مساء أحد أيام عام 1992، انتحيت ناحية الشرفة من مجلس محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا، أنا والأستاذ عبد الحميد البسيوني، فاسْتَنْشَدَنِي قصيدة “الانتظار”، لمحمود حسن إسماعيل، من كتابه “أين المفر”، فأنشدته:
انتظرني هنا مع الليل إني أنا في صدرك المحطم سر
هكذا قالت الشقية والليل على صدرها أنين وشعر
واهتزاز كأنه قبل العشاق لم يحمها حجاب وستر
ولها نظرة كأن بقايا من وداع على الجفون تمر
نعسة وانتعاشة وهنا الشيء الذي قيل عنه للناس سحر
وابتهال كأنه غربة الطير لها في سمائم البيد سير
ولها رعشة كما انتفضت كأس بكفي فكلها لي سكر
ولها حيرة تعلمت منها كيف تهويمة النبيين تعرو
ولها حين أقبلت ثم غابت ندم الوحي حين يدنو يفر
انتظرني هنا وذابت كحلم صده عن خطاه للروح فجر
وأنا جاثم أقلب كفي كما قلب المقادير دهر
انتظرني هنا ومر زمان وأنا في ترقبي مستمر
انتظرت الصباح حتى أتاني وبه كالظلام سهد وفكر
وانتظرت الضحى فأقبل يرتاع على ساعديه عشب ونهر
وانتظرت الأصيل حتى دنا مني وجنباه للصبابات وكر
وانتظرت المغيب وهو غريب أهله أورثوه ثكلا ومروا
خلفوه فلا النهار بمأواه ولا الليل آه ضاع منه المقر
كل يوم جنائز النور تسعى وهو من خلفها وجوم وصبر
لاحد يدفن الحياة بكفين هما ظلمة ترامت وفجر
تشهق الريح حوله فهي في الأفق بكاء من عالم الغيب مر
وهو روح الرماد قبض حواشيه سكون ومس جنبيه جمر
طال مثلي انتظاره فكلانا في جحيم الهدوء ألقاه أمر
ولولي يا رياح أنت خضم ماله أينما توجهت بر
أنت مثلي تلفت وانتظار فوق أوتاره الخفية نبر
جمعتني بك الليالي كما يجمع سحر الهوى وبلواه صدر
أنت قيثارة وقلبي عزيف وكلانا رماه في القيد أسر
كبلتك الآفاق تجرين فيها لا مزار يأويك –هكذا- لا مستقر
تشتكين الإسار والجو ساه ساهم عن أساك والكون وقر
أعولي يا رياح قيدك خلد وبلاياك ليس منها مفر
وأنا في القيود مثلك حيران أخير سلاسلي أم شر
صلبتني على مطافك أرزاء رماني بها غرام وشعر
ومتاهات شاعر ضل ما يدري أزهد حياته أم كفر
حيروه فملء جنبيه لو يدرون شيء عذابه مستمر
جاء يفضي به ولو كنت تصغين لأدماك منه شوك وصخر
طوقت عمره غيوم هي الفن الذي قيل عنه خلد وسحر
لم يجد صاحبا على الدرب فانساب وأيامه ضلال وخسر
وحده في الطريق لا نور إلا من بقايا ما كان أهرق فجر
وحده والرفيق ناي ولو ساق خطا راهب فأنت الدير
ها هنا خيمت جراحي ووسوست رياحي كأن حداء وقفر
ومددت الجناح أرتقب النور وأشتاقه لعلي أفر
ولعلي ومر حولي زمان والدجي والرياح نوح وقبر
وأنا والظلام منتظر مثلي عبد يسليه في الغياهب حر
قمة من وساوس وارتعاش أنا فيها رغم المقادير نسر
انتظرني هنا وطال انتظاري وهي في أعيني التفات وذعر
وسؤال لكل شيء حوالي وإيماءة لكل طيف يمر
وانتباه وغفلة وربيع وخريف وشيب زهر وعطر
وجناح يهفو وآخر يهتاج ومن بين ما يرفان طير
وأنا سبسب توهج منه لخطاها أيك رطيب وزهر
وهي لا أقبلت ولا عاد منها لشقائي بعودة الكأس خمر
وإذا أستاذنا قد سمع ما كان، فأقبل من باحة البيت علينا في الشرفة، وجلس معنا، ثم سأل الأستاذ البسيوني: هل يعرف محمد ينشد؟ فقال: نعم؛ جيد. فقال متبسما: لا، لا يعرف!
تُرى:
لماذا استنشدني الأستاذ البسيوني هذه القصيدة؟
ولماذا أنصت إلينا أستاذنا من بعيد، ثم أقبل علينا؟
ولماذا على رغم البسيوني رآني لا أعرف الإنشاد؟
إن لمحمود حسن إسماعيل في مدرستنا الشاكرية مقاما رفيعا: نشأ تلامذة الأستاذ على إجلاله له، ولم يكونوا ليهملوا ما يُجلّه أو يُؤْثِروا عليه غيرَه. وقد تيسر للأستاذ البسيوني أن يشهد مجلس أستاذنا وفيه محمود حسن إسماعيل نفسه يطربهم بألحانه، بل قد تيسر له أن يرى معاناته نظم إحدى قصائده رأي العين، فلم يفتأ يذكر ذلك ويعجب له! ثم إن هذه القصيدة عروس كتاب “أين المفر”، قد اشتملَت على اسمه عبارةُ بيتها التاسع والعشرين “ليس منها مفر”. ثم إن الأستاذ البسيوني ربما أومأ بما بينها وبين “اعصفي يا رياح http://mogasaqr.com/?p=3138” قصيدة أستاذنا الملحمية الفاخرة، من وحدة الوزن العروضي (بحر الخفيف)، وخطاب الرياح (“ولولي يا رياح”، و”أعولي يا رياح”)، إلى أَلَّا بأس بالاشتغال بالتنقيب عن حقيقة الأمر!
لكأن أستاذنا مع شغفه بالشعر وميله الطبيعي إليه، استبطن ذلك كله وهو النِّقاب النِّحرير الخبير، فأراد تنبيه الأستاذ البسيوني -ولم يكن يتجاوز ذلك بكبار تلامذته في حضرة صغارهم- ولعل الأستاذ البسيوني وهو من خيرة من جرى مجرى أستاذنا من تلامذته المقربين، أراد من أستاذنا إلى أن يعمل ما عمل، فمكر به تلك المكرة، ففهمها، وعرف طِيبها، فقبلها!
أما نفي أستاذنا استجادة ما استجاد الأستاذ البسيوني من إنشادي، فلم أكن أفهم منه عندئذ إلا معنى تأكيد الاستجادة نفسها، ولاسيما أنه ازدان بتبسمه العزيز! ولكنني صرت الآن أفهم أنه أشار إلى أنني لو كنت أجيد الإنشاد لتعثرت في أواخر بيتيه:
وأنا والظلام منتظر مثلي عبد يسليه في الغياهب حر
وسؤال لكل شيء حوالي وإيماءة لكل طيف يمر
المتخرجين في علم العروض على النحو لآتي:
- وأنا والظـ= دددن دن، فعلاتن، مخبونة،
- ـظلام منـ= ددن ددن، متفع لن، مخبونة،
- ـتظر مثـ= دددن دن، فعلاتن، مخبونة،
- ـلي عبد= دددن دن، فعلاتن، مخبونة،
- يسليه في الـ= دن دن ددن، مستفع لن، سالمة،
- ـغياهب حر= (ددن) دددن دن، (×) فعلاتن، (×).
- وسؤال= دددن دن، فعلاتن، مخبونة،
- لكل شي= ددن ددن، متفع لن، مخبونة،
- ء حوالي= دن ددن دن، فاعلاتن، سالمة،
- ي وإيما= دددن دن، فعلاتن، مخبونة،
- ءة لكل= ددن ددن، متفع لن، مخبونة،
- ـل طيف يمر= (ددن) دن ددن دن، (×) فاعلاتن، (×).
لقد زاد بين تفعيلتي البيتين الخامسة والسادسة وتدا مجموعا (ددن)، لم يكن يعجزه أن يحذفه فيقول:
وأنا والظلام منتظر مثلي عبد يسليه في الغيب حر
وسؤال لكل شيء حوالي وإيماءة لطيف يمر
ولكنه لم يقل -فقد خشي أن ينصرف فهم التعبير الأول “يسليه في الغيب حر”، إلى كراهة الحال أو السخرية منها، وأن ينصرف فهم التعبير الثاني “وإيماءة لطيف يمر”، إلى استبداله بالطيف القديم طيفا حديثا!- ولم يكن لمنشد يجيد الإنشاد أن يمر بالموضعين دون أن يستثقلهما فيتعثر عندهما ولا ينتقل عنهما إلا أن يغيرهما؛ فلما لم أفعل لم أستحق في تقديره الاستجادة!