www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

في الرد على سؤال.. /أسامة عكنان

0

لماذا يرفع أتباع الطغاة وأذنابهم عندما يصبح مصيرهم ومصير أوثانهم على المحك، الشعار التالي دائما: لا بديل عن الزعيم الرمز، إلا الفوضى المجتمعية العارمة، والانهيار الاقتصادي المدمر، والاقتتال الأهلي الفاجع، والانقسام الإثني والطائفي المذل والمضعف؟!

في الرد على سؤال..
لماذا يرفع أتباع الطغاة وأذنابهم عندما يصبح مصيرهم ومصير أوثانهم على المحك، الشعار التالي دائما:
لا بديل عن الزعيم الرمز، إلا الفوضى المجتمعية العارمة، والانهيار الاقتصادي المدمر، والاقتتال الأهلي الفاجع، والانقسام الإثني والطائفي المذل والمضعف؟!

الحلقة الثالثة..
الثورة والأزمة، أيهما السبب وأيهما النتيجة..

إن واحدة من الظواهر الملازمة للثورات الاجتماعية من حيث ردةُ فعلِ النظام الذي تستهدفه، هو أن ذلك النظام يصر على وصف الحالة التي تَنْتُجُ عن الثورة خلال سيرورة أحداث الحراك الثوري، بأنها “أزمة”، يبدأ بالحديث عن مردودها السلبي على المجتمع وعلى الدولة، ليتطور الحديث عن الثورة، من القول بأنها احتجاجات أثارت “أزمة”، إلى كونها احتجاجات أحدثت “فوضى” اجتماعية، منذرةً في حال استمرارها بـ “انهيار” الدولة ككل..

ورغم أن هذا هو ديدن كل الأنظمة البوليسية التي تتم الثورة عليها، فإننا باستقرائنا للكثير من الثورات التي عرفتها البشرية، وخاصة منها ما عرفه القرن الماضي، لا نرى أيا منها أدى إلى انهيار الدولة أو إلى فوضى من تلك التي كانت تتحدث عنها الأنظمة المخلوعة قبل خلعها، بل إن العكس تماما هو ما كان يحصل غالبا إن لم يكن دائما. رغم ملاحظتنا لوجود مرحلة انتقالية تلي الأحداث الثورية الكبرى الأولى مباشرة، وهي مرحلة قد تطول وقد تقصر، مردها إلى مقاومة قوى الشد العسكي من جهة، وإلى عدم رسوخ القيم الثورية الجديدة بشكل كامل وفوري في مكونات المجتمع الذي يكون بثورته قد أنجز أولى المهام وأكبرها، وهي التأصيل للتغيير، من جهة أخرى..

إن هناك عملية تضليل مُمَنْهَجَة تَتَّبِعُها كل القوى المضادة للثورات الشعبية، مُمَثَّلَة بالدرجة الأولى في المؤسسات الثقافية المُؤَصِّلَة والمُرَوِّجَة للأنظمة القمعية والبوليسية.. عمليةُ تضليل تعكس المعادلة، وتقلب الحقيقة، وتُزَوِّرُ الواقع، فتجعل السبب نتيجة والنتيجة سببا.
من حيث المبدأ لا يوجد شعب يتمتع بالحرية والعدالة ثم يقوم بتفجير ثورة، لأن كل الثورات إنما تنطلق من أجل الحرية والعدالة، فإذا كانت هاتان القيمتان متوفرتين ومتحققتين في المجتمع بالقدر الذي يحول دون حدوث التناقضات بين بنائيه الفوقي والتحتي، فلمَ الثورة، ولأيِّ غاية يُفترض أن يثور الناس إذن؟!

الثورة في جوهرها هي عملية حراكٍ جمعي واعٍ، يدفع إليه تراكمٌ متنامٍ للاحتقان المجتمعي، الناتج عن عدم تجاوبِ البناء الفوقي في المجتمع، مع متطلبات البناء التحتي فيه وهو ينمو ويتطور، تجاوبا طبيعيا وموضوعيا، إلى أن يصل البناءان إلى مستوى من التناقض يستحيل معه أن يتعايشا بدون صدام واحتكاك يهدف إلى إعادة إنتاج المجتمع وعلاقاته وبُناه الفوقية بشكل يضمن حالةً من التوافق مع بُناه التحتية الجديدة المتخلِّقَة بفعل التطور والوعي..

أي أن الثورة لا يمكنها أن تصبح ضرورة، ولا أن تتحول من ثمَّ إلى أمرٍ واقعٍ وإلى حالةِ حراكٍ موضوعية، إلا بوجود “أزمة” عميقة ومتجذرة سبقتها وأدت إليها، وجعلتها من ثمَّ الحلَّ الوحيد الممكن للحفاظ على بُنية المجتمع. كما أنها – أي الثورة – بناء على ما سبق، هي عملية اجتماعية حاسمة، تستبقُ حالةَ الفوضى والانهيار اللتين تكون الأزمة المستفحلة التي تسبب فيها النظام القمعي البوليسي الطبقي، قد بدأت تنذر بقربهما في ظل النظام القائم نفسه، باعتباره نظاما خلق بسياساته القمعية والبوليسية والطبقية المتراكمة كل عناصر تلك الأزمة..

إن المجتمع بثورته لا يسبب أزمة وإنما يستجيب لأزمة تتطلب التعاطي معها بإيجابية، سعيا نحو حلها وتفكيك عناصرها، للتخلص من تداعياتها، استباقا لانهيار الدولة وعموم الفوضى في المجتمع بسبب تلك الأزمة ذاتها. وكأنها نوع من حصون المقاومة الذاتية يلجأ إليها المجتمع قبل حدوث الانهيار الشامل والفوضى العارمة في بُناه ومؤسساته. إن الثورة بهذا المعنى هي فعل إيجابي يدافع به الكائن الاجتماعي الحي عن نفسه من الفناء والاندثار اللذين تظهر نُذُرُهما في الأفق بسبب ممارسات “نظام اللاحرية” الذي يُنْتِجُ حتما “نظامَ اللاعدالة”..

وهذا يعني أن المجتمع الذي تصل حالة الاحتقان فيه إلى حدودها القصوى دون أن يثور للتخلص من حالة الاحتقان تلك، إنما هو مجتمع يستسلم لحالة التفكك والانهيار والفوضى التي ستقضي عليه قضاءً تاما، ليُعَبِّرَ عن أقصى درجات السلبية وعدم استحقاق الحياة أصلا.
أي أن الثورة هي آخر حصون الجسد المجتمعي لمقاومة الموت المرتقب، وبالتالي فإن لم تحدث الثورة عند تحقق شروطها وظروفها الموضوعية التي هي وصول الهجوم الفيروسي القمعي البوليسي الطبقي إلى ذروته، فالفناء المجتمعي قادم لا محالة، تماما مثل الجسد الذي لا يقاوم الفيروسات التي تهاجمه، ويستسلم لنهشها المميت له، فيموت..

أي أن المجتمع المأزوم بتداعيات ممارسات “نظام اللاحرية” ومخرجاته متميلة في “نظام اللاعدالة”، هو مثل الجسم المريض، الذي يجد نفسَه معنيا باستخدام كل وسائل دفاعه كي يقضي على الفيروسات والميكروبات التي تهاجمه، سعيا للتخلص منها والعودة إلى وضع السلامة من المرض..

إنه يثور على الأزمة الداخلية التي سببتها تلك الفيروسات المهاجِمَة لتجنب الانهيار التام وعموم الفوضى التي ستؤدي إلى الموت حتما. إن حالة الغليان الاجتماعي التي نلاحظها إبان الأحداث الثورية أو قُبَيْلَها أو بُعَيْدَها، تشبه حالة الحرارة المرتفعة التي تُسَبِّبُها مقاومة الجسم لأعدائه ومهاجميه والحريصين على إفنائه وانهيار قواه..

إن المجتمع الذي تصل عناصر القمع والبوليسية والاستعباد والظلم الاجتماعي فيه حدودَها القصوى، هو مجتمع مأزومٌ وصلت إمكانات أزمته إلى أقصى درجاتها، بعد أن تكون كل عناصر المرونة فيه قد استُنْفِذَت في التعامل مع هذه الأزمة، دون تحقيق نتائج ملموسة على صعيدي “الحرية” و”العدالة”، وهو عندئذ يجد نفسه معنيا بالثورة، للتعامل مع الأزمة بما يليق بها من أدواتٍ فرضتها مستوياتها تلك..

وكما أن الفيروسات التي تصيب الجسم تستمر في الدفاع عن نفسها باستماتةٍ وهي تحاول الإبقاء على عناصر الأزمة القاتلة مُتَمَكِّنَة من الجسم الذي أَزَّمَتْه، فكذلك النظام البوليسي القمعي يفعل الشيء نفسَه، إلى نهاية المعركة التي لن تهدأ إلا باستسلام أحد الطرفين وانهياره. فإما انتصار “نظام الحرية” بانتصار الثورة، وإما بقاء واستمرار “نظام اللاحرية”، حتى لو تم ذلك بتقديم بعض التنازلات هنا، وبإلقاء بعض الفتات هناك..

من هنا يتجلى لنا أن الانهيار والفوضى والأزمة التي تتحدث عنها الأنظمة في سياق خوضها لمعركة البقاء والاستمرار في مواجهة ثورات الشعوب، إنما هي محاولات يائسة للقفز على الحقائق، ولشرخ الصفوف، ولاستخدام سلاح الإرهاب ضد الثائرين، أو على الأقل ضد الفئات الصامتة التي لم تحسم أمرها بعد. ولعله لهذا السبب تتشابه الأنظمة البوليسية أو “أنظمة اللاحرية”، في الطُّرُق النمطية التي تتبعها في مواجهة الثورات الشعبية..

فلكي يكون للزَّعْم بأن الفوضى والانهيار هي مصير المجتمع والدولة، جراء الثورة التي يجب أن تظهر كعمل تخريبي غير مسؤول، معنىً واقعيا ملموسا وذا دلالة، كان من الطبيعي – مثلما حدث في تونس ومصر – أن يتم سحب الجهاز الأمني من الشوارع والمدن والتجمعات السكنية، وترك كافة الأماكن الحضرية نهبا للسلب والترويع، عبر تهريب السجناء والمجرمين من السجون ومراكز التوقيف في لحظات الذروة الثورية.. وكان من الطبيعي – كما حدث في كل الدول التي ثارت وتلك التي في طور التثوير – استخدام فئات مأجورة يكون النظام – على مدى سنوات حكمه البوليسية – قد انشأها ودربها وعمل على ربطها به حياتيا بشكل طفيلي يجعلها لا تضمن حياتها ووجودها إلا في بقائه واستمراره، كي تستميت في الدفاع عنه، مدخرا إياها لمثل هذه المواقف..

إنها خطوات استباقية لمحاصرة الثورة بفكَّي كَماشَة، أحدهما الجهاز البوليسي القمعي للنظام، وثانيهما جماهير الشعب المرعوبة على أمنها وعلى حياتها ومالها وعرضها، وذلك في اللحظات المبكرة من عمر الثورة، وقبل أن تلتحم بها تلك الجماهير وتشكل حاضنتها الدافئة، وتجعل مصير النظام على المحك التاريخي..

ولعل النظام المصري المخلوع ذهب بعيدا في هذه اللعبة العازفة على وتر الترهيب من الفوضى وانهيار الأمن، عندما تجاوز مسألةَ إرهابِ الخطوطِ الخلفية والمَدَد الشعبي للثورة، بتلك الفئات المأجورة التي عُرِفَت في يوميات الثورة المصرية بفئة “البلطجية”، عَقبَ انسحاب المؤسسة الأمنية بالكامل من الشارع المصري، بأن عاد ليستخدمها استخداما غيرَ مسبوقٍ في الموروث المضاد للثورات، مهاجما بها الثوارَ أنفسَهم، لإرهابهم وقتلهم وترويعهم وشرخ صفوفهم ودفعهم إلى التراجع والانكفاء، في محاولةٍ لإشعار جميع المراقبين والمتابعين لصيرورة الأحداث – وخاصة جماهير الشعب المصري التي كان هذا النظام يحاول استدرار تعاطفها واستنفار مخاوفِها في الوقت ذاته، مستغلا حيرتَها وترددَها وبساطتَها – بأن الأمر في طريقه لأن يتحول إلى حرب أهلية، وإلى صراع بين فئات الشعب المتعارضةِ المصالحِ والمتناقضةِ في الرؤى والأهداف، عندما ظهر هؤلاء البلطجية في صورة المدافع عن النظام والمؤيد له بشكل بدائي وهمجي من الواضح أن النظام لم يكن يهتم به كثيرا، بقدر ما كان يهتم بنتائجه على الأرض..

والنظام المصري المخلوع إذ فعل ذلك ولجأ إليه، فلكي يدفع بالجميع إلى الاعتراف له بمشروعية قبضته الأمنية التي كانت قادرة على حماية البلد من أمر كهذا. لقد كان النظام المصري بشعا في ممارسته لهذه السياسة، منذ بدأت الثورة تثبت أنها لغةُ الشارع المصري المُعْلَنَة، وأنها أداتُه الفعلية الوحيدة في المطالبة بحقوقه، المتمثلة أولا وقبل كل شيء في تحرُّرِه من الاستبداد، بالرحيل الكامل وغير المنقوص لنظام الاستبداد..

إلا أننا فوجئنا بأن هذه السياسة موحدة لدى كل الأنظمة البوليسية وإن اختلفت فيها المسميات والأدوار المباشرة وغير المباشرة لتلك الفئات المأجورة. فكان “بلطجية حسني مبارك” هم “بلاطجة علي صالح” وهم “مرتزقة القذافي”، وهم “شبيحة بشار الأسد”، وإرهاصات نظرائهم في الأردن تطل برأسها لتمهد الطريق أمام “بلطجية هذا النظام” بشكل غير مسبوق..‬

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.