www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

طفل ومعلمة ومعلم وطفلة… بقلم آرا سوفاليان

0

ثبت وبشكل قاطع أن هناك طرفي معادلة متحققة وصحيحة بدون برهان تفيد بأن الطالب يحب مادة ما إذا كان يحب المعلم الذي يعطيها… وبالتالي: فالتعليم مهمة انسانية بإمتياز ووطنية في النهاية لأن تعليم الانسان وصقل مواهبه وتخليصه من الجهل هو الرافد الأسمى الذي يغذي الوطن عن طريق رفع سوية أبنائه أما الجهل فيوصل إلى أمور كثيرة معروفة لا أريد التحدث عنها الآن.

طفل ومعلمة ومعلم وطفلة… بقلم آرا سوفاليان
ثبت وبشكل قاطع أن هناك طرفي معادلة متحققة وصحيحة بدون برهان تفيد بأن الطالب يحب مادة ما إذا كان يحب المعلم الذي يعطيها… وبالتالي: فالتعليم مهمة انسانية بإمتياز ووطنية في النهاية لأن تعليم الانسان وصقل مواهبه وتخليصه من الجهل هو الرافد الأسمى الذي يغذي الوطن عن طريق رفع سوية أبنائه أما الجهل فيوصل إلى أمور كثيرة معروفة لا أريد التحدث عنها الآن.
في المراحل الأولى من طفولتي…وضع الحظ في طريقي معلمة سيئة كانت تعطينا مادة الحساب في الصف الخامس ثم السادس الابتدائي… أذكر أن صفعاتها القاسية على الوجه تسبب أثر حارق وطنين في الأذن يمتد لفترة طويلة… ولسبب لم أكن أعرفه في الماضي وعرفته متأخراً… وضعتني هذه المعلمة في بالها ووضعت لي علامة الصفر في المذاكرة وبالاتفاق مع المدير تم استدعاء ولي أمري الذي طلب من الإدارة العثور على الحل… فاقترح المدير وبالتعاون مع المعلمة المذكور إعطاء دروس خصوصية في البيت وكان المدير والمعلمة المذكورة يعرفان بأن والدي مليء ولن يبخل…وفي البيت قلت لوالدي: يمكنك يا أبي اختيار أي معلمة حساب لتعطيني دروس خصوصية في البيت عدا معلمتي هذه… واتصل والدي بالمدير وطلب منه إرسال أي معلمة في المدرسة لتتولج هذه المهمة عدا معلمتي…واستجاب المدير لهذا الطلب، وهذا أدى إلى نتيجتين مؤسفتين الأولى: قطيعة بين المعلمتين وقد اعتقدت الأولى بأن الثانية قطعت برزقها والثانية: كراهية دائمة بيني وبين مادة الحساب امتدت حتى الجامعة حيث لم يكن لي إلاّ هم أوحد وهو الحصول على العلامة الدنيا في الرياضيات لتأمين النجاح لا غير.
هناك أغنية لا أعرف أسمها … صاحبها مطرب لبناني وفيها موسيقى غربية رائعة وعازف أورغ متميز، وأحفظ منها مقدمتها فقط وتقول: يا زمان الماضي عود ورجعني عمدرستي… وفي الأغنية يتصور المغني معلمته وثوبها الحرير ويتمنى أن يراها عروس ويتغزل بها بأدب مطلق…. فما أجمل هذه المعلمة التي تركت هذا الأثر في قلب هذا الطفل لينقل هذا الأثر إلى أغنيتة في الكبر…. أتمنى من كل المعلمات ترك هذا الأثر في قلوب كل الأطفال لأن التخريب في هذا المنحى يؤدي إلى مصيبة وعقدة قد لا تزول إلا بتحقق شرط آخر …وهو وجود معلم آخر قادر على إزالة التخريب النفسي الذي سببه المعلم الأول … وقد تحقق لي ذلك وبالصدفة عندما استطاع في الجامعة الدكتور محمد زهير نقشبندي أن يعيد الصلة التي انقطعت بيني وبين الرياضيات فأعود لعشقها.
وكان قد استدعاني إلى مكتبه وسألني عن سبب ضعفي بمادة الرياضيات فأخبرته بالقصة كاملة فقال لي: هناك الكثيرين مثلك ولكنك لفتَّ نظري لأنك أرمني…فقلت له: وهل هذا يرتب شيئاً معيناً ؟ فقال لي: نعم فأنا مدين لشخص أرمني كان معلمي وصاحب الورشة التي كنت أعمل بها في حلب إلى جانب دراستي وله في ذمتي دين كبير لا يمكنني قضائه، وطلب مني أن أرد هذا الدين لكل أرمني يصدف أن يمر بطريقي فأعامله كما عاملني وها قد مررت انت في طريقي.
واتفقنا انا والدكتور نقشبندي أن يعطيني وبشكل مسبق حلول مسائل الرياضيات قبل كل محاضرة ليطلب مني أن أحلّها على السبورة في المحاضرة التالية لرفع معنوياتي، وكان لا يبخل بأي شيء إلى أن أعاد لي الثقة الكاملة بنفسي وكان يردد في المحاضرات العبارة الآتية: عندما أكون خارج القطر أو مشغولاً… وفي حال تعثر أحدكم بشيء في الرياضيات عليكم بالطالب آرا سوفاليان…وبالتالي فإن تيار المحبة والاحترام هذا مكنني من الحصول على العلامة التامة في الرياضيات 100/100 واستطاع الدكتور نقشبندي تخليصي من العقدة التي ورد ذكرها سابقاً وإلى الأبد… أما معلمتي المتسببة فهي حية ترزق حتى الآن وأعاملها على انها غير موجودة في كل مناسبة نجتمع فيها معاً وبالنسبة لي فإن السلام كثير جداً عليها.
وجربت أن أكون مدرساً لبضعة سنين وبشكل تطوعي في مدرسة أولادي واستطعت تحقيق النظرية التي بدت لي في طفولتي انها مستحيلة حيث استطعت كسب محبة كل التلاميذ فلم أكره واحد والعكس بالعكس… وفي العقوبات الجماعية التي كان يطبقها المدير على التلاميذ قال لي أحد الطلاب… أنه قال لزملائه …أتمنى أن يحضر الأستاذ آرا الآن لأن دخوله المدرسة سيؤدي إلى توقف العقوبة … وكانت هذه الأمنية تتحقق على الدوام لأنني كنت أذهب بكثرة إلى المدرسة للسؤال عن أولادي وتجنيبهم ما لحق بي… وبعد انقطاعي عن التدريس بسبب العمل الرئيسي… كنت أذهب لماماً فيتوجه حشد من طلابي في الباحة إلى الجهة التي أقف فيها وهذا ما كان يدمع عيناي الاثنتين…وعلى الفيس بوك ارسل طلب صداقة لكل تلاميذي وبالطبع فإن لي هدف في ذلك لا يفهمه أولادي… وهو ايصال صوتي إلى كل أبنائي عن طريق حصولهم على نسخة من مقالاتي وبعضها الاجتماعي والانساني والسياسي وعلى الأخص تلك المقالات التي تهتم بالشأن الأرمني خاصة وأننا شعب صاحب قضية ولم يتم انصافنا ولا إنصاف قضيتنا على الرغم من مرور 97 عاماً عليها، وأعتقد أنه من المفيد أن يضطلعوا ـ هم أو أهلهم ـ ولو على اليسير.
أما المفارقة التي أحب أن أختم بها هذه المقالة فهي الآتية …طلبت مني معلمة مدرسة الأحد أن أحضّر موسيقى بعض الأناشيد والأغاني الأرمنية على سي دي، ليتولى طلابها الغناء بمصاحبة الموسيقى ففعلت، وطلبت مني تدريب فرقتها على هذه الأغاني فقلت لها إن افراد فرقتك هم من الصغار وتدريبهم يحتاج للوقت…فأصرَّت…وقبلت… ثم عادت وطلبت مني قيادة فرقة الكورال على المسرح…فترددت ثم قبلت…وكانت في الفرقة فتاة صغيرة وجميلة ألبسناها العلم السوري وفتاة أخرى صغيرة شقراء وجميلة ألبسناها علم أرمينيا… وأذكر أن الشقراء كانت مندفعة دوماً وتغني قبل الموسيقى وقد فعلت ذلك كثيراً في التمارين وأعادت الكرّة في الحفلة فأضحكت الناس علينا… وكانت عقوبتها هي نظرة وابتسامة من قبلي قابلتها هي بارتباك ثم ابتسامة…فالدنيا لم تخرب… وانقضت الحفلة وانتهى فصل الصيف وجاء العام الدراسي الجديد وذهبت إلى المدرسة لزيارة أولادي فرأيت طفلة صغيرة شقراء تترك رفيقاتها وتركض بإتجاهي وامسكتني من ملابسي وتمترست في مواجهة صديقاتها اللواتي جئن لرؤيتي وكانها تعلمهم جميعاً بأن هذا الاستاذ هو صديقي وملكي…فتمنيت أن يرى هذا المشهد كل المدرسين في سوريا وأن لا يحدث لأي طالب ما حدث لي في صغري…فالتدريس مسؤولية عظيمة وأمانة يجب أن لا تلقى إلاّ على عاتق الكبار، أما الصغار فلهم مجالات أخرى غير التدريس لأنه لا عاتق لهم.
آرا سوفاليان
دمشق الثلاثاء 8 أيار 2012

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.