www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

خصائص الحوار بين الأدب والسينما /لمحمد جمال صقر

0

لمحمد جمال صقر

http://mogasaqr.com/?p=19661

الحوار (مبادلة الحديث أداء وتلقيا)، أصل الممارسات اللغوية الاجتماعية كلها، لا تقوم للغة دونه قائمة، ولا تدوم دائمة؛ فلا يستغني عنه الناس في حضورهم، ولا مَن يذكرهم في غيابهم.

أما الناس في حضورهم فمتفرغون بمقامهم لحوارهم (مقالهم)، وأما ذاكروهم في غيابهم فغير مستغنين بحكاية حوارهم عن وصف مقامهم، إلا أن يقوموا في مثله، وهيهات؛ فإنك لا تقفز إلى النهر مرتين!

ولو اقتصرنا في تحصيل أحوال الناس على حضورها لغاب عنا أكثرها ولم يفض بنا تأمل أقلها إلى ما يغنينا. وإذا استطردنا في تحصيلها إلى ذكر من ذكروهم في غيابهم أمكننا أن نجعل من غير المستغنين بحكاية حوارهم عن وصف مقامهم “كتاب الأدب”، ومن مدعي القيام في مثل مقامهم المستغنين عن وصفه بحكاية حوارهم “كتاب السينما”!

إن الأدب فن لُغَويّ مفرد، لا يعبر عن أحوال الناس إلا بالمقال المنطوق ليسمع أو المكتوب ليقرأ. أما السينما ففن كُلّي مركب، يعبر عن أحوال الناس بالمقال في المقام لتعاش. وليس ألطف وأروع ولا أنفس وأنفع من الوقوف على خصائص الحوار بين فن مفرد كالأدب وفن مركب كالسينما، ولاسيما إذا ضمنّا صحةَ الموازنة بينهما باختيار بعض الحوارات المتحدة (الأدبية السينمائية، أو السينمائية الأدبية)، التي يكفل لها تَوارُدَها المشروطَ بينها اتحادُها الواقعُ فيها.

هذه “السراب”، رواية نجيب محفوظ التي نشرها عام ثمانية وأربعين وتسعمئة وألف الميلادي (1948)، ولم أقرأها إلا بنشرة مكتبة مصر الخالية من البيانات إلا التنبيه على حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام ثمانية وثمانين وتسعمئة وألف الميلادي (1988)، الواقعة في أربع وثلاثين وثلاثمئة صفحة (334)، صغيرة القطع محتشدة الكلم الصغيرة الحجم، يقرؤها المتأني الصبور في ست ساعات تقريبا- قد تحولت عام سبعين وتسعمئة وألف الميلادي (1970)، إلى فيلم سينمائي يشغل المُشاهِدَ ساعتين وعشر دقائق، من سيناريو علي الزرقاني وحواره، وإخراج أنور الشناوي.

أقتطع منهما أطول ما اتحد بينهما من حوارات، مقدِّمًا ما قدَّمه الزمان (مقطع الحوار الأدبي الذي كان بين الابن والأم)، مؤخِّرًا ما أخَّره (مقطع الحوار السينمائي الذي كان بين نور الشريف وعقيلة راتب):

(1)

“وعدت إلى البيت وذكريات الساعة الماضية تسجع في قلبي أعذب الألحان، تملكني شعور بالقوة لا حد له، وازدهاني الغرور والزهو، وحييت في الدقيقة الواحدة دهرا طويلا من السلم. “سأفاتح أمي بالأمر كله”، قلتها بلا خوف ولا تردد، ربما بلا رحمة أيضا، وطرقت الباب، ففتحت لي بنفسها وهي تتمتم مبتسمة كعادتها:

–        أهلا بنور العين!

وجدتها على الأناقة التي أحب أن تلقاني بها، وتفرست في وجهها الوديع الوقور المشرق بابتسامة الترحيب؛ فبدت لي خطورة ما أنا مقدم عليه، واعتراني وجوم وخوف، وقلت لها في تردد غابت عنها أسبابه وبواعثه:

–        لننتقل عما قريب إلى مسكن لائق، لأعيدن إليك خدمك وحشمك!

فابتسمت، وقالت:

–        هذه أسعد أيام حياتي، لأني أقوم فيها على خدمتك.

وخلعت ملابسي، وعدت إلى الصالة، فجلسنا على كنبة متجاورين وأنا أقول بقلبي “اللهم، عونك ورحمتك”، واستحوذ علي القلق والحياء؛ إنها مهمة شاقة محزنة، ولكن ما منها بد. واسترقت إليها نظرة، فوجدتها آمنة مطمئنة غافلة عما أضمره لها؛ فوخزني الندم، وكادت تتخلى عني قوة التصميم، بيد أنني أشفقت من عواقب التردد والاستسلام لدواعي الخور؛ فرميت بنفسي في الهاوية قائلا:

–        أماه، أريد أن أحدثك بأمر هام.

ورمقتني بنظرة غريبة خلتها مريبة متوجسة حتى حسبتها قد كشفت حقيقة الأمر كله بقوة إلهام خارقة؛ أنمت نبرات صوتي على ما يدور بنفسي، أم فضحتني نظرة عيني، أم لم يكن هناك شيء مما حسبت وشبه لي الوهم ما لا حقيقة له؟ أما هي فقالت بهدوء وتساؤل:

–        خير، إن شاء الله!

وصممت على أن أجوز منطقة الخطر دفعة واحدة؛ فقلت مستشعرا خوفا لا مراء فيه:

–        سأتوكل على الله، وأتزوج.

رنت كلمة “أتزوج” في أذني رنينا غريبا أنكرته وأخجلني كأنما تفوهت بلفظة جارحة معيبة! رفعت هي عينيها إلي في دهشة، واتسعت حدقتاها، ولاح فيهما ذهول وغباء كأنها لم تفهم شيئا، ثم تساءلت:

–        تتزوج!

وكنت قد تخطيت أكبر عقبة؛ فأمكنني أن أقول:

–        أجل! هذا ما انتويته.

وندت عنها ضحكة متقطعة، بالاضطراب والارتباك أشبه، وقالت بصوت متهدج:

–        ما أسعدني بذلك! هذه هي السعادة حقا. ترى هل جاءتك هذه النية اليوم… الآن؟ لماذا لم تخبرني قبل اليوم؟ مبارك يا بني!

وأزعجني تهدج صوتها واضطراب نبراتها وانفعالها الظاهر؛ فقلت:

–        إني أستأذنك لأني أحب دائما أن تكني راضية عني.

فهتفت في لهوجة:

–        وهل تتصور أن أبخل عليك ساعة واحدة برضاي! يا لله أبعد هذا الحب كله أجزى عنه بالتشكك في إخلاصي! ستجدني راضية عنك ولو قتلتني! أتنسى أن حياتي كلها لك!

فازدردت ريقي، وقلت وأنا أختلس منها نظرة قلق:

–        إني أعلم هذا وأكثر، يا أماه!

فلاح في وجهها وجوم شديد، وبدا عليها أنها تحاول عبثا أن تضبط عواطفها:

–        هذا ما يعلمه القاصي والداني، وأية أم لا تفرح لزواج ابنها، ولو كانت وحيدة ليس لها سواه! هذه حكمة الحياة، أن أحتضنك العمر كله، ثم أسلمك شابا رائعا لعروسك؛ إني أبكي من الفرح!

اغرورقت عيناها وهي تتكلم، ونظرت إلى خلال دموعها وكأنها ارتاعت لوجومي، فقالت معتذرة:

–        معذرة، يا كامل! ليست هذه بدموع…؛ إنها دموع الفرح، بيد أنك فاجأتني مفاجأة، ولم تتلطف في إخباري، ولكن لا داعي للتلطف؛ ألا ترى أني أعتذر بما هو أقبح من الذنب، ليغفر لي ذنبي حبي الكبير وحسن نيتي وقلبي الذي وهبتك إياه، وإن لم تعد بك حاجة إليه! وإنك لتعلم بأني إذا انفعلت أفلت زمام لساني من يدي. إني أهنئك بما اخترت لنفسك. ولكن هل نبتت هذه الرغبة الآن فحسب؟ إني لا أطيق أن أتصور أنك رغبت في الزواج من قبل ولم تسعفك الوسيلة. أكنت ترغب في الزواج من زمان طويل؟

فقلت وأنا أداري بابتسامة ميتة:

–        كلا -يا أماه- ما فكرت في ذلك إلا من زمن قصير، حين بدا لي أني كبرت.

فندت عنها ضحكة هستيرية، وصاحت:

–        اسمعوا، يا هوه! كامل يبدو أنه كبر! وأنا! لا بد أني عشت أكثر مما ينبغي!

فتأوهت قائلا:

–        أماه، إنك تحزنينني!

–        لا عاش من يحزنك! الأم التي تحزن وليدها لا تستأهل نعمة الحياة. ولكنك تقول على نفسك بالباطل وتزعم أنك كبرت! يا لك من طفل مكابر! لكأني أراك تحبو وأنت تركب منكبي، ثم وأنت تختال في بزة الضابط وضفيرتك تتهدل على كتفك؛ فكيف تدعي الكبر!

فقلت مغتما:

–        ألست على عتبة الثامنة والعشرين!

–        أصغر أبنائي على عتبة الثامنة والعشرين! يا لي من امرأة عجوز! لتكن مشيئتك! ومهما يكم من عمرك فستكون أصغر الأزواج وسأفرح بك فرحا ليس وراءه مذهب لفرحان! ولكن ما بالك واجما؛ أساءك كلامي؟ يعلم الله أني لا أحسن الكلام، ولكن الموت أحب إلي من الإساءة إليك!

فقلت بقلب ثقيل:

–        سامحك الله، يا أماه!

فابتسمت، إي والله ابتسمت، وقالت مصطنعة المرح:

–        لندع هذا جانبا، ولتقدم الأهم على المهم! أصغ إلي، يا كامل! تزوج بالهناء والسرور، وسأخطب لك إذا أمرتني.

فترددت لحظة، ثم تملكني الضيق؛ فقلت:

–        ليس ثمة خيار؛ فقد وقع اختياري.

فرنت إلي بدهشة، ولاذت بالصمت مليا، ثم تساءلت:

–        متى تم ذلك؟

–        منذ زمن يسير.

فلاحت في عينيها نظرة لوم وعتاب، كأنما عز عليها أن أكتمها هذا الأمر الخطير، ثم خفضت عينيها في استسلام، وسألت بصوت هادئ، بل هادئ جدا:

–        من؟

–        لا أدري بالضبط. الراجح أنها مدرسة، وهي تقطن العمارة البرتقالي أمام القصر العيني.

فعاودتها الدهشة، وتساءلت:

–        ألم تحدث بأمرها أحدا؟

–        مطلقا.

فتفكرت مليا، ثم واصلت حديثها:

–        أليس من المحتمل أن تكون مخطوبة؟

-وهنا خفق قلبي بعنف-

–        ثم ألا تدري عن أهلها شيئا؟ من أبوها؟

–        لا أدري.

–        ألم أقل لك إنك طفل! الزواج أخطر مما تظن. لعل وجهها أعجبك وهذا شيء لا وزن له، المهم أن تعلم أية فتاة هي وأي قوم أهلها وما مكانتها وما أخلاقهم؛ الشاب في الواقع يتزوج من أسرة لا من فرد. وينبغي أن يطمئن قبل أن يخطو الخطوة الأخيرة إلى من ستغدو أما لأبنائه ومن يكونون أخوالا لهم.

وتولاني الارتباك، وأحسست بحنق لأول مرة؛ فقلت بيقين:

–        أسرتها كريمة، لا يداخلني في هذا شك.

–        ومن أدراك؟

فقلت بلهجة من لا يحتمل في ذلك جدلا:

–        إني واثق.

فبدا في وجهها الاستياء، وقالت:

–        مدرسة! إن بنات الأسر الطيبة لا يشتغلن مدرسات، والمدرسة إما أن تكون عادة دميمة أو مستهترة مسترجلة!

فوخزني ألم في صميم الفؤاد، وهتفت بحدة:

–        يا لها من آراء فاسدة! أنت لا تدرين شيئا عن الدنيا التي نعيش فيها! لقد تغير كل شيء، ولا شك أنها فتاة كاملة ومن أسرة عالية.

وغلبها الانفعال عل هدوئها المصطنع؛ فقالت بنرفزة:

–        لا داعي لإهانتي من أجل فتاة مدرسة لا تعرف عنها شيئا، وما قصدي إلا إرشادك لما فيه خيرك.

اشتد بي الحنق، ولو أنني استسلمت له لتفوهت بما أندم عليه، ولكنني ضبطت نفسي، وقلت برجاء:

–        معاذ الله أن أقصد إهانتك؛ فأرجو أن تمسكي عن كلام يسوؤني.

فدارت انفعالها بابتسامة، واستعادت هدوءها مرة أخرى، وقالت بتسليم:

–        إن ما يسوؤك يسوؤني وما يسعدك يسعدني، ونصيحتي إليك إذا شئت أن تتقبلها أن تعرف لرجلك قبل الخطو موضعها. وفقك الله لما فيه الخير والسعادة!

فضغطت على يدها برقة، وقلت بصوت ملؤه التودد:

–        إن رضاك عني بالدنيا وما فيها.

فابتسمت قائلة:

–        سيدعو لك قلبي آناء الليل وأطراف النهار.

وساد الصمت مليا حتى حسبت الأمر انتهى عند هذا الحد، ولكنها بدت مهتمة متفكرة كأن خاطرا يلح عليها أن تفصح عنه، وخالستني نظرة قلقة أكثر من مرة، ثم خرجت عن الصمت والتردد بأن قالت في حذر وإشفاق:

–        ألا يحسن أن تؤجل الشروع في الخطبة حتى يحول الحول على موت أبيك؟ إن أخوف ما أخافه أن يقال عنك إنك خطبت ولما ينته الحداد على أبيك؛ كأنك كنت ترصد موته على لهفة!

ولم أكد أصدق أذني، وبدا لي قولها نوعا من المكر المكشوف لا أحبه ولا أطيقه، وعاودني الحنق والغيظ، وكدت أنفجر غاضبا، ولكنني استمسكت بالصمت حتى ولت العاصفة، ثم قلت:

–        لن يتم الزواج على أية حال قبل مضي عام.

وانتهى الحديث عند ذاك، وشعرت بأني تخطيت أكبر عقبة في سبيلي. وكان ينبغي أن أكون سعيدا، وقد كنت سعيدا بلا شك، ولكن شاب سعادتي إحساس بالقلق طالما عذبني في حياتي؛ إنه لا يفتأ يطاردني حتى في أحفل ساعاتي بالسرور، وما من مرة أجمع فيها على قرار حتى أجد همسه يفت في عضدي وينغص صفوي، بيد أن سعادتي هذه المرة كانت أجل من أن يؤثر فيها مؤثر”.

(2)

–        “تجوز!

–        أيوه يا نينا أنا نويت بجد.

–        حقا بطلوا دا واسمعوا دا! كامل ابن امبارح كبر خلاص! صحيح يا كمولة هتتجوز؟

–        أيوه.

–        يبقى انا لازم بقى كبرت وشخت ورجلي بقت في القبر!

–        ليه كدا يا نينا ليه!

–        أنا فرحانة لك يا حبيبي فرحانة لك! و…عروستك حلوة؟

–        أيوه، يا نينا.

–        اسمها إيه؟

–        ما اعرفش إسمها.

–        يا حبيبي! هتتجوز واحدة ما تعرفش إسمها! بقولك لسه صغير مش مصدقني!

–        أنا كبير وراجل! مش مهم اعرف إسمها؛ المهم انها بتجبني وانا بحبها.

–        بتحبها؟

–        أيوه، وقابلتها، وكلمتها، واتفقنا ع الجواز، وقالت لي أروح اكلم والدها.

–        كل دا من ورايا!

–        لما مليت إيدي جيت بستأذنك؛ أنا بحب دايما تكوني راضية عني.

–        أنا دايما راضية عنك حتى لو جبت سكينة ودبحتني!

–        نينا! نينا!

–        فكرت… فكرت هتعمل إيه في الجواز؟

–        أعمل إيه! هعمل اللي بيعملوه الناس!

–        لما انت مش عارف بتكلم بنات الناس ليه! فكرت تحب وتقابل وتفاتح في الجواز ما فكرتش في المسؤولية! القرشين اللي سابهم لك جدك قربوا يخلصوا، وماهيتك لوحدها ما تفتحش بيت! والا يا ترى لما تجيب مراتك هتطردني! ما انت مضطر يا كامل مضطر يا حبيبي؛ الجواز تكاليفه كتير! عامل حسابك على الدبل، الشبكة، المهر؟ عامل حسابك على الفرح وتكاليفه؟ والا فاكر ان الجواز لعبة!

–        أنا فكرت اروح لابويا.

–        أبوك! أبوك اللي رماك وانت صغير هيسأل فيك وانت كبير! دا ما يعرفش حاجة في الدنيا إلا القزازة والكاس! اعقل، يا حبيبي! اسمع كلامي! أجل الجواز لحد أبوك ما يموت وتورث فيه!

–        ما اقدرش اجل الجواز، ما اقدرش!

–        قد كدا بتحبها!

–        أول مرة في حياتي قلبي يتفتح لواحدة.

–        دا بيتهيأ لك؛ البنات كتير!

–        ما انتش فاهمة، ما انتش فاهمة!

–        طب فهمني!

–        ما اقدرش ما اقدرش”!

المقطع الأدبي عربي بليغ، امتزج فيه الحوار ووصف المقام، حتى كان لكل منهما نصفُ كَلِمِه تقريبا. والمقطع السينمائي مصري عامي خال من وصف المقام خالص للحوار. ثم المقطع الأدبي ذو الثلاث والعشرين والمئتين والألف الكلمةِ (1223)، خمسة أضعاف المقطع السينمائي ذي الإحدى والستين والمئتي الكلمةِ (261)!

لقد تخففت سينمائية المقطع من نصفه الذي كان مصروفا إلى وصف المقام، ثم أوغلت في ذلك حتى أتت على ثلثي الحوار الخالص نفسه تقريبا، الذي كان في المقطع الأدبي إحدى وخمسين وستمئة كلمة (651)، فصار في المقطع السينمائي إحدى وستين ومئتين (261)، مثلما أتت مشاهدة الفيلم في ساعتين وعشر دقائق، على ثلثي قراءة الكتاب في ست ساعات تقريبا!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.