www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

تعقيبات على ما جاء فى كتاب كارلا باور/د. إبراهيم عوض

0

 photo imgres_zpssxhwolyg.jpg

تعقيبات على ما جاء فى كتاب كارلا باور:

“لو كان البحر مدادا-

If the Oceans Were Ink”

 
 
 
 
 
 
 
 

 

 

 

 منذ بضع ليال فاجأنا الصديق المصرى الذى يعيش فى اليابان

أ. ميسرة عفيفى على صفحتى فى الفيس بوك بخبر عن ترجمة يابانية

 

لكتاب إنجليزى عن الإسلام للمؤلفة الأمريكية كارلا باور عنوانه: “If the Oceans were Ink”، وهذا العنوان بمثابة ترجمة للعبارة القرآنية التى تقول: “لو كان البحر مِدَادا”، المأخوذة من قوله تعالى: “قل: لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لَنَفِد البحر قبل أن تَنْفَد كلماتُ ربى ولو جئنا بمثله مَدَدًا”، فحفزنى هذا الخبر على البحث عن الأصل الإنجليزى حتى وجدته وشرعت أقرأ فيه. والكتاب عبارة عن تسجيل لحوار طويل دار بين المؤلفة الأمريكية اليهودية الأم والكويكرية الأب وبين د. أكرم ندوى، وهو أستاذ جامعى هندى كان يعيش وقتذاك فى أكسفورد، التى أمضيت فيها سنوات دراستى للحصول على درجة الدكتورية فى النقد الأدبى الحديث من 1976 إلى 1982م. وقد شدنى الكتاب شدا قويا، وبخاصة أننى قد كتبت عن د. الندوى عدة فقرات فى كتاب سابق لى عن إنجازه الكبير فى رصد أسماء آلاف النسوة المحدِّثات فى التاريخ الإسلامى، ذلك الإنجاز المتمثل فى أربعين مجلدا كنت أحسبه قد انتهى من إصدارها لأفاجَأ من كلام المؤلفة الأمريكية أنه لم يظهر منه سوى المجلد الأول، وألفيت نفسى بعد قليل أبدأ فى تسجيل تعليقاتى على ما تقوله الكاتبة. وهذه أول مقطوعية. وأبدأ أولا بإيراد الفقرة التى أريد مناقشة ما فيها من أفكار للمؤلفة، ثم أثنى بالتعقيب عليها: 

“Revered by a population as diverse as the umma, or worldwide Muslim community, the Quran can refract in dazzling ways. The San Francisco civil rights lawyer may discover freedoms in the same sura, or chapter, in which a twelfth-century Cairo cleric saw strictures. A Sudanese mullah, or religious teacher, may read a command for wifely obedience; an Indonesian wife may interpret the same passage as a call for equality and compassion. The Marxist and the Wall Street banker, the despot and the democrat, the terrorist and the pluralist—each can point to a passage in support of his cause. 

Sheikh Mohammad Akram Nadwi, the Islamic scholar who taught me the Quran, once told me an old Indian joke. A Hindu goes to his Muslim neighbor and asks if he could borrow a copy of the Quran. “Of course,” said the Muslim. “We’ve got plenty! Let me go get you one from my library.” A week later, the Hindu returns. “Thanks so much,” he said. “Fascinating. But I wonder, could you give me a copy of the other Quran?” “Um, you’re holding it there,” said the Muslim. “There’s just one Quran, and you’ve got it.” “Yeah, I read it,” replied the Hindu. “But I need a copy of the Quran that’s followed by Muslims.” “The joke is right,” said Akram. “All this talk about jihad and forming Islamic states, that’s not what the Quran says!”. 

تقول الكاتبة إن النص القرآنى يقبل بالتفسيرات المتعارضة: فالحاكم المستبد يجد فيه ما يعضد استبداده مثلما يجد الحاكم الديمقراطىّ فى نفس النص ما يدعم حجته. والمدافعون عن حقوق المرأة يجدون ما يريدون فى ذات الآية التى يستشهد بها من يضيّقون على حواء ويحرمونها حقوقها. وبالمثل يجد الماركسى فيه ما يقوى عقيدته الماركسية فى الوقت الذى يجد الرأسمالى ما يقوى رأسماليته. وبغض النظر عما تريد الكاتبة من وراء هذا الكلام فلا بد من معرفة أن المسلمين فى عصر النبى لم يختلفوا فى فهم القرآن على النحو الذى تصوره كلمات الكاتبة. ولو كان القرآن فى ذاته يؤدى إلى هذا الاختلاف لرأيناهم فرقا وشيعا، كل فرقة تمضى فى اتجاهها لا تتلاقى مع سائر الفرق والشيع. لكننا ننظر فنجد أنهم كانوا جميعا على قلب رجل واحد. 

أما لو وقع خلاف بين أحد وآخر أو حدث سوء فهم من أى منهم لنص قرآنى فما أسرع ما يقضى النبى، بوصفه المرجعية الصحيحة، على هذا الخلاف بتوضيح الصواب من الخطإ كما هو الحال مثلا حين استغرب عَدِىُّ بن حاتم قول القرآن عن أتباع النصرانية إنهم قد “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله”، إذ قال للنبى: ما كنا لنعبدهم. فكان أن وضح له النبى أن المقصود بالعبادة هنا أنهم كانوا يشرّعون لهم من عند أنفسهم اتباعا لنزواتهم وأهوائهم وشهواتهم الدنيوية لا بناء على وحى سماوى، فكانوا يتبعون تعاليمهم رغم انحرافها عن دين الله ومحادتها له. وعندئذ اقتنع عدىّ. 

ويمكن أن نُلْحِق بذلك تردد الصحابة فى قبول معاهدة الحديبية لما رأوا فيها من إجحاف ولما تنص عليه من رجوعهم ذلك العام دون اعتمار، مما دفع بعضهم إلى التساؤل: ألم ير الرسول فى منامه أننا سوف نؤدى العمرة؟ فكيف نعود من حيث أتينا دون أن نؤديها؟ فما كان من النبى إلا أن سألهم بدوره قائلا: وهل قلت لكم إنكم ستعتمرون هذا العام؟ فحسم بسؤاله ذاك الحيرة والتردد. وهو ما أشارت إليه آية سورة “الفتح”: “لقد صَدَق اللهُ رسولَه الرؤيا بالحقّ: لتَدْخُلُنَّ المسجدَ الحرامَ إن شاء اللهُ آمنين محلِّقين رؤوسَكم ومقصِّرين لا تخافون. فعَلِم ما لم تعلموا، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا”. 

ومثله اقتراح عمر رضى الله عنه على الرسول أن يقتل حاطب بن أبى بلتعة، وكان من أهل بدر، بعدما اكتُشِف أنه بعث برسالة إلى أهل مكة ينبئهم أنه صلى الله عليه وسلم يتجهز لغزو مدينتهم لولا أن الرسول كف عمر عن ذلك قائلا: “لعل الله اطَّلَع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم”. لقد كان الرسول يعلم عن حاطب أنه مؤمن قوى الإيمان، وأن الدافع له على ما صنع ليس هو الخيانة العظمى بل خوفه على ماله فى مكة أن يجتاله أهلها دون أن يكون هناك من يمنعهم عن ذلك، إذ لم تكن له عزوة هناك. 

ومثله كذلك ما رد به رسول الله على عمار بن ياسر حين أتاه فزعا تكاد روحه تزهق بعد أن نطق بكلمة الكفر تحت تأثير التعذيب البشع الذى صبه عليه كفار مكة، فما كان منه عليه السلام إلا أن سأله عن حال قلبه وما فيه من إيمان، فطمأنه بأن إيمانه باق على قوته رغم اضطراره للنطق بكلمة الكفر فرارا من استمرار التعذيب، الذى لم يعد يطيقه. فواساه الرسول وخفف عنه ومَرْهَمَ جراحَ ضميره مبينا له أنه ما دام إيمانه باقيا على حاله فى صدره فلا خوف. بل زاد فنصحه بأنهم إن عادوا إلى تعذيبه فلينطق أمامهم بما يسكتهم عنه ويجعلهم يطلقون سراحه. ذلك أن العبرة فى الإسلام فى تلك الأحوال بالنية والقلب. كما أن ديننا لا ينتظر من البشر أن يتحول كل منهم إلى سوبر مان، إذ يعرف أن مُنَّتهم ضعيفة وأن لاحتمالهم ضغوط العذاب حدودا ينتهى إليها مهما كان الواحد منهم شجاعا راسخ اليقين قادرا على التضحيات: “وخُلِق الإنسانُ ضعيفا”، “ما يفعلُ اللهُ بعذابكم إن شكرتم وآمنتم؟ وكان الله شاكرا عليما”. والله فى الإسلام رب الرحمة واللطف والود والكرم، ورحمته تسبق دائما غضبه، وتسامحه مع عباده بلا حدود.

وهذا ما أريد لفت النظر إليه، إذ هناك دائما لدن شرح أى نص عدة شروط ينبغى الانتباه إليها ومراعاتها، وإلا فشل الشرح وابتعد عن المعنى الصحيح ابتعادا قد يصل إلى حد التناقض الذى لا يمكن جبره. ويمكن اختصار تلك الشروط فى احترام السياق، إلى جانب الذكاء والمرونة العقلية والإخلاص بطبيعة الحال. والسياق فى موضوعنا ليس ضربا واحدا بل ضروبا: السياق اللغوى، والسياق التاريخى، والسياق القرآنى، والسياق الحديثى. فلا يصح أبدا أن يهجم هاجم على القرآن الكريم وهو لا يعرف العربية، أو يعرف العربية المعاصرة مثلا بينما يجهل العربية القديمة التى كانت سائدة أيام نزول الوحى على سيدنا رسول الله، وإلا لفسر “الذَّرَّة” مثلا على أنها الجزء المتناهى فى الصغر من المادة فى حين أن المقصود فى القرآن هو النملة الضئيلة، ولَفَسَّر “السيارة” فى قوله تعالى: “وجاءت سيارةٌ فأرسلوا ورادَهم فأَدْلَى دَلْوَه” بمعنى العربة ذات المحرك رغم أنها القافلة فى القرآن، ولَفَسَّر “الخير” فى قوله عز شأنه فى سياق الحديث عن الإنسان: “وإنه لِحُبِّ الخير لَشديد” على أنه نقيض الشر مع أن القرآن إنما يقصد به هنا الأموال والأملاك، ولفسَّر “الفرح” فيه بالسرور فى الوقت الذى يريد به القرآن الغرور والبطر ونسيان الآخرة، ولفسَّر “اللَّعِب” لَدُنْ وصفه سبحانه للدنيا بأنها “لعب ولهو” على أنه تصريف الطاقة فى الجرى والقفز وتمضية الوقت فى السباق البدنى والعقلى وما إلى ذلك بغية تنشيط الجسم والعقل والتسرية عن النفس بينما يقصد القرآن أن حياة الأرض عابرة زائلة وغير جوهرية على عكس الآخرة بأبديتها وجوهريتها، ولفسَّر “اليد والوجه والعرش” بالنسبة لله على أنها اليد والوجه والعرش كما نعرفها فى حياتنا البشرية مع أنها تعنى قدرة الله وعظمته وسلطانه الشامل العميم على الترتيب، ولفسَّر “الجهاد” بمعنى الحرب ضد الكفار الذين يريدون بالإسلام والمسلمين شرا رغم أن “الجهاد” هو بذل الجهد فى مواجهة الخصم أيا كان نوع هذا الجهد، ومن ثم فقوله تعالى لرسوله فى المرحلة المكية: “وجاهِدْهم به جهادا كبيرا” ليس معناه: حارِبْهم، بل معناه: اجتهد بكل قوتك لإيصال الوحى إليهم وإقناعهم بصحة ما فيه وكسبهم إلى صف الإيمان بالحجة والموعظة الحسنة. 

وبالمناسبة فأنت إذا ما سألت مصريا الآن عن معنى”الصعيد” فلن يخطر فى ذهنه سوى القسم الجنوبى من بلاده، وبالتالى كان من الصعب عليه، إذا لم يكن على علم بالأسلوب العربى القديم، أن يفهم قوله عز شأنه: “فتَيَمَّموا صعيدًا طيبًا” وأن المقصود هو الطاهر من التراب والرمل وما إلى ذلك… بل قد يكون قارئ القرآن صحابيا، وتفوته مع ذلك نكتة بلاغية مثلا فيخطئ فهم النص، كما وقع لعدى بن حاتم حين أخذ الآية القرآنية التالية على حرفيتها، ومن ثم أحضر خيطا أبيض وآخر أسود وظل يأكل فى خيمته كلما جاع طوال الليل إلى أن تبين له اللونان عند انتشار النور فى الآفاق، وفاته أن الآية تعنى النور والظلام لا الخيطين الماديين، إذ هى استعارة لا تعبير حقيقى. ونص الآية هو: “وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر”… وهكذا. 

وكثير من القراء اليوم لن يفهموا بسهولةٍ التراكيب التالية: “وإنّ كُلًّا لمّا لَيُوَفِّيَنَّهم ربُّك أعمالَهم” (بمعنى “بكل يقين سوف يوفيهم ربُّك أعمالهم)، أو “وإنْ كُلٌّ لمّا جميع لدينا مُحْضَرون” (ما منهم أحد إلا وسوف يُحْضَر إلينا)، “إنْ كلُّ نَفْسٍ لمّا عليها حافظ” (ما من نفس إلا وعليها حافظ)، “فلا تكن للخائنين خصيما” (لا تأخذ جانب الخائنين وتدافع عنهم)، “ولاتَ حينَ مناصَ” (لامَهْرَب ولا مَنْجَى لأحد فى ذلك الحين)، “وإنْ كادوا لَيَفْتِنُونكَ عن الذى أوحينا إليك لِتَفْتَرِىَ علينا غيره” (لقد كادوا أن يفتنوك عن الذى أوحينا إليك…)، “الطفل الذين لم يَظْهَروا على عورات النساء” (الأطفال)، “وكَأَيِّنْ من قريةٍ هى أشدُّ قوةً من قريتك التى أخرجتكَ أهلكناهم” (ما أكثر الأمم التى كانت أقوى من أمتك ورغم ذلك أهلكناهم)، “مما خطيئاتهم أُغْرِقوا” (بسبب خطاياهم تم إغراقهم)، “ولا تكونوا كالتى نقضتْ غَزْلَها من بعد قوةٍ أنكاثًا تتخذون أيمانكم دَخَلًا بينكم أن تكون أُمَّةٌ هى أَرْبَى من أُمَّة” (بُغْيَة أن تكون أُمَّة هى أَرْبَى من أمة). 

فهذا هو السياق اللغوى للنص القرآنى. أما السياق التاريخى فيأتى على رأسه ما يسمى فى علوم القرآن بـ”أسباب النزول”، إذ من غير الإحاطة بهذه الأسباب سوف نُلْفِى كثيرا جدا من المسلمين يصلّون متجهين إلى الجهة التى تعنّ لهم دون الالتزام بالقبلة اعتمادا على أن هناك آية تقول: “ولله المشرق والمغرب. فأينما تُوَلُّوا فثَمَّ وجهُ الله”، وفاتهم أن الآية إنما نزلت ردا على تحرج بعض الصحابة بعد اكتشافهم أنهم قد صَلَّوْا ذات ليلة فى غير اتجاه القبلة بسبب الظلام الدامس وخطئهم فى تحديد جهة الكعبة، فبيَّن القرآن لهم أن العبرة بالنية والاجتهاد المخلص، وأنهم معذورون فى هذا الخطإ، وأن صلاتهم مقبولة، فهم وإن كان استقبال القبلة قد أفلت منهم لم يفلت منهم الأجر، لأن الله ليس هنا أو هاهنا بل وجوده مطلق غير منحصر فى أى اتجاه، وهو سبحانه قد قبل منهم صلاتهم نظرا لظروفهم القهرية. 

وبدون الاستعانة بأسباب النزول سوف يشرب كثير من المسلمين الخمر بناء على فهمهم لما تقوله الآية التالية من سورة “المائدة”: “ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُنَاحٌ فيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتَّقَوْا وآمنوا ثم اتَّقَوْا وأحسنوا. والله يحب المحسنين”، وهو ما فعله أحد المسلمين على عهد عمر، بناء على ما فهمه من ظاهر الآية، الذى يقول إنه ليس على المسلم حرج فى أكل أى شىء أو شربه ما دام تقيا محسنا يعمل الصالحات، بينما معناها الحقيقى غير ذلك. فقد تساءل أيام النبى بعض الصحابة عن مصير المسلمين الصالحين الذين ماتوا وكانوا يشربون الخمر،إذ لم تكن أم الخبائث قد حُرِّمَتْ بعد. فوَضَّح القرآن أنهم ناجون يوم القيامة لتقواهم وإحسانهم وعملهم الصالحات رغم أنهم كانوا يشربون الخمر. ذلك أن الإسلام لا يحاسب الناس بأثر رجعى، ولا عقوبة إلا بنص. وما دام النص القرآنى الخاص بتحريم الخمر لم يكن قد نزل بعد فليس على هؤلاء الصحابة حرج. كما أنه بعد نزوله لا ينسحب على الزمن الذى مضى. بل ما مضى قد مضى، وانتهى أمره. والمهم فى هذا كله هو التقوى والعمل الصالح سواء كان ذلك قبل تحريم الخمر أو بعده. فإن كان الشخص تقيا صالحا ومات وهو يشرب الخمر قبل تحريمها فهو ناجٍ، أما إن لم يكن تقيا ولا صالحا والتزم، لسبب أو لآخر، بترك الخمر بعد تحريمها فليس من الناجين. 

وفى قوله تعالى جَدُّه: “إن الصفا والمروة من شعائر الله. فمَنْ حَجَّ البيتَ أو اعتمر فلا جُنَاح عليه أن يَطَّوَّف بهما” يمكن جدا أن يظن كثير من المسلمين أن السعى بين الصفا والمروة هو فى أحسن أحواله غير محرَّم لكنه غير واجب، استنادا إلى ظاهر الآية من أنه ليس هناك إثم على الساعى بينهما، وهو ما يفهم منه أن هذا كل ما هنالك بحيث إذا لم يسع الحاج بينهما فلا جناح عليه من باب الأولى. لكن سبب نزولها يقلب المعنى رأسا على عقب، فقد كان بعض الصحابة يتحرج من السعى نظرا إلى أنه كان فوق كل من التلين صنم فى الجاهلية، فظن أنه من الأسلم ألا يسعى بينهما حتى لا يتشبه بما كان يصنعه الوثنيون آنئذ، وفاته أن الصنمين قد أزيلا وعاد السعى بين التلين إلى وضعه الأصلى قبل فساده على أيدى أهل الجاهلية. فالآية لا تقول عن السعى إنه لا بأس به، بل تزيل ما حاك فى نفس بعض الصحابة من أنه إحدى شعائر الوثنية، أما حكمه فباق على الوجوب.

أما السياق القرآنى فمعناه أنه يجب النظر إلى أى نص قرآنى فى ضوء النصوص القرآنية التى ترسم الخطوط العامة للإسلام، وبخاصة تلك التى تتعلق بموضوع النص المراد تفسيره. ولنأخذ مثالين على ما نقول: فأما المثال الأول فله صلة بما كتبه ابن سلام فى مقدمة كتابه: “طبقات الشعراء” عن النحل والانتحال فى الشعر الجاهلى، إذ كان من رأيه أن ما بلغنا من أشعار لعاد وثمود هى أشعار منحولة لهاتين القبيلتين. وحجته فى ذلك، وهو ما يهمنها هنا، أن القرآن قد أخبرنا أنهما قد أبيدتا عن آخرهما طبقا لما جاء فى سورتى “النجم” و”الحاقة”. ومن ثم فالسؤال هو: من يا ترى حفظ أشعارهما وأداها إلينا رغم أن أحدا لم يبق منهما؟ وقد كنت أمر على تلك الحجة موافقا تمام الموافقة مثلى مثل جميع الباحثين الذين تناولوا ابن سلام ونظريته فى النحل والانتحال، إلى بضع سنين مضت، إذ بدا لى، فى سياق لا يهم القارئ ذكره هنا، أن أراجع ما قاله القرآن عن عاد وثمود فألفيته يقول بمنتهى الوضوح والصراحة فى سورة “هود” إن الله قد نجى كلا من هود (نبى عاد) وصالح (نبى ثمود) والذين آمنوا معه. وهو ما يعنى أن حجة ابن سلام باطلة تمام البطلان، وأنه لا يصح الارتكان إلى دعوى تدمير هاتين القبيلتين لأنها دعوى متهافتةلا حقيقة لها. والسبب هو أن ابن سلام توقف إزاء نصين قرآنيين يذكران أن تينك القبيلتين لم يتبق منهما باقية، مغفلا نصين آخرين يوضحان أن الذين تم تدميرهم إنما هم الكفار المعاندون من القبيلتين لا كل القبيلتين. لكن هذا لا يعنى بالضرورة أن ما بلغنا من شعر منسوب لعاد وثمود هو شعر صحيح، بل تلك قضية أخرى. 

وأما المثال الآخر فيتعلق بالقتال. وفى هذه الأيام يُتَّهَم الإسلام دائما بأنه دين عدوانى يسارع إلى قتال أعدائه بل إلى قتلهم. ويشار فى هذا الصدد إلى قوله تعالى مثلا فى سورة “التوبة”: “قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسولُه ولا يَدِينون دينَ الحق من الذين أُوتُوا الكتابَ حتى يعطوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون” وقوله جل جلاله من ذات السورة: “فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلَّ مَرْصَد”. وفات من يشير إلى تينك الآيتين وأمثالهما قوله تعالى: “وقَاتِلُوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا. إن الله لا يحب المعتدين”، “وإن عاقبتم فعَاقِبوا بمِثْل ما عُوقِبْتم به. ولَإِنْ صبرتم لَهُوَ خيرٌ للصابرين”، و”إنْ جَنَحُوا للسَّلْم فاجنح لها وتوكل على الله”. 

كما أن آية سورة “التوبة” الأولى ليست فى الأمر بقتال أهل الكتاب من الباب للطاق، بل فى قتال الروم، الذين كانوا يعدون العدة للهجوم على المسلمين والقضاء على دينهم. أما الآية الأخرى من ذات السورة فهى فى المشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين معاهدات سياسية بالموادعة لمدة معلومة غدروا بالمسلمين بعد توقيعها بقليل وقتلوا منهم عددا دون أن يكون المسلمون قد أساؤوا لهم قط. ومع هذا فإن القرآن لم يقل للمسلمين: هيا اهجموا عليهم فى الحال. بل قال: أعطوهم مهلة أربعة أشهر يتنقلون فيها بطول البلاد وعرضها حسبما يحلو لهم دون أن تتعرضوا لهم بشىء. بل أوجب عليهم أنه متى أتاهم آت من الكفار يستجير بهم فليجيروه حتى يسمع كلام الله ثم فليبلغوه المكان الذى يأمن فيه على نفسه تمام الأمان. ثم بعد ذلك كله حين تنتهى مهلة الأشهر الأربعة فعاقبوهم وأذيقوهم من نفس الكأس التى أذاقوا منها إخوانكم المغدور بهم. ومع هذا فمبلغ العلم أن المسلمين لم يقتلوا أحدا من المشركين عندئذ، وكأن الآيات قد نزلت للترهيب وتحطيم الروح المعنوية لديهم ليس إلا. وعلى كل حال فقد تسارعت وتيرة الأحداث، وتم فتح مكة، ودخل المكيون فى دين الله، لينتشر الإسلام بعدها بإيقاع أسرع حتى عم ضياؤه بلاد العرب جمعاء. فأين العدوانية هنا؟ ولن نتكلم عن راية السلم التى ظل المسلمون يرفعونها طوال الفترة المكية أيام كان الاضطهاد والأذى يحيق بهم من كل جانب وفى كل لحظة.

ويؤيد ذلك ما ذكره رسول الله فى بعض أحاديثه كقوله: “لاتَتَمَنَّوْا لقاء العدو. فإذا لقيتموهم فاثْبُتوا”، إذ لو كان قتال غير المسلمين واجبا من الباب للطاق لكان تمنى لقاء العدو مكرمة لا يمكن أن ينهى عنها النبى عليه السلام. وفى واقعة الحديبية أعلن صلى الله عليه وسلم قائلا عن المشركين وتعنتهم معه هو وأتباعه: “والذى نفسى بيدِه لا يسألونى خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلَّا أعطَيْتُهم إيَّاها” مؤكدا أنه لن يبدأ أبدا بعدوان وأنه سوف يصابر المشركين إلى أبعد مدى. بل إنه، حين بلغه أن قريشا قد أقبلت تريد مقاتلته وصده عن زيارة البيت الحرام بالقوة الغشوم، أعلن قائلا: “إنَّا لم نجِئْ لقتالِ أَحدٍ ولكنَّا جِئْنا معتمرين. فإنَّ قريشًا قد نهَكَتْهم الحربُ وأضرَّت بهم. فإنْ شاؤوا مادَدْتُهم مدَّةً ويُخَلُّوا بينى وبيْنَ النَّاسِ: فإنْ ظهَرْنا وشاؤوا أنْ يدخُلوا فيما دخَل فيه النَّاسُ فعَلوا وقد جَمُّوا. وإنْ هم أَبَوْا فوالَّذى نفسى بيدِه لأُقاتِلَنَّهم على أمرى هذا حتَّى تنفرِدَ سالفتى أو لَيُبْدِيَنَّ اللهُ أمرَه”. فكما ترى فإنه عليه السلام حريص على السلم إلى آخر المدى، ثم الحرب عندما لا يكون من الحرب مناص. وقد تجلى ذلك فى المعاهدة التى كتبت بينه وبينهم، إذ قَبِل الشروط المجحفة التى أملاها المشركون على المسلمين، وساءت كثيرا من الصحابة، ومع هذا ظل الرسول على موقفه.

 

ثم لماذا، إذا كانت سياسة القرآن هى العدوان على المخالفين مهما كانوا له من المسالمين، كتب النبى عليه السلام صحيفة المدينة إرساءً لأسس التعايش السلمى بين فئات سكانها من أوس وخزرج ومهاجرين ويهود؟ لقد كان الأحرى به أن ينقضَّ على اليهود فور هجرته قبل أن يستفيقوا فيقضى عليهم بكل سهولة وسلاسة. ولماذا لم يقتل مشركى مكة لدن الفتح وما كانوا عليه عقيب ذلك من ضعف وتهافت بعد الهزيمة النكراء التى حلت بهم؟ لقد كانت كلمته لهم: “اذهبوا، فأنتم الطلقاء”، تلك الكلمة التى سكنت مسامع التاريخ ولم تغادرها منذ ذلك اليوم الخالد. وقد رفض صلى الله عليه وسلم ما ردده أحد الصحابة اليثربيين حين قال فى ذلك اليوم العصيب تعبيرا عن نيته فى تطيير رؤوس المكيين عند دخوله المدينة المقدسة: “اليوم يوم الملحمة. اليوم تُسْتَحَلّ الحرمة”، ونهاه عن ذلك، ونحاه عن القيادة فورا. وهذه الأمثلة تبين لنا وجوب الاستعانة على تفسير القرآن بالسياق الحديثى. 

 

ومن هذا الباب أيضا ما رواه المغيرة بن شعبة فى قوله: “لما قدمتُ نجرانَ سألونى فقالوا: إنكم تقرأونَ: “يَا أُخْتَ هَارُونَ”، وموسى قَبْلَ عيسى بكذا وكذا. فلما قدمتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سألتُه عن ذلك، فقال: إنهم كانوا يُسَمُّونَ بأنبيائِهم والصالحين قبلهم”، وإن كانت هناك رواية أخرى تقول إن ذلك التساؤل، أو بالأحرى: التشكيك، النجرانى إنما تم فى المدينة المنورة حين زارها نصارى المدينة اليمانية. يقصد صلى الله عليه وسلم أن أم المسيح ليست أختا لهارون على الحقيقة، لكنْ كان من عادة الإسرائيليين نسبتهم ناسا منهم إلى المشاهير الماضين من بنى جلدتهم رغم انتفاء صلات الدم بين الطرفين. وهو ما تقوله دوائر المعارف الكتابية من أن كلمات “أب وابن وأخ وأخت” كثيرا ما تستخدم فى الكتاب المقدس على نحو رمزى يدخل تحته بكل أريحيةٍ مناداةُ الإسرائيليين لمريم أم عيسى عليهما السلام بـ”يا أخت هارون” طبقا لما قاله رسول الله عليه الصلاة والسلام.

 

وهذا فيما يتعلق بالأمور الدينية وما أشبهها، وإلا فتفسير القرآن أَحْرَى أن يستعين بكل ألوان المعارف والعلوم والفنون من تاريخ وجغرافية وطب وفلك وكيمياء وفيزياء ونفس واجتماع وتربية ونحت وتصوير… إلخ. وقد كنت فى صغرى مثلا أمرّ على قوله تعالى فى سورة “الفجر”: “إِرَمَ ذاتِ العِمَاد * التى لم يُخْلَقْ مثلُها فى البلاد * وثمودَ الذين جابوا الصخر بالْوَادِ” فلا تستثير منى انفعالا ولا تُحَصِّل منى التفاتا، إذ كنت آنئذ لا أحقق معنى الكلام عن إِرَم ولا أفهم وجه تميز عمادها، كما لم أكن أتصور أن ثمود قد فعلت أكثر من إحداث فتحات بدائية فى الجبال وحولوا باطنها كهوفا ساذجة يسكنونها، إلى أن قرأت أن إرم كانت متقدمة فى فن العمارة حتى لقد كانت أعمدة مبانيها أضخم أعمدة فى زمنها. وبالمثل لم تكن ثمود تسكن مغاور وكهوفا وحشية فى جوف الجبال بل نحتت قصورا رائعة مزخرفة بديعة فيها مما لا يستطيعه كثير منا اليوم. وقد رأيت صورا لبعض تلك القصور فشُدِهْتُ لما شاهدت. والفضل فى هذا وذاك إنما يرجع إلى تقدم عِلْمَىِ التاريخ والجغرافية واكتشافاتهما المذهلة التى لا تتوقف. ومن هنا صككت شعارا علميا فى كتابى: “مسير التفسير” هو “كل العلوم فى خدمة التفسير”.

 

كذلك فقوله تعالى فى معرض الحديث عن خلق الجنين وأطوار تشكله: “يخلقكم فى بطون أمهاتكم خَلْقًا من بعد خَلْقٍ فى ظُلُماتٍ ثلاث” لا يمكن فهمه الفهم الصحيح الدقيق إلا عن طريق علم التشريح، فكما قرأت فى بعض المواقع العلمية: “يحاط الجنين فى داخل الرحم بمجموعة من الأغشية هى من الداخل إلى الخارج كما يلي‏:‏ غشاء السلى أو الرهل، (amnion) ‏ والغشاء المشيمى ‏(chorion)، ‏ والغشاء الساقط ‏(Decidua).‏ وهذه الأغشية الثلاثة تحيط بالجنين إحاطة كاملة فتجعله فى ظلمة شاملة هى الظلمة الأولى.‏ ويحيط بأغشية الجنين جدار الرحم‏,‏ وهو جدار سميك يتكون من ثلاث طبقات تحدث الظلمة الكاملة الثانية حول الجنين وأغشيته‏. ‏والرحم المحتوى على الجنين وأغشيته فى ظلمتين متتاليتين يقع فى وسط الحوض‏,‏ ويحاط إحاطة كاملة بالبدن المكون من كلٍّ من البطن والظهر‏، وكلاهما يحدث الظلمة الثالثة تصديقا لقول ربنا‏ تبارك وتعالى”.

 

وهناك قوله تعالى من سورة “فاطر”: “وما يستوى البحران: هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُه، وهذا مِلْحٌ أُجَاج.ٌ ومن كُلٍّ تأكلون لحمًا طريًّا وتستخرجون حلية تلبسونها”. ورغم أن الآية تقول بصريح العبارة: “ومن كُلٍّ (أى من كل من البحر الملح والبحر العذب، وليس من الملح فقط)… تستخرجون حلية تلبسونها” نقرأ فى تفسير الطبرى (القرن الرابع الهجرى): “يقول تعالـى ذكره: وما يعتدل البحران فـيستويان، أحدهما عَذْبٌ فُرَاتٌ، والفرات هو أعذب العذب، “وهذا مِلْـحٌ أُجَاجٌ”. يقول: والآخر منهما ملـح أجاج، وذلك هو ماء البحر الأخضر. والأُجَاج: الـمُرّ، وهو أشدّ الـمياه مُلوحة… وقوله: “وَمِنْ كُلَ تَأْكُلُونَ لَـحْماً طَرِيًّا” يقول: ومن كلّ البحار تأكلون لـحمًا طَرِيًّا، وذلك السمك: من عذبهما الفرات، وملـحهما الأجاج. “وتَسْتَـخْرِجُونَ حِلْـيَةً تَلْبَسُونَها”: يعنـى الدرّ والـمرجان تستـخرجونها من الـملـح الأجاج… وإنـما يستـخرج من الـملـح”. وفى تفسير أبى السعود (القرن العاشر الهجرى) نقرأ ما يلى: “قوله تعالى: “وَمِن كُلّ” أي من كلِّ واحدٍ منهما “تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا، وَتَسْتَخْرِجُونَ”، أي من المالحِ خاصَّةً، “حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا”…”. ويقول الشوكانى (القرن الثالث عشر الهجرى): “وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا: الظاهر أن المعنى: وتستخرجون منهما حلية تلبسونها. وقال المبرّد: إنما تستخرج الحلية من المالح. وروى عن الزجاج: أنه قال: إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا، لا من كل واحد منهما على انفراده، ورجح النحاس قول المبرّد”.

ويقول الطباطبائى (وهو مفسر معاصر) فى تفسير “الميزان”: “قوله: “ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها”. اللحم الطرى: الغض الجديد، والمراد لحم السمك أو السمك والطير البحرى. والحلية المستخرجة من البحر اللؤلؤ والمرجان والأصداف… فظاهر الآية أن الحلية المستخرجة مشتركة بين البحر العذب والبحر المالح، لكن جمعا من المفسرين استشكلوا ذلك بأن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من البحر المالح دون العذب. وقد أجابوا عنه بأجوبة مختلفة: منها أن الآية مَسُوقَة لبيان اشتراك البحرين فى مطلق الفائدة، وإِنِ اختصّ ببعضها، كأنه قيل: ومِنْ كُلٍّ تنتفعون وتستفيدون كما تأكلون منهما لحما طريا، وتستخرجون من البحر المالح حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر. ومنها أنه شبه المؤمن والكافر بالعذب والأجاج، ثم فضَّل الأجاج على الكافر بأن فى الأجاج بعض النفع، والكافر لا نفع فى وجوده. ومنها أن قوله: “وتستخرجون حلية تلبسونها” من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين، وإن اشتركا فى بعض المنافع، تفاوَتا فيما هو المقصود بالذات لأن احدهما خالطه ما خرج به عن صفاء فطرته. والمؤمن والكافر، وإن اتفقا أحيانا فى بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة، متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على صفاء الفطرة الأصلية دون الآخر”.

التتمة على الرابط:

https://omferas.com/vb/t58217/#post224072

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.