www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

رسالة مفتوحة إلى السيدة “كرمان توكُّل”../اسامة عكنان

0

بالأمس قرأت خبرا عنوانه: “الناشطة اليمنية كرمان توكل، تنتقد منتقديها للقائها بناشط إسرائيلي”.. بدا لي الخبر مهما، فقرأته كاملا..

رسالة مفتوحة إلى السيدة “كرمان توكُّل”..
اسامة عكنان

بالأمس قرأت خبرا عنوانه:
“الناشطة اليمنية كرمان توكل، تنتقد منتقديها للقائها بناشط إسرائيلي”..
بدا لي الخبر مهما، فقرأته كاملا..
ولأن السيدة “كارمن” عرفت كيف تدافع عن نفسها، بتأكيدها بالأدلة على أن الناشط الإسرائيلي المذكور هو ناشط في مجال حقوق الإنسان، ويقف مع الحق الفلسطيني، وأنه يحمل الجنسية الفلسطينية.. إلخ، فإنني لن أقف عند الحادثة نفسها، فأنا مثلها لا أعادي من يحمل حقي على كاهله ويدافع عنه، ولا أجد غضاضة في مصادقته..
لكني سأقف عند أسلوبها في مناقشة منتقديها..
فهي بدت منفعلة جدا في انتقادها لهؤلاء الذين يتسرعون ولا يدققون، إلى درجة أنها قالت بالحرف الواحد:
“ألا يعرف هؤلاء المنتقدون أنني حصلت على جائزة نوبل للسلام؟”..
أي أن السيدة “كرمان” ترى أن حصولها على هذه الجائزة شيء مهم، وأن حصولها عليه قد يكون كفارة مسبقة عن أخطاء لاحقة في حال وجودها، على مبدأ: “افعلوا ما شئنم أهل بدر فإني قد غفرت لكم”.. أو أنها قد لا تخطئ أبدا بعد أن حصلت على هذه “الجائزة الحصن” على مبدأ: “الملائكة تغوص في الطين ولا تتَسِخ”..
استوقفني الخبر، بعد أن استفزتني طريقة رد الناشطة المحترمة التي لا نشكك في وطنيتها وفي كفاءتها وفي دورها في ثورة اليمن العظيمة، فوجدتني استرجع وقائع لها علاقة بهذه “الجائزة اللعينة” التي غدت من القداسة بحيث يهون أمام الحصول عليها الغالي والنفيس من القيم والمبادئ..
سيدتي الفاضلة “كرمان توكل”..
في روايته الخماسية “مدن الملح”، أرَّخ الراحل “عبد الرحمن منيف”، لنشأة وتطور مجتمع النفط السعودي..
وفي روايته الثلاثية “قصر الشوق، بين القصرين، السكرية” أرَّخ الراحل “نجيب محفوظ”، لمجتمع الإقطاع الذكوري المحافظ في مصر الملكية..
وفي روايته ثنائية الأجزاء “أبناء القلعة”، أرَّخ الراحل “زياد القاسم”، لنشأة وتطور المجتمع العَماَّني الحديث..
وفي روايته ذات الجزء الوحيد “الحريق”، أرَّخ الراحل “محمد ديب”، لمظاهر هامة في حياة الجزائريين تحت نير الاستعمار الفرنسي..
وفي روايتيه الشهيرتين “الحب في زمن الكوليرا”، و”مائة عام من العزلة”، أرَّخ “غابريئيل غارسيا ماركيز”، للحياة في كولومبيا خلال القرن التاسع عشر..
كلُّ هؤلاء كانوا أدباء روائيين متمكنين من أدواتهم ومن لغاتهم السردية والوصفية، وكان خيالهم قادرا على التقاط أبعد ما في فضاء موضوعاتهم من تفاصيل..
الروائيون العرب الأربعة المذكورون أعلاه، عرضوا في أعمالهم وقائع ذات حساسية بالغة، وعلى قدر كبير من الأهمية الإنسانية والتاريخية، وفي قوالب روائية أكثر ثراء من جميع النواحي إلى درجة التفوُّق غير القابل للمناقشة – على الأقل من وجهة نظري كقارئ يعتبر نفسه قارئا يعرف كيف يقرأ – على ما عرضه “ماركيز” في روايتيه السابقتين، على عظمتهما وأهميتهما..
ولو طُلِبَ مني بناء على رؤيتي الشخصية، أن أُرَتِّبَ الأعمال السابقة من حيث القيمة الأدبية والإنسانية والتاريخية والأخلافية حسب الأهمية، لرتبتها على النحو التالي..
المرتبة الأولى.. “الحريق” لـ “محمد ديب” الجزائري..
المرتبة الثانية.. “أبناء القلعة” لـ “زياد القاسم” الأردني..
المرتبة الثالثة.. “مدن الملح” لـ “عبد الرحمن منيف” السعودي..
المرتبة الرابعة.. “ثلاثية قصر الشوق، بين القصرين، السكرية” لـ “نجيب محفوظ” المصري..
المرتبة الخامسة.. “الحب في زمن الكوليرا، مائة عام من العزلة” لـ “ماكيز” الكولومبي..
ومع ذلك فإن “ماركيز” يحصل على جائزة نوبل للآداب على رواية واحدة من روايتيه هي “الحب في زمن الكوليرا”، فور نشرها مباشرة عام 1982..
و”نجيب محفوظ” يحصل على الجائزة نفسها بعد أكثر من ستين عاما على نشر الثلاثية، مكافأة له على كل أعماله التي كانت كلها قد أنجزت تقريبا عندما حصل على الجائزة، وليس على رواية بعينها، بعد أن رأى القائمون على الجائزة أنه لا يستحقها على أيٍّ عمل من أعماله منفردا..
أما “منيف” و”القاسم” و”ديب”، فلا يذكرهم أحد، حتى في المحافل والصالونات الأدبية والثقافية العالمية، ولا بصفتهم حتى هواة في كتابة الرواية..
ويرحلون جميعا دون أن يسمع برحيلهم أحد، ودون أن يحتفي بهم أحد..
وفي كلِّ يوم تتحفنا وكالات الأنباء العالمية بأخبار جديدة عن كل لحظة من لحظات حياة “غابريئيل ماركيز”، حتى خبر دخوله مرحلة “الخرف” أخيرا، تصدَّر أخبار الثقافة والمثقفين والمعرفة والإنسانيات على مستوى العالم..
لا بل إن نجيب محفوظ نفسه – مع أنه تمَّ التكرُّم عليه بالجائزة مجاملة على مواقف سياسية على ما يبدو – تمَّ السكوت عنه بعد حصوله عليها، ليرحل في صمت، لم تسمع به إلا قلة من البشر المثقفين، وبعضهم لم يعلم بموته إلا في مناسبات إحياء ذكرى وفاته أو تأبينه..
استوقفتني هذه الظاهرة الغريبة في هذه الجائزة العجيبة..
وتذكرت أنني كنت قد قرأت قبل عشرة أعوام كتيبا صغيرا عابرا لا يهتم به أحد يقع في خمسين صفحة من القطع الصغير، وجدته ملقى بالصدفة في ركنٍ مهمل من أركان غرفة الاستقبال في منزل فنانة مصرية كبيرة تعمل في مجال الإنتاج السينمائي، كنت في زيارتها بعد أن طلبت مني أن أعطيها رأيي في سيناريو معروض عليها لتنتجه كفيلم سينمائي..
الكتيب هو من تأليف محامي مصري مغمور اسمه “كذا العسكري”، فأنا لا أتذكر المقطع الأول من اسمه، أما عنوان الكتيب فهو “جائزة نوبل بين السياسة والأدب”..
استثارني العنوان فقرأت الكتيب في تلك الزيارة، ولم أغادر بيت الفنانة إلا بعد أن انتهيت منه..
طريقة عرض الموضوع كانت رائعة، لأن الكاتب حاول أن يثبت من خلال قراءته في كتابات “ماركيز” أولا، و”نجيب محفوظ” ثانيا، أنهما لم يستحقا الجائزة لتمَيُّز أدبي مختلف عن أعمال من لم يحصلوا على الجائزة، عازيا المسألة عند “نجيب محفوظ” إلى أسباب سياسية تتمثل في الرغبة في مكافأته على قبوله بـ “زيارة القدس” مع الرئيس “محمد أنور السادات” عام 1976، مميطا اللثام عن واقعة غضب وإحباط الروائي “يوسف إدريس” الشديد على حصول “نجيب محفوظ” على الجائزة، وليس هو، مع أنه يعتبر نفسه من الناحية الأدبية أكثر كفاءة وتميزا واستحقاقا للجائزة منه..
أما عن أفضلية الروائي “يحيى حَقي” وتميُّزِه عن الاثنين معا من الناحية الأدبية والعمق الحبكي والسَّردي، فحدث عن موقف المحامي مؤلف الكتاب ولا حرج، خاصة عندما راح يحلل رائعته “قنديل أم هاشم”..
فيما عزا حصول “ماركيز” للجائزة إلى أن هذا الأخير كان يكتب وفي ذهنه أنه يكتب للحصول على الجائزة، أي أنه كان يُفَصِّلُ أعمالا روائية بمقاسات “جائزة نوبل” التي عرفها وتشكلت في ذهنه من خلال المتابعة على ما يبدو..
وقد استشهد مؤلف الكتيب على صحة تحليله، من خلال قيامه بتشريح دقيق للروايات الثلاث الأهم لماركيز، وهي فضلا عن الروايتين السابقتين، رواية “خريف البطريرك”..
ورغم أن ما قاله المؤلف المحامي، فيه الكثير من الصحة إذا ما قُرِئَ بحياد، إلا أنني لن أقف مطولا عند هذه النقطة، فهي لا تهمني كثيرا، وسوف أتابع الهواجس التي حركتني ودفعنني إلى كتابة هذا البوست الغريب، فقد بدأت تتداعى إلى ذاكرتي بسببه وقائع لها دلالات غير مريحة ولا مطمئنة..
فقد زرت الكثير من الدول العربية، حيث تنتشر الثقافة والاهتمام بالأعمال الروائية.. إلخ..
وفي كل مرة كنت أتعرف على مجموعة من المثقفين القارئين للأدب عموما، كان المدخل للتعرف عليَّ من مثقفي المكان، يبدأ من سؤال وتساؤل كان يطرح عليَّ مفاده: “مع أي الروائيين تتماهى أكثر؟”، رغم أن السؤال كان يطرح عليَّ بأساليب مختلفة..
الملفت في الأمر أن معظم من كنت أختلط بهم وأتعرف عليهم، كانوا يُظهرون نوعا من الفخر غير العادي بكونهم من قراء الأدب العالمي الذي يقف على رأسه في الكلاسيكيات: “دايستوافيسكي” و”توليستوي” و”همنغواي”، و”فيكتور هوغو” و”تشيخاف” وبعض الروائيين الهنود والصينيين واليابانيين..
والذي كان يقف على رأسه في الرواية الحديثة: “ماركيز” و”كولن ولسن” و”إيزابيل ألندي” وغيرهم من الأوربيين والأميركيين الجنوبيين والهنود واليابانيين، وحتى الأفارقة النيجيريين والجنوب إفريقيين، دون أن يُذكر لي وأمامي في الغالب روائي عربي وحيد، إلا على خجل، ومن باب التأكيد على أن هؤلاء المتفاخرين بقراءة الأدب العالمي، إما أنهم قرأوا بعض تلك الأعمال العربية، وإما أنهم بالفعل يعرفون هؤلاء الكتاب ويسمعون عنهم، رغم أنهم لم يقرأوا لهم..
ولم ألحظ أنا أحدا كان يشعر بالخجل وهو يتباهي بقراءة “الحب في زمن الكوليرا” خمس مرات، بينما هو لم يقرأ “مدن الملح”، ولا يعرف من هو “محمد ديب” أو “زياد القاسم” أو “الطاهر وطار” أو “حنا مينا” أو “يحيى حِقِّي” أصلا..
جرتني ذاكرتي بعد هذه التداعيات، إلى تذكُّر أغرب واقعة شهدتها في حياتي في عمان عام 1986، عندما كنت أعمل “سرا” في مركز للأبحاث بسبب منعي من العمل العلني لأسباب أظنكم تتوقعونها في مرحلة الأحكام العرفية..
ذات يوم زارنا في مقر مركز الأبحاث رجل وزوجته التي كانت تحمل ابنتها ذات الثلاث سنوات، والتي كانت في منتهى الجمال والوداعة والعذوبة – أقصد الطفلة طبعا – ولأن الزيارة كانت بسبب أن الزوج كان يبحث عن عمل في مجال الأبحاث بسبب مستواه الأكاديمي المؤهَّل، فقد دخل هو إلى مكتب المدير العام للمركز، فيما بقيت السيدة في ضيافتي، وكان عليَّ أن ألاطف الطفلة وأن أُشْعِر السيدة بالألفة، فدار بيننا حديث، عرفت من خلاله أنها وزوجها من “الحزب الشيوعي الأردني”، وسأتجنب ذكر الأسماء تجنبا للإحراج..
وقد ظهر لي من الحديث والكلام مع السيدة أنها مثقفة جدا، ووطنية جدا، ومناضلة جدا، وزاهدة في مباهج الحياة فعلا، لا عن فقر، بل عن قرار يستحق الاحترام، فقد بدت ثيابها أبعد ما تكون علاقة بالأنوثة، من باب عدم الاهتمام بالمظهر على ما تجلي لي بوضوح..
أهم فقرة من فقرات الحديث الذي دار بيننا هو عندما سألتها عن اسم ابنتها، فقد أجابت بكل فخر واعتزاز: “زويا”، أي أن اسم ابنتها هو “زويا”..
وبسبب قلة ثقافتي ومحدودية اطلاعي على ما يبدو، لم أعرف معنى هذه الكلمة، ولا من أيّ ثقافة تنحدر، فسألتها بدون حرج، فأنا لا أخجل من جهلي مادمت مستعدا لأن أتعلم: “ما معنى زويا؟ فهذه أول مرة أسمع الاسم العربي زويا؟”..
فأبدت استهجانا أشعرني بالحرج، ثم قالت بلغة المعلِّم الفخور بعلمه: “زويا.. ألا تعرف زويا؟ ليست عربية.. إنها واحدة من أشهر شهيدات الاتحاد السوفياتي؟ غريب كيف لا تعرفها؟”..
شعرت بأن عليَّ أن أعيد النظر في كل موقفي عالي الاحترام الذي شكلته عن المرأة حتى تلك اللحظة، وقررت أن أعمالها بالأسلوب نفسه..
كانت البديهة حاضرة، فقلت: “أنا أعرف شهيدات سوفييتيات أخريات، أكثر شهرة وأهمية من زويا؟”..
اهتمت بالموضوع بشكل جدي وغير عادي، وطلبت مني أن أزودها بأسمائهن، وأمسكت قلما واستعدت للكتابة..
ما كان عليَّ وسط ذهولي واندهاشي إلا أن قلت لها: أنا أعرف الشهيدة “دلال”، والشهيدة “سناء”، والشهيدة “حسيبة”، والشهيدة “خولة”، والشهيدة “سُكينة”، وأم الشهداء “تَماضُر”..
قطَّبَت جبينَها وهي تسأل بجدية: “لكن هذه الأسماء عربية، والسوفييت لا يطلقونها على بناتهم.. هل أنت متأكد من أنهن شهيدات سوفييتيات؟”..
ساد الصمت لحظة بعد أن غابت عني البديهة بسبب هذا القدر من “الإمعيَّة”، ولم ينقذني من الموقف إلا حضور زوجها بعد أن أنهى المقابلة، فاستعدت للمغادرة وهي تؤكد لي أنها ستتصل بي أو أنها ستزورني ثانية كي تتعرف أكثر على مدى دقة المعلومات التي أوردتها أمامها بخصوص الشهيدات السوفييتيات عربيات الأسماء”..
ومع أنني هززت رأسي بصعوبة لإبداء الموافقة دون أن أنطق، إلا أنني حمدت الله على أنني لم أرها مرة أخرى منذ أكثر من ربع قرن من الزمان..
مثقفونا لا يجدون في روائيينا سوى عالات يقفون على هوامش الأدب العالمي، فيضعون “ماركيز” فوق رؤوسهم، ويدوسون بالنعال “منيف” و”القاسم” و”ديب” وغيرهم من أفذاذ الرواية العالمية بلا مبالغة..
مناضلونا لا يجدون في شهدائنا من يستحق التيَمُّن باسمه، هذا إن كانوا يعرفون هؤلاء الشهداء، ويبحثون في متاحف النضال العالمي عن أسماء شهيدات مغمورات يطلقونها على بناتهم..
فيجدون “زويا”، وقد يجدون “ناتاشا” و”ناتاليا”، وقد يجدون “جاندارك” أيضا، لكنهم لا يجدون” دلال المغربي” ولا “سناء محيدلي”، ولا “حسيبة بن بو لعيد”، ولا “جميلة بوحيرد”، ولا “خولة بنت الأزور”، ولا “سكينة بنت الحسين”، ولا “الخنساء تماضر”..
ما أود أن أذكِّر به السيدة الفاضلة “كرمان توكل”، هو أن جائزة نوبل حصل عليها قبلها دعاة سلام آخرين كانوا أكثر أهمية ودعوة للسلام منها، مثل “مناحيم بيغن” و”شمعون بيريز” و”إسحاق رابين”، الذين لم يبدِ أيٌّ منهم أيّ استعداد للاعتذار أو لتذنيب النَّفس، عن قطرة دم تسبب في إراقتها، لأن السلام الذي منحتهم الأكاديمية السويدية للعلوم الجائزة على أساسه لا يتعارض مع كونهم قاتلي أطفال أبرياء وفلاحين عزل، في “دير ياسين” وفي “كفر قاسم” وفي “قانا”..
فلا تفرحي كثيرا سيدتي ولا تفتخري فأنت لم تستحوذي على المجد من أطرافه..
فاسمك لم يعد مكتوبا في ألواح الشرف مع شهداء ميدان الستين في صنعاء، بل رُفِع درجة ليصبحَ مكتوبا إلى جانب هؤلاء القتلة..
فانعمي برفقتهم، ولا تزاودي علينا بشيء..
إن رفقة القاتل معرَّة وليست مسرَّة..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.