www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

هيــكل سليمـان المـزعــوم فـي عـلم الآثـار (الحلقة السادسة)/مصطفى إنشاصي

0

هيــكل سليمـان المـزعــوم فـي عـلم الآثـار (الحلقة السادسة)

تنوية: نعود لمواصلة نشر الحلقات حول القدس والأقصى بعد انقطاع لأسباب متعددة.

ونود اتنويه أن كل الحلقات التي يتم نشرها تحت عناوين متعددة

 

حسب موضوع الحلقة هي سلسلة لنفس الموضوع الرئيس وعنوانه الرئيس: “القدس والأقصى بين المزاعم الصهيونية وحقائق التاريخ الدين والتاريخ والواقع”، ذلك للتذكير وحتى لا يتظن البعض أنها موضوعات منفصلة عن بعضها؟
يقول المؤرخون المتأثرين بالروايات التوراتية: أنه عندما فتح داود u مدينة القدس عام 1000 ق.م، وكان اسمها “يبوس”*، نسبة إلى اسم ساكنيها وبُناتها اليبوسيين العرب نحو الألف الثالث قبل الميلاد، وجد اليبوسيين قد بنو هيكلاً لـ(لإله سالم) على أحد مرتفعات المدينة، على جبل “الثُريا”، ففكر داود في اقتباس هذا المظهر الديني عند اليبوسيين، إلا أنه ترك معبد المدينة كما لم يلتفت إلى تغيير اسم المدينة والذي لم يتأثر إلا بطبيعة اللهجة العبرانية[i].
ذلك الرأي بأن داود اقتبس فكرة (الهيكل) عن اليبوسيين، وأنه لم يغير اسم المدينة، لا يُعجب علماء الآثار كثيراً! لأنهم لا يشككون فقط في كثير من مواصفات (الهيكل) البنائية التي يزعمها عنه اليهود، بل إنهم ينفون أن يكون نبيي الله داود وسليمان عليهما السلام قد بنيا (هيكلاً) في الأصل على أحد جبال مدينة القدس، حتى يكون هو نفس الجبل الذي يقوم عليه المسجد الأقصى حالياً، وبالمواصفات التي يتحدث عنها اليهود! ما يعني أن مزاعم اليهود عن (الهيكل) وغيره ما هي إلا محض خرافة وخيال، وعملية تزييف وتزوير للوعي والحقائق التاريخية، ومحاولة لبيع الوهم حقيقة! ذلك ما سنعرض له في هذا الفصل، ونناقش مع علماء الآثار بأدلتهم مدى صحة مزاعم اليهود عن تلك المواصفات البنائية لـ(لهيكل).
وقد لا يعلم الكثيرين أن علم الآثار قد تأسس في البدء من أجل البحث عما يسمونه (جغرافية التوراة)، بهدف إثبات صحة خرافات وأساطير التوراة المحرفة عن الشعوب والأقوام القديمة، ولإضفاء الشرعية الدينية والتاريخية على مزاعم وادعاءات اليهود الصهاينة الدينية والتاريخية في وطننا، وقد كانت مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى أحد أهم المجالات التي اهتم بها علماء الآثار في فلسطين، بل وكان العثور أي دليل يمكن أن يثبت صحة خرافة (هيكل) سليمان المزعوم، هو المهمة الرئيسة لبعثات الآثار وعمليات التنقيب الأثرية التي بدأ إرسالها إلى فلسطين منذ عام 1838. كما أنه كان هدف تأسيس ما عُرف باسم “صندوق اكتشاف فلسطين”، الذي أسسه اللورد النصراني البريطاني المُتهود شافتسبوري ستينيات القرن التاسع عشر، هو تتبع رحلة إبراهيم وموسى عليهما السلام حسب روايات التوراة، وتحديد حدود الأرض التي أعطاها رب اليهود “يهوه” لـ(شعبه المختار)، واكتشاف الأرض الصالحة للزراعة ومصادر المياه، لتكون أول الأراضي التي يتم اغتصابها بعد إطلاق المشروع الصهيوني.

1 ـ التشكيك في الهيكل من حيث المساحة
من المعلوم عند دارسي تاريخ فلسطين أن المذابح والهياكل المتواضعة التي كان سكان فلسطين يقدمون فيها قرابينهم وذبائحهم لآلهتهم، كانت منتشرة وشائعة في كل مكان، وكانت تقليد (كنعاني) قديم قبل سكنى بني إسرائيل في فلسطين. ما يعني أن اليهود اقتبسوا ذلك التقليد الكنعاني عندما سكنوا فلسطين وطغى على عقيدتهم التحريف وعبدوا آلهة سكان فلسطين. يقول المؤرخ (ول ديورانت): أن اليهود كانوا “يقدمون قرابينهم لـ(يهوه) في هياكل محلية أو في هياكل ساذجة فوق التلال”. وتلك كانت عادة متبعة عند (الكنعانيين). أما عن مساحة (الهيكل المزعوم)؛ فيقوله: “ولم يكن هذا (الهيكل) كنيسة بالمعنى الصحيح، بل كان سياجاً مربعاً يضم عدة أجنحة ولم يكن بناؤه الرئيس كبير الحجم، فقد كان طوله حوالي مائة وأربعة وعشرين قدماً، وعرضه حوالي خمسة وخمسين، وارتفاعه اثنين وخمسين، كما أنه كان في نصف طول البارثنون”. ويضيف “أن (هيكل) سليمان كان بمثابة معبد خاص ملحق بقصر سليمان، فقد كانت مساحة جناح واحد في القصر تعدل أربعة أضعاف مساحة (الهيكل) كله”[ii]. ذلك يعني أن (هيكل) سليمان كان مذبحاً ومكان عبادة خاص بسليمان عليه السلام، وأنه لم يكن مذبحاً ولا مكان عبادة عام لكل اليهود.
ولا يختلف ما قاله المؤرخ (ويلز) عما قاله ول ديورانت حول زعم اليهود عن حجم ومساحة (هيكل) المزعوم، فقال: “فلو أنا استخرجنا من القصة أطوال معبد سليمان لوجدنا أن في الإمكان وضعه داخل كنيسة صغيرة من كنائس الضواحي”[iii]. أما (محمد الزعبي) فقد اعتبره أكذوبة اعتاد اليهود على ترويجها، “لأن مساحة (الهيكل) لا تحتمل ذلك العدد الذي ادعاه اليهود ـ ثلاثمائة ألف عامل ولمدة سبع سنين ـ وأن عقلاء المؤرخين يجزمون أن (الهيكل) في عهد سليمان لا يحتاج لأكثر من بضع عمال لبضعة أسابيع”[iv].
كما أن الأثري الفرنسي (دى سولسي) أجرى مقارنة بين أطوال أضلع كل من الحرم القدسي الشريف و(هيكل) سليمان المزعوم ومدينة داود الأسطورية، وتبين له عدم صدق روايات التوراة التي تدعي {أن (الهيكل) الذي بناه سليمان كان في داخل سور يحيط بكل جبل (الهيكل)، بدليل أن (الهيكل) الذي بناه اليهود بعد عودتهم من السبي البابلي في المكان نفسه، وبعد سليمان بنحو خمسمائة سنة أُخرى، كان يحيط به سور أيضاً، وكذلك (الهيكل) الذي عَمره هيرودوس بعد ذلك بخمسمائة سنة أخرى، ثم الحرم الإسلامي الشريف الذي قام أخيراً في المنطقة نفسها الذي كان ملكي صادق يدعو فيها باسم الله العظيم. ويبدو أن السور الذي كان يحيط بمنطقة الهيكل على أيام سليمان، كان مربعاً طول ضلعه مئة وثمانون متراً “فتكون مساحة ما يحيط به السور نحو ثمانية أفدنة إلا ربعاً”. وبهذه المناسبة يذكر (دى سولسي) مقاييس الحرم الإسلامي الشريف، في نفس المنطقة وفي العصر الحديث كما قاسها هو بنفسه: الضلع الشرقي لسور الحرم طوله 384 مترا ًوالضلع الجنوبي طوله 225 متراً، ثم يمتد الضلع الغربي بزاوية منفرجة وبخط غير مستقيم، بحيث يكون الضلع الشمالي من السور أطول بكثير من مقابله الجنوبي وينبني على ما ذكره دى سولسي أن تكون مساحة الحرم الشريف أكثر بكثير من ضعف مساحة جبل(الهيكل) داخل أسوار سليمان، أو نحميا، أو هيرودوس. ودليل آخر على أن الحرم القدسي لم يبنَ مكان (الهيكل) كما يقول دى سولسي، هو: أن الحرم الإسلامي الشريف مستطيل، واتجاهه من الشمال إلى الجنوب “في اتجاه القبلة بمكة المكرمة”، أما معبد سليمان فهو مستطيل اتجاهه من الغرب إلى الشرق “نحو الشمس” وهو الاتجاه العام في المعابد القديمة في بابل، أو مصر، أو غيرهما من أقطار الشرق الأدنى والأوسط}[v].
هذا الزعم الأول عن مساحة الهيكل قد سقط ونفى علماء الآثار صحته، ما يؤكد خرافة وأسطورة الهيكل في الفكر اليهودي.

2 ـ التشكيك في الهيكل من حيث الحجارة
أما عن الحجارة التي بني بها (الهيكل) لنرى ما يزعمه كتبة أسفار التوراة عنها! يقول النص التوراتي: “وتم بناء الهيكل بحجارة صحيحة اقتلعها العمال ونحتوها في مقالعها، فلم يسمع في الهيكل عند بنائه منحت ولا معول أو أي أداة حديدية” (سِفر ملوك الأول:6/7). ومن المبالغات التي روج لها اليهود عن (الهيكل المزعوم) والتي لا يصدقها العقل، ما يرويه المطران (يوسف الدبس) عن المؤرخ اليهودي في القرن الأول الميلادي (يوسفيوس) معلقاً على وصفه حجارة (الهيكل): “من أغرب ما يسمع به الإنسان أن طول الحجر 60 ذراعاًَ وعرضه 20 ذارعاً”[vi].
قبل أن نذكر ما قاله علماء الآثار عن تلك المزاعم اليهودية عن حجارة حجم (الهيكل المزعوم) دعونا نسأل مع الأستاذ (حسن الباش)، ما الذي يعنيه هذا النص (التوراتي)؟ ماذا يفيدنا إذا ما وضعناه في سياق علم الآثار والجيولوجيا؟ ويجيب: “بأن مثل هذه الحجارة لا تكون بهذا الشكل وهذه الكثافة إلا إذا كانت مشيدة في أبنية ضخمة سبق وجودها وجود أتباع سليمان، والطبقات الصخرية والجيولوجية تدل بشكل قاطع على أن الحجارة التي افترضوا أن سليمان بنى (هيكله) بواسطتها ليست بعيدة العهد عن عصر سليمان. ومن المسلمات الآثارية أن الأقوام التي تخلف الأقوام السابقة عليها تستخدم حجارة بيوتها في بناء بيوت جديدة. ولكن الواقع يقول، وهذا أيضاً ما نصت عليه التوراة، أن اليبوسيين العرب سكان القدس لم يتركوا بيوتهم وقصورهم”[vii].
والحقيقة التي يؤكدها الأثريون عن حجارة حائط البراق ـ السور الغربي للمسجد الأقصى ـ الذي يسميه اليهود (حائط المبكى) ويدعون أنه من بقايا (هيكل) سليمان u، لا تبتعد كثيراً عما قاله الأستاذ حسن الباش، وهي: “أن حائط المبكى الذي يجاور الأثر ليس بقية من معبد سليمان مطلقاً ولكنه من معبد هيردوس، ومن الواضح أن بناءه وتصميمه من النموذج الروماني تماماً، على ما يقرر الأثريون”[viii]. فقد أدخل الرومان إلى فلسطين “أحجار المغليث الثقيلة (أحجار ضخمة) وذلك لبناء الأبنية التذكارية العامة، وبنوا بها الهياكل والحصون و المسارح والحمامات والأضرحة. إن العديد من الأبنية التذكارية كالتي توجد في القدس (حائط المبكى) أو ما يسمونه بروج داود، ليس سوى أعمال رومانية. وبنيت من تلك الحجارة الطرق التي أخذت تصل القرى بالمدن ووضع عليها الصوان (أحجار معالم على الطريق)”[ix].
وهذا النفي لصحة مزاعم التوراة عن مواصفات الحجارة التي بني بها (هيكل) سليمان يؤكد أسطورية تلك المواصفات ومجافاتها للحقيقة التاريخية، ويؤكد أنهم كما اغتصبوا وسرقوا تاريخنا الفلسطيني فإنهم يريدوا أن يسرقوا واقعنا ومعالمنا التاريخية والحضارية في القدس والأقصى! وذلك ما سيكشف المزيد منه النقطة التالية.

* لسنا هنا بصدد إثبات إن كان اسم اليبوسيين نسبة إلى اسم جدهم الأعلى (يبوس) أو مشتق أو منسوب إلى مصدر آخر.
[i] عبد الرحمن عرفة: القدس تشكيل جديد للمدينة، سلسلة دراسات “صامد الاقتصادي” (26)، الكرمل صامد، عمان، الطبعة الأولى، 1986م، ص23.
[ii] ول ديورانت، قصة الحضارة، الشرق الأدنى، ترجمة محمد بدران، المجلد الأول، الجزء الثاني، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، (بلا رقم الطبعة)، (بلا سنة الطبع)، ص334، 335، 336.
[iii] هو هربرت جورج ويلز، موجز تاريخ العالم، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، مراجعة محمد مأمون نجا، كتاب وزارة التربية والتعليم بمصر (1000)، مكتبة النهضة المصرية، (بلا رقم الطبعة)، (بلا سنة الطبع)، ص93.
[iv] محمد علي الزعبي، مرجع سابق ص100.
[v] حسن ظاظا “دكتور”، القدس مدينة الله.. أم مدينة داود؟، كتب قيمة (20)، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1418هـ-1998م، ص122-124.
[vi] الصهيونية بين تاريخين “قسمين”: القسم الأول-السفير عبد الله النجار، القسم الثاني،-الدكتور كمال الحاج، الطبعة الأولى، كانون الثاني /يناير 1972م، دار العودة ، بيروت، ص16.
[vii] حسن الباش، مرجع سابق، ص55
[viii] رجاء جارودي، مرجع سابق، ص248
[ix] تطور المجتمع الفلسطيني عبر العصور (250.000 ق.م-1948 ب.م)، لجنة حفظ وإحياء التراث الفلسطيني، منظمة الشبيبة الفلسطينية، مطبعة المدينة، الرياض، 1980م-1400هـ، (بلا رقم الطبعة)، ص32.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.