سنوات عددا،مضين،ومشروع الكتابة هذا في رأسي ..
قبل سنوات،سبقتُ إخوتي في الليلة التي نجتمع فيها
وعند الساعة الحادية عشرة،قررت أن أمكث نصف ساعة،فإذا لم يأت أحد انصرفتُ.
بدأ “فيلم” أجنبي .. لم يأت أحد .. ولم أنصرف!!
الفيلم باختصار ،وقد أخذ من قصة حقيقة،قيل أن الكاتب اعتمد على الحقيقة بنسبة 95%..
تدور الأحداث في سنة 1928م. أم تعمل في “المقسم العام”- أو السنترال- وتسكن بمفردها مع طفلها،البالغ تسع سنين .. تضطر للذهاب إلى العمل للتغطية على زميلة مريضة،بعد أن كانت قد وعدت ولدها بالذهاب إلى السينما.
حين عادت من عملها .. لم تعثر على صغيرها .. وبعد إبلاغ الشرطة .. ومضي عدة أشهر،أبلغتها الشرطة بالعثور على ولدها .. وفي حضور صحفي كبير .. تم اللقاء .. أخبرت الأم الشرطة أن هذا ليس ابنها!!
فرشة الفيلم – غير اختطاف الأطفال – فساد شرطة مدينة”لوس إنجليس” .. وثمة “قس”يتحدث عن فساد الشرطة في إذاعته .. وقد شن هجوما شرسا على شرطة المدينة،ووصف المدينة يمكان
” أن تكون فيه منفذا للقانون يعني أن تكون فوق القانون”
الشرطة سيئة السمعة أرادت أن تحسن صورتها بالعثور على الطفل ..لذلك سعى “النقيب” إلى إقناع الأم بأن فترة غياب ولدها قد غيرته .. وأنها هي أيضا منفعلة .. وقال لها خذيه أسبوعا من باب التجريب .. المهم لديه .. “اللقطة” .. ثم سعى .. بفساد الشرطة إلى تكذيب الأم وإثبات أن الطفل،طفلها .. وأن عموده الفقري قد تقلص نتيجة الضغوط،حين اتضح أن الطفل “المبدل”أقصر من طفلها .. جاءها “دكتور”إلى المنزل ليقنعها أن الواقعة ممكنة “علميا”.
تواصل رجل الدين مع الأم ،وعرفها على نفسه:” جوستاف بريغِلب ،وأنا قسيس”مشيخة القديس بول”.قال لها أن مدير الشرطة”جيمس ديفس” :
“اختار خمسين من أعنف ضباط الشرطة ومنحهم رشاشات وإذانا بقتل كل من يعترضهم”..” لا محامون ولامحاكمات ولا أسئلة ولا إيقافات ولا تحقيقات،مجرد أكوام من الجثث”..”ليس لأن الشرطة أرادت محو الجريمة ،لا ،وإنما أرادت الشرطة محو المنافسة. المحافظ “كراير”ونصف ضباط الشرطة يقبلون الرشى،قمار،دعارة،ممنوعات وهلما جرا”
أخبرها أنهم سوف يشوهون سمعتها .. وسيفعلون كل شيء .. وعرض عليها المساعدة .. أعتذرت بأنها ليست في”مهمة” فأخبرها أن أمهات كثر فقدن صغارهن.
أثبتت الأم .. عبر”طبيب الأسنان”و”معلمة الصف” أن هذا الطفل ليس ولدها .. ومنحاها “شهادة”بذلك .. صرحت الأم للصحافة بتهرب الشرطة من الاعتراف فالخطأ.
فطلب”النقيب”إحضارها،من الباب الخلفي .. لتجنب الحصافة زعم،مرافقها .. وهنا اتهمها”النقيب”بالسعي للتخلص من”مسؤوليتها” وأنها في فترة غياب طفلها كانت “حرة”وأن عودته أفسدت عليها حريتها!! وحين أصرت ..اقتيدت مكبلة إلى “المصحة النفسية” .. وهناك وُضعت تحت الرقم”12″والذي تبين أنه مخصص لمن يعارض الشرطة ..
وشخصت حالتها بأنها “تعاني من جنون الارتياب وضلال الاضطهاد وانفصاما عن الواقع. قد تشكل خطرا على نفسها وعلى الآخرين”.
تعرفت على “مومس” – أجلكم الله – وضعت في المصحة لأن “زبونا”تعود ضربها،ولم يقلع .. فأبلغت الشرطة .. واتضح أنه”شرطي” ..
في حوار،قالت أم الطفل المفقود،أنها سوف تثبت للطبيب أنها سليمة نفسيا،فقالت لها”المومس” :
“كلما حاولت التصرف بعقلانية،كلما بدوت أكثر جنونا.إن ابتسمت أكثر من اللازم،فأنت واهمة أو تكظمين الهلع!! وإن لم تبتسمي فأنت مكتئبة. وإن بقيت محايدة فأنت منطوية عاطفيا ومصابة محتملة بالانفصام التخشبي. “
هنا نقف مع الملمح الأول،وكيف نزع”فرويد”- رمزا للطب النفسي بكل عام – من الإنسان،إنسانيته .. فأصبح غير مسؤول عن أفعاله .. وما أكثر المجرمين الذي نجوا بجرائمهم .. تحت ذريعة الحالة النفسية .. الغريب،و”فرويد”- يهودي – أن بعض القوانين اليهودية – وقد حُرفت كما هو معلوم – قد تعاقب”الثور” النطاح بالرجم في بعض الحالات!!
وفي العصر الحديث أصبح الإنسان قد ينجو من العقاب على جريمة ارتكبها تحت ذريعة “الضغط النفسي”كأن الإنسان هنا أصبح أقل منزلة من”الثور”
أنظر هنا إلى قول “بيجوفيتش”:
( وفقا لهيجل فإن العقوبة هي الحق الإنساني للمجرم “هيجل،مبادئ فلسفة الحق”لأن العقوبة”كانتقام”هي نتيجة الحرية،ولذا فإن المجرم المعاقب يصبح إنسانا من خلال العقوبة،ويتأكد كإنسان).
حسب قول”هيجل” ألا يبدو “الثور”أكثر إنسانية من”إنسان فرويد”!!
الواقع أننا – حسب الفيلم – نتحدث عن الوجه الآخر للعملة .. إذا كانت”الفرودة” – نسبة إلى “فرويد”قد تنجي الإنسان من جريمته … فإنها – أي “الفرودة” – قد تدخله في “متاهة”.. حين تريد توريطه .. وتصدر عليه أحكاما ..من سلوكه وتصرفاته .. وإن نفاها !! بحجة أنه لا يعي حالته!!
لقطة من الفيلم : حين اجتمعت “أم الطفل”مع الطبيب النفسي .. سألها أن كانت الشرطة عاملتها بشكل جيد ؟ فأجابت بالإيجاب.
فرد .. لقد قلت،عند وصولك المستشفى،للممرضات أن الشرطة تحاول الانتقام منك ..
هل نسيت أم غيرت ريأك!!
فلم تستطع أن تجيب .. وهذا يدل على”الخلل النفسي” .. ثم بكل وضوح طلب منها،إن رغبت في الخروج توقيع إقرار بأن الطفل ولدها .. إلخ.
فرفضت مما يعني تعرضها للعلاج بالكهرباء !
نافذة على “علم النفس”
لافت للنظر – مع ما يستحق الأمر من الأسف – ما نراه – خصوصا عبر”تويتر” – من حديث عن”علم النفس” وتحليلاته . . وكأنه”تنزيل”!!
لذلك هذه”جولة” في رحاب علم النفس جاء في مجلة”الثقافة النفسية”،وعلى صعيد التحليل النفسي،نجد بعض الاختصاصيين الأوربيين اتخذوا(المواقف الحاسمة من الأيديولوجية النفسية في أمريكا،ومن هذه المواقف :
موقف البروفسور “بورجوا”الذي يعتبر أن الأمريكيين يستخدمون تصنيفهم للأمراض،ويحاولون فرضه على الشعوب الأخرى،وكأنه حصان طروادة الذي يدخل من خلاله الفكر الأمريكي إلى عقول الأطباء النفسيين حول العالم (..) وفي تعليقها على هذه المدرسة تقول البروفيسورة “موسون”:”قد يكون ذلك صحيحا في مجتمعهم أما في المجتمع الأوربي فإن ذلك غير صحيح. وما يصح في أمريكا وفي ظروفها لا يصح في ظروفنا وفي المجتمعات الأخرى){ مجلة “الثقافة النفسية” العدد الخامس – المجلد الثاني – كانون الثاني 1991م}.
كما أن الفيلسوف”بوبر”والذي نعاه أحد المثقفين المصريين .. بـ”مات آخر فلاسفة القرن العشرين” يقول :
(نظريات علم النفس “الفرويدية” أو”الإدلرية”،أو سواهما،ليست بالنظريات العلمية،لأن تأكيداتها ليست قابلة للتخطيء الصارم.ويقدم “بوبر” على ذلك مثالا استقاه من علم النفس،فيقول إن نظرية “إدلر” تعتبر أن عقدة النقص هي ما يتحكم في السلوك البشري .. انطلاقا من هنا،لنتخيل رجلا شاهد وهو يمشي طفلا يسقط في النهر. هناك احتمالان،إما أن يهب الرجل لنجدة الطفل وفي هذه الحالة يمكن لنظرية “إدلر”أن تقول بأنه أراد القيام بعمل بطولي لمغالبة عقدة النقص،وإما أن يبدي عدم اكتراث بمصير الغريق،وفي هذه الحالة يمكن للنظرية نفسها أن تقول أنه أراد أن يغالب عقدة النقص ذاتها من خلال إظهار القسوة والتشدد … مثل هذا المبدا الذي يمكنه أن يفسر الشيء ونقيضه لا يمكن أن يكون علميا){ ص 27 – 28 (حاضر العالم الإسلامي ) عام 1991}.
وأخيرا يقول “كونراد لورنتز”الحاصل على جائزة”نوبل”في الطب سنة 1973م :
( موقفي من التحليل النفسي متناقض تماما. فلقد أسيء استخدامه وكان جمع المال عن طريقه من أيسر الأمور (..) لقد فهم “فرويد”أن الغريزة لكي تُحكم وتُلجم وتُكبت،تحتاج إلى قوة معينة أسماها طاقة الإزاحة،ومن أجل هذا الكشف وحده كان”فرويد”جديرا بجائزة”نوبل”،ومع ذلك أقولها مرة أخرى : إن معارفنا،حول النفس البشرية كان يمكن أن تبلغ شأنا أعظم لو لم تُطبق نظريات “فرويد”بمثل هذا الحمق){ ص 99 ( المستقبل ..عشرون حوارا مع أكبر علماء الغرب) / ميشيل سالمون / ترجمة : وديع حنا}.
نعود إلى الفيلم .. قبل أن تصعق “أم الطفل” بالكهرباء!
حين اقتنعت بكلام”القس”قررت أن تتحدث معه عبر”إذاعته”وحين لم تحضر .. اعتذر من مستمعيه .. ثم بدأ في البحث عنها .. فكانت شهادة جيرانها أنها شوهدت آخر مرة،حين أخذتها عربة الشرطة.
وهنا حدث أمر آخر ..جوهري ..تم القبض على”سفاح الأطفال” .. “غوردن نور ثكوت”وتعرف ابن أخته،الذي كان يساعده على صورة طفل الأم .. وتحت ضغط الجماهير .. تم إصدار “مذكرة”بإطلاق أم الطفل .. والسيدات اللائي معها ..
قبل الحديث عن الملمح الثاني في هذا الفيلم ..
إياماضة صغيرة :
لا يخلو الفيلم من إشارة إلى”قضية المرأة”… فالنساء هن كل،أو جل من يعمل في”المقسم” .. ورئيس “أم الطفل”قال لها أنه حين عينها”مشرفة”أغضب ذلك البعض .. ولكنها أثبتت أنها لا تقل كفاءة عن زملائها الذكور .. ثم يوجد خيط من تودد .. لها .. وإن في أدب وعلى استحياء .. كنتيجة محتملة للزمالة ..
كما أن الفيلم،بدا وكأنه يرسل رسالة .. حين عادت ولم تجد “طفلها” .. فتحت أبوابا كثيرة … لغرف كثيرة .. أي أنها تسكن في منزل كبير .. هو وطفلها فقط .. وكأن الفيلم يؤرخ لمرحلة تفكك الأسرة .. وأم وطفل .. بمفردهما .. لذلك لم يجد الطفل من يعتني به .. وتلك إحدى إفرازات “الأسرة النويية”
نعود إلى الفيلم .. وإلى اللمحة الثانية ..
مع إصدار مذكرة إطلاق سراح المحتجزات في المستشفى النفسي .. حدثت مصادفة .. تكشفت جريمة”رجل”مختل نفسيا .. يختطف الأطفال،ويحتجزهم في مزرعته .. ويقتلهم .. زعم هو أنه قتل أكثر من عشرين طفلا .. وتقول القصة الحقيقية .. أن الشرطة لم تعثر إلا على آثر جثتين،في المزرعة،وثالثة رمى بها بعيدا .. فكان تأكد موت “طفل الأم” .. ضربة أخرى للشرطة ..جعلت “القس”يقول للأم :
“لله تدابير خفية،سيدة كولينز .. سبحانه”.
وهنا يأتي دور المحكمة والحوار الذي يستحق التأمل .. لنرى كيف كان الوضع في أمريكا،أو في جزء منها سنة 1928 … وكيف تغير الوضع . . نتيجة ضغط”الناس” ..
سعى”القس”لترفع “الأم”دعوى مدنية ضد الشرطة .. تطوع محام مشهور للترافع عنها.
المحكمة يوم 24 أكتوبر 1928
سأل المحامي الضابط الذي أرسل الأم إلى المصحة النفسية عن سبب ذلك الإرسال؟
(لم يكن لمسألة كون هذا الفتى ابنها فعلا أم لا،علاقة قراري .. تصرفت بغرابة خلال هذا المدة،كانت كثيرة الهدوء والتحفظ وتبدل المشاعر. لا سيما حين واجهناها بالصبي الذي وجدناه (..) وفي حديثنا اللاحق سلوكها المقلق هو ما دفعني لإرسالها للملاحظة في الجناح النفسي في المشفى العام في ” لوس أنجليس” .)
رد المحامي .. (صفقت بأصبعيك فإذا بامرأة بريئة تزجّ في الجناح النفسي!!)
– لم تزج
– كل عائلة في هذه الولاية معرضة للخطر حين يمكن لنقيب شرطة أن يدخل امرأة لمكتبه وبعدها بخمس دقائق يأمر بزجها في الجناح النفسي استنادا لسلطته !
– لم يُزج بها، لم يُزج بها، لم يُزج بها!(تصفيق من الحضور)
– ما كان ذلك،حضرة النقيب؟
– لم يُزج بها،بل تم اصطحابها.
(ضحك من الجمهور)
-اصطحبت،زُجت،لا تهم صيغة الفعل يا حضرة النقيب.ما يهم هو أنه أمر بحبسها دون مذكرة.أحمل نسخة كربونية عن شهادة الجنون التي صدرت في القضية “ولاية كلفورنيا” ضد”كرستين كولنز”
(وضعها أمام النقيب )
– من وقع الشهادة؟
– أنا.
– دعني أتأكد من فهمي للأمر،تم الزوج بامرأة في الجناح النفسي دون مذكرة لأنه لا وجود لها،وعندما تمت كتابتها أخيرا،بعد عدة أيام،لم يكن هناك داع لتوقيعها أو للذهاب إلى قاضٍ لأنها كانت المصح بالفعل!
– أهذا صحيح حضرة النقيب؟
– قانونيا،نعم. كانت الخطوات الاستثنائية ضرورية لأننا كنا نتعاطى ووضع استثنائي .. فهل كانت غلطتنا أن طفلا ادعى كونه”والتر كولنز”خدعنا؟ كلا.وفي ظل دعاواه وسلوكها المقلق،من عساه لا يشك في أنها تشكو علة ما؟
-لأنها شككت فيك؟
– لا،بل لأنها أبت الإصغاء.لأنها أصرت على العناد ! ولأنها حاولت تولي الأمور بنفسها بينما يفضل تركها للضباط المؤهلين. لأنه متى بدأ عصيان مدني
(قاطعه المحامي )
– لأنها كانت تكافح من أجل حياة ابنها…صبي قد لا يزال حيا فيما كنت تضيع وقتا ثمينا في إنكار اقترافك أي غلطة! … وفي النهاية : هذا ما حدث أليس كذلك؟ في مرحلة ما أثناء حدوث هذا .. قُتل “والتر كولنز”بوحشية إلى جانب 19 صبيا آخر في “مزرعة نور ثكوت” في”واينفيل” .. أهذا صحيح حضرة النقيب؟
– نعم،صحيح.
-هذه “سخرية” : لا مزيد من الأسئلة.
قرار المحكمة :
أولا : تم فصل النقيب من الخدمة .. نهائيا
ثانيا :
(اتخاذ خطوات لتدارس تغيير في القوانين المعمول بها والإجراءات التي يمكن لمواطن من هذه المدينة أن يتعرض بسببها للحبس في مصحات المقاطعة النفسية (..) وأخيرا : استعادة ثقة العامة في مديرية الشرطة لا يمكن تحقيقها إلا بإقالة مدير الشرطة. وبهذا توصي هذه اللجنة. رفعت الجلسة)
بالنسبة للقاتل .. يسجن سنتين .. حتى 1930 .. ثم يشنق!
إيماضة الوداع …
ثمة نقطة جديرة بالتأمل .. طاقم التمريض .. الذي يرى تعذيب الأبرياء بالكهرباء .. وصنوف العذاب .. أين إنسانيته !!
هل يكمن السبب في “الوظيفة” أو”لقمة العيش”!
طبيب “واحد”وطاقم كامل من الممرضين – إناثا وذكورا – وأصناف من العمال الآخرين .. يقفون في صمت أمام “جبروت طبيب” واحد
طاقم التمريض،ومن معهم .. ليسوا أكثر من صورة من الذين كانوا يحيطون بالطغاة أو سفاحي العصر .. “هتلر”و”ستالين”..إلخ.
وكما كتب “دو لابوسي”:
(أما الآن فكل ما أريده أن أفهم كيف أمكن لكثير من الناس،والبلدات،والمدن،والأمم،
ربما لم يسمع المؤلف عما ينسب لسلوك أهل بغداد مع”المغول”.. حين يقول المغولي للمواطن.. انتظر هنا حتى أحضر ما أقتلك به .. فيتجمد في مكانه حتى يعود المغولي!!
وبالعودة إلى”هتلر” و”ستالين”و”بينوشيه” ..إلخ فإن المؤلف يقول عن سبب طغيانهم،على البلاد والعباد :
( في الحقيقة أن من يثبت الطاغية في طغيانه قلة من الرجال لا يتجاوز عددهم الأربعة أو الخمسة،أربعة أو خمسة يبقون البلاد مستعبدة له،ولطالما كان خمسة أو ستة من الرجال هم مَن يعيروهم الطاغية أذنا صاغية،يتقربون إليه من تلقاء أنفسهم أو يدنيهم هو منه ليكونوا شركاءه في فظائعه،ونداماه في لذته،وقوّاديه في شهوته،ويقاسمونه غنائم نهبه،هؤلاء الستة يدربون رئيسهم على أن يكون شريرا حيال المجتمع،لا بشروره وحده،بل بشرورهم أيضا. وتحت هؤلاء الستة يوجد ست مئة تابع لهم يستفيدون منهم،ويصنعون بهؤلاء الست مئة ما يصنعه الستة بالطاغية من سوء السيرة. وتحت الست مئة هناك ستة آلاف يوعدون بحكم بعض المقاطعات أو التصرف بإدارة الأموال العامة لكي يقفوا على جشعهم وعلى قسوتهم – ولكي يوقعوا بهم في الوقت المناسب – ويرتكبوا كثيرا من الشرور بحيث لا يمكنهم الاستمرار إلا في ظلهم،ولا البقاء بمنأى عن القوانين والعقوبات إلا بفضلهم){ ص 79 (العبودية المختارة )..}.
قد لا يرى البعض علاقة بين كلام”دو لابويَسي”وبين حديثي عن طغيان”طبيب فرد” .. لذلك سنأخذ شهادة الدكتور على حلمي .. وهو يصرخ بسبب الفساد الذي رآه في المشافي التي عمل بها،وتسببت في تركه االبلد :
(آن لي أن أرحل .. لكني عائد أيها الكلاب فرحيلي مؤقت،وطني هو أمي لا أتركها للضباع تنهش لحمها في صحراء قاحلة ليس فيها من يدافع عنها .. لقد خربتم جيلا كاملا،أغلقتم أمامه الحلال وأفسحتم له الحرام،غيرتم له كل المقاييس والمعاني عن كل مكر ودهاء وخداع،وعن جهل وحماقة وابتداع .. وطني الذي علم الدنيا النظام،ورسم لها خطوط حضارتها مئات السنين وآلافها،أصبح أضحوكة من الفقر والجهل والمرض وموضع الرثاء){ ص 23 ( اعترافات جراح ) / د.علي حلمي / القاهرة / الدار المصرية اللبنانية / الطبعة الأولى 2010م. }.
لم تقتنع سيدي القارئ !
خذ هذه :
( تتميز فترة الامتياز والنيابة،بأنهما فترتا تدريب على كل شيء،الأولى دون مسئولية بالمرة،والثانية بكل المسئوليات فنية وإدارية ودراسية ومستقبلية.
وكان التدريب مهما ليس فقط طبيا فنيا،وإنما كان على كل شيء في الحياة لمن يريد التدريب على أيد خبيرة،تعلمه السهر والشرب،تعلمه القمار والتدخين،وأهم تلك التدريبات الغراميات والجنس،فقد كنا أطباء شباب شطار ملء الهدوم والأبصار،تتمنانا الفتيات بعيون الاحترام والإكبار،نملأ أعينهن ونحتل أحلامهن ونغازل مستقبلهن،كان منا من لم يعرف فتاة في حياته قط،فانقضت عليه تعرفه بنفسها،ومنا من عرف منهن عدد شعر رأسه،حلمت إحداهن بأن تكون آخر شعرة،ومنا من كان معتدلا سويا فكان ينتقي .. كان ذواقا،وكان المعروض كثيرا وأكثر من كاف،وكان الإغراء قوايا أحيانا أقوى من الاحتمال،مئات الحكيمات والممرضات يحلمن بأن يقتنصن زوجا طبيبا أيا كان،وعشرات المريضات لا يرغبن في الشفاء،وأخريات زميلات لا يتمنين الترك خاليات الوفاض){ص 25 ( اعترافات جراح )..}.
مقولة تُنسب لأمين هويدي .. بعد نشر بعض”الفضائح” ..
إن كان ده صحيح .. فلل حصل لنا من اليهود شويه علينا
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني