www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

أسلوب إدوارد سعيد في المرحلة الأخيرة(*)

0

اهتمام ادوارد سعيد بـ “أسلوب المرحلة الأخيرة” من حياة المفكرين ـ والذي ينطلق من عمل ثيودور أدورنو عن الأسلوب الموسيقي في المرحلة الأخيرة عند بيتهوفن ـ يعود إلى أوائل تسعينيات القرن الماضي. في البداية، مثل هذا الاهتمام خطوة على طريق كتابات سعيد في النقد الأدبي والموسيقي، بعد: “الثقافة والامبريالية” عام 1993 و”متتاليات موسيقية” عام

أسلوب إدوارد سعيد في المرحلة الأخيرة(*)
ستاثيس جورجوريس(**)

“إيهِ يا موتُ لن تمس خلودي
فاقضِ ما شئت لستَ وحدك تقضي!”
فوزي المعلوف(***)

اهتمام ادوارد سعيد بـ “أسلوب المرحلة الأخيرة” من حياة المفكرين ـ والذي ينطلق من عمل ثيودور أدورنو عن الأسلوب الموسيقي في المرحلة الأخيرة عند بيتهوفن ـ يعود إلى أوائل تسعينيات القرن الماضي. في البداية، مثل هذا الاهتمام خطوة على طريق كتابات سعيد في النقد الأدبي والموسيقي، بعد: “الثقافة والامبريالية” عام 1993 و”متتاليات موسيقية” عام 1991. أيضاً من الملائم القول بتأثر سعيد في معالجته لأسلوب المرحلة الأخيرة بتجربة مرضه القاسية والتي أودت بحياته. ولأن سعيد كان دائماً خصماً للحلول الدينية والترنسندنتالية، لم يكن ثمة احتمال أن تقوده مواجهته الشخصية مع الموت إلى نوع ما من السعي للسلام الروحي، أو ممارسة الخلاص الفلسفي، أو إيجاد حلول استرجاعية للقضايا.

مذكرات سعيد “خارج المكان” عام 1999 ـ التي وبحسب وصفه برهنت على صعوبة الاكتمال ـ كانت بشق الأنفس محاولة للتجول خارج نبرات حياته أو توفير مرجعية استرجاعية لنوع ما من الكلية [شكل كلي ـ المترجم] السعيدية. وفضلاً عن كونها، بصورة ملموسة ومُعلنة، محاولة للاستذكار وإعادة بناء عالم اجتماعي مفقود الآن في مصطلحات عالم آخر، تسعى المذكرات لرسم خريطة لشبكة البدايات، ووصف بالغ الصعوبة لكلية حياة من نقطة ما عند نهاية الفكر. وربما يُقال أن “خارج المكان” كانت أول ممارسة لسعيد في “أسلوب المرحلة الأخيرة”، على نحو ما يُفهم، في الواقع، من تأخر ظهور مقالاته الكاشفة عن الذات، والتي من المُفترض أن تؤلف كتاباً عن أسلوب المرحلة الأخيرة. كسرد للبدايات ـ يشبه إلى حد كبير خبرة سعيد الأولى في النقد الأدبي، “البدايات” عام 1975 ـ جاءت المذكرات تأملاً واسعاً حول معلمات الحياة العلمانية، حول كفاح الإنسان لإعطاء تفسيرات فقط في حدود هذا العالم، حتى فيما يخص أمثلة تاريخية، بدا العالم وقتها عصياً وسلبياً إزاء أي نوع من المغزى.

إن كتاباً حول “أسلوب المرحلة الأخيرة” لم يكتمل، ومع ذلك ثمة مقالات متنوعة أو مقاطع من محاضرات وكتابات في مناسبات مختلفة، عبر ال 15 سنة الأخيرة من حياة سعيد، تشي بأن المشروع كان دائماً حياً ووشيكاً. مقالة “أفكار حول أسلوب المرحلة الأخيرة” المنشورة حديثاً في London Review of Books، تُعد عرضاً مجزئاً، لكن عبقرياً للمشكلة التي كان سعيد يتحراها أو يسعى لسبر غورها، فضلاً عن أنها تطرح إطار عمل آخر كلياً يمكن من خلاله ادراك الأعمال الأخيرة لادوارد سعيد(1). وهنا يمكن ملاحظة، على نحو عرضي، أن سيمنار الدراسات العليا الذى اعتاد سعيد تدريسه في جامعة كولومبيا في تلك الأثناء، حمل عنواناً مزدوجاً “الأعمال الأخيرة/أسلوب المرحلة الأخيرة”. وأعني بالأعمال الأخيرة، كتاب “الأنسنية والنقد الديمقراطي” عام 2004، والكتابات السياسية في الصحافة في السنوات الأخيرة، والتى جُمعت بعد وفاته في “من أوسلو إلى العراق وخارطة الطريق” عام 2004. ونُشرت مع مقدمة عميقة بقلم مؤرخ جامعة نيويورك توني جودت، إضافة إلى خاتمة رائعة ومؤثرة، كتبها وديع ابنه.

حتى الوصف الأكثر بساطة لحياة سعيد وأعماله يخبرنا بالتشابك القائم بين مجالي الأدب والسياسة عنده، على نحو مستمر ووطيد، رغم احتفاظ كل مجال بمعلماته الانضباطية الصارمة، فالأدب والسياسة في تمايزهما الواضح، يسيران كعناصر مترابطة من مشروع حياة سعيد، والذى عبر عنه بمهمة النقد العلماني. لكن، ما الذى يميز بالضبط هذه الأعمال الأخيرة من مشروع سعيد المُمتد والمعني بالنقد العلماني، ويجعلنا قادرين على الحديث عن أسلوب المرحلة الأخيرة عنده؟

في مقالته آنفة الذكر، يقدم إدوارد التوصيف الأكثر ايجازاً لمفهوم مراوغ بطريقة أخرى. عائداً إلى تفسير أدورنو لأعمال بيتهوفن الأخيرة، يميز ادوارد الإصرار على ذاتية عنيدة لبيتهوفن. سواء فيما يتعلق بمادته الموسيقية التي تتجاهل المنطق التكاملي الصارم والذى كان أسلوب التوقيع السيمفوني للمؤلفين الموسيقيين، لصالح “المشاكسة والانحراف عن المسار”. أو “مناهج عرضية” تشي بتخلي بيتهوفن النهائي عن إمكانية التركيب. ادوارد يشير إلى ما خلص إليه أدورنو من أن أسلوب بيتهوفن في أعماله الأخيرة، بعيد عن انجاز تركيب هارموني، كونه يُنتج تمزقاً داخلياً، يترك هذه الأعمال مُعلقة في الزمن ويصبغها برعب عنيد وكارثي.

سعيد يوافق على أن أعمال بيتهوفن الأخيرة تظل غير متحدة بتركيب أعلى، فهي لا تتسق في أي مشروع، ولا يمكنها التصالح أو التوصل لحلول، لأن ترددها وتشظيها تأسيسي، لا زخرفي ولا يرمز لأي شيء آخر. الأعمال الأخيرة تكون تقريباً “كلية مفقودة، وبهذا المعنى تكون فاجعة”(TLS n. pag.). لكن سعيد يؤكد أن قراءة أدورنو تسعى لتعريف التأخر كعلاقة محددة بشكل يذهب إلى ما وراء المكون البيوجرافي المحض لفنان في مرحلة متأخرة، يسعى جاهداً لترك بصمته الأخيرة. مهما تكن العلاقة بالبعد البيوجرافي ـ لا أحد يقترح انه ليس ذي صلة ـ وبالتالي مهما تكن علاقة الفن بواقع بعينه، فان أسلوب المرحلة الأخيرة يشهد للفن كنقطة متطرفة تتجاهل التقاليد(بما في ذلك الخاصة بالفنان) وتقتحم التأكيد الأخرس للواقع المعاصر، الذي حتى ذلك الحين يكون قد أمد الفنان بهوية جزلة.

التأخر إذن يصبح ظرفاً في حد ذاته: استجابة تخريبية من قبل ذكاء إبداعي إزاء محدودية الحياة غير القابلة للإلغاء، من ناحية، وإزاء إحياء بعينه عبر تذكر هائل لقوى التاريخ، من ناحية أخرى. سعيد يُقر بإيماءات أدورنو الخاصة بأسلوب المرحلة الأخيرة في توصيفه لشخصية بيتهوفن قبل المضي قدماً إلى حالتين تُجاهدان الظرف نفسه، لكنهما تأتيان من أطراف المتوسط، وتقتربان من خياله: الروائي الصقلي جوزيبي دي لامبيدوزا والشاعر اليوناني السكندري قسطنطين كفافي. انه يتعرف في كل منهما على وعي مُغاير لزمنه، بشكل مفارق، يُجرد الحاضر من صفة المراوغة والغموض، ومن ثم يشحذ قوته كتاريخ قيد الصنع. هذا التخيل المغاير لزمنه يحدوه الحصول على متعة عظيمة وثقة في موقع الأدب المنفي والخارج على المسار الذي يتجاهل سلطة الوقت الحاضر، وبناء على ذلك، لا يُصبح مستوعباً في توتر غير محسوم بين ما يكون الآن عديم القيمة، وبين ما يمكن أن ينتهي به المطاف إلى التهشم. مثل هذا الموقع بدلاً من ذلك يُعيد، بلامركزية وبعدم مضاهاة، بناء شروط الفهم النقدي لتاريخ حاضر، لتحقيقها في المستقبل. سعيد يخلص إلى أن ثمة امتياز لأسلوب المرحلة الأخيرة يتمثل في:

“إتاحة كل من التحرر من الوهم والمتعة، بدون حل التناقض بينهما. ما يبقيهما في حالة توتر، كقوى متساوية تندفع بقوة في اتجاهات متعارضة، هو شخصية ناضجة للفنان، تخلو من التباهي والغطرسة، لا تخجل من اللاعصمة أو الثقة المتواضعة، وهي أمور تُكسبها للفنان سنوات العمر أو المنفى”(TLS n. pag.)

هكذا، يتميز أسلوب المرحلة الأخيرة بشجاعة واضحة، وليس جرأة ساذجة، يتميز بالثبات على رؤية شخصية، لكن دون فقد الاتصال سواء بالحدود المطلقة للأخلاق أو بتحدي الحدود الذي يُمكن الإنسانية من صنع التاريخ في وجه مستقبل غير نهائي. وفي اعتقادي، ليس للقارئ الفطن أن يفتقد صدى هذه الفقرة الأخيرة في مقالة سعيد الحاسمة حول أسلوب المرحلة الأخيرة. إنها ضمناً ذاتية المرجعية، كما أنها على نحو صريح وثيقة الصلة بشكل أدبي وظرف اجتماعي.

مقالات سعيد حول الأنسنية كانت شهيرة قبل طباعتها بسنوات. في دوائر مُعينة في الإنسانيات، لم تلق قبولاً طيباً بكل ما في الكلمة من معنى، فقد أُخذت على أنها تحمل الدليل الأكثر قوة على التحول المزعوم لسعيد ضد النظرية. المحاجة ذاعت على أكثر المستويات بساطة! على نحو قريب الشبه بالنظرية الفرنسية وقت تأوجها، في روح 1968، وما أحدثته من نقد مدمر لافتراضات التقليد الإنساني، كانت أي محاولة للدفاع وإعادة شرعنة خطاب الأنسنية ترقى لتكون ضد النظرية. هذا القياس المنطقي ليس بسيطاً فحسب، انه بالكامل غير دقيق من ناحيتين. سعيد لم يكن ببساطة ضد النظرية، ومن يسمون بمنظري ما بعد البنيوية لم يكونوا أيضاً ضد الأنسنيين. ليس ثمة انسجام أو تنافر بين مصطلحي “النظرية” و”الأنسنية”. العلاقة بينهما، دائماً ما تكون، ممكنة تاريخياً، حتى قبل أن يحمل المُصطلحان أي تماسك يمكن تمييزه، حتى قبل أن يتم تسميتهما، من هيدجر وامتداداً للوراء إلى نيتشة إلى ماركس.

تتمة البحث:

http://www.omferas.com/vb/showthread.php?34571-أسلوب-إدوارد-سعيد-في-المرحلة-الأخيرة(*)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.