www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

محمود درويش/د. محمد جمال صقر

0

حدثنا أستاذنا الدكتور عبد الصبور شاهين -وقد كان عمل أول حياته بالتثقيف الإذاعي الإلقائي- عن الأستاذ عبد الوارث عسر، أنه كان يدعي بكتابه “فن الإلقاء”، ما لا يستحق، وكأنه ضجر به -وربما أحرجه وهو النجم الساطع، عن بعض تلك الأعمال- وللدكتور شاهين نفسه صوت أكبر من صوت الأستاذ عسر وأحسن، ولكن هيهات أن يقوم لأدائه!

لم يوهب الأستاذ عسر صوتا كبيرا حسنا، بل مهارة كبيرة حسنة بسياسة ما أوتي، وهو من الممثلين في هذا مثل عبد الحليم حافظ من المغنين، الذي ذكر عن نفسه في إحدى صَدقاته المعدودات، أنه صغير الصوت إلى قرينه محرم فؤاد الكبير الصوت الحسنه، فأشار -ونصدقه- أنه أمهر بسياسة صوته من محرم!

وقرين عسر من الممثلين حمدي غيث الكبير الصوت الحسنه، الذي شاركه في الأمسية المحمدية، ولكنه على عكس ما كان بين عبد الحليم ومحرم، فلج في الأمسية على عسر وغيره؛ فعجبت أن لم يتفرغ لإنشاد الشعر؛ فقد حيز له بحذافيره، ثم كفكفت من عجبي؛ فهو من مخضرمي المسرحيّين، الذين ملؤوا الدنيا بما لم ندرك من الأداءات الكبيرة!

وأعجب ما في حمدي غيث أنه بقي له صوته كبيرا حسنا طوال حياته، على حين أنكرنا أصوات غيره ممن ذاع لهم صيت، كالشيخ مصطفى إسماعيل من قراء القرآن، وعبد المطلب من المغنين، اللذَين كنت أعجب لتقدير الناس لهما تقديرا كبيرا، من حيث “أسمع صوتا، ولا أرى فوتا”، حتى طلع علينا “اليوتيوب” -أطال الله في النعمة بقاءه!- فإذا صوتاهما في شبابهما يتدفقان حين ينطلقان، من خلايا جسميهما كلها جميعا معا، وكأن الكائنات كلها تشاركهما في صوتيهما عندئذ من كل حدب وصوب، جميعا معا!

كذلك كان لمحمود ياسين صوت كبير حسن، أنطق به أعمالا كثيرة، ولكنني لم أقدره قدره حتى أعاد التلفاز المصري عرض مسرحية “ليلى والمجنون”، لصلاح عبد الصبور، وكذلك قدره زملاؤه، حتى سمعت بعضهم يذكر أنه أزال عنه التباس القاف بالكاف، بكلمة كأنها من حكم الأوائل: “الْكَافُ مِنَ الْفَكِّ، وَالْقَافُ مِنَ الْحَلْقِ”!

وقد استطاع الأستاذ فاروق شوشة صاحب البرامج الثقافية الشهيرة الخالدة، أن يقتحم على ذوي الأصوات الكبيرة الحسنة، حتى صار الإعلاميون يتبرَّكون بصوته، يأخذ هذا من أداءاته، ويستعمله ذاك في أداءاته؛ فملأ الدنيا وشغل الناس، وبجواره صوت أكبر منه وأحسن، طويل الصمت بمكتبه من قسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة، لا يطلب حظا ولا يرضى عن حظ، ولا يعرفه غير الصادقين من زملائه والنابهين من تلامذته والباحثين من غيرهم، صوت أستاذنا الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم، الذي أراد في صباه أن يقرأ للناس به القرآن، فلما لم يتيسر له زهد فيه!

وفي أثناء ذلك كله نشأ محمود درويش كما شاء، جسما رشيقا ووجها وسيما وقولا بليغا وصوتا كبيرا حسنا وثوبا أنيقا -تلك خمسة كاملة- فظلمهم، وعفّى على آثارهم، حتى صار هو المسرحية والممثلين، والمعزوفة والموسيقيين، والأغنية والمغنين؛ فوجب أن يُفرد بالنظر!

صوت محمود درويش

لا يكون الصوت كبيرًا حتى يكون قويَّ البُنيان رَحيبَه، ولا حسنًا حتى يكون عذبَ الأنغام خَصيبَها، ولا كبيرًا حسنًا معًا حتى يكون سَلِسَ الحركة دافقَها، مثلَ صوت محمود درويش!

يخرج من محمود درويش صوتُه أصيلا دائما، لا يعرف الصوت الزائف الذي يسميه الملحِّنون “مُسْتَعَارًا”، مثلما أعرفه أنا مثلا: أكلم الناس بصوتي الأصيل، وأنشدهم بصوتي الزائف؛ فأما بالزائف فأفتح غرف جهازي النطقي كلها حتى السرية، وأما بالأصيل فلا أفتح إلا العلَنية- ومثلما عرفته نجاة الصغيرة المطربة المعروفة، التي تغني الناس بصوت زائف غير الذي تكلمهم به!

لقد كان محمود درويش ينشد الناس بالصوت الذي يكلمهم به!

ولأنه الشاعر والمنشد والمؤلف والممثل والموسيقي والعازف والملحن والمغني جميعا معا، يختار للأداء ما يناسبه، ويتصرف فيه؛ فيحذف ويضيف، ويقدم ويؤخر، ويخلط ويُخلي، ولا يبالي حين يرقى منصته، أطال الوقت أم قصر، ولا يبالي المتلقون، ولا يدرون أنهم لا يبالون! وقد أغناه ذلك زمانا طويلا، عن إشراك فنون أخرى في أدائه مثلما فعل نزار قباني وغيره، ثم بدا له؛ ففعله هو نفسه، أو فعله بعض من أشركوا في أعمالهم بعض أداءاته؛ فكانت طريقهم إلى التوفيق والتأثير الكبير!

يعود صوت محمود درويش بالإنشاد إلى أصل دلالته “رَفْع الصوت”، من قبل أن تخالطه عناصر الغناء؛ فهو لا يفعل أكثر من ذلك، ثم يترك لعاداته النطقية أن تعمل عملها؛ فنجده يقطّع أداءه وكأنه يهيئه لمتكلمين مختلفين، ويخالف بين إيقاعاته تعبيرا عن مشاعره المختلفة، ويتلبّث قليلا عند أطرافه دون أن يقطع بعضها من بعض، ليتيح للمتلقين أن يستوعبوا وأن يطربوا.

وقد كان أمثاله فيما مضى قليلا، فصاروا أقل من القليل، بعدما ازدادتْ فسادًا حياتُنا الصحيةُ والرياضيةُ والأدبيةُ والثقافيةُ والفنيةُ والعلميةُ! ولكن ينبغي ألا يضطرنا ذلك إلى التسليم لمحمود درويش بالتوفيق دائما، ويحرجنا عن أن ننبه على ما أخفق فيه أحيانا، وهذا حديث آخر!

سيمفونية الكتاب

ما أكثر ما عرضت لعلاقة الشعر بالموسيقى حتى قلت للموسيقيين: “لولا الغناء لم يكن الشعر، ولولا المغني لم يكن الشاعر:  http://mogasaqr.com/?p=2801، عنوان مقال جعلته المحور الذي يدور بهذه العلاقة وتدور به، ثم اتخذته لهم وحدهم مدخلا إلى دراسة علم العروض، ثم جعلته لغيرهم من طلاب علم العروض مثلما جعلته لهم.

ولقد اشتغلت قديما بنقد قضية التأثير والتأثر من داخل الشعر العربي ومن خارجه؛ فأما القضية من داخله فمن حيث يؤثر عروضه في لغته ولغته في عروضه، وأما القضية من خارجه فمن حيث تؤثر الموسيقى في نظامه ونظامه في الموسيقى؛ وفي هذا النقد من دقة الملاحظة وسعة الإحاطة، ما لا ينقضي منه عجب المُتعجِّلين!

ثم رأيت الاشتغال بالإنصات إلى صوت الطبيعة الإنسانية أهم وأجدى من الاشتغال بالتفتيش عن أدلة الريادة والفرح بقَصَب السبق؛ فاطرحت عني نقد قضية التأثير والتأثر إلى نقد ظاهرة الحَراك الحَيويّ العامّ؛ عسى أن يكون في هذا النقد من رَجاحة المُساكنة وطول التأمُّل، ما لا ينقضي منه عجب المُتأنِّين!

ومن مظاهر ظاهرة الحَراك الحَيويّ العربي العامّ، تطور المعزوفة الموسيقية والقصيدة الشعرية جميعا معا: فأما المعزوفة فتطورت من الدَّوْرة المفردة المتكررة، إلى النَّوْبة المركبة المحددة، ثم السِّيمْفونية المطلقة المتكاملة- وأما القصيدة فتطورت من العمودية المتعددة المتشابهة، إلى الموشحة المركبة المحددة، ثم الحُرَّة المطلقة المتكاملة، من غير أن يعني ذلك أن تَتَماحَى الأطوار؛ إذ لا يفتأ بعضها يعاصر بعضا، معاصرة لا تنفي تطوره عنه، ولكنها تثبت اختلاف الأذواق الفنية!

تستولي على أسماعنا المعزوفة السِّيمفونيَّة والقصيدة الحُرَّة كلتاهما، مدة مديدة، تختلف في كل منهما حركاتها وتأتلف وتتدافع وتتكامل من غير أن يعوق بعضها بعضا فيتعثر انطلاقها وتحتبس أصواتها. وهو شأو فني بَطين، لم تبلغه المعزوفة حتى استهلكت الموسيقيين النَّوْبةُ والدَّوْرةُ، ولا القصيدة حتى استهلكت الشعراءَ المُوشَّحةُ والعَموديَّةُ!

وإذا جاز لي أن أترك للموسيقيّين العرب تحديد أصحاب المعزوفات السيمفونية، وجب عليَّ أن أدعي لمحمود درويش (1941-2008)، توفيقه بكتابه “جدارية محمود درويش”، إلى نظم القصيدة العربية الحرة التي تتبوَّأ من الشعر ما تتبوؤه المعزوفة السيمفونية من الموسيقى!

جدارية محمود درويش

أعوام ١٩٨٤ و١٩٩٨ و٢٠٠٨، عَجَزَ عن عَمَلِهِ قلبُ محمود درويش؛ فخضع للجراحة المفتوحة ثلاثَ مرات، نجا من الأوليين، ثم كانت الثالثة هي الثابتة؛ رحمه الله، وطيب ثراه! لقد بَغَتَه في المرة الأولى خطرُ الجراحة، ثم وَجَدَ في المرة الثانية أَثَرَ الموت؛ فلما نجا ثُمَّ حضرَته المرةُ الثالثة قاسَها على الأوليين؛ فأخّر إلى ما بعدها تكملةَ بعض أعماله، ووثّق عقدَ بعض مواعيده؛ فحالَ دون أمَلِه أجلُه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

بعدما زال عنه أثر الموت عام ١٩٩٨، انقطع عام ١٩٩٩ لنظم قصيدة طويلة، يحكي فيها قصة معاناته، ويتأمل أحواله، ويفرح بنجاته، ويوصي أحبابه، سمّاها “جدارية محمود درويش”، زعم زاعمٌ أنها منسوبة إلى جدار ما بين الحياة والموت الذي يبنيه للفنان فنُّه ويخلِّد ذكرَه، ولا يمتنع مع ذلك أن تكون مشبهة بالرسمة الفنية التشكيلية التي تُبسط على الجدار المحيط كله، فيرتع منها الفنان كل مرتع، ويتملَّأ بها أفق الناظر، ويتسرَّى همه!

وقد نشرتها له كتابًا عام ٢٠٠٠، مكتبةُ رياض الريس البيروتية، ثم ضمَّنتها غُرةَ عام ٢٠٠٩ (بعد أربعة أشهر من وفاته)، ما سمته “الأعمال الجديدة الكاملة”، بعدما سبقتها “كلمة” -لعلها المجلة التونسية- إلى نشر الجدارية وحدها في أربعينِهِ (اليوم الأربعين من وفاته)! وقد قابلتُ بين النشرتين؛ فوجدت بنشرة “كلمة” من إسقاط الأسطر وإقحام ما ليس منها وتشويه التشكيل والترقيم وإهمال التقسيم، ما لا مزيد عليه للشامت؛ فكيف بالمعزي!

ثم وجدت لمحمود درويش بشبكة المعلومات، لقاء تونسيا طويلا، ألقى فيه جداريته كلها، فتأكد لي ما رأيته بينها وبين المعزوفة السيمفونية التي تؤدى في لقاء واحد طويل كذلك، من تواز فني، تتجاريان فيه تشعُّبًا وتكاملا. وخطر لي أن أقابل بين نشرتي القصيدة الإلقائية الصوتية والكتابية الورقية؛ فوقفت من فروق ما بين إلقاء الشعر العربي الحديث وكتابته عموما، وما بين ذلك عند محمود درويش خصوصا- على ما يستحق أن تفرد له المقالات!

كبير حسن ولكن العربية أكبر وأحسن

خطر لي أَنْ لو سمعتُ مِنْ صاحبها قصيدةَ “جِداريَّة محمود درويش”، التي أقرؤها الآن (12/7/2018)، لازددت لها تحقيقا ومنها تمكنا، وإذا اليوتيوب -أطال الله في النعمة بقاءه!- قد اتسع قبل خمس سنوات (2013)، لساعة وتسع عشرة دقيقة وثمان وعشرين ثانية (1,19.28)، مرفوعِ مسجَّل أمسية تونسية قديمة، أنشد فيها محمود درويش جداريته كلها؛ فقابلتُ المكتوبة بالمنطوقة، حفيًّا بما لم أعمله من قبل!

لقد وجدت المكتوبةَ حذفت إحدى وأربعين كلمة “سَأَصِيرُ يَوْمًا شَاعِرًا (…) سَأَصِيرُ يَوْمًا مَا أُرِيدُ”، من أوائل القصيدة، أضافتها المنطوقة- والمنطوقةَ حذفت ثماني وعشرين “مِنْ أَيِّ رِيحٍ جِئْتِ (…) وَيُوجِعُنِي الْوَرِيدُ”، من أوائلها، وأربعا وعشرين “يَا مَوْتُ يَا ظِلِّي (…) يَا مَرَضَ الْخَيَالِ”، ثم ثلاثا وأربعين “يَا مَوْتُ هَلْ هَذَا هُوَ التَّارِيخُ (…) وَتَذْرِفُ الْمَطَرَ الْمُقَدَّسَ”، من أواسطها، أضافتها المكتوبة- فعرفتُ هذه الخصلة الحيوية الكريمة المعروفة، أَلَّا يكُفَّ الشاعر ما دام حَيًّا، عن تكرار النظر في قصيدته، ولا عن تنقيحها وتهذيبها، ليكون أشدَّ الناس حيرةً بها، القائمون بعدَه على نشرها!

ووجدت المنطوقة عَيَّتْ بخمس وتسعين ومئة كلمة “بَكَى الْوَلَدُ الَّذِي ضَيَّعْتُهُ (…) وَكَانَ الْحَالِمُونَ يُرَبِّتُونَ الْقُبَّرَاتِ النَّائِمَاتِ وَيَحْلُمُونَ وَقُلْتُ”، هي حوار السجين الفلسطيني العائد من منفاه والسجّان الصهيوني الخالف على السجن أباه- من أواخر القصيدة، سَكَتَ فيها مسجَّلُ المنطوقة، وهي في المكتوبة؛ فارتبتُ في تحرُّج الناشرين من المنطوقات الجريئة، أكثرَ من تحرجهم من المكتوبات!

ووجدت المنطوقة كذلك حذفت الفاء من “فَأَيُّنَا” في المكتوبة، والواو من “وَكُلَّمَا”، وكلمة “وَالْعَرَائِسِ”، وكلمتي “عَلَى مَهَلٍ”، وكلمتي “بَلْ لتِعَمْلَ”، وكلمة “الصَّغِيرِ”، وتكرار كلمة “فَوْقَ”، وكلمتي “والْبَكَارَةَ بِالْمَهَارَةِ”- فعرفتُ قصد إغماض الإيقاع عَمْدًا، الذي يلتبس بكسره ويبقي المتلقي منه على قلق! ومن ذلك نفسه إضافة الفاء إلى “فَاجْلِسْ”، و”يَا” إلى “وَيَا أَيُّهَا الْمَوْتُ”، وإلى “يَا أَيُّهَا الْمَوْتُ”- والوقفُ كثيرًا حيث لا وقفَ والاضطرارُ إلى قطع ما يلي الوقف من همزات الوصل!

ووجدت المنطوقة كذلك غَيَّرَتْ “يَصْنَعُنِي وَيَصْرَعُنِي” في المكتوبة إلى “يَصْرَعُنِي وَيَصْنَعُنِي”، و”الصَّحِيحِ” إلى “الْفَصِيحِ”، و”عَمَّا قَلِيلٍ” إلى “بَعْدَ قَلِيلٍ”، و”الْأُخْرَى” إلى “الْأُوْلَى”، و”الشَّفَقِ” إلى “الشَّبَقِ”، و”فَعَلَتْ لَنَا” إلى “فَعَلَتْ بِنَا”، و”عَنِّي” إلى “مِنِّي”، و”فَرَسًا” إلى “فَرَسِي”، و”الْبَيْضَاءِ” إلى “السَّوْدَاءِ”، و”أُوزِيرِيسُ” إلى “أُوزُورِيسُ”، و”أَعْرِفْ” إلى “يَعْرِفْ”، و”فَاصْمُدْ” إلى “فَاصْعَدْ”، و”هَذَا الِاسْمُ” إلى “هَذَا الْإِسْمُ”، و”الرَّحِيلِ” إلى “الْغِيَابِ”- فعرفتُ جَذْبة الإيقاع، التي يغيب بها عن المؤدِّي الطَّروب أحيانا وجهُ التدقيق! ومن ذلك نفسه تغيير “هَوْدَجِك” إلى “هَوْدَجَك”، و”الْآنَ” إلى “الْآنِ”، و”أَمْ إِنَّ” إلى “أَمْ أَنَّ”، و”لَمْ يَعُدْ أَحَدٌ” إلى “لَمْ يَعُدْ أَحَدًا” ، و”نُقْطَةَ الضَّعْفِ الْأَخِيرَةَ” إلى “نُقْطَةَ الضَّعْفِ الْأَخِيرَةِ”، و”جَلْجَامِشَ” إلى “جَلْجَامِشِ”.

ووجدت المنطوقة كذلك حرفت “وَاسْفِكْ” في المكتوبة إلى “وَاسْفُكْ”، و”تَخْطَف” إلى “تَخْطُف”، و”زَهَقْت” إلى “زَهِقْت”، و”مَلِلْتني” إلى “مَلَلْتني”، و”أَمْلِك” إلى “أَمْلُك”، و”نَكْبَر” إلى “نَكْبُر”، و”الذَّهَاب” إلى “الذِّهَاب”، و”الزِّفَاف” إلى “الزَّفَاف”، و”تَكْرَار” إلى “تِكْرَار”، و”شَهَادَة” إلى “شِهَادَة”، و”الْعَلَاقَة” إلى “الْعُلَاقَة”، و”عَلَاقَتنا” إلى “عِلَاقَتنا”، و”وَحْدَة” إلى “وِحْدَة”، و”الْمُنَاخ” إلى “الْمَنَاخ”، و”مَقْعَدِي” إلى “مِقْعَدِي”، و”رَعْوِيَّة” إلى “رَعَوِيَّة”، و”الشَّمَال” إلى “الشِّمَال”، و”شَمَالِيَّة” إلى “شِمَالِيَّة”، و”النُّعْمَان” إلى “النِّعْمَان”، و”جُمَّيْزة” إلى “جِمِّيزَة”، و”الْكَتَّان” إلى “الْكِتَّان”، و”جُغْرَافِيَا” إلى “جِغْرَافِيَا”، و”هِيرُوشِيمَا” إلى “هَيْرُوشِيمَا”، وهربت من فصيح نطق الأعداد “1400 مَرْكَبَةً وَ1200 فَرَسٍ” ، و”75 سَنْتِيمِتْرًا”- فعرفتُ سَطْوة الأخطاء المشهورة، التي فضَّلها بعضُ اللغويين مُخطئًا، على الأَصْوِبة المهجورة؛ فجعلت تفضيله هذا من الفسوق اللغوي الذي ينبغي أن يستتاب عنه! ومن ذلك نفسه ترقيقُ بعض الأصوات المفخمة، كخاء “الخَاسِرِين”.

تشريح إيقاع الجدارية العروضي

3414  تفعيلة من الشعر الحر جداريةُ محمود درويش، في 1164 سطر، بمتوسط ثلاث تفعيلات تقريبا (2.93)، في السطر الواحد؛ وكأنه شطر البيت العمودي، الذي جعله أبو نصر الفارابي أقلَّ مقدار من الكلام الموزون “يصلح بيتا، ويصلح بعض بيت”؛ فبقي في الواعية الشعرية العربية، حتى شَرَقَتْ به جداريةُ محمود درويش، على بعد ما بين المشرقين!

توقعت أن تنفرد بتلك التفعيلات كلها تفعيلةُ بحر الكامل “مُتَفَاعِلُن”، التي افتتن بها طويلا محمود درويش معذورا بنجاحها المستمر، ولاسيما في الشعر الحر الذي سُمِّيَ حَمَلَتُهُ مرةً “شعراءَ المُتَفَاعِلُن”؛ فإذا هي على أربعة أقسام:

–        أولها لـ”مُتَفَاعِلُنْ” (تفعيلة بحر الكامل المتوقعة)، بنسبة 90.80%.

–        وثانيها لـ”فَاعِلُنْ” (تفعيلة بحر المتدارك التي يمكن تخيل توليدها من “مُتَفَاعِلُنْ” بحذف السبب الثقيل “مُتَ”، من أولها)، بنسبة 4.65%.

–        وثالثها لـ “فَعُولُنْ” (تفعيلة بحر المتقارب مقلوبة تفعيلة بحر المتدارك “عِلُنْ فَا”)، بنسبة 4.01%.

–        ورابعها لـ”فَاعِلَاتُنْ مُتَفْعِ لُنْ فَاعِلَاتُنْ” (شطر بيت بحر الخفيف الذي يمكن تخيل توليد تفعيلته الأولى بزيادة سبب خفيف على “فَاعِلُنْ”، ثم تنضاف إليها قرينتاها اعتراضا للإيقاع بشطر بحر الخفيف)، بنسبة 0.52%.

“هَذَا هُوَ اسْمُكَ

قَالَتِ امْرَأَةٌ وَغَابَتْ فِي الْمَمَرِّ اللَّوْلَبِيِّ

أَرَى السَّمَاءَ هُنَاكَ فِي مُتَنَاوَلِ الْأَيْدِي

وَيَحْمِلُنِي جَنَاحُ حَمَامَةٍ بَيْضَاءَ صَوْبَ

طُفُولَةٍ أُخْرَى وَلَمْ أَحْلُمْ بِأَنِّي

كُنْتُ أَحْلُمُ كُلُّ شَيْءٍ وَاقِعِيٌّ كُنْتُ

أَعْلَمُ أَنَّنِي أُلْقِي بِنَفْسِي جَانِبًا

وَأَطِيرُ سَوْفَ أَكُونُ مَا سَأَصِيرُ فِي

الْفَلَكِ الْأَخِيرِ وَكُلُّ شَيْءٍ أَبْيَضُ

الْبَحْرُ الْمُعَلَّقُ فَوْقَ سَقْفِ غَمَامَةٍ

بَيْضَاءَ وَاللَّاشَيْءُ أَبْيَضُ فِي

سَمَاءِ الْمُطْلَقِ الْبَيْضَاءِ كُنْتُ وَلَمْ

أَكُنْ فَأَنَا وَحِيدٌ فِي نَوَاحِي هَذِهِ

الْأَبَدِيَّةِ الْبَيْضَاءِ جِئْتُ قُبَيْلَ مِيعَادِي

فَلَمْ يَظْهَرْ مَلَاكٌ وَاحِدٌ لِيَقُولَ لِي

مَاذَا فَعَلْتَ هُنَاكَ فِي الدُّنْيَا

وَلَمْ أَسْمَعْ هُتَافَ الطِّيِّبِينَ وَلَا

أَنِينَ الْخَاطِئِينَ أَنَا وَحِيدٌ فِي الْبَيَاضِ

أَنَا وَحِيدُ”!

لقد كانت “مُتَفَاعِلُنْ” نغمة أساس سيمفونية كتاب الموت، هذه التي مَوْسَقَ بها محمود درويش رحلته المتخيلة في أثناء جراحة قلبه الثانية الخطيرة، غيابا وحضورا، ونسيانا وذكرا، وسخطا ورضا، وخوفا وأمنا، ويأسا وأملا؛ فوَصَفَ، وأَنْسَنَ، وجَرَّدَ، وحَاوَرَ!

“تَقُولُ مُمَرِّضَتِي أَنْتَ أَحْسَنُ حَالًا

وَتَحْقُنُنِي بِالْمُخَدِّرِ كُنْ هَادِئًا

وَجَدِيرًا بِمَا سَوْفَ تَحْلُمُ

عَمَّا قَلِيلٍ

رَأَيْتُ طَبِيبِي الْفِرَنْسِيَّ

يَفْتَحُ زِنْزَانَتِي”!

“مَنْ أَنَا

أَنَشِيدُ الْأَنَاشِيدِ

أَمْ حِكْمَةُ الْجَامِعَةْ”!

“بَاطِلٌ بَاطِلُ الْأَبَاطِيلِ بَاطِلْ

كُلُّ شَيْءٍ عَلَى الْبَسِيطَةِ زَائِلْ”!

ولقد كانت [“فَعُولُنْ”، و”فَاعِلُنْ”، و”فَاعِلَاتُنْ مُتَفْعِ لُنْ فَاعِلَاتُنْ”]، هي النغمات المتفرعة عن نغمة الأساس، بحيث انحرفَ محمود درويش بـ”فَعُولُنْ”، إلى ما كان في إفاقته مِن حوار مَن حوله، وبـ”فَاعِلُنْ”، إلى ما كان في إفاقته من إنكاره لحاله، وبـ”فَاعِلَاتُنْ مُتَفْعِ لُنْ فَاعِلَاتُنْ”، إلى ما كاد يفضى به إليه من اليأس إنكارُه لحاله!

وكذلك توقعت أن تنطلق التفعيلات من أولاها إلى آخرتها انطلاقة واحدة لا تتلبَّث ولا تتعثَّر، حرصا على مثال القصيدة الحرة الذي تتمثله ونُصْبَ عينيها مثالُ المعزوفة السيمفونية المطلقة المتكاملة؛ فإذا هي مقسمة باعتبار صور التفعيلات القافوية، على 33 قسما بـ 90 فصلا، من حيث يجب وقف تلك الانطلاقة إذا اعترضتها هذه التفعيلة، كما سبق في تفعيلة مقطع الفصل الأول: “ضُ أَنَا وَحِيدُ=مُتَفَاعِلَاتُنْ”، التي لو اتصلتْ بتفعيلة مطلع الفصل الثاني “لَا شَيْءَ يُو=مُتْفَاعِلُنْ”، لانكسر الإيقاع، وتأذى السماع:

–        ستة أقسام منها ذوات “مُتَفَاعِلُنْ” وقافية الدالية المضمومة المردفة بياء المد أو واوه الموصولة بالواو (1-29، 43-45، 50-64)، واللامية المكسورة المردفة بياء المد الموصولة بالياء (46-49)، والمضمومة المؤسسة الموصولة بالواو (71)، والنونية الساكنة المردفة بالألف (88)، والساكنة المردفة بياء اللين (89)، واللامية المكسورة المجردة الموصولة بالياء (90).

–        وستة عشر قسما منها ذوات “فَعُولُنْ” وقافية التائية المكسورة المؤسسة الموصولة بالياء (30)، والصادية المفتوحة المجردة الموصولة بالألف (31)، واليائية المفتوحة المؤسسة الموصولة بالهاء الساكنة (32)، والدالية المفتوحة المؤسسة الموصولة بالألف (33)، والتائية المكسورة المردفة بياء اللين الموصولة بالياء (34)، والرائية المفتوحة المجردة الموصولة بالهاء الساكنة (35-36)، والساكنة المجردة (37-38)، والميمية الساكنة المجردة (39)، والبائية الساكنة المجردة (40)، والنونية المكسورة المجردة الموصولة بالياء (41)، والفائية الساكنة المردفة بياء المد (42)، واليائية المفتوحة المردفة بياء اللين الموصولة بالهاء الساكنة (65-66)، والتائية المكسورة المجردة الموصولة بالياء (67)، والطائية الساكنة المجردة (68)، والنونية المكسورة المجردة الموصولة بالياء (69)، والغينية المفتوحة المجردة الموصولة بالهاء الساكنة (70).

–        وستة أقسام منها ذوات “فَاعِلُنْ” وقافية العينية المفتوحة المؤسسة الموصولة بالهاء الساكنة (72)، والدالية المكسورة الموصولة بالياء (73، 75)، والنونية الساكنة المجردة (78)، والرائية المفتوحة المؤسسة الموصولة بالألف (78)، والبائية الساكنة المجردة (83)، والعينية المفتوحة المؤسسة الموصولة بالهاء الساكنة (84-85).

–        وثلاثة أقسام منها ذوات “فَاعِلَاتُنْ مُتَفْعِ لُنْ فَاعِلَاتُنْ” وقافية اللامية الساكنة المؤسسة (76-77، 80-81، 86-87).

–        وقسمان غير ذَوَيْ تفعيلة واضحة ولا قافية معتبرة (74، 82).

“يَا أَيُّهَا الزَّمَنُ الَّذِي لَمْ يَنْتَظِرْ

لَمْ يَنْتَظِرْ أَحَدًا تَأَخَّرَ عَنْ وِلَادَتِهِ

دَعِ الْمَاضِي جَدِيدًا فَهْوَ ذِكْرَاكَ

الْوَحِيدَةُ بَيْنَنَا أَيَّامَ كُنَّا أَصْدِقَاءَكَ

لَا ضَحَايَا مَرْكَبَاتِكَ وَاتْرُكِ الْمَاضِي

كَمَا هُوَ لَا يُقَادُ وَلَا يَقُودُ

وَرَأَيْتُ مَا يَتَذَكَّرُ الْمَوْتَى وَمَا يَنْسَوْنَ

هُمْ لَا يَكْبَرُونَ وَيَقْرَؤُونَ الْوَقْتَ فِي

سَاعَاتِ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

بِمَوْتِنَا أَبَدًا وَلَا بِحَيَاتِهِمْ لَا شَيْءَ

مِمَّا كُنْتُ أَوْ سَأَكُونُ تَنْحَلُّ الضَّمَائِرُ

كُلُّهَا هُوَ فِي أَنَا فِي أَنْتَ

لَا كُلٌّ وَلَا جُزْءٌ وَلَا حَيٌّ يَقُولُ

لِمَيِّتٍ كُنِّي

وَتَنْحَلُّ الْعَنَاصِرُ وَالْمَشَاعِرُ لَا

أَرَى جَسَدِي هُنَاكَ وَلَا أُحِسُّ

بِعُنْفُوَانِ الْمَوْتِ أَوْ بِحَيَاتِيَ الْأُولَى

كَأَنِّي لَسْتُ مِنِّي مَنْ أَنَا أَأَنَا

الْفَقِيدُ أَمِ الْوَلِيدُ

اَلْوَقْتُ صِفْرٌ لَمْ أُفَكِّرْ بِالْوِلَادَةِ

حِينَ طَارَ الْمَوْتُ بِي نَحْوَ السَّدِيمِ

فَلَمْ أَكُنْ حَيًّا وَلَا مَيْتًا

وَلَا عَدَمٌ هُنَاكَ وَلَا وُجُودُ”!

لقد انقسمت هذه القصيدة الطويلة على أقسام كثيرة، والأقسام على فصول أكثر منها، ائتلف بعضها، واختلف بعضها؛ فماج بحر هذه السيمفونية أمواجًا، استقل كلُّ موج منها بدُفَّاع من هدير الرؤى، ووجب على مؤديها أن يراعيها، فيقف بين مقاطع سوابقها ومطالع لواحقها، ويغير من أداءاتها. فإن كان في هذا الوقف ما يعوق القصيدة الحرة عن أن تناصي السيمفونية، فإن الوصل على طريقة الوقف (الانتقال بالموقوف عليه، إلى ما بعده سريعا)، لكفيل بإزالة هذا العائق!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.