناته الأيديولوجية مُفَرِّغين المقاومةَ ليس من قدرتها على التَّمَّدُّد إلى الفضاء العروبي وحسب، بل حتى من إمكانية بقائها تتحرك داخل الفضاء الأردني الأشمل من الفضاء الفلسطيني الضَّيِّق. وهم إن كانوا حسني النوايا فقد بلعوا الطعمَ الذي وضعه في طريقهم داهية السياسة “حسين بن طلال” ومستشاروه الأمنيون، وأثبتوا عدم أهليتهم للتعبير عن المنعطفات الكبرى في تاريخ هذه الأمة، وإن كانوا يدركون مُكَوِّنات لعبة “لوغو الهويات” هذه وتداعيتها على القضية، فهم مع الأسف جزء لا يتجز من المدافعين عن منظومة الهويات القطرية، ولا فرق بينهم وبين النظام الذي تجاوبوا مع مؤامرته للسطو على ثورة الشعب الأردني وتفريغها من كل عناصر قوتها وتمددها إلى الفضاء القومي العربي.
الهوامش..
1 – “كتاب فلسطيني بلا هوية، تأليف صلاح خلف “أبو إياد” عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لغاية تاريخ استشهاده ليلة الثامن عشر من كانون ثاني 1991، ص 100″.
2 – “إن حرب العصابات يطلق عليها عند البعض “حرب الأنصار”، استنادا إلى الأنصار من الثوار الذين ساندوا القوات النظامية في مواجهة قوات الاحتلال الألماني النازي للاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية وناصروهم. آخرون يطلقون عليها اسم “حرب البرغوث”، انطلاقا من اعتبار أن تأثيرها في العدو الكبير والمنتشر على نطاق جغرافي واسع، يشبه تأثير البرغوث الصغير والذي لا بكاد يرى، في جسد الكلب الكبير جدا بالنسبة له، فهو يتأثر به ويتألم بسببه ولكنه لا يستطيع أن يفعل به شيئا بسبب صغره وضآلة حجمه وقدرته على التخفي. وحرب العصابات التي هي في النهاية الشكل الذي يمارس الشعب من خلاله حربه ضد عدوه المنظم واالمترسن بالأسلحة، تحتاج إلى العمق الجغرافي والبشري. وهذا ما لم يكن وما ليس وما لن يكون متوفرا في الحالة الفلسطينية بطبيعتها الفلسطينية المحدودة. وهو ما يجعل التعامل مع القضية الفلسطينية في حاجة إلى قاعدة آمنة بالمعنى الإستراتيجي للقاعدة الآمنة”.
3 – “مجلة شؤون فلسطينية، عدد “98”، كانون ثاني/يناير 1980، من مقالة لهاني الحسن “أبو طارق” عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، بعنوان “وقفة عند الذكرى الخامسة عشرة لانطلاقة الثورة الفلسطينية”، ص 22”.
4 – “كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 24″.
5 – “كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 24″.
6 – “كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 24″.
7 – (من رسالة لـ “جون غلوب”، نشرتها جريدة التايمز اللندنية، بتاريخ 21/02/1968).
8 – “كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 25″.
9 – “كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 26″.
10 – “كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 26″. 
11 – “كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 28″.   
12 – “كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 28″.       
13 – “كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 29″.        
14 – “إن التأكيد على مفهوم الدولة في هذا السياق مهم، لأن الدولة تخص الشعب ولا تخص النظام، وبالتالي فالأردن كدولة هو حاضن الثورة وليس النظام السياسي الأردني الذي ناجز الثورة العداء منذ بدايتها لأنها تناقضه وتناقض مصالحه”.
15 – “الإشارة هنا هي إلى قرار فك الارتباط القانوني والإداري بالضفة الغربية، والذي تم في عام 1988 في ظروف بدا واضحا أنها تصب في خانة لعبة “لوغو الهويات” التي واصل نظام الملك حسين ممارستها حتى آخر لحظة”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.