قبل سنوات حدث نقاش في أحد المنتديات حول موضوع نشر عن أشعار (سعيد عقل) وقد تم توجيه نقد شديد ضد الموضوع من الرافضين لنشر هكذا موضوع في منتدى له رزانته ومكانته الثقافية، فكانت لي هذه المشاركة: إن أولئك الذين يطالبون بفصل عنصريته عن شعره منافقون كذابون لا يعرفوا قيمة الشعر ولا ما للشعر من أبعاد إنسانية أو عنصرية لها دور في تشكيل الهوية وتحديد الموقف وتوجيه المشاعر بالحب أو الكراهية وما يترتب على ذلك من جرائم قتل وإبادة وتشريد ونكبات، التعصب العنصري سواء كان عرقياً أو طائفياً أو أيديولوجياً أو حزبياً أو أياً كان يشكل حاجب يحجب على العقل أن يفهم ويعِ الأمور على حقيقتها، يقتل الجانب الإنساني في البشر ويحيل حياة التعايش السلمي بينهم إلى حروب ودماء وجرائم ضد الإنسانية!واستحضرت تجربة حدثت معي سنوات دراستي أحد الدبلومات للحصول على درجة الماجستير وموقفي من مادتان في المقرر سأكتب لكم عنها مقالة مستقلة، أنشرهما هنا للفائدة الثقافية والفكرية والتاريخية، ونوعاً من التنوع من فترة لأخرى في سياق الحديث عن تاريخنا، ولأنهما لهما علاقة وثيقة بأهمية فهم التاريخ والواقع وخطر التعصب من أي نوع كان على عقل الإنسان المسلم، وليس من قلة أن قال رسول الله صلَ الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: دعوها فإنها منتنة!موقفي من مادتي الثقافة والأدب الإفريقيمصطفى إنشاصيكما وعدت في تعليقي على موضوع شعر سعيد عقل أني سأكتب عن دور التعصب في إلغاء العقل والوعي وتقييد التفكير وحصره في فهم عنصري حزبياً أو عرقياً … في عام 1997 عندما كنت أدرس ماجستير في السودان كان ضمن المقرر مادتين عنصريتين لم يكن لهما ضرورة، تُحرف التاريخ وتلوي عنق الحقيقة حتى وإن كان في ذلك خدمة للغرب بسبب العنصرية المقيتة، وهما:المادة الأولى: الثقافة الإفريقيةالتحقت بالدراسة متأخر حوالي شهر ونصف أو شهرين، وكانت أول محاضرة أحضرها مادة الثقافة الإفريقية، وكما علمت بعدها أن البروفيسور الذي كان يدرسها هو الذي وضع المنهج الثقافي لجماعة الشيح حسن الترابي رحمه الله، وكان يحتل مرتبة متقدمة في الحزب من الصف الأول، وكانت هي المحاضرة الأولى والأخيرة التي حضرتها له!كان موضوع المحاضرة إثبات أن إفريقيا والعنصر الزنجي لم يكونوا خارج التاريخ وأن قارة إفريقيا لم تكن غائبة أو منسية، أو ليس لها دور في تاريخ العالم، إنما لها حضور فاعل، بدليل:أنها شاركت في الصراع القاري الذي كان قائماً منذ فجر التاريخ، بمعنى أنه كان هناك صراع على مستوى القارات القديمة، آسيا وإفريقية وأوروبا، وأن قارة إفريقية عندما اندلعت الحرب بين الفرس والإغريق شاركت في الحرب إلى جانب الإغريق في الوقت الذي شارك فيه الكنعانيين وغيرهم من الشعوب في بلاد الشام والهلال الخصيب إلى جانب الفرس، تعصباً لقارة آسيا، مستنداً إلى رواية المؤرخ الإغريقي هيرودوت الذي يلقب بأبي التاريخ!وقد كان متعصباً بأسلوب يتعارض مع انتماءه الإسلامي وعضويته في حزب إسلامي لرأي الكتاب الغربيين وموقفهم المعادي للكنعانيين (الفينيقيين) الذي يرجع إلى لأسباب تاريخية عنصرية ووصفهم بما وصفوهم به، واتهمهم أنهم كانوا سيئي الأخلاق وقساة القلوب ومجرمين وغير ذلك! وقد حاولت أن أوضح له أن تلك قراءة غربية عنصريه، دون جدوى، فقلت بانفعال:لا تظن أنك أنت فقط المطلع أو الذي يملك المعلومة والحقيقة ونحن أيضاً، ولدي أبحاث موثقة تقول خلاف ما ذكرته، الغرب حاقد على الكنعانيين (الفينيقيون) لأنهم أصل الحضارة، وهم مكتشفي كل جزر البحر المتوسط وجنوبي أوروبا، وسكنوا جنوب أوروبا ووسطها، وهم أو من سكن وعمر جزر البحر المتوسط وجعلوها محطات واستراحات لأساطيلهم التجارية فقد كانوا سادة البحار، وهم مكتشفي بريطانيا، وبريطانيا كلمة كنعانية تعني (أرض القصدير) وقد سموها بهذا الاسم لغناها بالقصدير الذي احتكر الكنعانيين تجارته. وجنسها السكسوني الراقي الآن تجري فيه دماء كنعانية! وأضفت: وقد لا تعلم أن الكنعانيين هم الذين علموا العالم الكتابة وأعطتهم اللغة الكنعاني الحروف الأبجدية، ثلاثة أرباع لغات العالم خاصة آسيا وأوروبا أبجديتها مشتقة من الأبجدية الكنعانية، فقد كانوا تجرا وناقلي للحضارة، وكما اكتشفوا بريطانيا اكتشفوا رأس الرجاء الصالح وداروا حول إفريقية إلى الساحل الشرقي وعادوا إلى فلسطين عبر البحر الأحمر. وقد لا تعرف أنهم مكتشفي الأرض (الأمريكتين) ومعمريها و… قبل أن يجرؤ الغرب أن تطأ قدماه بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) بآلاف السنين … وقد انتهى الخلاف أن تركت المحاضرة وقلت له: لن أحضر لك بعد اليوم وتحب ترسبني رسبني أو أنت حر … لكن الدكتور مدرس المادة الثانية على العكس منه تماماً …
الموقف الثاني كان مع الأستاذ الذي يدرسنا مادة (الأدب الإفريقي) لكنه مختلف عن الأول كثيراً فقد كان خلوقاً إيجابياً ليناً يقبل الرأي الآخر ولا تعصب عنصري مقيت لديه.قد كان ضمن المقرر في تلك المادة روايتان أدبيتان، وأثناء المحاضرات أبديت رأي فيهما وحدث نقاش كثير حولهما، وفي الامتحان أجبت على الأسئلة المتعلقة بالروايتين من خلال وجهة نظري أنا وفهمي لهما وموقفي منهما، والروايتان هما: الأولى: موسم الهجرة إلى الشمال وهي رائعة الأديب والروائي السوداني الطيب صالح”موسم الهجرة إلى الشمال” كان الفهم المقرر لها ما درج عليه الرأي الغالب للنقاد حصره معظم النقاد في موقف شخصي أو رواية لسيرة ذاتية أو قطرية لكاتبها، وأنه ابتدأ الرواية بالحديث عن أحداث الاحتلال البريطاني للسودان، والظروف التي حدثت وأحوال السودان والمجتمع السوداني بعد الاحتلال، وعن هجرته إلى بريطانيا وحياته فيها، وأحداث الرواية التي تتحدث عن بريطانيا والحياة فيها وما ورد فيها من مشاهد غلب عليها طابع الجنس و… كلها تناولوها بأسلوب نقد أدبي وفهم لأحداث الرواية في إطار ضيق شخصي وفردي للكاتب. عن نفسي كان لي رأي مختلف فتلك الرواية قرأتها سنوات الدراسة الجامعية تقريباً عام 1980 ودار حولها حوارات ونقاشات جادة بين شباب لهم طابع خاص في الثقافة والوعي والعمل، وبعضهم كان متابعاً لروايات الأدب العالمي، وقد غلب فهمنا لها ونحن نبحث عن فهم عالمي للأحداث وأنها تجاوزت الشخصي والقطري إلى العالمي، أن الرواية خرجت من الإطار الضيق إلى الإطار الأوسع والأشمل، إنها تعبر عن أحداث الصراع بين الإسلام والحضارة الإسلامية والغرب والحضارة الغربية.وأن المشاهد الجنسية فيها التي تتحدث عن علاقته بحبيبته الإنجليزية التي أصبحت زوجته أفضل أسلوب يعبر به عن عمق العلاقة بين الحضارتين، لأن مشاعر الحب والحقد والكراهية والود والبرود و.. في الحب والعشق أعمق في التعبير عن عمق دورات الصراع الحضاري بينهما من العبارات التقليدية. وأن أحداث الرواية تتحدث عن علاقة الحضارة الإسلامية والغربية ومراحلها المختلفة، عداء وصراع دامي، حياد وجمود، سلام وود، وغدر وخيانة. واحتلال وقمع وانتقام و.. انتهى في الرواية مع حبيبته وزوجته الإنجليزية إلى أن قتلها طعناً بالسكين في سريرها في غرفة الزوجية، في إشارة إلى حتمية انتصار الإسلام على الحضارة الغربية مهما طال الزمن وتنوعت وتعددت دورات الصراع، والانتصار ليس في وطننا فقط بل في عقر داره، في الغرب نفسه!الثانية: “حين تبعثرت الأشياء” وكاتبها الأديب النيجيري شنوا أشيني أو أجيبي صدرت الرواية عام 1958، والكاتب يروي فيها قصة قبيلته (اليوربا) في نيجيريا، وهي قبيلة تنصرت أثناء الاحتلال البريطاني لنيجيريا، يحكي فيها كيف أن قبيلته قبل أن تتنصر كانت يعيشون في هدوء وسعادة وبساطة وكانت علاقاتهم الاجتماعية قوية ولا يوجد مشاكل أو صراعات و.. حياة هادئة جميلة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لكن بعد أن تنصرت القبيلة انقلبت حياتهم رأساً على عقب، انعدمت السكينة والمحبة والود والسعادة وكل شيء كان جميلاً وتبعثرت القيم والأخلاق والعادات والتقاليد والأعراف وتغيرت النظم بالتحول الذي جاء مع الرجل الأبيض والتحول إلى النصرانية والحياة الغربية، وغلب على الحياة والعلاقات الاجتماعية الطابع المادي، وفتور العلاقة وعدم الأمن والرشوة و… وقد كان متأثراً بميلاده الإفريقي وأخلاق قريته، وتعتبر الرواية مرثية مليئة بالوفاء والحنين والرثاء لموروث قبيلته الذي تبعثر وتغير بتنصرها!وقد كانت الرواية مرشحة عام 1966 لنيل جائزة نوبل في الأدب لكن يبدو أنها لشدة عنصرية وكاتبها لم تحصل على الجائزة وجاءت في المرتبة الثانية! والعنصرية في موقف الكاتب وتحيزه إلى نصرانيته التي بعثرت حياة الاستقرار لقبيلته وغيرت كل جميل فيها بعد اعتناقها النصرانية، تتجلي في تحريضية لقبيلته على القتل والاغتصاب والإبادة والانفصال … وما ارتكبته ضد المسلمين أثناء تمردها عام 1960 للاستقلال عن نيجيريا وتأسيس دولة بيافرا بمساعدة كيان العدو الصهيوني والغرب، ذلك التمرد الذي فشل!وكأن رأي: أن هذا العنصري الحاقد المحرض على القتل روايته لا تستحق أن يتم تقرير دراستها في جامعة محترمة، ولا أن ترشح لنيل جائزة نوبل للأدب، وتقريرها مادة دراسية دون توجيه النقد لها يدل على نزعة عنصرية عرقية لا تخدم مصلحة الأمة والجامعة المفترض بها في قطر إسلامي، وذكرت الأسباب من خلال أحداث الرواية وتحريضه فيها بني قومه أثناء الحرب على ارتكاب عمليات إبادة جماعية واغتصاب وتشريد وتنكيل بالمسلمين، من منطلق ليس عنصري عرقي لأنهم كلهم أبناء وطن واحد ولون واحد، لكن من منطلق ديني، لأنه أثبت عبوديته وولاءه للرجل الأبيض الذي دمر كل جميل في حياة قبيلته والآن يدمر كل جميل في وطنه نيجيريا بإثارة العداوة والبغضاء بين قبائله وتفكيك وحدته، ولأن الأدب يجب أن يخدم مصلحة الإنسانية والتعايش بين جميع الناس فما بالك بأبناء الوطن الواحد … وبعد خروجي من الامتحان التقيت مدرس المادة ونحن في طريقنا للمسجد لصلاة الظهر وقد كان بيننا احترام ويعرف رأي في الروايتان من خلال المحاضرات، فقلت له: أظن أنك أصبحت تعرفني جيداً لست مستعد أن أغير قناعاتي حتى وإن كان في ذلك رسوبي أو خفض درجتي. وأردفت أجبت على أسئلة الروايتين بما أنا مقتنع به وليس برأيك!فقال: إن كانت إجاباتك مقنعة وفيها أدلة تؤكد ما ذهبت إليه سأعتبرها إجابة صحيحة وأضع عليها درجة كاملة. وفعلاً حصلت في تلك المادة على درجة كاملة!لا للعنصرية من أي نوع، لا لأصنام العصر أحزاب أو أشخاص، لا لحجب نور العلم والمعرفة، لا لثقافة الجهل، لا لإلغاء العقل والوعي، دعوها فإنها منتنة.
لمتابعة مواضيع الباحث: