www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الدستور الأردني وثيوقراطية النظام السياسي/اسامة عكنان

0

رغم كل ما دار حول تلك الحكومة من شبهات الفساد والإفساد والدَّجَل السياسي. برلمانٌ تجلَّى فسادُه ليس فقط في تركيبته وفي التزوير الذي رافق انتخاب أعضائه كما يؤكد على ذلك كل المعنيين والمهتمين والمراقبين، بل وفي أنه منحَ ثقةً بالكاد

الدستور الأردني وثيوقراطية النظام السياسي

أسامة عكنان عمان – الأردن

وسقطت ورقة التوت عن كل العورات..أولا.. برلمان فاسدٌ ومنبوذٌ، حاول تلميعَ نفسه بعد مهزلةِ الثقة الممنوحة لحكومةِ “سمير الرفاعي” المُقالة بنسبةٍ غير مسبوقة تجاوزت الـ “92%”، بواقع 111 صوتا من أصل 119 صوتا، رغم كل ما دار حول تلك الحكومة من شبهات الفساد والإفساد والدَّجَل السياسي. برلمانٌ تجلَّى فسادُه ليس فقط في تركيبته وفي التزوير الذي رافق انتخاب أعضائه كما يؤكد على ذلك كل المعنيين والمهتمين والمراقبين، بل وفي أنه منحَ ثقةً بالكاد تحققت بـ “63” صوتا من أصل 118 صوتا شاركت في التصويت، لحكومةٍ يُفترض أنها جاءت على خلفيةِ إقالةِ سابقتِها كي تكون أفضل منها، على الأقل بالادعاء، أو على الأقل في اللحظات الأولى من رحلة التسويف والترحيل التي نعرف جيدا أنها ستكون ماءَها وهواءَها وغذاءَها، ككل الحكومات التي عرفها هذا البلد منذ أكثر من أربعين عاما مضت. وهو الأمر الذي جعل ذلك البرلمان يبدو – كما هي حقيقته التي حرص على إخفائها بلا جدوى – مُفَرَّغا من مضمونه الشعبي، عندما تظاهر برفض مفسدٍ حاول برفضه له التكفير عن خطيئة قبوله بمفسد سابق ربما كان أشد فسادا.ثانيا.. حكومةٌ لا مبالية، أعلن رئيسُها بصلف وتبجُّحٍ منذ البداية، أنه لم يأت ليرضيَ الشعبَ وقواه السياسية، أو ليتجاوبَ مع مطالبه في الحرية والمشاركة السياسية وتداول السلطة، أو حتى ليستجيب لبعضٍ من طموحاته المُرَحَّلة إلى حاضره على مدى نصف قرن من ماضيه، عندما أعلن وهو نافش الريش في عقر دار أولئك الذين حاولوا منحه ثقةً قلقةً يستردون بها بعضا من سمعتهم المهدورة على مذبح مغازلة “سمير الرفاعي” فيما مضى، أن “المَلَكِيَّة الدستورية” لن تكون مطلبا يُنْظَر فيه البتَّة، لأنها تتعارض مع متطلبات التوازن السياسي ومع الدستور الأردني ذاته، رغم ما تشهده المنطقة من زلازل وبراكين راحت كلها تنزَع الثيوقراطية عن أباطرةِ الحكم في هذه الأمة، مسقطةً كل الدساتير التي حاول سدنَتُها التمسُّك بها إلى آخر رمقٍ من حياةٍ سياسيةٍ لهم، ما يعني أن الإصلاحات التي جاء “البخيت” لأجل تحقيقها، والتي دشنها بوعده بتوظيف 1200 العاطلين عن العمل من حملة الدبلوم في مؤسسات الحكومة(!!!!) ما هي إلا نوع من الدَّجَل السياسي الذي يذرو الرمادَ في العيون، مبقيا على كل معادلات الارتهان والتبعية والفساد والإفساد وسلب الحريات، حاكمةً للدولة ومؤسساتها، دون أدنى تغيير. وكأن ما حدث في تونس ومصر، وما يحدث في ليبيا واليمن والبحرين والعراق وسوريا والمغرب وغيرها، إنما يحدث على سطح كوكب زحل، وليس على “مَقْرَطِ العصا” من هذا البلد!!ثالثا.. مؤسسةُ عرشٍ ما تزال تستقي عناصرَ مشورتها من المؤسسات الأمنية المتغوِّلة على الشعب والوطن، حتى وهذه المؤسسة العزيزة على كل أردني تستشعر الخطر ويعتريها القلق على مستقبل هذا الوطن على ما نعتقد ونعلم، دون أن تَفْتَرِضَ – أي هذه المؤسسة – ولو للحظة أن ما يقال من قِبَل النُّخَب الوطنية المخلصة لهذا الشعب، عما تفعله بهذا الوطن مؤسساتُ الأمن المتحالفة مع الطبقة الكومبرادورية البيروقراطية، قد يكون صحيحا ولو جزئيا. ما يجعل كل مبادراتها – أي مبادرات “مؤسسة العرش” – العاملة في اتجاه إصلاح الخلل – وهي المبادرات التي نؤكد على أنها غيورة في جوهرها – لا تخرج عن استبدال وجود المفسدين، ليحل مفسدٌ مكان مفسدٍ. وكأن المشكلة كانت في حقيقتها وجوهرها مع شخص “سمير الرفاعي” وليس مع النهج السياسي العام الذي ترتكز إليه وتنطلق منه كل الحكومات الأردنية منذ نصف قرن، وبالتالي فليتم البحث عن شخص آخر قد تكون سحنته أفضل أو طريقة كلامه أعسَل أو نهجه في ترحيل المشكلات أكثر إقناعا، فإن لم يكن “سمير” فربما يصلح “معروف”، وإن ظهر لاحقا أن “معروف” هذا بقي “منكرا” لدى الشعب، فليتم تقديم “عمرو” أو “زيد” أو “وطبان” أو “عسران”.. أو.. أو.. إلخ!!لا بل إن ورقة التوت أصَرَّت على ألا تُبقي على أيِّ جزءٍ من العورات السياسية لهذا البلد مَخْفِيَّة عن الأنظار، عندما تبجَّح أحد النواب الذين يُفترض أنهم منتخبون من قبل الشعب وهو ما نشكِّك فيه، بأنه يعترض على أسلوب الحكومة الرحيم والقاصر والعاجز عن قمع المظاهرات التي راحت تتفاقم يوما بعد يوم في شوارع العاصمة عمان مطالبة بأقل ما يمكن من حقوقٍ مهدورةٍ، وأنه مستعد للنزول بأنصاره لقمع هؤلاء المتظاهرين إن بقي الحال على ما هو عليه دون أن تقوم الحكومة باللازم لإيقاف هؤلاء المتظاهرين عند حدهم، لنتساءل بحرقة واستغراب: هل أن الذي نطق بهذه “القمامة” نائب في البرلمان، أم أنه بلطجي تخرَّج من سجن “الجويدة”، ولنساءل بقدرٍ أكبر من الحرقة والاندهاش عن تلك الأصوات التي حصل عليها كي يحتل مقعده النيابي، هل هي أصوات مواطنين أردنيين، أم أنها أصوات مرتزقة لا يهمهم أمره ولا يهمه أمرهم.نعم.. لم تبقَ هناك عورات سياسية أو تشريعية تُسْتَر في هذا البلد المكلوم.. فالأردن أعطى ويعطى النموذج الأغرب في العالم، على خروجِ كل مؤسساته من دائرة علاقتها بالشعب أو حرصها عليه أو تمثيلها له أو تفكيرها فيه، بما فيها تلك التي انتخبها بعض أبنائه، بشكلٍ كشفَ عن حقيقةِ أن إرادةَ هذا الشعب إنما زُوِّرَت كي تنبثق بهتانا عن مجلسٍ تنحصر مَهَمَّتُه الحقيقية في أن يعادي الشعب وفي أن يضبط حراكه وفي أن يشرعن قمعَ الحكومات وسرقتها له.نعود هنا لنؤكد ما قلناه مرارا وتكرارا في أكثر من مناسبة ودراسة ومقال، لأن ضرورته وحتميته عادت لتتجلى من جديد. إن التحالف الطبقي الكومبرادوري البيروقراطي المدعوم بسياسات “دائرة المخابرات العامة” بوصفها الدايناصور الأمني في الأردن، لن يُجريَ بسهولة وبدون إصرار شعبي غير مسبوق، أيَّ تغييراتٍ جوهرية في منظومة “قواعد الحرية”، لأنها ذلك النوع من التغييرات الذي سينسفه ويهدم هَرَمَ مصالحه المقام منذ خمسين عاما على حطام هذا الوطن وعلى أشلاء هذا الشعب. وسوف يقوم بإجراء ترحيلاتٍ أبدية لا تنتهي للمطالب المنصبَّة في هذا الاتجاه، واعدا بتحقيق إصلاحات لن تتحقق في منظومة “قواعد العدالة”، مراهنا على خبرةٍ تراكمت لديه عبر نصف قرن من الزمان، وتجلَّت في بيانات كل الحكومات التي أفرزها لحماية مصالحه، تمثلت وما تزال تتمثل في أن اختباءَه وراء “مؤسسة العرش”، من شأنه أن يجعلَ الشعب ينطوي على نفسه، راضيا بالجعجعة، ومكتفيا بالعيش على فتات ما تجود به موائد من يحتمون بهذه المؤسسة.ولكن وأمام تأكيدنا على هذا التوجه التدميري من قبل ذلك التحالف، نؤكد على أن الأمر لم يعد قابلا للاستمرار على النحو الذي يتخيلُه ذلك التحالف هو ومن يقف وراءه من مؤسسات أمنية متغوّلَة. لقد أدرك الشعب الأردني وأدركنا معه الحقائق التالية..1 – لن يتم السماح بعد اليوم باللعب على وتر الاختباء وراء “مؤسسة العرش” للعبث بمستقبل هذا الوطن وبمصير وحقوق هذا الشعب ومقدراته، وعلى هذه المؤسسة السامية – مؤسسة العرش – أن تُحَدِّدَ موقفَها بوضوح غير سامحة لأحد بأن يتلاعب بسموها ومكانتها لدى الأردنيين، ولا بأن يستغلَّها لتمرير مآرب ومصالح تتعارض مع حقوق هذا الشعب ومصالح هذا الوطن. فهل هي مَعْنِيَّة بالتجاوب مع المطالب الشعبية، أم أنها غير معنية بذلك. أي هل هي في خندق الشعب، أم في خندق ذلك التحالف. ونحن نحسبها قطعا ويقينا في خندق الشعب لا في خندق أي تحالف معاد له. ولم يعد أمامها سوى أن تُجَسِّدَ هذا التخندق بشكل عملي واضح لا يمكنه أن يُقرَأ بلغة غير لغة الانحياز لمطالب الشعب.2 – لن يتم السماح بعد اليوم بالقفز على مطالب الشعب الأردني المتعلقة بمنظومة “قواعد الحرية” بكل فضائها المتخيَّل، لأن تحقيق هذه المطالب هو المدخل الموضوعي لتحقيق أي مطالب على صعيد منظومة “قواعد العدالة”. ولم يعد بإمكان أيٍّ كان أن يستمر في ترحيل حقوقنا في الحرية إلى الأبد، بالكذب والادعاء والدجل السياسي. فنحن نقبل بأن نعيش جياعا بحريتنا، إذا كان جوعنا ثمنا لتلك الحرية، لأننا نعي جيدا أن استعادتنا لحريتنا هو بداية الطريق للتخلص من الجوع وتحقيق العدالة، وأن أي طريق آخر غير ذلك سيحرمنا على الدوام من الحرية ومن العدالة معا.3 – إن أي تغيير جوهري يَنْصَبُّ نحو منظومة “قواعد الحرية” هو تغيير ثوري الطابع، لذلك فإننا نعي جيدا أننا نطالب بثورة وليس بعمل إصلاحي، وإن كنا نعي جيدا أن هناك فرصةً حقيقيةً لأن تَرْفَع “مؤسسةُ العرش” ذاتُها لواء هذه الثورة، متخندقة مع الشعب في وجه ذلك التحالف الطبقي الأمني الذي يستغل الشعب ومؤسسة العرش معا، محاولا البقاء والاستمرار، عبر ضرب الأول بالثانية، وإخافة الثانية من الأول.4 – لا مجال بعد اليوم للبحث عن حلول حقيقية للأزمات الأردنية، عبر أي عمل إصلاحي من أي نوع أو مستوى. إن استفحال التناقض بين الشعب من جهة، وذلك التحالف البغيض من جهة أخرى، وصل حدا يحول دون جدوى أي إصلاح. إن منظومة القوانين والعلاقات المدمرة للحريات العامة، ولحقوق الإنسان، وللكرامة الوطنية، وللمشاركة الشعبية في السلطة، وللعمل العام المنظم، وللشفافية المحافظة على المال العام، وللاستقلال السياسي المحقق للتنمية والرافض للتبعية في هذا الوطن، غدت من التعقيد والتشابك بحيث لا مجال للتخلص من مردودها بدون عمل ثوري حقيقي، نريده أن يكون أبيضا يحافظ على “مؤسسة العرش” بأن تتولى هي قيادتَه، قبل أن يفوت الأوان فيتحول إلى أسوَدٍ لا يُبقي أمامه أخضرا ولا يابسا ولا يَذر. فالشعب الأردني شعب مثل كل الشعوب إن لم يكن من أكثرها وعيا وتسيُّسا ومستوى تعليميا، وحقوقه وحريته وكرامته فوق كل الاعتبارات أيا كانت، وهو في نهاية المطاف لن يحترم من لا يحترمها، ولن يحافظ على من لا يحافظ له عليها بعد اليوم.وكي لا نتهم بالمبالغة في تصوير سوداوية الوضع الأردني على صعيد الحقوق السياسية والحريات العامة والفساد وامتهان الكرامة الإنسانية وشَفْطِ كافة الحقوق السياسية المفترضة للمواطنين الأردنيين في غايابات مُثَلَّثٍ لا يقل ضراوة عن “مثلث برمودا” المعروف، فإننا سوف نثبت في هذه الدراسة أن غولَ الفساد والاستلاب والتبعية المختبئ دوما وراء “مؤسسة العرش”، واللائذ بها من معارضة الشعب ومحاسبته، يقيم هرمَ جبروته على منظومة من القوانين المحققة لأقصى درجات الاستعباد، والتي لا ينفع التعامل معها بسبب التشابك المشار إليه عبر منهج الإصلاح، لأنها وُجِدَت بشكلها ذاك كي تحول دون أي إصلاح. إنها ذلك المثلث المغيِّب لكل الحقوق والذي يرتكز إلى قانونين مُصاغين بشكل لا علاقة له بحقوق الإنسان، يسندهما دستور تم التلاعب به على مدى أكثر من نصف قرن، لتفريغه تفريغا كاملا من أي مسحة للحياة الدستورية المُشَرِّفَة، لتجعل الحياة في هذا اليلد أشبه بالحياة في إقطاعية من إقطاعيات القرون الوسطى التي تقوم فيها هوامش الحقوق المُحَصَّلَة رغم ضآلتها على مبدإ المِنَحِ والعطايا والمكرمات، لا على قواعد الكرامة والاستحقاق. إنهما قانونا “الأحزاب” و”الانتخاب”. ولأن أي عملية إصلاحية تطال هذين القانونين ستبقى عديمة القيمة على صعيد تفعيل منظومة “قواعد الحرية” في الأردن، ما بقي الدستور بثيوقراطيته جاثما على الصدور، فإننا سوف نولي دراستنا هذه لتحليل الدستور الأردني وقراءة مواده التي سيتجلى لنا أنها جعلت منه دستورا عصِيا على أي تعديل إيجابي، وأن أي نقلة حقيقية إلى حياة ديمقراطية تحترم الإنسان الأردني وذاتَه وهويتَه وكرامتَه في ظل التغيرات التي يشهدها العالم عبر المنطقة العربية، يجب أن تقوم على أساسٍ ثوري يعيد إنتاج الحياة الدستورية في البلاد من جديد بقيادة مؤسسة العرش ذاتها، حتى تكون هذه الثورة تغييرا للنظام برأس النظام ذاته، لا إسقاطا لـ “مؤسسة العرش” التي لا يفكر أي أردني في مجرد الحديث عن أن الحل يكمن في إسقاطها.الدستور الأردني يرسم حياة لا تختلف كثيرا عن الثيوقراطية..29 تعديلا دستوريا عملت في دستور عام 1952 تمزيقا وتشويها، إلى أن حولت الأردن بموجبه إلى مزرعة خراف، تقوم كل الحقوق فيه – على قلتها وضآلتها ومحدوديتها – على المِنح الملكية والعطايا السامية، وهو ما أصبح في معظم أصقاع العالم من أساطير الماضي البعيد. لم يعد دستور كالدستور الأردني الذي خرج “البخيت” مدافعا عن ثيوقراطيته في جلسة الثقة المهينة إياها، مما يفتخر به أي شعب على وجه الأرض، ومع ذلك ما يزال فينا من يملك الجرأة كي يدعي بأن الدولة الأردنية من خلاله وعبر تجسيدها لروحه، تعتبر واحة للديمقراطية!! وإننا كي نقطع الشك باليقين لدى من لا يزال يتخيل أن في دستورنا الحالي ما من شأنه الحفاظ للأردنيين على مسحة من الكرامة والحرية بمقاييس هذا الزمان، سوف نقوم بتحليل هذا الدستور تحليلا قانونيا منطقيا، وليرد على ما سنورده في هذا الدستور من نقائص ومثالب وكوارث من يستطيع ذلك.بداية فإننا نستطيع تلخيص العناوين الرئيسة للكوارث الدستورية التي ينطوي عليها الدستور الأردني المعمول به حاليا فيما يلي..الكارثة الدستورية الأولى.. الملك هو مصدر وأداة كل السلطات وليس الشعب الذي لا يملك من تلك السلطات شيئا..الكارثة الدستورية الثانية.. سلطة الشعب التشريعية المنصوص عليها في الدستور شكلية وعديمة القيمة وغير منتجة إنتاجا يعكس الإرادة الشعبية المستقلة..الكارثة الدستورية الثالثة.. “الملك” في الدستور مُنَزَّهٌ عن الزَّلل أكثر من الأنبياء فلا يخطئ، ومصون من التبعات خلافا لكل الصحابة والحواريين فلا يُحاسب ولا يُساءل..الكارثة الدستورية الرابعة.. الولاء لشخص الملك يسبق الولاء للوطن وللشعب في سابقة لم تعرفها حتى الأنظمة الفاشيستية الفردية..الكارثة الدستورية الخامسة.. لا يمكن للدستور الأردني أن يُعَدَّل إلا بموافقة “الملك”، أي أن المطالبة بحقوق دستورية مستحيل..1 – “الملك” هو مصدر وأداة كل السلطات وليس الشعب الذي لا يملك من تلك السلطات شيئا..تنص المادة 25 من الدستور الأردني على ما يلي: “تناط السلطة التشريعية بمجلس الأمة والملك، ويتألف مجلس الأمة من مجلسي الأعيان والنواب”.. وتنص المادة 26 على ما يلي: “تناط السلطة التنفيذية بالملك ويتولاها بواسطة وزرائه وفق أحكام هذا الدستور”.. أما المادة 31 فتنص على أن “الملك يُصَدِّق على القوانين ويصدرها ويأمر بوضع الأنظمة اللازمة لتنفيذها”.. وأما المادة 32 فتنص على أن “الملك هو القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية والجوية”.. وتمنح المادة 33 الملك سلطة التحكم في مصير الأمة بتأكيدها على أن “الملك هو الذي يعلن الحرب ويعقد الصلح ويبرم المعاهدات والاتفاقات”.. لا بل إن الإجراءات المتعلقة بالتشريع، ورغم أن الدستور لم يمنح الشعب إلا جزءا يسيرا وشكليا منها كما سيتبين لنا في هذه الدراسة، فإن الدستور يعود ليسحب هذا الجزء من الشعب ويمنحه للملك، بتأكيد المادة 34 منه على أن “الملك هو الذي يصدر الأوامر باجراء الانتخابات لمجلس النواب وفق أحكام القانون”، وهو الذي “يدعو مجلس الأمة إلى الاجتماع ويفتتحه ويؤجله ويفضه وفق أحكام الدستور”، وهو الذي يملك حق “أن يحل مجلس النواب”، أو أن “يحل مجلس الأعيان أو يعفى أحد أعضائه من العضوية”.. وهو قبل ذلك من “يعين أعضاء مجلس الأعيان ويعين من بينهم رئيس مجلس الأعيان ويقبل استقالتهم” بناء على ما نصت عليه المادة 36.. أما فيما يتعلق بسطوة الملك في إطار السلطة التنفيذية فإن المادة 35 من الدستور قد نصت على ما يلي: “الملك يعين رئيس الوزراء ويقيله ويقبل استقالته ويعين الوزراء ويقيلهم ويقبل استقالتهم بناء على تنسيب رئيس الوزراء”.. بل حتى تلك الأفعال الشكلية ذات الطابع الشرفي استكثرها الدستور على غير الملك، حينما نصت المادة 37 من الدستور على أن “الملك ينشىء ويمنح ويسترد الرتب المدنية والعسكرية والأوسمة وألقاب الشرف الأخرى”.. لا بل في الوقت الذي تضرب فيه كل الأمم المتحضرة عملاتِها المحلية باسم الشعب مظهرةً عليها صور العلماء والمصلحين والمفكرين والفلاسفة والقادة الفاتحين والمحررين، فإن الدستور الأردني أصر على أن الشعب لا دور له ولا أثر في عملته الوطنية، التي جعلها بناء على المادة نفسها تُضرب “باسم الملك تنفيذاً للقانون”.. ونكتفي بهذا القدر من عرض السلطات والمزايا الممنوحة لشخص الملك في الدستور الأردني، لنتساءل بعد ذلك: عن أي سلطة متبقية للشعب يمكن لهذا الدستور أن يتحدث؟! لا بل لنتساءل: إلى أي تعديل دستوري يمكن لأي داعية إصلاح أردني أن يشير؟! فهل – بعد كل هذا الذي ذكرناه عن سلطة الملك المطلقة تنفيذيا وتشريعيا – يمكن لأي تعديل دستوري أن يتيح للشعب الأردني استعادة الحد الأدنى من حقوقه الدستورية المسلوبة، دون أن يكون تعديلا يُغَيِّرُ كل الدستور، أي بدون ألا يكون تعديلا على الإطلاق، وبأن يكون إعادة إنتاج كامل غير منقوص للحياة الدستورية؟! وهل بعد هذا الحجم من التغييب الشعبي الصُّراح، مجال للحديث عن شيء آخر غير الثورة الدستورية الشاملة التي لا مكان فيها لأي نزعة إصلاحية؟! وفي ضوء الطبيعة الدستورية الثيوقراطية للنظام السياسي في الأردن كما تبين، هل يمكن لمؤسسة العرش أن تستمر في حيادها، تاركة الشعب ومؤسساته الوطنية وقواه الحية، يخوضون معركتهم ضد هؤلاء الذين يتدثرون بالعباءة الملكية، مشرعنين كل فسادهم وإفسادهم بهذه العباءة؟! 2 – سلطة الشعب التشريعية المنصوص عليها في الدستور شكلية وعديمة القيمة وغير منتجة إنتاجا يعكس الإرادة الشعبية المستقلة..مع أن الدستور ينص على أن “الأمة هي مصدر السلطات” في واحد من أهم نصوصه، إلا أنه يجعل من هذا النص الدستوري نصا مُفَرَّغا من أي معنى، عندما يجعل السلطة التنفيذية كاملة، وجزءا كبيرا من السلطة التشريعية، وكامل إجراءات إقرار التشريعات، بيد الملك وحده لا شريك له. ولأن الدستور ينص على أن “تمارسَ الأمة سلطاتِِها على الوجه المبين في هذا الدستور”، فإننا بمتابعة الوجه الذي أشارت إليه هذه المادة، نكتشف أنه غير موجود بالشكل الذي يمكنه إعطاء مصدرية السلطة معناها الحقيقي. إنه من السهل استخلاص حقيقة أن الشعب الأردني بموجب دستوره الراهن يمارس سلطة تشريعية شكلية لا أهمية لها على الإطلاق، وإن هي إلا ذر للرماد في العيون، فقط ليقال أن الأردنيين يشاركون في جزء من السلطة في بلادهم. دعونا نتأمل بادئ ذي بدء تركيبة مجلس الأعيان المُشَكَّل بالكامل بالتعيين المباشر من الملك دون الرجوع إلى أي شكل من أشكال الإرادة الشعبية، والذي يمثل أعضاؤه من الناحية العددية ثلث العدد الإجمالي لأعضاء السلطة التشريعية، وهو ما يجعلهم على الصعيد الفعلي يمثلون ما يمكن تسميته بـ “الثلث المعطِّل”، أي المعطل لإصدار القوانين والتشريعات التي لا يريدها الملك أو التي لا تريدها السلطة التنفيذية، ممثلةً في التحالف الكومبرادوري البيروقراطي الجاثم على صدور أبناء هذا الشعب منذ أكثر من خمسين عاما، بناء على الآلية المقَرَّة في الدستور لاستصدار التشريعات والقوانين ولإقرار السياسات. تنص المادة 63 من الدستور على ما يلي: “يتألف مجلس الأعيان بما فيه الرئيس من عدد لا يتجاوز نصف عدد مجلس النواب”.. وإمعانا في جعل تركيبة هذا المجلس بعيدة عن أي تجاوب مع مصلحة شعبية أو إرادة جماهيرية، وُضِعَت صفات محددة لأعضائه جعلتهم ينحدرون في الغالب من المؤسسات التنفيذية والأمنية والقضائية المعينة، ليمثِّلوا على الدوام “كارتلا” من المناهضين لمصالح الشعب بناء على البنية الطبقية للتحالف الكومبرادوري البيروقراطي الذي لاحظنا حكمَه للبلاد على مدى أكثر من خمسين عاما من تاريخه وبما يتعارض على الدوام مع مصالح هذا الشعب. فقد نصت المادة 64 على ما يلي: “يشترط في عضو مجلس الأعيان زيادة على الشروط المعينة في المادة “75” من هذا الدستور أن يكون قد أتم أربعين سنة شمسية من عمره، وأن يكون من إحدى الطبقات التالية: رؤساء الوزراء والوزراء الحاليون والسابقون، ومن أشغل سابقاً مناصب السفراء والوزراء المفوضين ورؤساء مجلس النواب ورؤساء وقضاة محكمة التمييز ومحاكم الاستئناف النظامية والشرعية، والضباط المتقاعدون من رتبة أمير لواء فصاعداً، والنواب السابقون الذين انتخبوا للنيابة لا أقل من مرتين، ومن ماثل هؤلاء من الشخصيات الحائزين على ثقة الشعب واعتماده بأعمالهم وخدماتهم للأمة والوطن”.. ومع ذلك، فإن الدستور أصر على جعل مجلس النواب، وهو الشق التشريعي الذي تبدو فيه بعض أنفاس الشعب مُجَسَّدة في السلطة التشريعية، مُقَيَّدا بإرادة الملك، عندما نصت المادة 73 منه على أنه “بالرغم مما ورد في الفقرتين “1،2″ من هذه المادة، للملك أن يؤجل إجراء الانتخاب العام إذا كانت هناك ظروف قاهرة يرى معها مجلس الوزراء أن إجراء الانتخاب أمر متعذر”. وهو بالمناسبة ما أوصت به حكومة “علي أبو الراغب” قبيل انتهاء القرن الماضي، ليتخذ الملك قرارا بمقتضى هذه المادة بتأجيل الانتخابات سنتين كاملتين، لم يسمع أحد خلالهما بأن الأردن دخل حربا أو اجتاحته الكوارث الطبيعية أو تعرض لهجوم كاسح من إسرائيل أو تعرض لانتشار الأعمال الإرهابية على نطاق واسع، ولم يكن هناك من سبب لهذا التأجيل، إلا الخوف من أن يصل إلى سدة السلطة التشريعية وفق قانون الانتخاب السابق، من لا يراد لهم ذلك بناء على توصيات استخباراتية أميركية، إلى أن تمكنت السلطة التنفيذية من إصدار عشرات القوانين المؤقتة التي دمرت البلاد والعباد على كل الصعد في غياب أي رقيب تشريعي، وقد كان على رأس القوانين التي اتخذت شكل القانون المؤقت – في غياب مجلس نوابٍ تم تغييبه بناء على مواد الدستور الذي يراد لنا أن نصدق أنه يمنحنا حقوقا ويشركنا في السلطة وفي إدارة شؤون البلاد – قانون الانتخاب الذي مثل ويمثل ومعه توابعه من أنظمة تُقَسِّم الدوائر الانتخابية، وصمةَ عارٍ في جبين من صاغوه ومن شرعوه ومن قبلوه ومن احتكموا إليه.تتواصل مظاهر الاستهتار بالإرادة الشعبية والاستعلاء عليها في الدستور الأردني، فيما نصت عليه المادة 89 بتأكيدها على أنه “عندما يجتمع المجلسان معاً يتولى الرئاسة رئيس مجلس الأعيان”.. وفيما نصت عليه المادة 92 عندما أكدت على أنه “إذا رفض أحد المجلسين مشروع أي قانون مرتين وقبله المجلس الآخر معدلاً أو غير معدل، يجتمع المجلسان في جلسة مشتركة برئاسة رئيس مجلس الأعيان لبحث المواد المختلف فيها، ويشترط لقبول المشروع أن يصدر قرار المجلس المشترك بأكثرية ثلثي الأعضاء الحاضرين، وعندما يُرفض المشروع بالصورة المبينة آنفاً لا يقدم مرة ثانية إلى المجلس في الدورة نفسها”.لا نحتاج إلى كثير فذلكة لملاحظة أن إرادة الملك منفردا اعتُبِرَت مقدمةً على إرادة الشعب مجتمعا في منطوق المادة 89 التي جعلت رئاسة المجلسين في حال التئامهما تؤول إلى رئيس مجلس الأعيان وليس إلى رئيس مجلس النواب، مع أن الرئاسة في هذا المقام ليست أكثر من أمر شكلي وإجرائي لا أثر له في إنتاج القرارات وإقرار التشريعات والقوانين. نعم، إن من انتخبه الشعب لا يستحق أن يكون رئيسا على من عينه الملك. فحتى هذا الإجراء الشكلي استكثره دستور الأردن العتيد على الشعب!! وإذا انتقلنا إلى منطوق المادة 92 فإننا سنجد تحايلا دستوريا عجيبا يمنح السلطة التشريعية النهائية في حالة الاختلاف بين إرادة الملك ممثلة في مجلس الأعيان، وإرادة الشعب النسبية ممثلة في مجلس النواب، إلى الأقلية وليس إلى الأكثرية، وهي الأقلية التي عيَّنها الملك قطعا وتحديدا. إذ ما معنى أن يكون إقرار القانون المحال إلى المجلسين مرهونا بموافقة الثلثين عليه؟! أليس عدد أعضاء مجلس الأعيان يساوي نصف عدد أعضاء مجلس النواب؟! أوَ ليست موافقة الثلثين تعني أن على مجلس النواب كاملا أن يكون موافقا على القانون المحال إلى المجلسين كي يقر وإلا فإنه لن يقر، مادام مجلس الأعيان غير موافق عليه أساسا؟! ومتى حصل أن وافق مجلس النواب في أي دولة في العالم وعلى مدار التاريخ بالإجماع على مشروع قانون؟! وإذن، أليس هذا نوع من التعجيز، وكأنه صفعة يُصفع بها الشعب عندما يتحدى الإرادة الملكية ممثلة في مجلس الأعيان، بمحاصرته ينصوص دستورية تجعل إصراره مُفَرَّغا من أي قيمة أو دلالة أو تأثير؟! فضلا عن ذلك، فإن كل فقهاء القانون يعترفون بأن من يضع حدا أعلى من الأغلبية المطلقة شرطا لإقرار أي قانون، إنما يخوِّل الأقلية ما لم يُخَوِّله للأغلبية. فلو افترضنا أن عدد أعضاء مجلس الأعيان هو أربعون، وأن عدد أعضاء مجلس النواب هو ثمانون. في حال التئام المجلسين، فإننا نتحدث عن مجلس مكوَّن من مائة وعشرين عضوا. لو وافق من المجلس الملتئم ثمانون عضوا على مشروع القانون فإنه يُقر، ولكن ماذا لو أن عدد الموافقين كان تسعة وسبعين فقط؟! القانون لن يُقر. وهل لهذه النتيجة من معنى آخر غير أن إرادة واحد وأربعين عضوا هي التي مُرِّرت على إرادة تسعة وسبعين عضوا؟!! وهل هناك أمر أبعد عن الديمقراطية وعن موضوعية التمثيل من هذه التي يؤدي إليها الدستور الأردني؟!لا بل إن الدستور احتاط حتى لتلك الحالة المستبعدة، التي يمكن فيها لعضو أو لعدد من أعضاء مجلس الأعيان أن يكونوا منسجمين مع إرادة مجلس النواب أكثر من انسجامهم مع إرادة الملك الذي عينهم. وذلك بأن ترك فَسَحَةً تشريعية تتيح للملك فرصةً مناسبة من الوقت لإعادة النظر في القوانين التي ربما تصله بخصوصها تقارير أمنية تنصح بعدم التصديق عليها بصيغتها المرفوعة إليه وتوصي به، لأسباب قد لا يكون الملك مطلا عليها أو منتبها إليها بسبب انشغالاته أو عدم تخصصه أو عدم دقة قراءته للتفاصيل القانونية المختبئة وراء الكلمات والعبارات. فقد نصت المادة 93 على ما يلي: “كل مشروع قانون أقره مجلسا الأعيان والنواب يرفع الى الملك للتصديق عليه”.. وأنه “إذا لم ير الملك التصديق على القانون فله في غضون ستة أشهر من تاريخ رفعه إليه أن يرده إلى المجلس مشفوعاً ببيان أسباب عدم التصديق”..نعم، إننا بإزاء شعب ينتخب مجلسا للنواب، وبإزاء ملك يعين مجلسا للأعيان، وبإزاء عملية تشريعية تنشط على قدم وساق، وفجأة إذا بالملك منفردا يتوقف بجرة قلم عن التصديق على قانون أقره المجلسان بما فيهما مجلسه المُعَيَّن من قبله مُعَطِّلا كل العملية التشريعية، مُحَصِّلا على ستة أشهر كاملة من الاسترخاء قبل أن يعيد الأمر برمته إلى المجلسين من جديد، ليعيدا التلون بالألوان المتناسبة مع الإرادة الملكية التي من المؤكد أنها لم تمتنع عن التصديق إلا بناء على تقارير المستشارين وضباط المخابرات. أي أن إرادة الشعب تقف في نهاية المطاف محاصرة بهكذا احتمالات. ولا يخفى على نبيه ما في دلالة إعادة الملك للقوانين التي لم يُصَدِّق عليها لمجلس الأمة، من رسالة مبطَّنَة لمجلس الأعيان تحديدا، تفيد بأنه غرَّد خارج سرب الإرادة الملكية التي أكسبته وجوده ومشروعيته، بما قد يدفع بهذا المجلس إلى إعادة النظر في اتجاهه التشريعي الذي لم يقبله الملك. أي أننا في نهاية المطاف أمام سلطة تشريعية لا يجوز لها أن تخرج عن الإرادة الملكية، ومع ذلك يراد لنا أن نصدق بأنها سلطة الشعب، وبأن الشعب هو مصدرها، وبأنه هو الذي انتخب المشرعين.. إلى آخر هذه المعزوفة التي غدت نشازا في ظل دستور ثيوقراطي كالدستور الأردني.3 –  “الملك” في الدستور مُنَزَّهٌ عن الزَّلل أكثر من الأنبياء والرسل فلا يخطئ، ومصون من التبعات خلافا لكل الصحابة والحواريين فلا يُحاسب ولا يُساءل..خلافا لكل الأنبياء والرسل، وتَمَيُّزا عن كل الحواريين والصحابة الكرام، وفي تناقض صارخ مع كل الفلسفات الأخلاقية والقوانين الوضعية والشرائع والأديان السماوية، بل ومع طبائع الأمور ومع روح ديننا الإسلامي العظيم، فإن المادتين 30 و49 من الدستور الأردني تضعان الملك في مرتبة لا تختلف كثيرا عن مرتبة الإله الذي نعلم أنه هو وحده سبحانه من لا يُسأل عما يفعل فيما هم يسألون!! ولأننا لا ندعي ولا نفتري ولا نُحَمِّل دستورَنا العتيد ما ليس منه، فإلى القارئ الكريم نسوق نص هاتين المادتين بدون اقتباس أو تلخيص أو تأويل كي يحكمَ بنفسه وكي لا يخرج علينا من يتهمنا بالتطاول وإطالة اللسان، فنحن إنما نستند إلى نصوص دستورية لا تحتمل اللبس.. تنص المادة 30 على ما يلي: “الملك هو رأس الدولة، وهو مصونٌ من كل تبعةٍ ومسؤوليةٍ”.. وتنص المادة 49 على ما يلي: أوامر الملك الشفوية أو الخطية لا تُخلي الوزراءَ من مسؤوليتهم”.كيف يكون بعيدا عن المساءلة، ومصانا من كل تبعة ومسؤولية من يمارس السلطة والحكم بشكل يكاد يكون مطلقا؟! إن كل القواعد الأخلاقية التي توصل إليها البشر، وتلك التي جاءت بها الأديان السماوية، وكل تعاليم الأنبياء ووصايا الرسل، تنص بوضوح على أن كل إنسان مسؤول عن أفعاله، وأنه يحاسب على سلوكه، وأن القلم لا يُرفع إلا عن الأطفال والمجانين والنيام، وأن الذين لا يحاسبون هم فقط المكرهون والناسون. أما أن يمارسَ شخص ما السلطة بكل حيثياتها وتفاصيلها، وأن يكون صاحبَ القرار في مصائر البلاد والعباد دون حسيب أو رقيب، فهذا ما لم يقل به إلا الدستور الأردني والدساتير الثيوقراطية التي يحكم بها الحكام باسم الآلهة. لا بل إن هذا النمط من التفكير السلطوي أبعد ما يكون عن روح الإسلام الذي هو دين الدولة بنص الدستور، إذ ليس في هذا الدين ما يتيح لأيٍّ كان بعد الرسول – الذي كان ينقل عن الرب مباشرة بصفته رسولا – أن يكون فوق المساءلة. إن الرسول نفسه خارج حدود ما يعتبر وحيا كان يشاور ويصيب ويخطئ ويخالَف ويعترضُ عليه. أما من كانوا دونه وبعده من أصحابه الكرام، وعلى رأسهم خلفاؤه الكبار أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فحدث عن محاسبتهم ومراجعتهم بل والخروج عليهم عندما كانوا يخطئون ولا حرج. ولعل أغرب ما في الدستور الأردني من قلب للمعاني والمفاهيم وللمنطق، أن يتحملَ فردٌ مسؤوليةَ قرار أو عمل فردٍ آخر، خلافا لمقولة “ولا تزر وازرة وزرَ أخرى”، التي تعتبر المقولة الذهبية في منطق تحمل المسؤولية في الدين الإسلامي. فأن يتلقى الوزراء أوامر خطية أو شفية من الملك لينفذوها، يقضي بأن تكون المسؤولية ملقاةً على كاهل الملك الذي وجه تلك الأوامر التي يفترض أن هؤلاء الوزراء هم في مواقعهم لتنفيذها. ولكن الدستور الأردني لم يُحَرِّر الملك من المسؤولية فقط، بل إنه ونظرا لضرورة أن يكون هناك طرفٌ مسؤول عن الفعل، فقد حُمِّلت المسؤولية للوزراء الذين لم تُعْفهم المادة 49 من الدستور من المسؤولية!! غريب أمر هذا الدستور الذي يعفي من المساءلة من يفترض أن يُسْأَل، فيما يسأل ويحاسب من يعتبر مأمورا لا ذنب له في ذلك ولا جريرة.. أبعد كل هذا ما يزال هناك من يعتبر الدستورَ الأردني دستورا يظللُ واحةً من الديمقراطية، وأن فيه مسحةً وإن تكن شكلية من مسحات مقولة أن الشعب هو مصدر السلطات، أو أن له سلطة من أي نوع على وجه الحقيقة؟!4 – الولاء لشخص الملك يسبق الولاء للوطن وللشعب في سابقة لم تعرفها حتى الأنظمة الفاشيستية الفردية..يقلب الدستور الأردني معايير الولاء، فيجعل الولاء الأساس والرئيس للملك وليس للشعب الذي يفترض أن الملك يكتسب مشروعيته منه وليس العكس. ولقد تجلى ذلك في الأَيْمان التي يؤديها الأشخاص المتحملون للمسؤولية بموجب الدستور.. فقد نصت المادة 29 من الدستور على ما يلي: “يقسم الملك إثر تبوئه العرش أمام مجلس الأمة الذي يلتئم برئاسة رئيس مجلس الأعيان أن يحافظ على الدستور وأن يخلص للأمة”.. ونصت المادة 43 منه على ما يلي: “على رئيس الوزراء والوزراء قبل مباشرتهم أعمالهم أن يقسموا أمام الملك اليمين التالية: “أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للملك وان أخدم الأمة وأقوم بالواجبات الموكولة إلي بأمانة”.. أما المادة 80 فتنص على ما يلي: “على كل عضو من أعضاء مجلسي الأعيان والنواب قبل الشروع في عمله أن يقسم أمام مجلسه يميناً هذا نصها:”أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للملك والوطن، وأن أحافظ على الدستور وأن أخدم الأمة وأقوم بالواجبات الموكولة إلي حق القيام”.كيف يكون الإخلاص لشخصٍ يكتسب مشروعيةَ موقعِه من الشعب، مُقَدَّما على الإخلاص لذلك الشعب، وعلى الولاء والانتماء للوطن الذي أكسبَه ذلك الشعب وجودَه؟! أي نوع من الدساتير هذا الذي يجعل العلاقة بين المسؤول والملك، علاقةَ ولاءٍ وإخلاصٍ بكل الظلال الأخلاقية الدافئة التي تفيء بها كلمتا الولاء والإخلاص على طرفي المعادلة، بينما لا تتجاوز العلاقة بين ذلك المسؤول وشعبه ووطنه، علاقة الخدمة الموكلة إليه؟! هل هناك امتهان للشعب وللوطن لحساب شخصِ الملك أكثر من هذه الدونية التي يوضع فيها ذلك الشعب وذلك الوطن، عندما يقارنان بالملك؟! إن الشعب الذي يُفترض أنه صائغ الدستور ومانح مؤسسة العرش وجودَها وشرعيتَها يأتي في كل “الأيمان” المنصوص على أدائها في نصوص الدستور الأردني، في الدرجة الثالثة بعد كل من الملك أولا والدستور ثانيا. وكأن من صاغ نصوص هذه الأيمان، أراد ان يخلق حالةً من اللاوعي في ضمائر المواطنين الأردنيين، مفادها أن الملك والدستور مؤسستان فوقيتان، أسمى وأعلى وأجل وأرفع من مقامه هو – أي من مقام الشعب – الذي يأتي بعدهما في المرتبة الثالثة، ما جعل الأردنيين وعبر تاريخهم الطويل يستشعرون هذا الاستعلاء دوما، تجاوزا لحقوقهم، وامتهانا لكرامتهم، وتطاولا على حريتهم، وقفزا عليهم في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بنظامهم السياسي وحياتهم الدستورية وحرياتهم العامة!! 5 – لا يمكن للدستور الأردني أن يُعَدَّل إلا بموافقة “الملك”، أي أن المطالبة بحقوق دستورية مستحيل..تنص الفقرة الأولى من المادة 123 على ما يلي: “تطبق الأصول المبينة في هذا الدستور بشأن مشاريع القوانين على أي مشروع لتعديل هذا الدستور، ويشترط لاقرار التعديل أن تجيزه أكثرية الثلثين من أعضاء كل من مجلسي الأعيان والنواب. وفي حالة اجتماع المجلسين وفاقا للمادة “92” من هذا الدستور يشترط لإقرار التعديل أن تجيزه أكثرية الثلثين من الأعضاء الذين يتألف منهم كل مجلس، وفي كلتا الحالتين لا يعتبر نافذ المفعول ما لم يصدق عليه الملك”.في هذا النص الدستوري العجيب يطلع علينا دستورنا العتيد بقاعدة تحصر الفعل التعديلي في شخص الملك إرادة وإجراءات وقبولا، بحيث أنه إذا لم تكن إرادة الملك ونيته ورغبته قد وقعت على الفعل التعديلي بناء على ما نتصور أنه توصيات أمنية لدائرة المخابرات العامة كما جرت العادة، فليضرب الشعب رأسه في الحائط، وليتأدب، وليكف عن المطالبة بأي تعديل، لأن في مثل هذه المطالبة تجاوزٌ لحقوقه الدستورية ومناددة لإرادة الملك الذي لا يجوز أن تناددها إرادة الشعب مجتمعا!! بداية لا يجوز بناء على منطوق المادة 123، لأي تعديل دستوري أن يصبح قانونا ساري المفعول، إلا إذا مر بمرحلتين تشريعيتين، أولاهما ظالمة ولا علاقة لها برأي الأغلبية، وهي ضرورة موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب على التعديل، وقد ناقشنا لا تمثيلية هذا المبدأ، لأنه في الواقع يعطي للأقلية حق تجاوز إرادة الأكثرية. وثانيتهما مستحيلة بدون وقوع إرادة الملك المباشرة عليها، لأنها في واقع الأمر، المرحلة التي تُفْقِد حتى إرادة الثلثين في مجلس النواب لو تحققت قيمتَها، ما لم يوافق عليها شخص الملك نفسه!! أي أن دستورنا لا يمكنه أن يُعَدَّل بإرادة الشعب بل بإرادة الملك. وفي هذا دليل واضح على أن الشعب الأردني لا يستطيع انتزاع أيٍّ من حقوقه الدستورية المسلوبة منه ظلما، إلا إذا وافق الملك على ذلك. وإذا لم يوافق فإن عليه – أي على الشعب – أن يلتزم الصمت وحدود الأدب – وإلا فإن وصفَه بالاعتداء على الدستور يعتبر تهمة جاهزة!! فإذا تجاوزنا أن إرادة مجلس الأعيان – أي الإرادة المُعَطَّلَة – موجودة في الأساس كي لا يضطرَ الملك إلى الوقوع في حرج إعلان رفضه لما لا تريده الأجهزة الأمنية والتحالفات الطبقية التي تمثلها تلك الأجهزة، فإن تقييد صدور التعديل بموافقة الثلثين من أعضاء مجلس النواب، هي رسالة لمجلس الأعيان مفادها أنه إذا وافق مجلس النواب بهذه النسبة المستبعدَة على التعديل، فإن عليه – أي مجلس الأعيان – أن يتخذ الإجراء اللازم، إذا كانت إرادة الملك بناء على النصائح والتقارير الأمنية والطبقية التنفيذية الحاكمة، لم تتجه إلى إحداث التعديل على النحو الذي تحقق بإرادة ثلثي أعضاء مجلس النواب. واللازم في هذه الحالة معروف، إنه بكل بساطة، قيام مجلس الأعيان برد التعديل إلى مجلس النواب. ولأن الذين صاغوا الدستور الأردني كانوا من الذكاء بحيث يريدون إحكامَ حصارٍ حقيقي حول الإرادة الشعبية حتى لو تطاول بعض المُعَينين في مجلس الأعيان على الإرادة الملكية المُفترضة، فقد تركوا الباب مواربا لتلك الإرادة كي يكون قرارها النهائي هو الفيصل في إقرار التعديل أو رفضه، بشكل يتناسب مع االمنهج الموضوع من قبل المؤسسة الأمنية والنحالف الطبقي الذي تمثله وتدافع عنه.ومن هنا يتبين أن الركون إلى تعديل الدستور لاستعادة الحقوق الدستورية على أساس النزعة الإصلاحية التي تستند إلى مواد الدستور ذاته في تحقيق ذلك، هو ركون غير مُنْتِج على الإطلاق. وأن على الأمور أن تعود إلى نصابها بأن يكون واضحا أن الدستور الذي اكتسب مشروعيته في الأساس من الشعب الأردني، هو دستور لم يعد صالحا ولا مناسبا لهذا الشعب، وأن هذا الشعب يريد إسقاط هذا الدستور، لأن كل آلياته لم تعد تصلح لتسيير حياته الراهنة. وعندما يقرر الشعب إسقاط دستوره القائم، فلا مجال ولا مكان للحديث عن تعديلات دستورية، أو عن دستورية المطالب. فلا شرعية ولا مرجعية لأي قاعدة قانونية، حتى لو كانت قاعدة دستورية عندما تسقطها الإرادة الشعبية التي تمثل أم الشرعيات والمرجعيات كلها. ولأن هذا الشعب يتمسك بمؤسسة العرش كرأس للسيادة في البلاد، فإن على هذه المؤسسة أن تقف إلى جانب الشعب في إسقاط الدستور، لمساعدته على صياغة وإنتاج دستورٍ جديد يستعيد به حقوقه ويواجه به ذلك التحالف الجاثم على صدره ومقدراته منذ عقود من الاستلاب والتغييب.  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.