كان الأردن سباقا في حراكه الجماهيري المعبر عن تطلعات شعبه إلى الإصلاح والتغيير. فإذا كان واقع الثورات العربية الراهنة قد دلَّ على أن حالة من الوعي بضرورة التغيير بدأت تجتاح الأمة وأجيالها الشابة مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بعد زخمٍ تراكمي تحقق عبر السنوات الخمس الأخيرة في بعض الدول، مستفيدة من ثورة الاتصالات، ممثلة في الإنترنت والقنوات الفضائية وأجهزة الاتصال الخلوي،
في الأردن
الثورة المضادة بدأت قبل الثورة
أسامة عكنان
عمان – الأردن
الأردن سباق في ثورته..
كان الأردن سباقا في حراكه الجماهيري المعبر عن تطلعات شعبه إلى الإصلاح والتغيير. فإذا كان واقع الثورات العربية الراهنة قد دلَّ على أن حالة من الوعي بضرورة التغيير بدأت تجتاح الأمة وأجيالها الشابة مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بعد زخمٍ تراكمي تحقق عبر السنوات الخمس الأخيرة في بعض الدول، مستفيدة من ثورة الاتصالات، ممثلة في الإنترنت والقنوات الفضائية وأجهزة الاتصال الخلوي، فإن ثورة الأردنيين التي تم الاصطلاح عليها تواضعا بـ “هبَّة نيسان” من عام 1989، أي منذ 22 عاما، جاءت في وقت لم يكن لوسائل الاتصال الحديثة هذه أي وجود، وقصارى ما كان يتاح للمواطن العربي من طرق للتواصل مع الآخرين، جهاز تلفون أرضي لا يملكه في بيوتهم معظم الناس، وقناة تلفزيونية أرضية أو إذاعة متوسطة الموجة تملكهما الحكومة، لم يكن المواطن يملك أي فرصة لاستغلالهما لصالح حراكه المعبر عن مطالبه وتطلعاته، ولا بأي شكل من الأشكال. ومع ذلك جاء شهر نيسان من عام 1989 مُشهدا العالم على ثورة فجرها أبناء الجنوب الأردني، تبعتها حزمة من الإصلاحات التي أشارت في حينها إلى أمل حقيقي بمستقبل مختلف لهذا الوطن، لولا أن ما حصل لاحقا عكسَ نوعا فاجعا من الانتكاس عن تطلعات الشعب، مازلنا نعاني من تبعاته وتداعياته السلبية حتى الآن، ما ينبئ في رأي الكثيرين بمسارات غير متوقعة لمختلف مظاهر الحراك الشعبي الراهن في مقبل الأيام والأسابيع والشهور.
لا بل إن التنبؤ بثورة قُدِّرَ لها أن تندلع في نيسان من عام 1989 جاء على ألسنة الكثيرين في وقت سبق بكثير ذلك التاريخ، بسبب ما كان يحتقن في البلاد من أمور راح مردودها السلبي يتفاقم، إلى أن عبر عن نفسه في تلك الثورة الهبَّة. فقد قال ليث شبيلات في رسالة بعث بها إلى الملك عبد الله الثاني: “لقد كشفت الداء منذ أول خطاب سياسي ألقيته في موازنة 1983، حيث ركزت على خطورة المديونية رغم تفاهتها يومئذ. ثم حذرت من ثورة اجتماعية لا تبقي ولا تذر في خطاب حجب الثقة عن زيد الرفاعي وخطاب موازنة 1986″(1)
يبدو الأمر الآن وقد أصبح أكثر تعقيدا، فالأردن وإن كان سباقا إلى الثورة في الوطن العربي، عندما بدأ ثورته الشعبية وحراكَه الجماهيري الإصلاحي منذ حوالي 22 عاما، إلا أن ما يجب أن يشغلنا في هذه الحقيقة أمران، أولهما عقد المقارنات بين الحراكين السابق والحالي، وثانيهما البحث في تحليل أسباب الانتكاسة التي فرَّغت ثورة نيسان 1989 من محتواها، ليضطر الشعب الأردني إلى البدء بحراك جديد في مطلع عام 2011، لا تختلف مطالبه فيه عن تلك التي يفترض أنها كانت مطالبه منذ حوالي ربع قرن.
إن مسألة “الهوية الوطنية” وفكرة “المواطنة” القائمة عليها، وموضوعة الانتخابات وما تَنْتُجُ عنه من تشريعات وما يَنْتُجُ عنها من تداعيات بُنيوية في المجتمع الأردني، فضلا عن العلاقة التي لا تنفصم بين الإصلاح ومحاربة الفساد من جهة، والاتجاه نحو “الملكية الدستورية” من جهة أخرى، هي حزمة من القضايا الجوهرية في الفلسفة التي تقوم عليها الدولة الأردنية، بحيث لا يمكن الركون إلى حلها في إطار حسن النوايا، وفضاءات الأخوة في سياقها الأخلاقي الصرف، والثقة في شخص الملك وفي حرصه على ألا يستخدم سلطاته الدستورية شبه المطلقة، فيما يتعارض مع مصالح الشعب، بل هي يجب أن تجد لها حلولا على صعيد الفكر والأيديولوجيا والقواعد الفلسفية التي تؤصل للدولة تأصيلا يبعدها عن أي اهتزازات قد تنجم عن طرف يستغلها هنا أو آخر يعبث بها هناك،
إن القيادة السياسية الراهنة ممثلة في “مؤسسة العرش” ليست لا عاجزة ولا حائرة، إذا ما قيست إمكاناتها وخياراتها المتاحة بما تستطيع فرضَه من رؤى وحلول على مختلف مراكز القوى المتحكمة في سياسة الدولة، أو إذا ما قيست تلك الخيارات والإمكانات بمدى وعي هذه المؤسسة بدورها التاريخي المطلوب شعبيا والمفترض وطنيا، بعيدا عن الاستغراق في أداء الدور الوظيفي لدولة ضاع تاريخ شعبها بين شد باتجاه وظيفة الدولة التَّبَعِيَّة، بهيمنةِ تحالفٍ كومبرادوري بيروقراطي عديم الانتماء لغير تلك الوظيفة، وجذب شعب مغلوب على أمره باتجاه دولةِ الوظيفة الوطنية، في مواجهة دائرة مخابراتٍ متغوِّلةٍ، تدخلت في أدق تفاصيل حياة الإنسان التي لم يتدخل فيها حتى الإله نفسه. كما أن فصائل المعارضة ليست بذلك القدر من ضبابية الرؤية إذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أن برنامجا وطنيا جديدا وجادا بدأ يتبلور على أنقاض ما يحاول النظام السياسي استخدامه من فزاعات أكل عليها الدهر وشرب، ليس الهدف منها سوى إرباك الحراك الشعبي الراهن وترحيل مطالبه بالتخويف منها ومن تأثيرها على واقع الدولة ومستقبلها.
إن الإشكالية التي يفجرها الحراك الراهن تنشأ من واقعة أن الحبل السري الذي يربط انتكاسة برنامج الإصلاح الذي أعقب “هبة نيسان”، بملامح الهبة الجديدة، غير واضحٍ لجميع فصائل الحراك الراهن بالقدر الكافي لإدراك متطلبات عدم الوقوع في انتكاسةٍ إصلاحيةٍ جديدةٍ، قد تعيد ترحيل قضايانا كاملة إلى عقدين آخرين قادمين من الزمان. ففي الوقت الذي بدا فيه واضحا – من خلال الأداء المضاد للحراك الراهن، ألا وهو أداء التحالف الطبقي الحاكم ومن ورائه دائرة المخابرات العامة – أن هذا التحالف ومن ورائه تلك المؤسسة، قد مهد لهذه الحالة عبر العقدين الماضيين بثقافةٍ خاصةٍ معرقلةٍ لمضمون الحراك، عبر اختراق حالة الحراك نفسها، فإننا مازلنا لا نرى مُكَوِّنات الحراك الحالي تعبِّر عن وعيها بالتواصل الحقيقي بين حراكي 89 و2011، بما يتطلبه هذا الوعي من رؤى وتحليلات، توحد بنية الحراك الأردني، ولا تجعل حلقاته مفصولة بعضها عن البعض الآخر.
أي انه في الوقت الذي وعى فيه النظام ومنذ وقتٍ مبكرٍ أن الانتكاسة التي تَمَكَّن من إدخال إصلاحات عام 89 في أتونها سوف تنتج حراكا جديدا، إن آجلا أو عاجلا، فاستعد لذلك بعمله الدؤوب على فصل الماضي عن الحاضر في الذهن الأردني الشعبي والثقافي، فإن معظم رواد الحراك الوطني والثقافي الراهن لم ينجحوا في تَلَمُّس عناصر هذا الفصل بين الحقبتين، ما جعل من السهل – حتى الآن على الأقل – على النظام أن يزعزع بعض مُكَوّنات الحراك الحالي في الذهن الجمعي العام، لأن الإحساس بثورة الماضي القريب في قلب الحراك الحالي، هو عنصرُ دفعٍ وزخمٌ له، وهو ما أدركه النظام ففصل وعزل، فيما فشلت في إدراكه معظم القوى الفاعلة شعبيا حتى الآن فتخبطت وارتبكت.
هبة نيسان والحبل السري الرابط بينها وبين الحراك الراهن..
على صعيد محتوى الإصلاحات التي تنادي بها كافة مُكَوِّنات الحراك الشعبي الحالي، تجدر الإشارة إلى ظاهرة تلفت الانتباه، وهي ظاهرة يُفترض النظر إليها من زاويتين. أما الظاهرة فهي انعدام الجدة في المطالب، بحيث لا يلاحظ أي اختلاف جوهري بين ما كان عليه حال تلك المطالب في الحراك الثمانيني “هبة نيسان”، وبين ما هو عليه حالها في الحراك الراهن، ما يشير إلى أن قرابة ربع القرن الذي انقضى على بدء الإصلاحات التي قادها الملك الراحل بدءا من عام 1989، لم تتحقق بالشكل الذي إن استدعى حراكا شعبيا لاحقا لها، فسيجعله حراكا باتجاه مطالب مختلفة، لا باتجاه المطالب ذاتها. أما زاويتا النظر المفترضتين إلى هذه الظاهرة فهما، متابعة الأسباب التي دعت إلى فشل تلك الحركة الإصلاحية في تحقيق أهدافها أولا، ومتابعة الكيفية التي يمكنها أن تجعل نتائج الإصلاح الراهن في حال تحققه، يتجنب انتكاسات الماضي ثانيا.
إن مرور أكثر من 22 عاما على ثورة الأردنيين الثمانينية، لم تجعل الفساد يُحارب ويتقلص، بل ينمو ويُحمى ليتفاقم، رغم أن الثورة كلها كانت مرتكزة بالدرجة الأولى إلى أسباب اقتصادية سبَبُها الفساد. والدعوة إلى ملكية دستورية أو على الأقل إلى إصلاحات دستورية عميقة – رغم أنه مطلب لم يكن بالحدة والوضوح الراهنين، إلا أن دعوات بدأت منذ عام 1987 تطالب به باعتباره المدخل إلى أي إصلاحات بنيوية حقيقية في الأردن – لم يتحقق منه شيء بل تم تجاوزه تجاوزا تاما لتحدث تعديلات دستورية في الاتجاه المضاد.
الغريب في المشهد الشعبي الأردني الراهن، أن حراكه يطالب بمحاربة الفساد الذي وصل حدودا مدمرة لكل جوانب الحياة، وكأن كل ما حصل عام 1989 وما تلاه كان صرخة في واد. كما أنه يطالب بالإصلاحات الدستورية العميقة والجذرية ذاتها، وهو فضلا عن ذلك ينادي بقانون انتخاب وقانون أحزاب يرقيان إلى مستوى قانوني الأحزاب والانتخاب اللذين نتجا عن الثورة الأولى، ليتحولا بعدها إلى أسوأ قانوني أحزاب وانتخاب في العالم الديمقراطي المتمدن.
وتأكيدا منه على أن مطلبَ الإصلاحات الدستورية كان مطلبا أردنيا مبكرا، يقول ليث شبيلات في رسالته الشهيرة إلى الملك عبد الله الثاني: “منذ 1987 بدأتً بمطالبات إزالة التشوهات الدستورية، وبتسمية أمور كثيرة بمسمياتها، وأملت من كل قلبي أن ينضم لجهودي زملاء عديدون غير الفاضل الدكتور رياض النوايسة، وبعد ذلك الفاضلة توجان، وبعض نظرائنا الآخرين. إلا أن جهودي باءت بالفشل. وكانت نظريتي لمن خذلوني: عيب علينا! لا نريد للشعب أن يضطر للتظاهر والتكسير والتضحية بأبنائه، بينما نجلس في فنادق النجوم الخمسة ننتظر دورنا كـ “منقذين” مزعومين، نعيد إنتاج الظلم بتغيير الطواقي وتغيير المنتفعين الناهبين للخيرات”(2)
لا بل إن مطلب الملكية الدستورية القائم على فكرة تقليص صلاحيات الملك، ومنح السلطات التنفيذية الحقيقية لرئيس وزراء يمثل إرادة الشعب، إما عبر الانتخاب المباشر أو عبر التمثيل البرلماني المناسب، بقي مطلبا متواصلا حتى بعد تقصير الإصلاحات التي أعقبت هبة نيسان عن التجاوب معه كمطلب غدا ضروريا لتحويل الأردن إلى دولة ديمقراطية لا إلى دولةِ منحةٍ دستورية. فقد ظهر في عام 1992 من يقول للملك بكل صراحة: “أنت يجب أن تبقى فوق الجميع وللجميع رمزاً للسيادة وللعَلَم وللدستور، لا تقحم نفسك في مواقف مواجهة لأي فئة من المواطنين لصالح أخرى. البلاد تحتمل وبشكل صحي جداً أن يسقط رؤساء وزارات بعد أن يعطوا ما عندهم، ثم يولوا إلى غير رجعة، ولكنها لا تحتمل تغيير الملوك. نحن فداك وفدا الوطن، فليسقط منا واحد تلو الآخر دونك. ولتبق أنت رمزاً لتماسك الوطن ورمزا للدستور والقوات المسلحة التي تقوم بواجب الدفاع عن الوطن”(3)
إن استشراء الفساد رغم حزمة الإصلاحات التي أعقبت هبة نيسان عام 1989، إنما يرجع في حقيقة الأمر إلى أن تلك الحزمة من الإصلاحات انتهجت الطريق الخطأ، فلا إصلاح اجتماعيا حقيقيا على صعيد الاقتصاد والإدارة والثقافة والتعليم.. إلخ، إذا لم يسبقه إصلاح دستوري على صعيد الحريات والمشاركة السياسية والفصل بين السلطات.. إلخ. إن إبقاء الأمور الدستورية التي أنتجت الفساد على ما هي عليه، هو السبب في إفقاد أي عملية إصلاحية دون المستوى الدستوري قيمتَها. لقد بدأ الوعي الأردني يتجه نحو إدراك هذه المسألة، لأن الذين اختبأوا دائما وراء عباءة العرش لمأسسة وقوننة وشرعنة فسادهم، سيفعلون الشيء نفسه إذا بقيت المؤسسة الدستورية قائمة كما هي دون تعديل جوهري في شكل تنظيمها للحياة السياسية في البلاد، لأنها بكل بساطة سوف تتيح لهم العودة إلى إنتاج أنفسهم وإعادة مأسسة فسادهم بحُلَّةٍ جديدة، وهذا ما حدث بالفعل بعد هبة نيسان المجيدة.
لقد بدأ الوعي بهذه المسألة في وقت مبكر وذلك عندما تجاوزت حزمة الإصلاحات الثمانينية مفصل الإصلاح الدستوري. إذ أصبحت مقولة “الفساد تحت الرعاية” مقولة رائجة في فكر الحراك الشعبي الراهن، فقد اعترفت مجموعة تطلق على نفسها مجموعة الـ 36 ضمن فعاليات الحراك الراهن بأن “سياسة التسلط والاستبداد السياسي وتحصين أشكال الفساد ورعايتها والمحافظة عليها مازالت قائمة حتى أصبح ذلك منهجية وإستراتيجية متعارف عليها “فساد تحت الرعاية”. لا زالت سياسة إحاطة النظام بأزلام البزنس والسماسرة والفاسدين والفارغين من الرأي والفكر ومن رجالات الماسونية وبائعي الأوطان والمتاجرين بالبشر قائمة، وأصبح ذلك منهجا أصيلا في السياسة المتبعة”(4)
إلا أن هذا التصور ليس جديدا، فقد بدا الانتباه إلى العلاقة بين الفساد والسلطة المطلقة التي يتمتع بها الملك بشكل يتيح لكل المفسدين الاختباء وراءها، أمرا مفهوما ومعروفا منذ زمن. فقد قال ليث شبيلات في رسالته الشهيرة إلى الملك عبد الله الثاني: “في عام 1994 قلت لنائب الملك الأمير الحسن في لقاء مبثوث على التلفاز الرسمي إن الفساد يا سمو الأمير يجري تحت الرعاية. فماذا نقول عام 2011 . هل تعتقدون أن الشعب لا يعرف؟”(5)
وفي هذا السياق يذكر ليث شبيلات أنه ذكَّر الملك حسين بهذه المعادلة التي تربط الفساد بسلطته اللامحدودة بموجب الدستور، فيما أطلق عليه حديث السيارة بعد عودته برفقة الملك الراحل من سجن سواقة، إذ يقول: “في حديث السيارة من سواقة إلى عمان قلت له: إن الرؤساء الذين تأتي بهم ثم تطردهم يشتمونك بمدحك في معرض الذم: يكتبون في خطابات استقالاتهم: “وما كنت يا سيدي إلا عبداً من عبيدك! سهماً من سهامك تضعني حيث تريد! إلخ.. إلخ..! إنهم إنما يقولون لك: الحق عليك! وأنت المسؤول الحقيقي!”(6)
في ضوء كل ذلك لم يعد لا غريبا ولا مستهجنا أن يخرج في كل مُكَوِّنات الحراك الراهن بعد كل ذلك التاريخ المحتقن لعلاقة السلطة المطلقة للملك باستشراء المفسدين تحت الرعاية، من يقول أنه ليس من حق صاحب العرش أن يؤذيه – أي أن يؤذي العرش – بما لا يحق لأحد أن يتدخل فيه. فالعرش ليسً شأناً خاصاً بالملك، بل إنه لنا جميعاً لا من حيث الجلوس عليه طبعاً، بل من حيث أهميته لاستقرار بلدنا وحياتنا. فالمحافظة على العرش ليست تملقاً لملك، بل إنها واجب لضمان الاستقرار. وفي هذا فإننا كلنا مسؤولون عن هذه المهمة وعلى رأس المسؤولين عن المحافظة على العرش هو صاحب العرش نفسه”(7)
يجب أن يفهم الجميع أن العرش ليس محل خلاف بين أردنيين، ويجب أن يكف صاحب العرش نفسه عن الخوف ممن يخيفه على عرشه من الشعب أو من قواه السياسية أو من الحريات التي يمكن لذلك الشعب أن يحصل عليها. هذا هو على وجه التحديد ما تضمنته كلمة ليث شبيلات عندما وجه كلامه للملك الراحل قائلا في عام 1990: “يا سيدي لقد انتهى منذ أكثر من عقد من الزمان أن تطالب المعارضات بتغييرك وتغيير نظام الحكم، ولقد تأخرنا كثيراً في مأسسة هذا الوضع. يجب أن نمأسس من أجل أبنائنا وأبنائك”.(8)
إن ما يثير الاستغراب في التحالف الطبقي الحاكم في الأردن مدعوما بدائرة المخابرات العامة وقبضتها الأمنية، أنه رغم ادعائه الليبرالية وحرصه على الظهور بمظهرها أمام العالم المتحضر، يحارب الحرية وسلطة الشعب التي تمثل التجسيد الحقيقي لليبرالية، ويدعم السلطة المطلقة للملك بشكلها الثيوقراطي المنصوص عليه دستوريا، مع أن الليبراليين في كل دول العالم، هم أكبر الدعاة إلى توسيع دائرة الحريات وتقليص صلاحيات الحكام، لأن في ذلك دعم للاقتصاد وللتنمية وللمنافسة وللفكر الليبرالي نفسه، حيث يدرك هؤلاء اللبراليون في كل أنحاء العالم – إلا في الأردن خاصة والوطن العربي عامة على ما يبدو – أن اقتصاد السوق الذي يتمسكون به إطارا للاقتصادات المحلية رغم كل المآخذ الإنسانية عليه، مربوط بشكل عضوي وجودي باللبرالية السياسية، فلا قيام للأول بدون الثانية، ولا استغناء عن الثانية إذا أُريدَ تحقيق الأول. وإزاء هذه المعادلة الغريبة، من حقنا أن نتساءل عن السر الكامن في انتهاج معادلة متناقضة كهذه؟!
يظهر التحالف الطبقي الحاكم في الأردن وكأنه ضد الليبرالية، وهو بالفعل كذلك، لأن الأردن في واقع الأمر ليس قائما حتى على مبادئ اقتصاد السوق التي ينادي بها هؤلاء ويدعون تسيير الاقتصاد الأردني وفق أصولها، بل هو اقتصاد أشبه بالإقتصاد الإقطاعي وبُنيته الطبقية، ولكن بتوسع أكثر في دلالات الاقتصاد الاقطاعي ليشمل مفاصل الاقتصاد الحديث، فالاقتصاد لا يكون إقطاعيا إلا إذا تعلق فقط بنمط من الظلم والاستحواذ يتعامل مع الإنتاج الزراعي وتوزيع ملكية الأرض، بل هو يكون كذلك إذا امتدت الروح الإقطاعية التي كانت تسود أزمنة الإقطاع الزراعي، لتطال كل مرافق الاقتصاد الأخرى، حتى لو كان خدميا وصناعيا،
ففي مثل هذا الاقتصاد بشكله المهيمن في الأردن، ظهرت زمرة من الفاسدين واللصوص متحكمة في كل مرافق ومقدرات وسياسات الدولة، مختبئة وراء سلطة مطلقة منحتها هي لعرشٍ أرادت له أن يكون سندا لإدارتها الفاسدة المتغولة لهذه الإقطاعية ليس إلا، ولم تكف هذه الزمرة بعد ذلك عن استخدام حب الشعب لهذا العرش وولائه له استخداما بشعا، ضاربة كل الأسافين الممكنة والمتصورة في وحدة هذا الشعب، كي تحمي وجودها على قمة هرم التحكم الظالم والفساد الآثم.
ألم يفكر الملك في أن يطرح على نفسه السؤال التالي: ما الذي يجعل هذه الفئة تحرص على إبقائه حاكما مطلقا لا يُسأل عما يفعل، بل تقبل هي بموجب الدستور بأن تُسأل بدلا منه حتى عن نتائج سياساتٍ يأمر بها هو، رغم ان في حرصها على ذلك مساس بليراليتها المدعاة هي ذاتها؟! ألم تُحَيِّر الملك واقعةُ أن كل دول العالم تتجه نحو تقليص صلاحيات الحكام لأسباب تتعلق بالعدالة والحرية والمنطق، ما عدا دول قليلة معروفة بظلاميتها البغيضة التي يكرهها ملك الأردن نفسه، يُعتبر من المعيب والمقزز والمثير للخجل أن يكون الأردن واحدا منها؟!
هل ما يزال الملك يعتقد أن تلك الطبقة إذ تصر على ذلك، فإنها تعبر عن حبها المميز له من دون باقي فئات الشعب، وعن عشقها الهائم بالعرش فلا تطيق عن الخضوع المطلق له بديلا، وعن ثقتها المطلقة في قدرات الملك الذي تروج إلى أنه لا يخطئ وإلى أن كل ما يفعله أو يقوله يجب أن يكون صوابا؟!
ألم يطلع صاحب العرش الأردني الذي يحبه الأردنيون أكثر مما تحبه تلك الفئة المختبئة وراءَه، على إشفاق إمبراطور اليابان “هيروهيتو” على شعبه عقب الحرب العالمية الثانية، بعد أن رآه – رغم هزيمته الأبية وكبريائه الأزلية التي قاده إليها وتسبب له فيها برفقة الطبقة الحاكمة باسمه والمختبئة وراء عرشه الإمبراطوري – ما يزال متمسكا ببعض تصوراته عن الحقوق الإلهية لإمبراطوره، فتنازل بإرادته – حبا في شعبه واحتراما له ولعزته وكرامته في عصر عرف ببصيرته أنه عصر الشعوب لا عصر الملوك والأباطرة – عن تلك الصفات التي أبى أن يكون شعب حي مثل شعبه خاضعا لها، ليتحول إلى إمبراطور رمزي يسود ولا يحكم؟!
إلى متى سيبقى الملك في الأردن مساندا لتلك الفئة المتغولة على شعبه بتجاوبه مع حرصها على التمسك بسلطاته شبه الثيوقراطية على حساب حقوق شعب يتطلع إلى أن تكون إرادته الحقيقية هي المحددة لمصيره؟! وإلى متى ستبقى مؤسسة العرش متهاونة في التعامل مع اختباء تلك الفئة وراء سموها في قلوب الأردنيين كي تعيث هي في الأرض فسادا؟! هل يعتقد صاحب العرش أن هناك في هذا الزمن من يعتقد ويؤمن بأن من حق أحد في العالم أن تكون له عليه سلطة كالتي يُظهر هؤلاء قبولهم بها لصاحب العرش الأردني على ما فيها من سلب كامل لحريتهم نظريا على الأقل؟! هل يعتقد صاحب العرش ان هناك من يقبل بسلطة لا تناقش من غير الإله وأنبيائه ورسله؟!
هل ما يزال يصدق الملك هؤلاء المتمترسين وراء دعاوي اللبرالية، في رفضهم للملكية الدستورية لأسباب بريئة وغير مشبوهة؟! ألا يجلس الملك في خلواته مفكرا في حال هذا الوطن متسائلا عن السر الكامن وراء هذا الإصرار على إبقاء الملك في دولة تروج إلى أنها واحة ديمقراطية، مالكا لكل السلطات في يديه على شعب يعتبر من أكثر الشعوب العربية تعليما وثقافة وتسييسا؟! أما آن الأوان كي ينتبه الملك إلى أن هؤلاء يكذبون ويفترون ويدعون ذلك تحقيقا لأجندات لا يمكنها أن تتحقق إلا بهذا النوع من التلاعب بالعرش قبل الشعب؟!
يبدو أن السلطة السياسية في الأردن لم تتعلم من انتفاضة معان المباركة عام 1989. فكل الوعود التي وعد بها الشعب بمحاسبة المفسدين ذهبت أدراج الرياح. فإذا كان الشعب الأردني بعد ثورة عارمة في نهاية عقد الثمانينيات تعرض لخدعة كبرى وسُرِقَت ثورته وفُرِّغَت من كل مضامينها وتفاقمت كل مشكلاته التي ثار لأجلها، ليجد نفسه بعد أكثر من عشرين عاما وقد فقد أكثر بكثير مما كسب عندما لم يُلِح في مطلبه الدستوري الجوهري “الملكية الدستورية”، فكيف يراد لهذا الشعب أن يصدق من يدعون الرغبة في الإصلاح والحرص عليه من المفسدين أنفسهم، وهم يبادرون كل خطاباتهم الإصلاحية بالتأكيد على أن الملكية اللدستورية تخل بالتوازن الوطني، وتتعارض مع الدستور. إنهم باختصار شديد يفكرون في القفز على ثورة الشعب المرتقبة واستباقها، لإعادة مأسسة الفساد عبر الاختباء وراء عباءة العرش من جديد كما هو ديدنهم دائما.
مكونات الثورة المضادة لهبة نيسان عام 1989..
يقول علماء الاجتماع المختصون في قضايا الثورات الاجتماعية، “إن كل ثورة ستتعرض حتما لثورة مضادة”، لأن الثورة إذ تكون قد اندلعت احتجاجا على تَغَوُّل طبقة أو تحالف طبقي على باقي أفراد الشعب، فإن فلول وبقايا ومخلفات تلك الطبقة أو ذلك التحالف، سيبذلون كل ما في وسعهم لاختراق البُنية المجتمعية الجديدة، بحثا لهم ولمصالحهم عن موطئ قدم يُمَكِّنهم من استعادة بعض ما فقدوه إن لم يكن كلَّه، تحت العناوين واليافطات الثورية التي ثارت ضدهم في الأساس.
إن النتائج التي تؤدي إليها الثورات المضادة والتي تسمى انتكاسات، قد تكون أكثر نكوصا بالمجتمع وتراجعا ببُناه وبثقافته عن الأوضاع التي كانت سائدة قبل الثورة إذا كانت بيئة الإصلاح التي أعقبت الثورة غير ناتجة من صانعي الثورة أنفسهم. الثورة المضادة التي ليس بالضرورة أن تنجح، تجد لها أرضا خصبة – في العادة – في البيئة الإصلاحية التي تُظهر تجاوبا مع الثورة، وتكون منتمية إلى بيئة الفساد ذاتها التي سبَّبت الثورة.
إن الثورة الأردنية المبكرة التي سُميت “هبة نيسان”، تعرضت لأكبر سرقة يمكن لثورة اجتماعية مطلبية أن تتعرض لها، ليتحول زخمُها من زخمٍ دافع للتغيير الفعال إلى زخم مولِّدٍ لمكونات الانتكاس والنكوض إلى الوراء. ففضلا عن كون إطلاق صفة “هبة” على تلك الثورة هو أول مظهر من مظاهر سرقتها والالتفاف عليها، فإن الملك الذي قرر التجاوب مع متطلبات الثورة – الملك حسين رحمه الله – أفقد مسار التغيير بوصلتَه عندما جعل قائدي التغيير على أرض الواقع هم أنفسهم أولئك الذين ثار الشعب الأردني عندما ثار ليطيح بهم وبرؤوسهم باعتبارهم أس الفساد والبلاء في البلاد.
لذلك فقد أظهر هؤلاء نوعا من التجاوب المخادع في بعض المرافق التي تتطلب الإصلاع، مع أنهم عادوا ليرتدوا عنها بسياسة تدرجٍ أملتها “تفاهمات واشنطن” و”مرجعيات أوسلو ومدريد” و”وادي عربة” ومتطلبات “فك الارتباط القانوني والإداري بالضفة الغربية”، “ليعملوا في الخفاء على إعادة تثبيت مواقعهم ومنظومة مصالحهم بشكل أكثر تجذرا، جعل الأردنيين يدركون ومنذ وقت مبكر من عقد تسعينيات القرن الماضي، أن المفسدين التفوا على ثورتهم وسرقوا منها كل مزاياها وحقنوها بكل مساوئهم.
الملكية الدستورية التي كانت مطلبا منذ ما قبل الهبة بسنوات كما تبين لنا سابقا، وإن يكن بشكل خجول وغير مُمَأسس أو مُمَنهج، وُضِعَت في الأدراج ولم يناقشها أحد باعتبارها مطلبا شعبيا، وكأن من طالب بها كان قادما من الفضاء ولم يعش على هذه الأرض كابرا عن كابر، وكأنه أيضا ليس هو الشعب الأردني الذي ثار باعتباره مصدر كل الشرعيات على الأرض الأردنية، بما فيها شرعية جلوس صاحب العرش على عرشه. ثم تم إلهاء الشعب الأردني الذي ثار وقواه السياسية التي ما تعودت على العمل التنظيمي إلا في الظلام، وعلى غير كتابة المنشورات السرية، بثلاثة قوانين ظهرت لمن يريد أن يستنشق الحد الأدنى من نسائم الحرية وكأنها أكبر ما يمكن لديمقراطية ناشئة أن تنجزه في ذلك الوقت القياسي، ليسمى الأردن بناء عليها “واحة الحرية والديمقراطية”. هذه القوانين هي “قانون الانتخاب”، و”قانون الأحزاب”، و”قانون المطبوعات والنشر”، هذا بطبيعة الحال بعد إلغاء الأحكام العرفية التي كانت سائدة في البلاد منذ أكثر من ثلاثين عاما.
لا ينكر أحد أن هذه القوانين كانت بمثابة نقلة حقيقية باتجاه تحصيل الشعب الأردني على حقوقه المشروعة في الحرية والمشاركة السياسية وفي التعبير. ولكن وبسبب عنصرين هامين افتقرت إليهما عملية الإصلاح التي ظهرت وكأنها قد جاءت تجاوبا مع الثورة المختزلة إلى “هبة”، كان من السهل أن تحصل الانتكاسة ويحدث النكوص إلى ما هو أبعد بكثير مما كان عليه الوضع قبل هبة عام 1989. أما هذان العنصران فهما “تجاوز مطلب الإصلاح الدستوري باتجاه الوصول إلى ملكية دستورية كمُعَبِّرٍ حقيقي عن سلطة الشعب، وتخويل المفسدين الضالعين في الفساد أنفسِهم بإحداث الإصلاح والتغيير المنشودين.
إنها الثورة المضادة التي تعرف كيف تمتص زخم الاندفاع الثوري وتنحني للعاصفة لتعود وتنقض في الوقت المناسب على كل الإنجازات بشكل يفقد الحراك الثوري الذي انحنت له بدهاء كل قيمتِه، فيعود الشعب إلى المربع الأول من جديد، “وكأنك يا بوزيد ما غزيت”.
فوجئ الأردنيون بعد سنوات قليلة من بدء عملية الإصلاح التي تفاءلوا بها كثيرا، بتوقيع الأردن على تفاهمات واشنطن المذلة المهينة، ليتبع ذلك الولوج من أوسع الأبواب في مرجعيات التسوية السلمية الفاشلة حتى الآن، عبر بوابة “مدريد” المتبوعة بنافذة “أوسلو” والمتوجة بخرم إبرة “وادي عربة”. لتبدأ تاليا كل مظاهر الانتكاس في القوانين والتشريعات والسياسات الداخلية بما يخدم هذه المرجعيات الكارثية الجديدة.
فاكتشف الأردنيون أن الإصلاح الذي تم بهذا الزخم في البداية، لم يكن في جوهره بهدف الإصلاح انطلاقا من قناعة بضرورته تجاوبا مع حق الشعب فيه، بقدر ما كان تمهيدا على كل الصعد لتمرير تلك السياسات التي يبدو أن التحالف الحاكم آنذاك والذي لا يزال يحكم حتى الآن بُلِّغ بضرورة بدئه بعملية إصلاحات تتيح له امتصاص أي ردة فعل قد تنجم عن متطلبات هذه المرحلة المرتقبة.
ومع أن ردة فعل الأردنيين على الثورة المضادة التي مارسها التحالف الطبقي الحاكم بدأت منذ وقت مبكر يمكن إرجاعه إلى بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، إلا أن عقدي التسعينيات ذاك والأول من القرن الحالي كاملين شهدا تناميا في الحراك الإصلاحي من جديد، إلى أن وصل الأردن إلى ما نشهده فيه من حراك منذ عدة أشهر بل ربما منذ عدة سنوات.
وبدأت تتشكل منظومات المطالب المرفقة بمختلف أشكال الاحتجاج التي يتيحها القانون، من مسيرات إلى اعتصامات إلى إضرابات، تعبيرا عن أن الكيل قد طفح، وعن أن أوان الإصلاح الحقيقي قد حان، فيما بدا هذه المرة أنه استفادة واضحة وإن تكن غير واعية بالقدر المفيد والدافع، من تجربة الالتفاف التي مورست في حق ثورة الشعب الأردني عام 1989. لقد تجلَّت حالة الوعي في الحراك الحالي في الإصرار على مطلب “الملكية الدستورية” التي فهم الجميع أن الافتقار إليها هو الذي جعل الفساد يحدث كله “تحت الرعاية” المصطلح الذي غدا جزءا من أدبيات الحراك الشعبي الراهن. لا بل إن حالة الوعي هذه قد تجلت أيضا في التأكيد على أن “تغيير مفسد بمفسد لا يحل المشكلة، وأن المفسد ليس أهلا لمكافحة الفساد، لأن الفساد في الأردن أصبح منهجا تقوده مؤسسة فاسدة، “وبالتالي فإن مكافحته – أي مكافحة الفساد – تبدأ عبر العمل على تغيير الأرضية المنهجية للفساد ذاته، إذ ليس أدل على محاولات القفز على الحراك الإصلاحي أو الثوري لأي شعب، من إحالة ملفات الفساد وإدارة الخروج من الأزمات الاجتماعية والسياسية، إلى المفسدين ومسببي الأزمات أنفسهم(“9). ومن أراد التأكد من ذلك فليتابع أخبار ثورتي تونس ومصر ليعرف أن الثوار هناك وانطلاقا من وعيهم لهذه النقطة ما يزالون يعتبرون أنفسهم في ثورة متواصلة لانقاذ منجزاتهم من كل محاولات القفز والالتفاف والسرقة التي تتعرض لها من قبل فلول الفساد وبقايا النظام البائد الذي يحاول الدخول من النافذة عندما يطرد من الباب.
لقد انتبهت بعض فصائل الحراك الحالي إلى هذا التزاوج الخطير بين السلطة والثروة، بما يعني ألا مجال لحل مشكلة تمركز الثروة لتوزيعها توزيعا عادلا على مختلف فئات الشعب الأردني، بدون إحداث تداول حقيقي للسلطة يفك عرى هذا الزواج الكاثوليكي بين هذين الشريكين “السلطة” و”الثروة”. “فاليوم توجد طبقتان فقط في الأردن: غنى فاحش فاجر وفقر مدقع كافر”(10). بهذه الكلمات خاطب ليث شبيلات الملك عبد الله الثاني في رسالته الشهيرة إليه مؤكدا له أيضا أنه في عقدي الخمسينيات والستينيات “كان الوزير وغيره يجلسون على كراسي القش على الرصيف أمام دكان أغنى الأغنياء يشربون الشاي مع السائقين والعاملين في المحل. لا “يكسر أحدهم عين” آخر بالمظاهر الفاجرة لثراء جنوني”(11)
وفي سياق تذكيره للملك بأن هذا الذي يقوله له قد أخبر به أباه الراحل منذ زمن قال: “أما اليوم فانظر يا سيدي إلى القصور من عمان إلى العقبة إلى الغور في الوقت الذي كان يثور فيه الجنوب لأجل الخبز. ولقد قلت هذا الكلام للملك الراحل فقال لي سنصلح بكل تأكيد وأريد أن نلتقي عدة مرات، فلم يحدث ذلك. كان هذا عام 1996. فماذا نقول عام 2011 وقد امتلأت البلد بأثرياء لا أصول لثرواتهم الفاحشة، جمعوها بالنهب والسلب والتلاعب بأقوات الشعب ومصالحه”(12)
قراءة تحليلية في شعارات ومطالب أهم فصائل الحراك الشعبي الأردني الراهن..
1 – المتقاعدون العسكريون..
إن الإحساس بالغبن راح ينتشر بين مختلف فئات الشعب إلى أن وصل إلى فئة من المجتمع لم يكن يتوقع أحد أن تقف يوما لتكون لها مطالب تتخذ طابعا سياسيا وتناضل من أجلها، إنها فئة المتقاعدين العسكريين الذين شكل عدد كبير منهم لجنة تتحدث باسمهم. وراحت هذه الشريحة من الأردنيين على مدى سنوات تملأ الدنيا ضجيجا بمطالبها وبشكاواها التي بدأت حياتية معيشية خالصىة تخص هذه الشريحة فقط، إلى أن أصبحت مطالبها ذات طابع سياسي تتعلق بالوطن ككل وبالمواطنين جميعا، تذكيرا منهم بأن القهر “الذي يعانيه المواطن الأردني غير مسبوق على الإطلاق، إلا إذا كان الجوع والفقر والظلم ليست من أسباب القهر إذا قابلها الغنى الفاحش والعيش الباذخ والسفر الدائم لدى الفئة المترفة، ناهيك عن أن المواطن الأردني أصبح لاحق له بشئ، فالعلاج مكرمة والغذاء مساعدة والتعليم عالي الكلفة منَّة والسكن هِبَة والكساء صدقة، وكأن المواطن يعيش عبدا في إقطاعية, ما أكثر المتفضلين عليه من الوالغين في دمه وعرقه والمتسولين باسمه. ويحق لنا أن نتساءل “أليس الإرهاب هو الابن الشرعي للقهر”(13)
لا بل إن كل من كانت له أجندته الخاصة ونوازعه الداخلية ومطالبه الفئوية الضيقة، راح يركب الموجة مقحما هذه المطالب في منظومات أوسع من المطالب ذات الطابع الوطني، ليتسع مجال الحراك المطلبي اتساعا غير مسبوق محتويا الغث والسمين، فكان جزءا من هذا الحراك لا يمكن فصله عنه أو استثناءه منه. “ففي انتقاد غير مسبوق للعائلة المالكة في الأردن، أصدرت 36 شخصية عشائرية أردنية بارزة دعوة للإصلاح، محذرة من أن البلاد قد تلحق بكل من مصر وتونس في الاضطرابات التي شهدتها الدولتان. وفي البيان الذي وقعته شخصيات عشائرية رئيسية، هاجم الموقعون عليه ما وصفوه بتدخل “الملكة رانيا العبد الله” في إدارة البلاد، وجاء في البيان أن “المتملقين ومراكز القوى التي تحيط بها” يعملون على تقسيم الأردنيين و”ينهبون من البلاد والشعب. وقالت الشخصيات العشائرية إنها ترسل برسالة واضحة للعاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، محذرة من أنه إذا لم تتم المحاسبة على الفساد، وإن لم يتم الإصلاح فإن أحداثاً مماثلة لتلك التي وقعت في تونس ومصر ودول عربية أخرى ستحدث. وتطرق الموقعون على البيان إلى الفساد الذي ارتكبته “ليلى طرابلسي”، زوجة الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، والسيدة الأولى في مصر، “سوزان مبارك”، بوصفهما من أسباب الحراك الشعبي في الدولتين”(14)
وفيما تجاوزت مطالب عشائرية أخرى حدود اتهام الملكة بالتدخل في إدارة منظومات الفساد إلى التدخل في البنية الديموغرافية للأردن على خلفية ثنائية الهوية التي بدأ يروج لها بعض دعاة الإصلاح في الحراك الجديد، صدر بيان موقع من شخصيات عشائرية وموجه للملك شخصيا، “يشكون فيها من تدخل الملكة رانيا في “تخريب” الميزان السكاني في الأردن الذي تسكنه أغلبية من أصل فلسطيني. وقد عُزِيَ هذا التخريب إلى محاولة الملكة رانيا إصدار قانون يتيح الحق للمرأة الأردنية المتزوجة من أجنبي أن تمنح الجنسية الأردنية لأولادها ما يزيد من تغلغل الفلسطينيين في المجتمع ويقويهم”(15)
منذ بواكير الحراك الشعبي الذي أعقب بروز الاختلالات والانحرافات والانتكاسات التي اعترت الزخم الإصلاحي الناتج عن هبة نيسان 1989، بدأت فكرة “الهوية الوطنية الأردنية” التي لم تكن مطروحة من قبل حتى في الحراك الثمانيني، تبرز إلى حيز الوجود كمُكَوِّن مهم من مكونات بعض الدعوات الإصلاحية التي شكك الكثيرون في خلفياتها. ومن بين مختلف مكونات الحراك الحالي برز “المتقاعدون العسكريون” بوصفهم أهم فصيل مطلبي يركز على هذه النقطة بشكل غير معهود في أي حراك مطلبي سابق في الأردن.
فقد جاء في أحد بيانات هذا الفصيل المطلبي في الحراك الراهن ما نصه: “لا حاجة لتكرار كلمة الوحدة الوطنية لأن التكرار يدل على الشك، والإخوة الفلسطينيون بعد قرار فك الارتباط هم فلسطينيون، ووطنهم هو فلسطين، حتى لو كانوا مقيمين على التراب الوطني الأردني، فهم ضيوف عند أهلهم حتى لو حملوا جواز السفر الأردني”(16)
وإذا كانت هذه الصيغة قد جاءت خجولة تبدو فيها مظاهر جس النبض لما يمكنه أن يصدر من ردات فعل على توجه غريب كهذا، فإن المتقاعدين العسكريين راحوا يصعدون من لهجتهم ووضوح تصورهم فيما يخص هذه المسألة، إلى أن تجلى ذلك فيما جاء في بيان لاحق لهم حينما أكدوا على “ألا حقوق سياسية للأردنيين من أصول فلسطينية في الأردن”(17)
وأشاروا في بيان حاولوا فيه تقديم توضيح لوجهة نظرهم السياسية غير المسبوقة هذه “إلى أن الأردنيين من أصول فلسطينية لهم جميع الحقوق في الأردن باستثناء الحقوق السياسية. فلا محاصصة ولا تجنيس، ولا وظائف سياسية، حفاظاً على تراب فلسطين العزيز ووقفاً للأجندة الإسرائيلية ومن يتبناها، مؤكدين على قوننة تفعيل قرار فك الارتباط بين الأردن والضفة الغربية، واعتبار الأردنيين من أصل فلسطيني قبل قرار فك الارتباط عام 1988 أردنيين حكماً لا لبس في ذلك”(18)
وفي موقفهم الرافض لإلغاء “دائرة المتابعة والتفتيش” التي يتم من خلالها تكريس فرز الأردني من الفلسطيني، أصدروا بيانا جاء فيه: “إن اللجنة الوطنية العليا للمتقاعدين العسكريين إذ تحذر وبشدة الجهات المسؤولة عن إتخاذ مثل هذا القرار – إشارة إلى قرار إلغاء الدائرة المذكورة – حيث أن ذلك يساعد على تفكيك الدولة ويعرض أمن الوطن للخطر، وإننا إذ نضع مجلس الأمة أمام مسؤولياته الدستورية والوطنية للتصدى لمثل هذه التوجهات ومساءلة الحكومة، فإننا نرى أن هذا تنازل عن حق الأخوة الفلسطينيين في العودة الى وطنهم والألتفاف على حقوقهم المشروعه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولتهم الوطنية المستقله على تراب فلسطين الطاهرة وعاصمتها القدس، كما ويخدم مثل هذا القرار المشروع الصهيوني في تصفية القضية الفلسطينية بالتجنيس والتوطين. وتطالب اللجنة الوطنية العليا للمتقاعدين العسكريين مؤسسات المجتمع المدني، خاصة الأحزاب السياسية والنقابات والشخصيات الوطنية بتحمل مسؤولياتهم الوطنية وممارسة دورهم الوطني بالمحافظة على الهوية الوطنية الأردنية والهوية الوطنية النضالية الفلسطينية. وتلفت اللجنة انتباه شعبنا الأردني الأبي بكل مكوناته إلى أن مثل هذه الخطوة إن أقدمت عليها الحكومة فإنها تثير الفتنة بين مكونات الشعب، وتهدد وحدته الوطنية، خاصة في ظل الظروف الاستثنائية التي يمر بها الوطن اليوم. وفي حال أقدمت الحكومة على اتخاذ هذا القرار سيكون للجنة الوطنية العليا للمتقاعدين العسكريين مواقف آخرى لحماية الوطن العزيز”(19)
وأمام هذا البيان المفعم بالتهديد من فئة لا تمثل إلا بعض المتقاعدين العسكريين هم في نهاية المطاف قلة منهم، مما رآه البعض يقطر عنصرية وإقليمية غير محمودة وتصب في خدمة مؤسسات الفساد في البلد، وبإزاء هذه النقلة غير المفهومة في المطالب التي جعلت فئة عسكرية لم تتعود على التعاطي مع المشكلات السياسية أساسا، ناهيك عن أن تتعاطى معها على هذا النحو من الخطورة، أمام ذلك بدأت الأصوات المنددة بهذه التوجهات غير البريئة تعلو محذرة مما تدعو إليه هذه الفئة مما يقوم على حق يراد به باطل،
ففلسطين يُحافَظ عليها وحق العودة يُناضَل لأجله باتجاه فلسطين وباتجاه مساعدة فلسطينيي الداخل واختراق المؤسسات الدولية ذات العلاقة، لا باتجاه خلق دواعي الفتنة والظلم والفساد والإفساد في الأردن. وهو ما ظهر للمعارضين مخالفا لما قامت عليه دعوات هذه الفئة المطلبية، إذ كيف تتم الدعوة إلى القضاء على الفسياد وتحسين الأوضاع المجتمعية بمساعدة السلطة على استخدام الفزاعات التي تتيح لها فرصة الإمعان في الفساد والإفساد.
في هذا السياق نبه الباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية الدكتور “محمد المصري” إلى أن الحكومات الأردنية دأبت منذ نحو أربعين سنة على تعيين العسكريين في مناصب عامة بعد تقاعدهم، قبل أن تشجعهم على الدخول للبرلمان ليشكلوا حزام أمان مريحا للحكومات التي منحوها الثقة في وجه أي معارضة”(20). وفي معرض تحليله لهذه الظاهرة التي بدت له غير بريئة في ساحة الحراك الشعبي الأردني الراهن يواصل الباحث “محمد المصري” مؤكدا على أن “المتقاعدين لم ينجحوا في بناء مراكز متخصصة في التحليل الإستراتيجي العسكري، “لكنهم نجحوا في منافسة النخبة السياسية في البلاد في مختلف المناحي السياسية والاقتصادية”(21)
ويذهب المصري إلى أبعد من ذلك في معرض تحليله لظاهرة المتقاعدين العسكريين وأدائهم في الحراك السياسي الحالي، مؤكدا على أن ما شجعهم رغم معارضتهم للتوجهات الوطنية الوحدوية على الاستمرار هو الظروف المحيطة ببيانهم الشهير “الذي صدر دون أي تعامل جدي من الأجهزة الأمنية معه، كما يحدث في مثل هذه الحالات عادة”. وقال “عندما خرجت بيانات عن هؤلاء المتقاعدين في فترة الصراع بين رئيس الديوان الملكي السابق باسم عوض الله ومدير المخابرات محمد الذهبي كان دورهم مقبولا، ويرجع استمرار حركتهم السياسية للشعور المتنامي لديهم وغيرهم من السياسيين “بأن هناك تعددا في مراكز القوى والقرار في الدولة”(22)
ووسط هذا الجدل حول دور المتقاعدين العسكريين وانتقال عدد من “رفاق السلاح” لمعسكر المعارضة حتى لتوجهات رأس النظام السياسي في البلد، يؤكد مراقبون أن الحكومة تحاول احتواء حركتهم دون ضجيج نظرا لما تمثله من صمام أمان للجم اندفاعة أي حراك يحاول أن يتخذ من الوحدة الوطنية رافعة وحاضنة لمطالبه الإصلاحية وذلك عبر إفهامه بأن هناك من الأردنيين من لديه في هذه المسألة رأي مختلف!!
وفي محاولة منه لحسم الجدل الذي دار في البلاد حول هذه القضية منذ بدأ المتقاعدون العسكريون عبر تلك الفئة منهم في الترويج السياسي لفكرة إقصاء الأردنيين من أصل فلسطيني من أي دور سياسي، حذر الملك عبد الله الثاني في الخطاب الذي ألقاه في احتفالات المملكة بيوم الجيش في الثامن من أيار “مايو” 2010 من العبث بالوحدة الوطنية، معتبرا أن هذا الموضوع خط أحمر وأنه يجب التصدي للفئة التي تحاول أن تعبث بالوحدة الوطنية، مؤكدا في الوقت ذاته على أن المملكة لن تقبل بأي حال من الأحوال بأن يتم حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن.
وعلى هامش الجدل الدائر حول طروحات المتقاعدين العسكريين السياسة التي يراها الكثيرون أخطر ما يمكنه المساس بالوحدة الوطنية، وما من شأنه أن يعطي كل المبررات الترحيلية لكل عمليات الإصلاح الحقيقية على مستوى الوطن، ظهرت بعض الأصوات من متقاعدين عسكريين آخرين يرون أنفسهم يمثلون أكثرية المتقاعدين لا أقليتهم التي راحت تبث بذور الفتنة في الأردن، وطرحت هذه الأصوات اعتراضها الشديد على ما ينادي به هؤلاء القلة. “فقد رفع حوالي 300 من المتقاعدين العسكريين رسالة للملك عبد الله الثاني نفوا فيها أن تكون “بيانات تصدر باسم المتقاعدين العسكريين” تمثلهم، وقالوا إن تلك البيانات لا تمثل إلا شخوص الموقعين عليها”(23)
في السياق نفسه يذهب اللواء المتقاعد “موسى الحديد” “إلى أن من حق المتقاعدين المشاركة في الحياة السياسية، رغم معارضته للنهايات التي انتهى إليها بيانهم، خاصة ما يتعلق بدور المؤسسات الدستورية والعلاقة مع العدو الصهيوني والعلاقة الأردنية الفلسطينية. وأضاف أن “هؤلاء مدنيون من حقهم المشاركة في الحياة السياسية”، وعبر عن رفضه لتكتل المتقاعدين في ما بينهم، وقال “أرى أن عليهم الترشح للبرلمان من خلال الأحزاب فقط، وأنه لا ميزة للعسكري السابق ولا يعتبر أكثر إخلاصا للوطن من السياسي المدني”(24)
2 – مجموعة الـ 36..
في سياق الحراك الشعبي الراهن، راحت تتبدى شيئا فشيئا المعادلة الحتمية التي لا فكاك عنها، الا وهي ألا محاربة جادة للفساد، وألا حلَّ حقيقيا لمشكلات الأردن الهيكلية والبنيوية على الصعيد الاقتصادي والتنموي القاضي على البطالة والمحارب للفقر، إلا بالبدء بإصلاحات على مستوى الدستور، باتجاه ترسيخ الملكية الدستورية التي اقتنع الجميع بأن تجاوزَها سيتيح الفرصة لبقاء الفساد واستشرائه، ولتفاقم الفقر والبطالة وتحولهما إلى قضيةٍ تعصى على الحل بدون أن يكون حلا يبدأ بالجذور.
إن التحالف الطبقي الحاكم والممرر لمصالحه المسنودة بالفساد مختبئا وراء مؤسسة العرش بسلطتها المطلقة بموجب الدستور، يدرك خطورة الملكية الدستورية على بُنية النظام السياسي الحالي الذي هو صمام أمان مصالحه وإفساده، لذلك فقد كان معنيا – أي هذا التحالف الطبقي – بمحاربة هذا التوجه لدى الحراك الراهن، ولأن هذا المطلب الدستوري لا يمكن أن يكون إلا عدلا وحقا، ومظهرا مجليا للديمقراطية في أنقى صورها وأعمقها وأكثرها تعبيرا عن سلطة الشعب، فلم يجد هذا التحالف الطبقي أمامه من وسيلة لمواجهة هذه النزعة التي راحت تسود النضال المطلبي الأردني الراهن إلا بربطها بالفتنة وبالمخاطر المحدقة بالهوية الأردنية وبالقضية الفلسطينية، إلى آخر هذه المعزوفة التي أصبح الجميع يدرك أنها مجرد فزاعة كتلك الفزاعات الآثمة التي استخدمها كل من نظام مبارك وبن علي قبل أن يسقطا، والتي ما يزال يستخدمها نظاما القذافي وعلي صالح في محاولة منهما كي لا يسقطا.
من هنا ما كان أمام هذا التحالف إلا أن راح يدعم بشكل غير معلن كل الجهات التي تنطوي مطالبها على نزعة مضادة للنزعة القاضية بالوحدة الوطنية بشكلها الحضاري الذي توصل إليه الأردنيون. لذلك سكتت الأجهزة الأمنية – المخابرات العامة – على دعوات المتقاعدين العسكريين التي لو بدر ما هو أقل منها من غيرهم لاتهم بإثارة النعرات وحول إلى نيابة أمن الدولة. ولهذا السبب أيضا راح يظهر من حين لآخر شخص هنا ومجموعة هناك يحذر أو تحذر من المخاطر المحدقة بالهوية الأردنية وبالقضية الفلسطينية إذا تم العمل على إجراء أي تعديلات من شأنها أن توسع دائرة المشاركة السياسية للأردنيين من أصل فلسطيني.
على هذا الصعيد يتبدى الجدل الدائر داخل صفوف مجموعة الـ 36 وعلى هامش مواقفها وتصريحاتها وبياناتها، وهي واحدة من مفاعيل الحراك الشعبي المطلبي الراهن، فهذا الفصيل المطلبي المهم بدا واضحا أنه غير معني بتلك الرؤية التي ملأ بها المتقاعدون العسكريون الدنيا ضجيجا، وأن كل همه هو الإصلاح والقضاء على الفساد في وطن يضم كل الأردنيين على قدم المساواة. وقد تجلت هذه الرؤية العميقة ذات الطبيعة الوحدوية من خلال طروحاتهم التي يمكننا استجلاؤها عبر بياناتهم التي كانت تصدر عنهم تبعا للمواقف وللحوادث.
فقد صرح الناطق الإعلامي لهذا التيار الدكتور “فارس ظاهر الفايز” بأن مجموعة الـ 36 “تطالب بالإسراع بحل مجلس الأمة وتطالب جلالة الملك بالإيعاز لهذا المجلس بصفته رئيسا للسلطة التشريعية بوقف أعمال البلطجة التي تمارس من قبل بعض النواب. وتطالب بإقالة هذه الحكومة لعجزها عن تحقيق المطالب الإصلاحية الواردة في بيان “36”. وأنهى تصريحه بالقول: نعود ونكرر المطالبة بإحالة ملفات الخصخصة والمديونية إلى النائب العام وأعتبارها جرائم اقتصادية. لقد قلنا مراراً وتكراراً أن استبدال الأشخاص بأشخاص وإستبدال المواقع من داخل البيت نفسه كما جرى مؤخراً لن يحقق الإصلاح المرجو”(25)
وفي مواقف ذات دلالة من سياسات الحكومة المريبة إزاء الإصلاحات، اجتمع في “أم رمانة” بمأدبا بتاريخ 24 آذار 2011، سبعون من أنصار مجموعة الـ 36 كان من بينهم شيوخ عشائر وشخصيات سياسية “وتناقشوا حول قضايا الفساد التي يرون أنها انتشرت بشكل كبير، وأشار بعضهم إلى أنهم ينوون إصدار قائمة سوداء للشخصيات والمسؤولين الذين تلاحقهم شبهات الفساد. في حين أشار آخرون إلى موضوع “الملكية الدستورية” وضرورتها، ورحبوا بالانفتاح على بعض الأحزاب والجهات السياسية للتشاور معهم بهذا الخصوص. كما انتقدوا لجنة الحوار التي شكلت أخيراً برئاسة طاهر المصري، وقالوا أنه لا يجوز أن يكلف رئيس الوزراء “معروف البخيت” رئيس السلطة التشريعية بإدارة الحوار مع القوى السياسية والأحزاب، لأن ذلك مخالف للدستور”(26)
لا بل رأت المجموعة أن في تشكيل لجنة الحوار على النحو الذي شكلت به دليل قاطع على ألا نية لدى الحكومة للإصلاح والتغيير أو الحوار الجاد أصلا، وذلك في تصريح وجه أصابع الاتهام بالتقصير، إلى الملك نفسه بشكل مباشر. فقد صرح الناطق الإعلامي للمجموعة قائلا: “فيما يخص لجنة الحوار الوطني فإن الظروف التي يمر بها الأردن الآن تستدعي تشكيل لجنة حوار بغير هذه المواصفات وتلك المرجعية، لقد أصبحنا ندرك بناءً على ذلك أن هناك دلالة على أنه ليست هناك نية جادة لدى صاحب القرار بالسير باتجاه الإصلاحات الحقيقية”(27)
وعندما بلورت مجموعة الـ 36 برنامجها الإصلاحي بدا واضحا أنه برنامج يرقى إلى مستويات كان من الطبيعي ألا تعجب السلطة التنفيذية نظرا لما فيها من سقوف مطالب عالية، فقد طالب هذا البرنامج الإصلاحي فيما طالب به بـ: “العمل بشكل جاد وحقيقي على استقلال السلطات خصوصا السلطة القضائية، وإناطة المهام القضائية بها دون غيرها، خصوصا مكافحة الفساد وإلغاء جميع القوانين التي تحد من استقلالها. وبدستور جديد يلبي متطلبات المستقبل لا العودة إلى ستين عاما للوراء بالعودة لدستور عام 1952″(28)
من الواضح ان مجموعة الـ 36 لا ترضى حتى بالعودة إلى دستور عام 1952 الذي اكتفى بقبول العودة إليه الكثيرون في فصائل الحراك الشعبي الراهن، مطالبة بدستور عصري يليق بالمواطن الأردني. ولهذا السبب بدأت حملة التخوين والتشكيك التي أشار إليها أحد بنود هذا البرنامج، وراح يخرج من حين لآخر من يشكك في طروحات المجموعة بل وفي أعضائها.
فقد علق أحدهم على انسحاب أحد أعضاء المجموعة منها بقوله: “هذا رجل والرجال قليل، كلنا أصبحنا جبناء إلا الطهراوي “وهو يشير هنا إلى الشخص الذي انسحب من المجموعة”، والذي يسمع للطهراوي يجده الوحيد الذي يتكلم سياسه. الطهراوي ينادي بالإصلاح السياسي دون تخريب الأردن, ينادي بوقف جنون المظاهرات الحمراء للجبهه الشعبية والمنظمات الفلسطينيه في الأردن، ينادي بتثبت الفلسطينيين في أرض فلسطين وعدم تنفيذ ما تريده إسرائيل من ترحيل للفلسطينيين إلى الأردن بحجة أنهم يحملون الجنسيه الأردنيه وأن الأردن وطنهم, ينادي بمحاربة الوطن البديل والمحاصصه السياسيه والنصف المغيب وكل شعارات توطين وتجنيس الفلسطينيين في الأردن وبيع فلسطين لليهود بثمن التعويض الفاضح. كل التحيه لهذا الأردني الحر الواضح الرؤية وكثر الله من أمثالك يا علي الطهراوي”(29)
3 – حركة 24 آذار….
ليست مجموعة الـ 36 وقبلها مجموعة المتقاعدين العسكريين وما بينهما الحراك المتعلق بنقابة المعلمين فضلا عن الحراك الجامد وغير القادر على التطور والتمدد للقوى السياسية التقليدية، سوى مظاهر جديدة من تلك التي أفرزها الحراك الممتد على مدى عشرين عاما من التراجع والانتكاس في مسيرة الإصلاح التي يفترض أنها بدأت بعد هبة نيسان عام 1989. وهي المظاهر أو المُكَونات التي تصب في خانة البُنى المستجدة، والتي بدا حراكها إلى جانب الحراك الشبابي الذي بدأ يتجسد منذ مطلع العام الحالي عبر شبكات التواصل الاجتماعي يسيطر على الساحة شيئا فشيئا، مُحَيِّدا بشكل واضح أو مقلصا على الأقل دور الأحزاب والتنظيمات والقوى السياسية المعارضة التقليدية المتكلسة، التي رغم حضورها الطويل على الساحة، إلا أنها بدت أقل قدرة على تحريك للشارع وإثارة الجدل فيه من هذه القوى الجديدة، هذا إذا استثنيا نسبيا “جبهة العمل الإسلامي” لأسباب تاريخية يعرفها الجميع، والتي ما تزال بموجبها قادرة على بعض الحشد، دون أن تكون قادرة على فرض السياسات والوقائع على الأرض.
نعم، لقد تغيرت أشياء كثيرة وخاصة في نمط تعاطي الحكومة وأجهزتها الأمنية مع الحراك الراهن، عندما بدأت تدخل على الخط قوى جديدة أفرزتها الشبكة العنكبوتية كطريقة في التواصل والالتقاء والإدارة والتنظيم السياسي، أسوة بأهم الثورات العربية التي شهدناها والتي مازلنا نشهدها منذ مطلع هذا العام. لقد أظهرت الحكومة وأجهزتها الأمنية نوعا مختلفا من العصبية والتوتر عندما استطاع شباب أطلقوا على أنفسهم “شباب حركة 24 آذار” أن ينظموا واحدا من الاعتصامات المهمة على صعيد بُنْيَتِها ومطالبها ونمط إدارتها عبر موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، ليكون ذلك بالنسبة للحكومة مؤشرا على دخول الحراك الشعبي المطلبي في الأردن منعطفا لم تكن لترغب في وصول الساحة الأردنية إليه.
فإذا كان التعامل مع القوى السياسية والحزبية التقليدية بسبب الاختراقات التاريخية المدمرة لها من قبل جهاز المخابرات، إن على صعيد البنية أو على صعيد الفكرة، قد جعلت ضبط حراكها والتحكم في سقوفه أمرا مقدورا عليه، جاعلا من تلك القوى ورقةً تحسن الحكومات اللعب بها داخليا وخارجيا لتمرير دورها التبعي الوظيفي الذي أملته تفاهمات واشنطن، فإن حركة 24 آذار كبداية لنوع من الحراك الشبابي المتحرر من الهيمنة والمراقبة التامة من قبل المخابرات، والمتجاوز لكل الفزاعات التي ما فتئت الحكومات ومخابراتها تستخدمها للترهيب والتخويف من كل مظاهر الحراك الإصلاحي في البلاد، جعلت الحكومة تصاب بهستيريا غير مسبوقة، لأن ورقة الهيمنة على المعارضة والسيطرة عليها وضبط سقوفها بدأت على ما يبدو تفلت من بين يديها. لذلك كان التعامل مع المعتصمين في دوار الداخلية أو ميدان جمال عبد الناصر يومي الرابع والعشرين والخامس والعشرين من آذار، تعاملا فظا لم تكن الحكومة على ما يبدو مهتمة بالحفاظ فيه على صورتها الحضارية التي روجت لها على مدى سنوات طويلة، “فقد فضت الاعتصام بوحشية وجرحت وقتلت بمنتهى الحرفية والمهنية”(30). كما صرح بذلك مسؤول أمني كبير ظهر على شاشات التلفزيون إلى جانب كل من رئيس الوزراء ووزير الداخلية الأردنيين تعقيبا على أحداث دوار الداخلية. لا بل إن الملك نفسه تعامل مع الموضوع بعدم اهتمام عندما تجنب التعامل مع الموضوع بخصوصية تليق به مادام قد تسبب في سقوط قتلى وجرحى في بلد يقال أن للدم فيه حساسية بالغة، واكتفى في لقائه بأعضاء لجنة الحوار بعد إدانته بشكل بروتوكولي لما حصل بأن قال “إللي صار صار”(31)
الحراك الشعبي الأردني إلى أين؟….
من الواضح أن طريقة تعاطي السلطة السياسية في الأردن مع حالة الحراك الراهن لا تختلف في معظم مكوناتها عن طريقة تعاطي مختلف الأنظمة العربية مع حالات شبيهة. لا يعني هذا بطبيعة الحال أن ما حدث في تونس ومصر، أو أن ما يحدث في اليمن حاليا قد يحدث في الأردن، وإنما يعني أن الأنظمة الحاكمة في الدول العربية تُظهر نوعا غريبا من التطابق، ليس فقط في أنها تتعامل مع المطالب الشعبية بشكل يغلب عليه الطابع الأمني، وإنما في تفاصيل هذا التعامل، وإن ظهرت بعض تفاصيل الحالة الأردنية وكأنها مختلفة عما يحدث هنا أو هناك من الوطن العربي.
نستطيع استقراء المكونات التالية كموكنات يتسم بها تعامل السلطة في الأردن مع مختلف مظاهر الحراك الراهن:
1 – إزدواجية المعايير، حيث أن السلطة لا تتعامل بالطريقة نفسها مع المطالب نفسها، إذا صدرت عن فصائل مختلفة. ففي الوقت الذي نراها تسكت بل تحاول أن تحضن مطالب المتقاعدين العسكريين الإصلاحية، فإنها تتعامل بشيء من المناورة والتحايل مع المطالب نفسها، عندما تصدر عن القوى السياسية المعارضة تقليديا. لا بل في الوقت الذي نرى الأجهزة الأمنية لا تحاول مناكفة الحراك الإصلاحي المعارض التقليدي، لا بالمسيرات المضادة ولا باستخدام البلطجية والزعران.. إلخ، إلا أنها لم تتردد في ممارسة العنف القاسي في فض الاعتصام حتى لو أدى إلى القتل والجرح، واستخدام البلطجية، بل وتسهيل مهماتهم قدر ما تستطيعه، عندما صدرت تلك المطالب الإصلاحية عن فصيل جديد انبثق فجأة من خارج كل الحدود التقليدية المهيمن عليها أو المخترقة أو المضبوطة أمنيا وتعاطفا جماهيريا، ألا وهو الحراك الذي عبرت عنه “حركة 24 آذار” الشبابية الطابع.
2 – ممارسة التضليل والتزييف، حيث أن السلطة السياسية، خاصة منذ ظهور حراك مجموعة الرابع والعشرين من آذار، حرصت على أن تدفع باتجاه المسيرات والاعتصامات المضادة، التي أطلقت عليها مسيرات الولاء والانتماء، وجعلتها تحمل شعارات تصب في هذا الاتجاه، في ممارسةٍ غير بريئة ومشبوهة لتصوير أن الطرف الآخر المنادي بالإصلاح، إنما هو طرف مُغَرِّد خارج سرب الولاء للعرش، وبعيد عن الانتماء للوطن، أي أنها كانت حريصة على تنميط المطالبين بالإصلاح عموما وفصيلهم الجديد الذي نشأ وتطور عبر البيئة الافتراضية التي تمثلها الشبكة العنكبوتية البعيدة عن سيطرة الأجهزة الأمنية خصوصا، بربط حراكهم بعناصر مرعبة ومخيفة ومرفوضة أردنيا. ولأن السلطة لا تستطيع كيل التهم المباشرة لدعاة الإصلاح أيا كان مستواه، باللاوطنية وبمعاداة العرش، مادامت مطالبهم لا تمس هذا العرش ولا تخدش تلك المواطنة، فإنها حرصت على تمرير هذه الدلالة بما يمكن تسميته في سايكولوجيا الحراك الاجتماعي بـ “التأثير بالخوف الناعم”. والتأثير بالخوف الناعم هو إشعار السايكولوجيا الجمعية بأن ثوابتها الوطنية مستهدفة من قبل فئة معينة تبدو مارقة، بجعل العقل الجمعي للمجتمع يقرأ المروق المزعوم في دفاع فئة أخرى عن الثوابت والمقدسات في وجه الفئة المستهدفة بوسمها بالمروق لتبرير كل الفعل الأمني المرتقب ضدها.
3 – الرهان على ضعف الذاكرة الاجتماعية، حيث أن السلطة السياسية تكرر معادلة تفريغ الحراك الحالي من مضمونه، ولكن قبل أن يتحول إلى حراك صدامي هذه المرة، كما مارستها الحكومات التي تعاملت مع الحراك الثوري الثمانيني “هبة نيسان”، دون أي تغيير في الأدوات رغم انكشافها للمراقبين والمتابعين. فعملية الإصلاح التي دشنها الملك حسين بإلغائه للأحكام العرفية وبالدعوة إلى انتخابات عام 1989 التي بدأت تفرز قوانين وتشريعات جيدة نسبيا على صعيد الأحزاب والانتخاب والمطبوعات.. إلخ، ما لبثت أن دخلت نفقا مظلما عاد بالأردن إلى الوراء مكرسا الفساد وغياب الحريات، ومجزئا أبناء الوطن الواحد ذهنيا وشعوريا، وراهنا البلاد والعباد لصندوق النقد الدولي وللعلاقات الرأسمالية العالمية التي مهدت لربط الأردن بها “تفاهماتُ واشنطن” وما تلاها من مرجعيات تسووية بدأت بمدريد ولم تنته باتفاقية وادي عربة. ولقد كان السبب في وصول تلك الحركة الإصلاحية إلى ما وصلت إليه لتسفر بعد عشرين عاما من الانتكاسات المتتابعة عن حراك شعبي راهن واعد، هو أنها كانت حركة إصلاحية عرجاء دخلت إلى الإصلاح من أضعف حلقاته، تاركة لب الموضوع خارج أن يطاله أي إصلاح، ولب الموضوع تمثل في نقطتين اثنتين، الأولى هي تفويض المفسدين أنفسهم بمحاربة الفساد وبقيادة عملية الإصلاح، وكأننا نطلب من السارق أن يقطع يده بنفسه، والثانية هي القفز التام والكامل عن مدخل الإصلاح الحقيقي، وهو الانتقال إلى الملكية الدستورية التي من شأنها أن تحرر العرش من اختباء الفاسدين وراءه. ومع الأسف فإن عملية الإصلاح الراهنة التي بدأ التوجه نحوها بتغيير حكومة “الرفاعي” وبتشكيل “لجنة الحوار الوطني” تشي بأن مؤسسة العرش لم تعي جيدا منطق التاريخ ولا قواعد اللعبة، ليبدو الإصلاح حركة عرجاء جديدة يتم التحرك نحوها بالمفسدين أنفسهم، وبما بدا واضحا أنه حرص على تجاوز الملكية الدستورية البوابة الحقيقية لكل إصلاح، من خلال أول ما أتحفنا به “معروف البخيت” بعد حصول حكومته على تلك الثقة البرلمانية المهزوزة من برلمان أشد اهتزازا.
وانطلاقا من أن العشرين عاما الماضية قد فعلت فعلها في شرخ البناء الثقافي للذهنية الأردنية، فلم يكن غريبا أن نرى ثقافة باهتة ما تزال قادرة على طحن الماء باجترار المقولات الفاشلة نفسها، وبإثارة الفزاعات النخرة ذاتها، في سياق تبريرها لضرورة أن تكون المطالب الإصلاحية واقعية، وغير مبالغ فيها، وتتناسب مع حالة الأردن ووضعه الاقتصادي والجيوسياسي والديموغرافي.. إلخ.
فرب قائل “أن الوضع في الأردن يمتاز بحساسية كبيرة تجاه أي ثورة أو انقلاب في الحكم لأسباب كثيرة، من أهمها أن فيه نسبة كبيرة من الأردنيين من أصل فلسطيني، والمخطط الإسرائيلي القديم الداعي إلى إقامة وطن بديل للفلسطينيين في الأردن ما يزال قائما في الذهن الإسرائيلي”(32)، دون أن نعرف ما وجه العلاقة بين الإصلاح الدستوري والاجتماعي، وبين أن في الأردن عدد كبير من الأردنيين من أصل فلسطيني!! وهل أن قدر الأردنيين مثلا هو أن يعانوا من الفساد وغياب الحريات ومن الاستعباد إلى الأبد مادامت إسرائيل إلى جوارهم؟!
لا بل فاجأنا البعض تحت عنوان استخدامه لقاعدة شرعية تفيد بتقديم أقل الضررين، برؤية عجيبة تقبل بالفساد لما تراه أقل خطرا منه. فقد كتب مأمون فندي على أحد المواقع الإلكترونية مقالا بعنوان “إلا الأردن” جاء فيه: “عندما ترشح العنصري المعروف “ديفيد ديوك”، زعيم الحركة البيضاء في أميركا، المعروفة بالــ “كوكلاكس كلان”، كحاكم لولاية “لويزيانا الأميركية”، ضد “إدون إدواردز”، وهو رجل معروف بالفساد المالي والأخلاقي بمعناه الاجتماعي، انتشرت على زجاج السيارات في الولاية عبارات تقول: “Vote for the krock, it is important” أي “صوتوا للفاسد، فإن ذلك مهم لنا جميعا”. وبالفعل صوت أهالي لويزيانا للفاسد ضد العنصري “ديفيد ديوك”، فأحيانا تكون الاختيارات محدودة أمام البشر، إما العنصري وإما الفاسد، فيختار الناس أقلهما خطرا على المجتمع، أو أهون الشرين، وكانت العنصرية هي الخطر الأكبر على أهالي ولاية لويزيانا؛ لذا قرروا أن ينتخبوا الفاسد”(33)
ومرة أخرى نسمع مثل هذا الحديث دون أن ندري عن أي عنصرية يتحدث؟! وما علاقة الأردن بالعنصرية؟! لنكتشف فيما قرأناه من تعليقات وتعقيبات ومقالات ودراسات تخدم فكرة هذه المقال أن العنصرية في الأردن هي المرادف المباشر والكامل للوحدة الوطنية التي تساوي بين الأردنيين جميعا سواء من كان منهم شرق أردني أو غرب أردني، وأن الفساد أهون مما يمكن لهذه الدعوة العنصرية التي لا يمكن أن تنتجها إلا الملكية الدستورية أن تؤدي إليه. فقد قرأنا ما يلي: “إسرائيل تحاول تجنب الثورة على جبهتين، أولا: إشعال الأمور في الأردن حتى تصل إلى حلمها الأساسي المعروف بالوطن البديل، أي أن أي انقلاب في الأردن يحول الأردن إلى فلسطين!! نظرا للعدد الكبير من الفلسطينيين الذين يقيمون في الأردن. فلسطين هي الأردن، هذا كان شعار جماعة نتنياهو منذ زمن، وكذلك كل حكومات إسرائيل المتعاقبة. لذا أحذر، فأي انقلاب أو حتى انفلات في الأردن سيحقق لإسرائيل بالمظاهرات ما لم تحققه طوال ستين عاما من الحروب، بخلق بلد وطن بديل للفلسطينيين يريح إسرائيل ويحل بالنسبة لهم، ومن منظورهم، المشكلة الفلسطينية حلا جذريا ويريحهم من الصداع السياسي الأزلي. في الأردن أناس كثيرون مثل إدون إدواردز في لويزيانا، أي: فاسدون ماليا وربما أخلاقيا، لكن التمعن في عنصرية إسرائيل ومخططاتها أهم بكثير من محاسبة فاسدي الأردن الآن، لذا يجب علينا جميعا أن نحافظ على الأردن من الاشتعال، أو من الانهيار”(34)
ومرة أخرى نتسائل: من تحدث عن انقلاب أو عن ثورة تسقط نظاما في الأردن؟! ومن قال أن المطالب الإصلاحية التي قد يُعَبَّر عنها بالمسيرات والاعتصامات والمظاهرات تهدف إلى هدم النظام أو إسقاط الملكية أو تمزيق الوطن أو بيع فلسطين مثلا؟! لا بل من قال أن فكرة “الوطن البديل” ليست فزاعة وكذبة خلقتها إسرائيل لتحول بها دون الوحدة الوطنية الأردنية المعول الحقيقي الذي من شأنه أن يضع أساسات انهيار إسرائيل إلى الأبد؟! إن الذين يرعبون الشعب الأردني عند كل بادرة إصلاح حقيقيى تعيد لهذا الشعب حقوقه، من فزاعة الوطن البديل، يصرون – هذا إن أحسنا الظن فيهم – على تجاهل حقيقة غاية في الأهمية، يقررها علم الاجتماع وتاريخ الثورات، وتؤصل لها علوم الأنثربولوجيا وكل فروع علوم النفس، ألا وهي أن الوطن ليس له بديل، وأن الوطن لا يستعاض عنه بوطن آخر.
فالفسطينيون الذين أصبحوا أميركيين منذ عشرات السنين والذين ما يزالون على أرضهم تحت السيادة الإسرائيلية ويحملون جوازات سفر تلك الدولة العنصرية، ما يزالون يتجهون بأنظارهم صوب فلسطين المحتلة، ويناضلون من مواقعهم لأجلها، ولن يتنازلوا عن ذلك، رغم أن من منحهم تلك الجنسيات الغريبة والبعيدة هو الذي كان يريد أن يمنحهم أوطانا بديلة لوطنهم، فما بالكم بوطن أردني هو أكبر محفز لهم عندما يتحرروا فيه من ربقة الاستعباد، كي يصوبوا أنظارهم نحو فلسطين القريبة والمحاذية؟!
كم يعتبر مفيدا أن ينتبه الجميع وعلى رأسهم حاملوا تلك الفزاعة العجيبة “الوطن البديل”، إلى أن المرحلة التي احتضنت أهم محطات النضال والكفاح ضد “إسرائيل” ودفاعا عن الأرض المحتلة، هي تلك التي كان فيها الأردنيون أبعد ما يكونون عن تصور أن هناك أردني من أصل فلسطيني يختلف عن الأردني من أصل شرق أردني، أو من أصل شركسي، أو من أصل كردي، أو من أصل شيشاني، إنها فترة الستينيات من القرن الماضي. ثم راح الكفاح يتخافت ويخبو مع كل تطور في العلاقة بين مُكَوِّنَي هذا الشعب باتجاه فصلهما أحدهما عن الآخر، وان القضية الفلسطينية مع الأسف دخلت أسوا مراحلها وأكثرها تهديدا للأرض والإنسان، منذ فك الارتباط القانوني والإداري، الذي يدافع عنه هؤلاء والذي مهد لكل من أوسلو ووادي عربة. لقد أصبحت الهوية الأردنية والأردن كوطن أكثر تعرضا للمخاطر والتهديدات منذ ذلك التاريخ، وكان أكثر تحصينا وأكثر قوة وأمنا عندما كانت الضفة الغربية جزءا لا يتجزا من الأردن، وعندما لم يكن أحد يتحدث عن حقوق سياسية وغير سياسية للأردنيين من أصل فلسطيني.
منذ عشرات السنين وفزاعة “الوطن البديل” تثار أمام كل دعوات تحرر الأردنيين، دون أن يدرك الأردنيون الذين انخدعوا بهذه الفزاعة، أن هذه الفكرة مستحيلة التنفيذ عمليا بعد استحالتها قيميا وأخلاقيا. فمادام الفلسطينيون والأردنيون على حد سواء يرفضون هذه الفكرة، فلن تنجح في أن تتجسد في أرض الواقع حتى لو اجتمع لأجل ذلك كل العالم. وكذبة “الترانسفير الجماعي” الذي يروج له من يثيرون فزاعة الوطن البديل عند كل بادرة إصلاح، بسبب ما يزعمونه عنه من أنه سوف يخلي فلسطين من سكانها، لم تعد تنطلي على أحد، فما لم تستطع إسرائيل أن تفعله عندما كانت قادرة حتى على فعل بعضٍ منه، لن تستطيع فعله عندما أصبحت عاجزة عن فعل أي جزء منه.
إن من يستخدم هذه الفزاعة هو بتعبير واضح من يريد أن يقول للأردنيين وللفلسطينيين على حد سواء: “فليذهب الفلسطينيون إلى الجحيم، ففلسطين لا تعنينا، فنحن الأردنيون لا علاقة لنا عمليا بفلسطين غير استضافة أهلها حتى يتكرم عليهم العالم بإعادة أرضهم لهم”. لا توجد هناك أي دلالة للترويج لمقولة الخوف من الوطن البديل، إلا عند من لا يملكون أي أجندة لدور أردني مرتقب في النضال من أجل تحرير الأرض المحتلة، أو عند من لا يفهمون الصراع الذي انبثق عن وجود إسرائيبل على حقيقته ممن لا يتعاملون مع إسرائيل بوصفها مشروعا استعماريا يستهدفهم هم قبل أن يستهدف فلسطين والفلسطينيين، لذلك فهم يحاولون بهذه الفزاعات والمقولات الفاسدة النأي بالأردن وبشعب الأردن – حسب ما يتصورون – عن أي دور قومي مهما ادعوا غير ذلك.
فالأفكار والمقولات والأيديولوجيات تُفهم وتتحدد ملامحها من خلال نتائجها وما تؤدي إليه من حقائق على الأرض وما تنتجه من حزم سياسية واجتماعية إستراتيجية أو تكتيكية. ولا توجد حقيقة أو نتيجة يمكن لهذه الفزاعة أن تؤدي إليها إلا تكريس المعادلة الإمبريالية التي عملت منذ الستينيات على عزل فلسطين وقضية فلسطين عن محيطها العربي، وعزل الأردن والأردنيين عن دورهم القومي المفترض باتجاه فلسطين، لأن أحدا لا يستطيع تصور أي حل للصراع العربي الإسرائيلي وللقضية الفلسطينية بتحييد الأردن. وبالتالي فكل من يطرح رؤية لبُنْيَة الأردن السياسية ولإصلاح فساده المالي والإداري والثقافي والاجتماعي تنطوي على نوع من التحييد، هي في المحصلة رؤية مشبوهة، ويجب أن تكون كذلك أردنيا قبل أن يكون ذلك فلسطينيا، والواقع والتاريخ أمامنا فلنقيمهما بعمق؟!!
إن حالة من التناقض العجيب يقع فيها حتما كل أردني يريد الإصلاح وفي الوقت نفسه لا يريد الملكية الدستورية، أو لا يريد قانون انتخاب عادل وموضوعي ينشئ مجلس نواب يمثل كل الشعب الأردني تمثيلا حقيقيا. ووجه التناقض هو أن محاربة الفساد وإجراء أي شكل من أشكال الإصلاح الضامنة لتحقيق العدالة وتوزيع الثروة المنصف، وإعادة تقسيم العمل بشكل منطقي، لا يمكنها أن تتحقق – من خلال الخبرة التاريخية – إلا بإحداث إصلاحات دستورية جوهرية تكرس الملكية الدستورية، لمحاصرة الفساد بشكل مؤسسي يحول دون إتاحة الفرصة للتحالفات الطبقية الفاسدة والمفسدة بأن تختبئ وراء العرش والملك لتمؤسس فسادها وتشرعن ظلمها ونهبها ونهج تبعيتها. وإذا لم يتحقق ذلك فستبقى كل الدعوات الإصلاحية وكل محاولات الإصلاح حبرا على ورقا وصدى للفساد نفسه. وبالتالي فقدَر هذا البلد أن يكون موطنا لأرقى وحدة وطنية لا يمكنها أن تتحقق إلا في ساحة مكافحة الفساد بشكلها الصحيح القائم على ملكية دستورية تعيد الأمور فيه إلى نصابها وتعيد للشعب كل حقوقه المنهوبة وحرياته المستلبة.
إن المستقبل المحتَّم في ظل اليقين الذي فرضته الثورات العربية التي راحت تزلزل المنطقة والعالم، هو أن الأردن كي يتغير تغييرا فعليا مواكبا مستويات التغييرات الإيجابية الحاصلة في الأمة العربية، يجب أن يصبح دولة “ملكية دستورية” تتأسس علي نظامها السياسي هذا كل الإصلاحات التالية، وتُحارب به ومن خلاله كل أعمال النهب والسرقة والفساد والرهن والتبعية المدمرة. وبالتالي فلا تنفع مع هذه الحقيقة أي محاولات للتغييب والترحيل وللرهان على فقدان الذاكرة الجمعي، ولا حتى على الجبن الاجتماعي القائم على التحول فجأة من مخلوق واع اسمه الإنسان الأردني الأكثر تسييسا في الوطن العربي، إلى طائر أحمق رعديد اسمه العصفور، تخيفه الفزاعات التافهة الجوفاء المنصوبة أسفل منه.
إن كل فزاعة إنما وُجِدَت لتحولَ بين من يتم إرهابه بها وبين حقول القمح الذهبية الممتدة على مرمى البصر، كي يبقى جائعا ويستأثرَ بها غيرُه. فهل سيبقى الشعب الأردني جائعا بعد أن يستشعر حالةَ الخوفِ المرسومة له من تلك الفزاعات، أم أنه سوف يتجاوزها، ويصر على ممارسة وعيه بأنها مجردُ فزاعاتٍ لا تخيفه ولا ترهبه ولا تعني له شيئا، ليحطَّ فوق تلك السنابل الذهبية رغم كل الحاقدين والغاصبين والفاسدين ودعاة الفتنة وهواة الصيد في الماء العكر والعيش في ظلمة الدعوات الهدامة، كي يغرف منها ما يشاء؟!
هوامش الدراسة..
1 – موقع (www.ammonnews.net بتاريخ 31 – 01 – 2011).
2 – موقع (www.factjo.com بتاريخ 03 – 04 – 2011).
3 – موقع (www.aaram.net بتاريخ 08 – 02 – 2011).
4 – موقع (www.ragadmoh.wordpress.com بتاريخ 07 – 02 – 2011).
5 – موقع (www.arabrenewal.net بتاريخ 03 – 04 – 2011).
6 – موقع (www.albalqanews.net بتاريخ 31 – 01 – 2011).
7 – موقع (www.arabtimes.com بتاريخ 31 – 01 – 2011).
8 – موقع (www.ragadmoh.wordpress.com بتاريخ 07 – 02 – 2011).
9 – موقع (www.aboshreek.com بتاريخ 31 – 01 – 2011).
10 – موقع (www.salamatyaarab.net بتاريخ 31 – 01 – 2011).
11 – موقع (www.khyr.net بتاريخ 17 – 02 – 2011).
12 – موقع (www.vb.zorba1.com بتاريخ 14 – 02 – 2011).
13 – (الموقع الإلكتروني للحوار المتمدن – العدد 2032 – بتاريخ 8 – 9 – 2007 من بيان صادر عن المتقاعدين العسكريين).
14 – موقع (WWW.ALMORALGH.COM بتاريخ 25 – 03 – 2011 من بيان موقع من 36 شخصية عشائرية).
15 – موقع (WWW.AMARTA-SY.COM بتاريخ 25 – 03 – 2011 من بيان لشخصيات عشائرية أردنية).
16 – موقع (www.ammannet.net بتاريخ 25 – 03 – 2011 من بيان صادر عن المتقاعدين العسكريين).
17 – (الموقع الإلكتروني لصحيفة القدس اللندنية في العدد الصادر بتاريخ 17 – 3 – 2011، نقلا عن بيان صادر عن مجموعة من المتقاعدين العسكريين في الأردن).
18 – موقع (www.ammannet.net بتاريخ 25 – 03 – 2011 عن بيان للمتقاعدين العسكريين).
19 – موقع (WWW.ALSSABEEL.NET بتاريخ 25 – 03 – 2011).
20 – موقع (WWW.ALSSABEEL.NET بتاريخ 25 – 03 – 2011).
21 – موقع (WWW.ALSSABEEL.NET بتاريخ 25 – 03 – 2011).
22 – موقع (WWW.ALSSABEEL.NET بتاريخ 25 – 03 – 2011).
23 – موقع (WWW.ALSSABEEL.NET بتاريخ 25 – 03 – 2011).
24 – موقع (WWW.ALSSABEEL.NET بتاريخ 25 – 03 – 2011).
25 – موقع (www.ejjbed.com بتاريخ 03 – 04 – 2011).
26 – (الموقع الإلكتروني لجريدة السبيل، بتاريخ 24 آذار 2011).
27 – موقع (وكالة ديرتناالإخبارية www.deeretnanews.com، SUNDAY 20 MARCH 2011).
28 – موقع (www.ammannet.net بتاريخ 25 – 03 – 2011).
29 – موقع (إيلة نيوز بتاريخ 12 – 3 – 2011).
30 – (قناة الجزيرة الإخبارية – نشرة الساعة الثامنة للأخبار – بتاريخ 27 – 3 – 2011).
31 – (قناة الجزيرة الإخبارية – نشرة الساعة الثامنة للأخبار – بتاريخ 29 – 3 – 2011).
32 – (من مقال بقلم مأمون الفندي – بعنوان إلا الأردن من موقع (WWW.ANAJORDAN.COM
33 – من مقال بقلم مأمون الفندي – بعنوان إلا الأردن من موقع WWW.ANAJORDAN.COM).
34 – موقع (www.vb.zorba1.com بتاريخ 14 – 02 – 2011).