www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

لا تفكر، ولا تحاول حتى أن تفهم.. الأساطير والخرافات ”أَرْيَح” (!!)/أسامة عكنان

0

 

لا تفكر، ولا تحاول حتى أن لا تفكر، ولا تحاول حتى أن تفهم.. الأساطير والخرافات ”أَرْيَح” (!!)

 

 

مدخل إلى الموضوع

 

لم أسمع يوما في أي حديث عن فكرة “المؤامرة”، من يفرق بين “فعل المؤامرة” في ذاته،

 

وبين “ذهنية المؤامرة” (!!) كما لم أصادف مَنْ فَرَّقَ خلال حديثه عن المؤامرة بين “المؤامرة”

 

وبين “الخطة المضادة” (!!) فالكل يخلط بين تلك المفاهيم غير المتطابقة على الإطلاق (!!)

 


 

 

 

فمن أراد أن يقرر وجود وعمق المؤامرة، استشهد بكل الأفعال التي يُعتبر الإيمان بوجودها وحدوثها في ذاتها أمرا عاديا، وليس تجسيدا لذهنية المؤامرة، مستنتجا وجود المؤامرة من خلال عدم إدراكه لحقيقة أن ما أورده هو سرد للخطة المضادة للآخر في سياق إفشال خطتنا أو القفز عليها أو إجهاضها.. إلخ. وهذا أمر لا علاقة له بالمؤامرة إطلاقا، ولا يجسِّد ذهنية مؤامرة عندما نفكر ونستشهد به (!!)

 

وهذا الطرف المستشهد بهذا الصنف من الأفعال، ولأنه فهم أنها هي المجلِّيَة لفكرة “المؤامرة”، فقد تاهت لديه الأمور، واضطربت لديه البوصلة، فأصبح بالنسبة له ما يندرج في بند “ذهنية المؤامرة” – ولأنه لا يمتلك أرضية التفريق بين المفاهيم الملتبسة والمتشابكة كالتي نحن بصددها – هو ذاتُه وما استشهدَ به أمرٌ واحد، فزلَّ وأخطأ وضلَّ الطريق بأن عمَّمَ ولم يخصِّص، ووحَّد ولم يفرِّق (!!)

 

في المقابل، فإن الطرف الذي أراد أن ينفي “ذهنية المؤامرة” بمحاولة تفنيده الأحداث التي يعتبرها تجسِّد هذه الذهنية وتُجليها، دون أن تكون واضحة لديه هو أيضا، الفوارق بين المصطلحات والمفاهيم التي أوردناها، وهي “المؤامرة” و”الخطة المضادة” من جهة، و”المؤامرة” و”ذهنية المؤامرة” من جهة أخرى، فقد وجد نفسه لا يملك ردا على من يواجهه بأفعالٍ حقيقية حصلت، يصفها موردها والمستشهد بها بالمؤامرة، دون أن يقدر هو – صاحبنا – على استكناه الفرق بينها وبين ما يعتبر أنه “ذهنية مؤامرة” (!!)

 

ولهذا السبب وجدتني مدفوعا إلى الرغبة في توضيح الفروق بين هذه المصطلحات التي تغيب عن الكثيرين حتى من الحاذقين (!!)

 

“المؤامرة لغة” غدت مع مرور الزمن واختلاف الاستخدامات، تختلف عن “المؤامرة اصطلاحا”، بعد أن تطور هذا المصطلح وتغير متماهيا مع ما راح يصبغه عليه مستخدموه من معاني أرادوها له. 

 

إن المؤامرة في فضائها اللغوي: 

 

“هي كل فعل يجسِّد واقعيا نيةً انطوت على الرغبة في إتيان فعل الإضرار بالغير والإساءة له، أو على الرغبة في إتيان فعلِ إفشال ضرره وإساءته التي عرفنا أو توقعنا أنه يضمرها لنا، بضرر مضاد من قبلنا”. 

 

فيقال مثلا: “ائتمر فلان وفلان على أن يفتكا بعلان، ووضعا خطة لذلك كي ينفذا المؤامرة ولا ينكشف أمرهما”. 

 

أو كما قال الله في الآية العشرين من سورة القَصَص: “وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى. قال: يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك. فاخرج إني لك من الناصحين”. أي أن الملأ كانوا يتآمرون لقتله، أي بمعنى أوضح: أنهم ينوون قتله، فراحوا يفكرون ويخططون لارتكاب جريمة القتل هذه. 

 

أو كأن نكون نعاني من حصار العدو لنا، فنفكر في طريقةٍ للتخلص من حصاره، فنجد أن أفضل سبيل إلى ذلك هو الوصول إلى خطوطه الخلفية بجواسيس ينتحلون شخصيات جنوده، وقتل عدد منهم في المؤخرة.. إلخ، أي أننا نأتمر بعدونا لتشتيته، كما فعل الرسول عليه السلام في معركة الخندق، عندما أذن لـ “نُعَيْم بن مسعود” بالتآمر على بني قريظة وعلى قريش وغطفان بأيِّ طريقة وبأيِّ خدعة ليُخَذِّلَ عن المسلمين المحاصرين بين فكي كماشة. 

 

فمن أرادوا قتل موسى، متآمرون، ومن يفكر في سرقة شخص إثما وعدوانا متآمر، وما فعله “نُعَيْم بن مسعود” فأفشل بموجبه الحلفَ بين اليهود والمشركين في الأحزاب، هو مؤامرة بهذا المعنى.

 

هذا هو السياق اللغوي التاريخي الطبيعي الذي استخدمت فيه هذه الكلمة. إنها إضمار الإضرار أو الإساءة لشخص أو لأكثر من شخص، والتخطيط وترتيب الأمور بما يساعد على تجسيد هذه النية المُضْمَرَة بالإضرار في الواقع، بصرف النظر عن السياق الذي تتجسَّد فيه هذه الحالة، هل هو سياق اعتداء، أم سياق دفاع عن اعتداء. فكل ذلك ائتمار وتآمر ومؤامرة. 

 

وبالتالي فالمؤامرة بهذا المعنى ليست مفهوما ينطبق عليه معنى السلب أو الإيجاب، أو معنى الخير أو الشر، لأنها مجرد صفة لطبيعة فعلٍ، ولنمط تفكيرٍ، من حيث علاقة طرف بطرف في سياق المواجهة أو المنازلة أو الصراع.. إلخ.

 

فكما أن اليهود تآمروا هم والقرشيين والغطفانيين، على المسلمين في معركة الأحزاب، فإن المسلمين تآمروا عليهم جميعا لإفشال مآمرتهم، ونجحوا في ذلك، وفشلت مؤامرة اليهود وحلفائهم. وبالتالي فالمؤامرة هنا وفي هذه السياقات وبهذه المعاني، عندما نريد أن نحولها إلى مصطلح سياسي أو إستراتيجي.. إلخ، نستطيع القول بأنها تنفيذ لخطة مضادة لخطة الخصم أو للطرف المستهدف، بغرض تحقيق أهدافنا تجاهه، مشروعة كانت هذه الأهداف بالمقاييس الأخلاقية أو غير مشروعة، ومشروعة كانت الخطة المضادة أخلاقيا أو غير مشروعة. فليست “الأخلاقية” من عدمها هي التي تحدِّد ما إذا كان ذلك الفعل “مؤامرة” أو لا.

 

إذن فالمؤامرة اصطلاحا، وفي فضاء دلالاتها اللغوية، ليست شرا في ذاتها كنظام للفعل يربط النية بالسلوك للإضرار بالغير، وليس بالضرورة أن يمارسها الأشرار فقط، وليست بالضرورة اعتداء على الآخر، بل قد تكون خيرا، وقد تكون دفاعا عن عدوان، والأمثلة التي تثبت ذلك من الواقع أكثر من أن تحصى أو تعد. 

 

ومن هنا جاءت كلمة “المؤتمر” الذي يجمع أشخاصا يحاولون تجسيد نواياهم على شكل أفعال موضوعية، بصرف النظر عن الخير والشر في المؤتمر. 

 

فمؤتمر “أم قيس” مؤتمر، والمجتمعون فيه مؤتمرون أو بمعنى لغوي متآمرون على الخطة الهاشمية البريطانية العدائية. ومؤتمر “بازل” الصهيوني، هو أيضا مؤتمر، والمجتمعون فيه مؤتمرون أو متآمرون على الحقوق العربية في فلسطين وفي غير فلسطين. 

 

ومن أراد أن يعتبر “المؤامرة” اصطلاحا، هي فقط ما كان عدوانا، والمتآمرون أو المؤتمرون هم الأشرار فقط، عليه أن يبحث عن مصطلحات أخرى غير “المؤتمر” لوصف اجتماعاتٍ مثل “مؤتمر أم قيس”، و”مؤتمر الصومام” الذي حدَّدت فيه الثورة الجزائرية في عام 1955 وجهتها في ضوء المتغيرات التي أعقبت اندلاع الثورة المجيدة.. بل وآلاف المؤتمرات الخيّرَة في ذاتها وفي أهدافها، وعلى رأسها كافة المؤتمرات التأسيسية للأحزاب وللنقابات وللاتحادات والجمعيات الخيرية.. إلخ، مع أننا لا ندري بماذا سيصف أفعالها التي كانت تمارسها لتنفيذ مآربها وأهدافها غير أنها “مؤامرات” بالمعنى اللغوي الصرف.

 

أما إذا انتقلنا إلى مصطلح “ذهنية المؤامرة” فإننا سنجد أنفسنا أمام فضاء آخر مختلفٍ تماما عن السابق، وعندما نتبين مكوناته وأبعاده، سنكتشف حجم الخطيئة التي ارتكبناها في حق المعرفة، وفي حق السياسة، وفي حق الوعي، لماَّ خلطنا الحابل بالنابل، ولماَّ لم نفرِّق بين “حانا” و”مانا” (!!)

 

فإذا كان التآمر شيئا طبيعيا وليس فيه ما ينطوي على خروج على المنطق والناموس، لأن المتآمرين لا يستطيعون تجسيد نواياهم وقراراتهم التآمرية أيا كانت – خيِّرة أم شريرة – بدون أن يلتزموا بالناموس ومُخرجاته، وبقوانين الطبيعة والوجود التي أرساها الله في هذا الكون، كي تَحْدُثَ فيه الحركة وفقها وبموجبها، وليس قفزا عليها أو بدون الخضوع الكامل لها.. نقول.. إذا كان التآمر ذاك، شيئا طبيعيا، فإن ذهنية المؤامرة هي تلك الحالة التي تحكم الإنسان في فهم الظواهر التي تحدث أمامه، إما حين يكون عاجزا عن تفسيرها، وإما حين يكون متلَبَّسا بعقيدة معينة تُحيل الكثير من ظواهر التاريخ إلى تبريرات لا يستطيع استحلابها من الواقع ولا مشاهدتها في سيرورته وحركته، على النحو الذي يتلبَّسُه، فيهرب من كل هذا إلى التفكير على ذلك النحو الذي نطلق عليه “ذهنية المؤامرة”.

 

فما هي هذه الذهنية (؟) وكيف تتكون (؟) وما هو مردودها الكارثي على من تسيطر عليه (؟)

 

يجب أن نفرق حين التحدث عن مواجهةِ ومناجزةِ مشروعٍ تاريخي أو مجتمعي معين نصِفُه بالإيجابية والتقدمية والاستجابة للتطلعات المجتمعية المنسجمة مع الحقِّ حريةً وعدالةً، بين ثلاثة أشكال لهذه المواجهة هي: 

 

الشكل الأول.. المواجهة والمناجزة بمشروع تاريخي مضاد لهذا المشروع التقدمي الإيجابي. 

 

الشكل الثاني.. المواجهة والمناجزة بأعمال مجتزأة تحاول استهدافَ هذا المشروع التقدمي الإيجابي في بعض جوانبه لإرباكه. 

 

الشكل الثالث.. المواجهة والمناجزة بفكرة قائمة على ادعاء أن ذلك المشروع التقدمي الإيجابي ذاته هو نتاج فعل تخريب قامت وتقوم به أطرافٌ معادية، وأن الإيجابية فيه مجرد خدعة تختبئ وراءها نية التخريب والإضرار والإساءة. 

 

فالشكل الأول من أشكال مواجهة المشروع التقدمي الإيجابي، قد يهزمه، لأنه يتعامل معه بندِّيَّةٍ قائمة على توظيف الناموس المضاد، بعيدا عن الأوهام والأساطير التي يظن معتنقوها أنها قادرة على إيقاف “التسونامي” بعصا سحرية تنفث فيها الشياطين سمومها من فوق السحاب!! 

 

أما الشكل الثاني من أشكال مواجهة ذلك المشروع فهو نوع من المضايقة لحركةٍ لم تكتمل، بهدف إجبارها على بعض التنازلات أو التغييرات في مسار الحركة. وهذا قد يفشل – غالبا – في تحقيق أهدافه المعرقِلَة، لأن الحركة المجتمعية عندما تحدث في سياقٍ تاريخي موضوعي، تكون أكبر من البعوضة التي تحاول مضايقة الدب العملاق وهو ينقض على فريسته.

 

أما الشكل الثالث من أشكال مواجهة المشروع التقدمي الإيجابي، فهو محاولةٌ لتفريغِ الحدث والفعل المجتمعي التاريخي من مضمونه الإيجابي والتقدمي، بنسبة حدوثه وأصوله وجذوره إلى نوعٍ من الأفعال الخفية التي تغلب عليها الغرائبية والطلسمية والغموض وعدم اليقين، والتي تُضْمِرُ الهدمَ والإفسادَ، من خلال الإيهام بالبناء والإصلاح، بهدف إغراقنا في النفور مما نحسبه خيرا، من خلال إيهامنا بوقوف الشر وراءه ليقفز من خلاله إلى ما يريده.

 

الحالتان الأولى والثانية لا تنطبق عليهما أيُّ مفاهيم لـ “ذهنية المؤامرة” التي يتم الحديث عنها عند المنعطفات التاريخية والأحداث المجتمعية الكبرى، لأنهما حالتان طبيعيتان. فلكل مشروع تاريخي مشروع تاريخي مضاد له يعمل على إفشاله على قاعدة تناقض مصالح المشروع الجديد مع مصالح المشروع المضاد هذا. وعملية الإفشال هذه قد تكون منظمة ومتكاملة، فتتخذ طابع المشروع المضاد المتكامل، وقد تكون ارتجالية وغير مكتملة العناصر، فتتخذ طابع الاختراق الذي لا يستهدف سوى إحداث عمليات إرباك للمشروع الجديد لإشغال القائمين عليه، على أمل تمَكُّن مثل هذه الاختراقات والعمليات المربكة من التأثير على المشروع التقدمي الإيجابي بإدخاله إلى أنفاقٍ قد تُفْشِلُه أو تحرِفُه بأيِّ مستوى من مستويات الإفشال أو الحرف.

 

الحالة الثالثة فقط هي التي يمكننا أن نتحدث فيها عن “ذهنية المؤامرة” التي تقوم على الحديث عن فعلِ شرٍّ يقف وراءَ فعل الخير الماثل أمامنا، لا يمكن أن يكون لها معنى إلا إذا جاءت في سياق وصف ظاهرة مجتمعية أو منعطف تاريخي إيجابي في ذاته، بأنه نتاج فعل سلبي لأصحاب أجندات غير إيجابية ومعادية، في محاولات لإفقاد هذا المنعطف أو هذه الظاهرة أيِّ قيمة تقدمية، بهدف نشر حالة من التشكيك فيهما والإحباط منهما.

 

ومن ذلك مثلا العمل على ربط الثورات المجتمعية التي غيرت التاريخ، أو التي أحدثت اختراقات مجتمعية كبرى على قدر من الأهمية الإيجابية ضمن سيرورة الناموس الكوني الطبيعي، بمؤامرات نفذتها فئات معادية للسيرورة التقدمية للتاريخ وللشعوب.. إلخ. كما حدث في التاريخ عندما تمَّ الترويج لاعتبار الثورة الفرنسية وقبلها الإنجليزية وبعدهما البلشفية، بأنها جميعها نتاج تآمر مجموعات من اليهود. وكما يتم الترويج في هذه الأيام، لفكرة أن الانتفاضات العربية، وما يحدث في الدول العربية من تغييرات، هو نتاج مؤامرات خارجية وأجندات مشبوهة مرتبطة بأعداء الأمة من إمبرياليين وصهاينة ووظيفيين، دون محاولة فهم هذه الظواهر في سياق السيرورة التاريخية التي يمكننا أن نفهم في ضوئها طبيعة الفعل التاريخي التقدمي الإيجابي الصاعد الذي يوجد من يحاول اختراقه والقفز عليه والاستفادة منه وتجييره لمصالحه ولأجنداته الخاصة. 

 

تنتشر الأفكار المُكَرِّسَة للنزعة التآمرية “ذهنية المؤامرة”، في ثقافتنا أكثر ما تنتشر في الدراسات المتعلقة باليهود، عبر آلاف الكتب التي تتحدث عن “اليهودية العالمية”، و”الماسونية المجهولة”، و”حكومات العالم اليهودية الخفية”، وعن أن الدول والشعوب والثورات والقوى المحركة للتاريخ ما هي إلا “أحجار على رقعة شطرنج” يحركها هؤلاء “اليهود”، وعن مؤامرات تجلت في كتب خطيرة أحيطت بهالات من الغموض والغرائبية، مثل “بروتوكولات حكماء صهيون”.. إلخ. 

 

إلى درجة أن خرج علينا من يريد لَيَّ عنق التاريخ والقانون والناموس والسنن، فينسب ثورات غيرت وجه العالم ومسار التاريخ، حدثت في مختلف بقاع الأرض، إلى مجموعة من اليهود كانوا يجتمعون لهذا الغرض، مرة في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر، ومرة في بريطانيا في منتصف القرن السابع عشر، ومرة في روسيا القيصرية في بداية القرن العشرين، ومرة في الولايات المتحدة عند الاستقلال وعند الحرب الأهلية، وعند كل منعطف تاريخي صنعه الأميركان تحت ضغط متطلبات التطور الطبيعي لبلدهم، بل حتى في الصين نفسها قبل الثورة الماوية أواخر أربعينيات القرن العشرين. إلى أن أتحفنا هذا الصنف من قارئي التاريخ والأحداث مؤخرا باكتشافه الخطير أن الانتفاضات التي فجرها ملايين الشباب العرب، في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا والبحرين وغيرها من الدول التي تعتصرها إرهاصات ذلك، ما هي إلا فصول في مؤامرةٍ محكمة حاكها صحفي يهودي كان يتجول بين الجبال والغابات، ويحاور المقاتلين في هذا المكان أو في ذاك، متحركا ضمن خطة استخبارية وضعت لنشر الشر من خلال الإيهام بالخير(!!!) 

 

فلنحاول تحليل ظاهرة الحضور الاستغراقي لذهنية المؤامرة، في بعض نماذج الأحداث المفصلية والهامة في التاريخ ماضيا وحاضرا، كي نستوضح عمق الكارثة التي تحول بيننا وبين فهم الأمور على حقيقتها عندما تسودنا هذه الذهنية بمعانيها التي ذكرناها، غارقين من ثمَّ في ذلك الخلط العجيب بين مفهوم “المؤامرة” و”التآمر” أو “الائتمار” الطبيعي، واللاشرير، وغير المتعارض مع طبائع الأمور في ذاته، وبين “ذهنية المؤامرة” التي هي تجسيد لكل معاني العجز والفشل في الفهم والوعي والإدراك، فضلا عن العجز في الفعل والأداء والممارسة.

 

 

 

أ – تجلي ذهنية المؤامرة في تضخيم تأثير اليهود في صناعة التاريخ

 

لقد أتيحت لي فرصة قراءة عدة مئات من الكتب التي تُسَطِّرُ تاريخ العالم بعقلية المؤامرة التي تنسبها في الغالب إلى ثلة من اليهود الذين لا يُشق لهم غبار، والذين يملكون من القدرات ما يُمَكِّنُهم من تحريك العالم برؤوس أصابعهم وهم جالسون في غرفهم المظلمة، وكأن العلم والمعرفة والعلماء والتاريخ والأنبياء والمصلحين والفلاسفة، بل والرب نفسه، والكون العظيم الذي خلقه بكل هذا الإبداع، والحياة التي تجلَّت فيها قدرته، والعقل الإنساني الذي جسَّد قمة إبداعاته، ليست أكثر من هراء وأوهام لا قيمة لها أمام حقد مجموعة من المجرمين هيِّئَ للواهمين من معتنقي الأساطير وعاشقي العجز أن بإمكانهم تغيير العالم. وفي هذا الشأن يمكنني أن أزعم أنني ما تركت كتابا ذا شأن في المسألة يقع بين يدي إلا واطلعت عليه، وعرفت ما فيه وما يريد قوله. ولقد توصلت في نهاية المطاف، وبعد كل هذه الرحلة الطويلة والمضمنية في هذا العالم الغامض إلى النتائج التالية:

 

1 – نسبة توثيق المعلومات في تلك المصادر كلها وبلا استثناء تكاد تكون معدومة، إذا ما قيست بالتوثيق في مناهج البحث العلمي المُحَكَّمَة، بل وحتى ذات مستوى التحكيم المتواضع. وبالتالي فهي جميعها كتب لا يعتد بها علميا، ويعتبر الباحث الذي يستند إليها وهو يعرف أسلوبها في تناقل المعلومات، باحثا مشكوكا في قدرته، ومطعونا في نزاهته، وينظر إليه على أنه يبحث عما يثبت أمانيه ورغباته، أكثر من بحثه عن إثبات الحقيقة العلمية. فكل تلك الكتب يأخذ بعضها عن البعض الآخر، فقد نجد كتابا منها مليئا بالهوامش والمراجع إلى درجة نندهش معها مما نعتبره توثيقا ومرجعيات. ولكننا لو رجعنا إلى كل واحد منها على حده لوجدناه يعتمد على باقي المراجع نفسها. وبشيء من التحليل والتمحيص وبذل الجهد العلمي، سنكتشف أن كل هذه المراجع تتركنا ندور في حلقة مفرغة من انعدام التوازن العلمي والمعرفي، ليتبين لنا في نهاية المطاف، أن أوثق المعلومات وأكثرها يقينا من بين كل ما سنجده فيها، هي تلك المنسوبة فقط إلى الكتب السماوية “القرآن” و”التوراة” و”الإنجيل” بوصفها مراجع متفق على نصوصها بين أتباعها، بصرف النظر عن صحة نسبتها إلى مصدرها الذي هو “الله”، فهذه مسألة أخرى ليست محلا لموضوعنا الذي نحن بصدده. 

 

ولأوضح المسألة أكثر سأضرب مثالا بسيطا يصور الحالة على حقيقتها، وما علينا إلا أن نسحبها عليها لنتصور حجم التيه في المسألة. فلنفترض أن لدينا ستة كتب هي “أ” و”ب” و”ج” و”د” و”ه” و”ك” من تلك التي تكرس وترسخ فكرة المؤامرة فيما يتعلق بتاريخ اليهود. عندما نقرأ الكتاب “أ” نجده يرجع إلى الكتب “ب” و”ج” و”د” و”ه” و”ك”، هذا حسنٌ وجميلٌ. فلنتجه إلى الكتاب “ب”، سنجده يرجع إلى الكتب “أ” و”ج” و”د” و”ه” و”ك”. وهنا نجد أن “أ” عاد ليصبح مرجعا لـ “ب” بعد أن كان “ب” مرجعا له. فإذا ذهبنا إلى الكتاب “ج” سنجده يرجع إلى الكتب الخمسة الأخرى، ليصبح الكتابان “أ” و”ب” مرجعين لـ “ج” بعد أن كان هو مرجعا لهما.. وهكذا دواليك. ولنا أن نتخيل تعقيد الشبكة وصعوبة تبين وجه الحق من الباطل فيها، عندما نتحدث عن آلاف الكتب التي انتشرت عبر مئات السنين مستغلة عنصر الإشاعة والأسطورة والتلفيق والتنافس والصراع وتدني مستويات الرقابة العلمية والافتقار إلى وسائل الحماية الفكرية والمعرفية.. إلخ.

 

2 – كل ما يمكن لتلك الكتب أن تكرسه من مفاهيم ومعتقدات وتصورات حول “اليهود” ومؤسساتهم ومنظماتهم ونفوذهم وقدراتهم وماضيهم ومستقبلهم ومشاريعهم.. إلخ، يتعارض تعارضا شبه كامل مع القراءة المتأنية والعقلانية للقرآن الكريم، الذي يمكن اعتباره أدق وأعمق وأصدق مرجع تحدث عن اليهود في العالم، على أن تكون القراءة معتمدة على “اللغة” و”العقل” أولا وآخرا، وبعيدة عن كل “الإسرائيليات” التي أصبحت – مع الأسف – هي مصدر قراءتنا لهذا الكتاب حتى لو اضطررنا إلي ليِّ عنق آياته ومعانيه.

 

3 – كل ما يمكن لتلك الكتب أن توصلنا إليه من فهم للحركة الاجتماعية ولسيرورة التاريخ، يتعارض أشد ما يكون التعارض مع قواعد علمي الاجتماع والتاريخ، ومع نواميس الطبيعة ومبادئ علم الأنثربولوجيا.. إلخ. فنحن بإزاء هذا الكم المهول من الخرافات والأساطير التي تحاصرنا بها تلك الكتب حول اليهود وما يتعلق بهم، أمام واحد من خيارين، فإما أن نسقط علوم الاجتماع والتاريخ والأنثربولوجيا، فضلا عن الفلسفة وعلم النفس، لنقبل بتلك الأساطير، وإما أن نحترم عقولنا ومعارفنا وعلومنا وننسف تلك الخرافات عن بكرة أبيها.

 

4 – كل تلك الكتابات أو لنقل معظمها، وهي تلك التي تحتوي على أهم عناصر الرؤية التآمرية عن اليهود، وخاصة ما يتحدث منها عن اليهودية والماسونية والصهيونية ومنظمات اليهود المختلفة ومشاركتهم في تفجير الثورات وفي صناعة التاريخ والكوارث.. إلخ، تنضح منها الروح الأيديولوجية حينا، والاستخبارية حينا آخر. فهي إما أنها تعكس تصورات سياسية ذات طبيعة أيديولوجية من الواضح أنها تخدم سياسة هنا لتضر بسياسة هناك، أو أنها ذات طبيعة مخابراتية، تريد تمرير معلومات مكذوبة هنا بشكل ما لغرض ما، ومعلومات هناك بشكل آخر لغرض آخر. 

 

فكتاب مثل “بروتوكولات حكماء صهيون”، لا يمكن لمثقف عاقل ألا يَشْتمَّ في كل كلمة من كلماته نَفَسَ الاستخبارات الروسية القيصرية التي كانت تلاحق الشيوعيين وتحاول بث كراهيتهم في قلوب الروس من خلال ربطهم باليهود الذين كان الروس يكرهونهم كراهية لا توصف. 

 

وكتاب مثل كتاب “أحجار على رقعة الشطرنج”، لا يمكن لمثقف عاقل أن يقرأه دون أن يقتنع بأن المخابرات الأميركية هي التي كانت وراء كتابته ونشره. ولا أظن أن كون مؤلفه أميرالا في البحرية الأميركية، هو الأميرال “غاي كار”، خالٍ من الدلالة!! 

 

ومن يقرا كتابا مثل “الماسونية ذلك العالم المجهول” لمؤلفه “صابر طعيمة”، يندهش من حجم الاستهتار بالعقل الإنساني، ومن حجم الأسطورة المستخدمة في الحديث عن تاريخ الماسونية التي يراد لنا أن نصدق أنها كما يقال عنها، ومؤلف الكتاب يسافر بها ويسافر بنا معها من لبنان إلى البرازيل إلى أميركا إلى فرنسا.. إلى.. إلى.. إلى أن يصل بها وبنا معها، إلى نبي الله سليمان عليه السلام وطاقم الجن والشياطين الذين كانوا يخدمون تحت إمرته؟! 

 

لا بل إن كل الكتب التي تحدثت عن الماسونية محاولةَ ترويعنا بتلك الهالة من الغموض والغرائبية التي أحاطت بها هذا الكيان الشبحي وهي تُحَمِّلُه مسؤولية صنع كافة الثورات الأوربية لحساب اليهود، باعتباره كيانا يهوديا، هي في حقيقة الأمر كتب تتجاهل عن عمدٍ حقيقة أن “المنظمة الماسونية” هي تعريب تدجيلي لمصطلح فرنسي ثلاثي معناه “منظمة البنائين الأحرار”، كانت تمثل الجناح العسكري والأمني لتنظيم “اليعاقبة المسيحي” الذي مثل الجناح السياسي لأهم الفصائل التي مهدت للثورة الفرنسية وفجرتها من ثمَّ. 

 

والأهم من ذلك كله هو أنها كتب تقفز على حقيقة أن هذا الجناح الأمني والعسكري بعد انتصار الثورة وتولي نابليون الحكم في فرنسا وبدء حملة حروبة الأوربية التوسعية، عَمَدَ إلى تحويل هذا الجناح الأمني والعسكري إلى جهاز استخباري، كان يترك فرقة منه وراءه في كل بلد يحتله لكي يقوم بمهمات استخباراتية راحت تتطور مع الزمن حتى أخذت بعدا اختراقيا متعدِّد الأشكال للمجتمعات، يقوم على تحقيق المهمات الأمنية للدولة المحتلة من خلال اختراق الفئات النخبوية في المجتمع وربطها بالمخابرات الأجنبية. 

 

وعندما تراجع الفرنسيون وانهزموا تركوا وراءهم هذه الثقافة الأمنية التي راحت تستخدمها الدول الكبرى كآلية لاختراق علية القوم في أي مجتمع، كآلية فعالة لتسهيل المهمات الاستعمارية. 

 

ولأن العلاقات الفرنسية الأميركية في ذلك الوقت كانت نموذجا لعلاقات التحالف والتعاون المتقدم بحكم العداوة المشتركة بينهما لبريطانيا إلى درجة أن الثورة الأميركية تم دعمها من قبل الفرنسيين، وإهدائها تمثال الحرية الشهير من قبلهم أيضا، فإنها – أي الولايات المتحدة الأميركية بعد الاستقلال – كانت أكثر دولة اقتبست هذا الأسلوب في السيطرة على فئات النخبة في المجتمع، إلى أن راح التطور التاريخي يقحم هذه الفروع الموروثة عن الماسونية الفرنسية الأولى، في أنماط متقدمة من الفعل الاستخباري، وصلت إلى واقع الماسونية العالمي الراهن المتخفي وراء وحدة الأديان، والتحكم في إدارة المجتمع من خلال التحكم فيها واحتوائها ثقافيا وأخلاقيا وماليا.. إلخ. 

 

ولم أجد إلا قلة قليلة من الكتب التي تحرَّرَ مؤلفوها من النزعة التهويلية الأسطورية الغرائبية غير العلمية عند معالجة تاريخ هذا الثالوث “اليهودبة، الماسونية، الصهيونية”. ومن أمثلة المراجع الموضوعية في هذا الصدد – وما أقلها – موسوعة المرحوم “عبد الوهاب المسيري” حول اليهود واليهودية والصهيونية، وكتاب “الصهيونية غير اليهودية” لمؤلفته “ريجينا الشريف”، وكتاب “إسرائيل مشروع استعماري” لمؤلفه “رفيق النتشة”، ومجموعة كتب الفيلسوف الفرنسي الراحل “روجيه غارودي” عن الأساطير المؤسسة لإسرائيل.. إلخ. 

 

ومن هنا فإنني أرفض الاحتكام إلى أيِّ مرجع أو معلومة تريد أن تفرض عليَّ مجموعة من الوقائع بصفتها حقائق، وهي متعارضة مع المنطق والمعقول، ولا تمت بصلة لما تفرضه القوانين والنواميس والسنن التي شكلت لنا علوم “التاريخ” و”الأنثروبولوجيا” و”الاجتماع” وغيرها من العلوم التجريبية المتعلقة بالحركة المجتمعية وقوانينها!!!

 

إننا ندعو كل من يعجز عن قراءة التاريخ بأدوات علم التاريخ، والمجتمع بأدوات علم الاجتماع، وتاريخ تطور الإنسان بأدوات علم الأنثروبولوجيا، إلى أن يكف عن تصدير عجزه العقلي، وكسله العلمي، وعقيدته التواكلية، ونزعته الأسطورية، التي ألجأته مجتمعة إلى الأمر السهل الذي لا يكلفه مجرد التفكير، للموازنة بين “الصواب” و”الخطأ”!!!

 

 

 

ب – تجلي ذهنيىة المؤامرة في ضبابية التفريق بين “وطنية” الثورة و”أميركيتها”

 

تشير الكثير من التحليلات السياسية إلى أن الثورات العربية حصلت نتيجة رغبة أميركية في التغيير في المنطقة باتجاه خلق عناصر “الشرق الأوسط الجديد”، وفق رؤية تناسب متطلبات المرحلة القادمة من عمر الزمن الإمبراطوري الأميركي، بأدواته “الصهيونية” و”الوظيفية العربية”.. أي أنها ثورات مصنوعة من خارج حدود الوطن العربي جملة وتفصيلا، لتحقيق غايات ليس بالضرورة أن تصب في مصلحة الشعوب الثائرة، بل قد تضر بها كثيرا وتعطل مشاريعها التحررية. وهذه التحليلات لا تقصِّر في تقديم حشد من الأدلة التي تتراوح بين “دليل مقنع وقاطع”، و”دليل هلامي ومصطنع”.

 

فيما تشير تحليلات أخرى إلى أن هذه الثورات لا يمكنها إلا أن تكون نتاجا خالصا للواقع المتردي والمحتقن في المجتمعات العربية، فهي تعبير شعبي عن رفض الدكتاتوريات والفساد والظلم والارتهان المتراكمة على مدى عقود مضت في هذه المجتمعات، وهي حتما وبالضرورة ثورات تصبُّ في مصلحة تلك الشعوب، لأنها حققت ثلاث مسائل غاية في الأهمية هي، “كسر حاجز الخوف”، و”امتلاك القدرة على التغيير في أيِّ وقت قادم”، و”إسقاط الأنظمة الأكثر طغيانا وارتباطا بالإمبريالية والصهيونية”. وهذه التحليلات بدورها لا تألوا جهدا في تقديم حشدٍ من أدلتها التي تتراوح بين “الاقناع” و”الاصطناع”. 

 

المفارقة ليست ناشئة عن تساؤل مفاده: “أيُّ التحليلين السابقين هو الصحيح؟!”، لأن لكل من التحليلين هفواته وزلاته، وفيه ثغراته الناتجة عن الخطأ في قراءة بعض مُكَوِّنات الحراك الحاصل في الوطن العربي. 

 

فحقيقة أن الثورات لا تُصْنَع ولا تتفجر إلا بتوفر دواعيها المحلية المتراكمة، أيا كانت رغبات الجهات الأجنبية صاحبة المصلحة في إحداث التغيير، هي حقيقة علمية وتاريخية وأنثروبولوجية، تدحض التحليل “الأمريكوي التآمري الخالص” لما يحدث. 

 

وحقيقة أن السياسة الأميركية سياسة حيوية ونشطة وتحرص على التجاوب مع اتجاهات الحركة المجتمعية عندما تشاهد بوادرها في أقاليم ومجتمعات يهمها أمرها، كي لا تفقد قدرتَها على السيطرة والتوجيه والتواجد في مرحلة ما بعد التغيير، خاصة حيث يتجذر الاختراق الأميركي سياسيا وثقافيا واقتصاديا وإعلاميا، هي أيضا حقيقة ملموسة لا يمكن إنكارها، وهي بدورها تدحض التحليل المقابل للتحليل السابق، وهو التحليل “الثوروي الخالص”.

 

وإذن فأين تكمن المفارقة؟!

 

المفارقة تكمن فينا نحن لجهة كيفية تعاملنا مع الحدث الثوري التغييري، ولجهة تحديد موقفنا منه، ولا تكمن في الحدث نفسه.

 

فالحدث الثوري التغييري نفسُه من حيث هو حدث قائم، فهو حدث قائم بالفعل، وهو الأمر الذي لا مجال لإنكاره. وهذا الحدث من حيث هو مُتَلَبَّس بالمكونات الذاتية الناتجة عن تراكمات محلية تتطلب التغيير وتدفع باتجاهه من جهة، وبمكونات أميركية وصهيونية ووظيفية عربية، سواء على صعيد التخطيط أو على صعيد محاولة القفز على المشروع واختراقه واستيطان نتائجه من جهة أخرى، عبر أشخاص هنا وأشخاص هناك، وممارسات هنا وممارسات هناك، فهو بالفعل متلبَّس بكل ذلك، وهو الأمر الذي لا مجال لإنكاره أيضا، بصرف النظر عن التوقيت الذي دخل فيه العنصر “الأميركوي” إلى حركة التغيير الثوري، وعن كيفية ذلك الدخول، وعن أهدافه المباشرة وغير المباشرة، الفورية وغير الفورية، بل وبصرف النظر عن نسبة التأثير في سيرورة هذا الفعل، صغيرة كانت هذه النسبة أو كبيرة.

 

يكمن جوهر المفارقة إذن، في أننا أمام واقعة الفعل الثوري التغييري القائم، وبإزاء مشاهدتنا لمكوِّنيه الذاتي والخارجي المشار إليهما سابقا، نقع في مأزق عدم القدرة على – وربما عدم الرغبة في – حل هذا التناقض القائم بين رغبتنا في التغيير ومساندة أداته الثورية، وعدم رغبتنا في “أمركة” هذا التغيير كي نأنس إلى وطنيته الخالصة ونقائه ونزاهته، التي تعتبر “الحالة الأميركية – الصهيونية – الوظيفية” أهم أسباب المساس بها وجرحها والتشكيك فيها.. 

 

نقول.. إننا نقع في مأزق عدم القدرة على حل التناقض السابق بشكل علمي وموضوعي، بسبب قصور وعينا التاريخي والإستراتيجي، وضحالة فهمنا لقوانين الحراك المجتمعي، فننقسم بسبب كل ذلك إلى فئتين.. 

 

الفئة الأولى.. لا تستطيع أن تشكك من الناحية الأخلاقية في الفعل الثوري التغييري القائم، فتنحاز إليه بكلياته وتفاصيله. وبإزاء عجز هذه الفئة عن التأسيس لما يظهر في الفعل الثوري من مظاهر “الأمرَكة” الحتمية هنا وهناك، في هذه الجزئية أو في تلك، بسبب ما أشرنا إليه سابقا من طبيعة مكونات هذا الفعل الثوري، بشكل يحافظ لها على نقاء التجربة ونزاهتها، فإنها تلجأ إلى تفسيرات وتأويلات وتخريجات ملتوية للخروج من مأزقها الأيديولوجي، فتبدأ بالتأسيس للأساطير التي تضر التجربة الثورية بأكثر مما تنفعها، لأن التجربة حتى وهي تتسم بالنقاء، لا تخلو من بعض مظاهر الاتساخ كثرت تلك المظاهر أو قلَّت، وهي بحاجة منا إلى مساعدتها على التخلص من هذا الاتساخ على قاعدة الاعتراف بوجوده والنضال لأجل التخلص منه، لا على قاعدة إنكاره والاطمئنان اطمئنان النعامة وهي تدس رأسها في الرمال إلى عدم معاناة الحراك الثوري منه. فمن ينكر المرض لن يتعافى منه، بل هو يعطيه الفرصة ليتفاقم. 

 

ولا يختلف هؤلاء في لجوئهم إلى التأويل السياسي الممجوج، عن رجال الدين الذين يلجأون إلى تأويل النصوص الواضحة في المرجعيات الدينية حول العدالة والحرية والتكافل والمساواة ومقاومة الظلم.. إلخ.. لتتجاوب معرفيا وأخلاقيا مع منطلقاتهم ومواقعهم الطبقية. فهم بدل أن يصلحوا منطلقاتهم ويعيدوا إنتاجها على أساس ما تفرضه تلك النصوص المرجعية القاطعة والواضحة من قيم، يعيدون إنتاج القيم المرجعية الأصيلة تلك على أساس مرجعياتهم الطبقية والمصلحية، فتحدث الكارثة.

 

الفئة الثانية.. لا تستطيع أن تقبل الاعتراف بنزاهة ووطنية حراك مجتمعي واضحةٌ فيه البصمات الأميركية والصهيونية والوظيفية العربية الرجعية. وهي تفعل ما فعلته الفئة السابقة نفسه، وإن يكن على الخط المقابل، فتبدأ كي تمنحَ شكوكَها حول الحراك القائم على الأرض فعلا، شرعية علمية ومعلوماتية، بتضخيم كل البصمات الأميركية والإسرائيلية والوظيفية العربية، والحديث في ذلك الحراك فقط عن تلك البصمات، وتُلغي تماما أيَّ دور للعنصر الذاتي التراكمي في صنع الحدث الثوري، فتنتكس إلى التفكير “المؤامراتي” العقيم الذي يتعارض تعارضا تاما مع “منطق التاريخ”، ومع قوانين “علم الحركة المجتمعية”.

 

وهذه الفئة تلجأ بدورها إلى تأويلاتها الخاصة بها والمتناسبة مع متطلبات تشكيكاتها القائمة على محاولة التأكيد على أن الفعل الثوري التغييري، هو فعل تآمري ليس إلا، ولا علاقة له بحركة الشعوب وبحاجاتها الحقيقية ونزوعها إلى الحرية وإلى تحقيق العدالة، والتأسيس لمشروعاتها الوطنية الأصيلة غير التَّبَعِيَّة.

 

وإذا كانت الفئة الأولى التي ستعجز بموجب “مرجعياتها الخاصة بها” في فهم الحدث الثوري التغييري، عن حقن ذلك الفعل بما يلزم لعلاجه من الأدران “الأميركوية” الموجودة فعلا في حراكه، تقع في ذلك الانزواء جراء جهل سياسي وإستراتيجي سبَّب لها قصورا في فهم المُكَوِّن التآمري الطبيعي في الحدث، وهو الحدث الموجود في كل ثورات العالم وعلى رأسها ثورات الأنبياء أنفسِهم. 

 

فإن الفئة الثانية ستكون بموجب “مرجعياتها الخاصة بها” في فهم الحدث الثوري التغييري، قد منحت الفرصة للنظام الذي قامت ضده الثورة كي يعيد إنتاج نفسه، وكي يشرعن دوره بوجود من يدافع عنه من مؤامرة خارجية ينظر إليها باعتبارها هي وحدها صانعة الحدث الثوري. وهذه الفئة تفعل ذلك جراء جهل تاريخي سبَّبَ لها قصورا في فهم المُكَوِّن الذاتي الطبيعي في الحدث، وهو المكون الذي لا يمكن لثورة في العالم أن تحدث بدون وجوده فعلا وبشكل تراكمي وأصيل.

 

الحقيقة التي لا مجال لإنكارها، أن هاتين الفئتين غير علميتين ولا موضوعيتين، ولا مواقفهما تلك نتجت عن وعي بفكرة الوطن والدولة في سياقاتها التاريخية والإستراتيجية، ولا هما مدركتان لجوهر المشروع النهضوي للأمة خارج نطاق العواطف والرغبات الطوباوية وجدانية الطابع، بل كلاهما اشتق موقفه ذاك من موقفه المسبق من النظام القائم في الدولة التي يحدث فيها الفعل الثوري التغييري، فمن كان ضد ذلك النظام، جذبته إليها الفئة الأولى، ومن كان مع النظام جذبته إليها الفئة الثانية. 

 

الفئة الثالثة التي يُعَوَّل عليها حقا في مشاريع الأوطان والدول ومشاريع النهضة والوحدة القومية والتحرر من الاحتلال.. إلخ.. هي تلك التي تنطلق في تحديد مواقفها وبناء إستراتيجياتها تجاه الفعل الثوري التغييري القائم من ركائز أساس تستند إليها هي: “الوطن” و”الدولة” و”الأمة”، وتعرف أن هذه الأيقونات الثلاث تتطلب أمة حرة تمتلك كامل حقوقها، حتى لو كان ذلك بإسقاط النظام والإلقاء به في مزابل التاريخ، ولكن ليس على أنقاض وطن وأشلاء دولة وحطام شعب.

 

 

 

ج – تجلي ذهنيىة المؤامرة في التعامل مع تسريبات “وثائق ويكيليكس” ذائعة الصيت حول الأزمة السورية منذ أكثر من سنة

 

كلما قرأت عن “وثائق ويكيليكس”، أو اطلعت على بعض منها بشأن قضية هنا أو هناك، كلما هُيِّئَ لي أن من صاغوا تلك الوثائق ولن أقول من روجوا لها، هم مجرد مجموعة من السُّذَّج لا يختلفون في أيِّ شيء عن هؤلاء الذي صاغوا قبلهم بمائة عام “بروتوكولات حكماء صهيون”، وبعدهم ذلك الذي “الأميرال البحري” الذي صاغ كتاب “أحجار على رقعة الشطرنج”، وغيرهم كثيرون ممن عودونا على صياغة تُرَّهاتٍ يحيطونها بالغموض والقداسة والرهبة، كي يناغشوا مركز الخضوع للأسطورة في العقول البدائية التي لم تتعود على أن تفهم أن الكون يحكمه ناموس وقانون، لن ينجح في إدارته أو التحكم فيه من اكتفى بوضع الخطط في الغرف المغلقة دون أن يعرف إن كان بالإمكان تنفيذها أم لا أولا، ودون أن يتحرك لأجل تنفيذها وفق ما يتطلبه هذا الناموس بالفعل ثانيا.

 

لا أقول هذا الكلام تشكيكا في وثيقة هنا أو في وثيقة هناك، فليس هذا مقصدي في هذا المقال، فمناقشة وثائق معروضة للبيع في سوق نخاسة العقول لها مكانها المناسب وأدواتها التي تلائمها، وهي الأدوات التي لا أزعم أنني أمتلكها لا علما ولا وقتا ولا مهمة. ولكني وددت فقط أن أوضح نقطة يغفل عنها كل من لا يجد ما يفعله سوى أن يضيَّع وقتَه في البحث عما يؤيد به وجهة نظره المسبقة غالبا، في طلاسم الجواسيس، وفي تعاويذ المخبرين، دون أن يكلِّفَ نفسَه عناء البحث عن الحقيقة في مختبرات العلم وتأملات الفلاسفة وآلام المصلحين ومعاناة الأنبياء، وكأن هؤلاء الذين صنعوا التاريخ لا قيمة لهم أمام هوسِ جاهلٍ يريد أن يقنع العالم بأن صحفيا كان يتجول في جبال أفغانستان هو الذي حيَّد كل هؤلاء ليقول للربِّ “لا قيمة لكل نواميس الكون الذي خلقته أمام رغبتي في أن أتخيل وأتآمر وأخرب بدون الاعتماد على ناموسك هذا”!!

 

يا سادتي،

 

إنه لمن نافلة القول أن نقرِّر أنه لا يضيف جديدا لتصورنا للصراع في سوريا وجودُ مليون وثيقة تكشف أن المخابرات الأميركية كانت تتآمر على سوريا وتحاول تغيير نظامها وتفكيك كل قنوات تواصله مع حزب الله وإيران. كما أنه لا يغير شيئا من ذلك، أن نقرأ في مليون وثيقة أخرى أن “رعيان الخليج” من مشايخ “حظائر النوق”، كانوا يتعاونون ويتآمرون مع هذا ومع ذاك لأجل ذلك.

 

فكلنا يعلم أن النظام السوري هو النظام العربي الوحيد الذي يدعم المشروع الإيراني المنادد للولايات المتحدة ولمشاريعها في الإقليم لجهة إصراره على حصته من النفوذ والهيمنة في الكعكة العربية المستباحة لكل زناة الليل من عابري الطريق، وهو الوحيد الذي يدعم حزب الله في الخاصرة الشمالية للاحتلال كأداة ضغط قد تجبر الأميركيين على قبول الطموح الإيراني الإقليمي، وهو الوحيد الذي يرفض رسم خريطة الإقليم بالطريقة الأميركية والصهيونية بالمجان السياسي، دون أن يجعل التاريخ يسجل أنها خريطة رسمت بالطريقة الأميركية الصهيونية الإيرانية. وبالتالي فمن المفهوم أن يتم التآمر عليه كما يتآمر هو على خصومه، وأن يتم التخطيطَ لأجل حصاره والزج به إلى أضيق الطرق التي تدفعه إلى التنازل والتراجع والضعف.. إلخ، من قِبَل من نعلم جميعا أنهم ينطلقون من خندقٍ واحدٍ هو خندق المعاداة لنهضة الأمة، ألا هو الخندق “الإمبريالي الصهيوني الوظيفي” ولن نكون مبالغين كثيرا لو أضفنا إليه “الإيراني الفارسي”.

 

فليس في هذا جديد.. 

 

ولا يحتاج فهمنا السياسي للحالة السورية وارتباطاتها الإقليمية والدولية إلى أيِّ نوع من الوثائق السرِّيَّة لإثباته. فالوثائق إن ظهرت إنما تكشف لنا عن بعض التفاصيل التي لم نكن مطلين عليها باعتبارها تفاصيل لها علاقة بأجهزة مخابرات وبنشاطات سِرِّيَّة مفهومة السِّرِّيَّة، لا تقيم في ذاتها دليلا على تحليلنا الجيوسياسي للواقع، بقدر ما تكشف عن التحركات الخفية التي قامت بها دولة هنا وأخرى هناك، لتجسيد ما يتطلبه ذلك التحليل واقعيا، وهي من هنا تخدم مُكَوِّنات الوعي الذي نكون قد شكلناه بعيدا عن تلك الوثائق وبشكل سابق عليها، ولا تنشئ ذلك الوعي. وهي إذ تفعل ذلك فبناء على معطيات وحيثيات هي في حقيقتها وجوهرها قراءة علمية موضوعية للواقع ولحركة التاريخ وللسيرورة المجتمعية عامة، وفي أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية خاصة. 

 

لأن الوعي بالسيرورة، وفهم الحالة، وإدراك الأبعاد الجيوسياسية لها، إنما يقوم بعيدا عن كل تلك الوثائق، ما يجعل تلك الوثائق عندما تظهر فجأة لهذا السبب أو لذاك، لا تقيم دليلا على السياسة، بل إن السياسة كما نكون قد فهمناها في سياقها الموضوعي السابق على ظهور تلك الوثائق، هي التي تمنح تلك الوثائق شرعيتها ومصداقيتها، أو تنزع الشرعية والمصداقية عنها. وإن أيَّ تعامل مع حركة الواقع الموضوعي ومع أيِّ وثائق مسرَّبَة تتحدث عنه وتشير إليه، إذا لم يقم على هذه المعادلة بشكلها الذي أشرنا إليه ذاك، لن تكون أكثر من وهم وتزييف للحقيقة، واختراق للذهن الذي يعشق التهويل والغموض والأساطير، ليس إلا.

 

فوثائق “ويكيليكس” التي ظهرت فجأة قبل عام على سبيل المثال، ليست هي التي أثبتت أو التي تثبت لنا أن هناك خطة أميركية أو إسرائيلية أو أوربية غربية، أو أن هناك سعيا وظيفيا خليجيا لتغيير النظام السوري أو الإطاحة به أو إجباره على تغيير سياساته على هذا النحو أو على ذاك، في حين أننا لم نكن نتخيل أن شيئا من ذلك قد يحدث.. وإنما فهمنا للدور الجيوسياسي للنظام السوري في ضوء طبيعته التاريخية، وبنيته الداخلية وارتباطاته الخارجية.. إلخ، وفي ضوء علاقاته بإيران وبحزب الله وبحماس سابقا.. إلخ، هي التي جعلتنا نفهم منذ وقت مبكر ودون أن نطِّلِعَ على أيِّ وثيقة، أن هناك حتما تحركات وخطط تتم في الخفاء بهذا الاتجاه، بصرف النظر عن شكلها ومداها وحجمها، وبصرف النظر عن علمنا بها وبتفاصيلها أو لا.. إلخ.

 

ومن كان ينتظر تسريب وثائق من هذا النوع كي يتأكد من أن هناك خططا معادية ضد النظام السوري، فهو جاهل، ولا علاقة له بالسياسة، ولا يفهم ما يحدث في الإقليم، ناهيك عن أن يفهم ما يحدث في العالم، ولا يدرك الأبعاد الحقيقية لارتباطات النظام السوري الإقليمية والدولية، ولا يفهم على وجه الدقة مكانة المنظومة الوظيفية العربية في خطة المشروع الإمبريالي الصهيوني.. إلخ. لأن كل تلك الأمور لا تُدْرَك بوثيقة سرية تم تسريبها لغاية قد تكون مشبوهة، وإنما بالقراءة الموضوعية للتاريخ وللسياسة وللاقتصاد وللتحولات المجتمعية وللعلاقات الدولية.. إلخ.

 

وإذن فلا جديد في جوهر الوثائق التي بدأت تروج حول النظام السوري قبل قرابة العام من الآن، من حيث حتمية وجود خطط معادية للنظام السوري لدى من يفهم السياسة بأدوات السياسة وليس بتعاويذ السَّحَرَة. 

 

مع أننا نتساءل – في جملة معترضة لن نقف عندها مطولا – عن سبب عدم ظهور مثل هذه الوثائق – نقصد المتعلقة منها بالشأن السوري – منذ وقت أسبق، مع مئات الآلاف من نظيراتها التي ظهرت منذ أكثر من ثلاثة أعوام، مثيرة بلبلة في العالم كما يعلم الجميع (!!) 

 

بالفعل إنها لظاهرة غريبة، أن يتم الإبقاء على وثائق كلِّ ملف مخفية ولا يتم إظهارها إلا عند الحاجة (!!) 

 

وإن الأغرب هو أن تكون مسرحية “ويكيليكس” قد لاقت كل هذا العداء والهجوم من الولايات المتحدة إلى درجة تهديد بطلها “سانج” بالقتل والملاحقة وتلفيق التهم.. إلخ، كما تم تصوير ذلك، لتبقى أمور تسريبها في أيِّ وقت وعند كل مرحلة وبحسب الحاجة أمرا ميسورا وسهلا، وكأن المخابرات الأميركية التي أقامت الدنيا ولم تقعدها عندما ظهرت قضيتها الكبرى إلى العالم منذ مدة، لم تتخذ أيَّ إجرار لحماية ملفاتها السريَّة من التسرُّب إذا كانت بالفعل لا تريد تسريبها، بل إذا كانت هذه الوثائق هي بالفعل وثائق حقيقية، وليست رسائل غسيل دماع طلاسمي للشعوب ولنخبها التي تصنع ثقافاتها على حدٍّ سواء (!!)

 

ليست تلك قضيتنا في هذا المقال، تاركين تلك التساؤلات لمن يهمه عقله فقط..

 

إن ما يثير الاستغراب في هذه الحزمة من الوثائق “الويكيليكسية” التي ظهرت قبل عام، أنها تريدنا أن نتلقى ما فيها من خزعبلات بانصياع غريب وكامل، لم يَعُدْ في هذا الزمن يُعْتَمَد أسلوبا حتى لتعليم تلاميذ المدارس الابتدائية أو رياض الأطفال (!!) 

 

فأن توجد وثائق تتحدث عن تحركات أميركية، وعن أعمال جواسيس يتنقلون بحرفية وبغير حرفية في سوريا التي تضم 17 جهازا أمنيا واستخباريا دون أن يحسَّ بوجودهم أحد (!!) 

 

وتوزيع أدوات تجسس دقيقة ومتطورة لا يتم اكتشاف أيِّ منها من قبل أجهزة نظام يعرف أنه مستهدف وتدعمه أقوى دول العالم وأجهزتها الاستخبارية (!!) 

 

وتحركات أمير خليجي هنا وآخر هناك ممن يوقن السوريون أنهم لا يتحركون ببراءة على الإطلاق دون أن يحركوا ساكنا إلى أن يتمكنوا من خوزقتهم وزرع الفتنة في عقر دارهم (!!).. إلخ. 

 

نقول.. إن تلك الوقائع المدعاة وغيرها مما ورد في تلك الحزمة من “الويكيليكسيات”، أمور عادية ومفهومة وما كانت لتستثير وتستوقف بهذا الشكل الانبهاري إلا من لم يكن يفهم شيئا مما يدور حوله في هذا العالم، رغم سذاجة “الفبركة” و”المونتاج” المعلوماتي والاستخباراتي التي حاولت غسل أدمغتنا بها. لذلك لن نعيي أنفسَنا بالتشكيك في دعاية استخبارية لنشاطٍ أمني وتجسسي ومخابراتي محتمل بل ومرجحٍ كنا نتوقعه قبل أن نسمع لا بـ “سانج” ولا بـ “ويكيليكس” (!!)

 

لكن ما يثير السخرية حقا، وهو ما نتمنى ألا يقيم له من تتاح له فرصة الاطلاع على هذه الوثائق وزنا من باب احترامه لعقله وليس لعقولنا نحن، لأننا نعرف كيف نحترم عقولنا، لكننا نحزن لعقول من نراه يمتهنها بالانصياع لهذا القدر من السذاجة.. نقول.. إن ما يثير السخرية حقا، هو تلك الوثائق “الجهبذية” التي تشير إلى أن الخطة الأميركية تقضي بتقسيم روسيا الاتحادية، وبتفجير حرب أهلية في الصين بسبب الأزمة السورية. وبالتالي كأن الوثائق تريدنا أن نقتنع بعمق وجوهرية البعد التآمري الخارجي الأميركي الخليجي على سوريا وبخطورته، من خلال ربط أهميته بكونه نقطة الانطلاق لإعادة رسم خريطة العالم على نحو غير مسبوق في التاريخ. فمن سوريا التي يتم التآمر عليها أميركيا سوف تتقسم روسيا وسوف تحترق الصين، ولا نستبعد أن تخرج لنا غدا وثائق جديدة تتحدث عن علاقة الأزمة السورية باستيطان المريخ وبغزو كوكب زحل (!!) 

 

روسيا التي لم تؤد إلى تقسيمها أيام كانت تحتل نصف أوربا وربع آسيا، كل الصراعات الإقليمية في العالم خلال الحرب الباردة، لا في كوبا ولا في فيتنام ولا في كوريا ولا في أميركا اللاتينية ولا في إفريقيا ولا في أيِّ مكان آخر في العالم. والصين التي لم تتأثر إلا بالإيجاب، جراء كل تلك الصراعات، لتصبح بعد أن انصرفت الحرب الباردة إلى حالها عملاقا اقتصاديا يزعج أميركا. يُراد لنا أن نقتنع بأن سوريا التي لا مأخذ عليها أميركيا سوى أنها تدعم “إيران في ملفاتها الإقليمية” و”حزب الله في عمله على تحرير أرض لبنان المحتلة في شبعا”، هي مركز الكون، وبؤرة التغيير القادم في كلِّ العالم، ومنها سوف يتم كبس الزر النووي الخطير الذي سيفجر الصين ويفتت روسيا (!!) أي أن تلك الجرعة من “الويكيليكسيات” التي ظهرت قبل عام أرادت أن تبلغنا رسالة خطيرة جدا مفادها: “أن انهيار النظام السوري أو الاستمرار في العمل على الإطاحة به، سوف يفجر روسيا التي كانت عصية على ألفي عام من التغيرات في العالم، وسوف يحرق الصين المكان الأكثر هدوءا واستقرارا على سطح هذا الكوكب منذ آلاف السنين” (!!!)

 

نعم هذه هي المأساة التي يراد لنا أن نقتنع بها، ومع الأسف هناك من يروج لنا بين ظهرانينا وكأنها حقائق.

 

لن أطيل كثيرا، ولن أضيف في نهاية هذا العرض سوى نقطة واحدة أرجو أن يتم الوقوف عندها مطولا، كي يتم فهم الأمور بشكل صحيح..

 

إن أيَّ فكرة سياسية ضخمة وعظيمة، وأيُّ تحوُّل جيوسياسي إقليمي أو عالمي غير مسبوق مثل ما أتحفنا به “الويكيليكسيون” في حزمة أساطيرهم الأخيرة حول الصين وروسيا، إذا لم تكن إرهاصاته ومؤشراته ودلائله واضحة للعيان من خلال سيرورة سياسية قابلة للقراءة لدى العقلاء المتابعين لما يحدث في العالم، فلن تجعله حقيقةً كل وثائق العالم وكل أساطير الكون، بل إن ظهور ما يشير إليه فجأة على هذا النحو، يدفع إلى التشكيك ليس فيه فقط، فالتشكيك فيه وارد بانقطاعه عن الواقع الموضوعي الذي يتحدث عنه أصلا، وإنما يدفع إلى التشكيك حتى فيما يمكن اعتباره صحيحا لعدم تعارضه من حيث إطاره العام مع ما هو مقروء ومُشاهد..

 

أي أنكم أيها “الويكيليكسيون” لو اقتصرتم في تسريباتكم على ما يكشف عن وجهة خطط المخابرات الأميركية ودول الخليج ضد النظام السوري، لكان الأمر معقولا ولا غبار عليه، ولن تجدوا عاقلا يخالفكم في احتمال كونه بتفاصيله تلك واقعا موضوعيا رغم حجم المبالغة الظاهرة فيها، لأن مبدأ التخطيط ضد النظام السوري لأسباب جيوسياسيىة مفهومة أمر واقع تمكن قراءته بسهولة لدى كل عقلاء السياسة. أما أن تفعلوا مثل السذج الذين يعتقدون أن الكذب يحتاج إلى تهويل كي يصدق، فتتحدثون عن أمور كبيرة جدا وأكبر مما يتصور أحد مما لا وجود لأيِّ مؤشر عليه في الواقع ومن أيِّ نوع، وكأنكم تظنون أنكم بهذا التهويل صارخ الكذب عن الصين وروسيا، سوف تؤكدون على مصداقية ما تتحدثون به عن سوريا، فإنكم أفقدتم أنفسكم البوصلة، وشككتم أي عاقل حتى في احتمال صدق وصحة ما يمكنه أن يكون بالفعل صادقا وصحيحا مما أوردتموه حول سوريا نفسها..

 

القاعدة الذهبية التي لا يختلف عليها عاقلان يحتكمان إلى قوانين الطبيعة الكبرى، وإلى مبادئ الدياليكتيك العلمي في قراءة التاريخ، وفي تفهُّم الحركة المجتمعية بما في ذلك بعدها السياسي، هي أن.. 

 

“الفكرة السياسية إذا لم تتكون في الذهن من خلال قراءة الواقع الموضوعي في ضوء قوانين الوجود الحاكمة له، لا يمكن لأيِّ مرجعية تشير إليها أو تتحدث عنها غير تلك القراءة، إلا أن تكون محض كذبٍ وافتراء، لأن أيَّ مرجعية غير ذلك النوع من القراءات، لن يكون منشئا للحقيقة الموضوعية التاريخية، وإنما مؤيدا لبعض تفاصيلها، بعد أن تكون قد نشأت بفعل تلك القراءة الموضوعية، وبفعلها فقط”..

 

ففي زمان كزماننا بإمكاني الآن أن أتحدث عن خطةٍ تهدف إلى فصل الولايات الأميركية الجنوبية مثل “كاليفورنيا”، و”نيو ميكسيكو” و”أريزونا”، و”نيفادا”، و”تكساس”.. إلخ، عن الولايات المتحدة وضمها إلى المكسيك، وأن أخلق كل الوثائق والمستندات، والقصص الاستخبارية الروسية والصينية والإيرانية التي تتحرك في هذا الاتجاه، وأن أجد لها جذرا مكسيكيا، وداعما برازيليا، ومدربا عسكريا فنزويليا، ومفكرا أميركيا من أصل مكسيكي، وعشرات الجواسيس الذين يختبئ كلُّ واحد منهم وراء قصة جوسسة غير مسبوقة، وأن أنشر كل ذلك على العالم، مع أن شيئا من ذلك لا أصل ولا أساس له، ومع أن نسبة من يعرفون أن تلك الولايات هي في الأصل تابعة للمكسيك، وأن الولايات المتحدة احتلت بعضها بعد أن هزمت ثورة “زباطا” المكسيكية الشهيرة، فيما اشترت بعضها الآخر بالمال، كما اشترت “ألاسكا” من روسيا القيصرية، و”لويزيانا” من فرنسا هي نسبة قليلة حتى بين أكابر المثقفين والسياسيين في الصين وروسيا وإيران..

 

العقلاء لا يبنون خططهم على الأساطير، ولكنهم يسوِّقون الأساطير لمن يؤمنون بها لتوجيههم إلى ما يشاءون من سياسات..

 

وعلى ما أظن فإن الأميركيين عقلاء، وما أكثر من يؤمنون بالأساطير لدينا.. 

 

لا يسعني في هذا السياق إلا أن أورد خرافة من خرافات أنصار دعاة “ملاحم” آخر الزمان، المسلمين، وأنصار “هرمجدون” اليهود والمسيحيين، تُصَوِّر أن هناك حالة من التطابق المذهل بين خرافاتهم وخرافات المبهورين بـ الويكيليكسيات”..

 

“لن تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان من أهل الأرض ودعواهما واحدة”.. 

 

هذا نص غريب منسوب إلى الرسول الكريم، وهو مع الأسف موجود في صحيح مسلم.. 

 

وقد فسره الكثيرون في وقتنا الراهن بأنه يتحدث عن روسيا والصين اللتان ستدمرهما هذه الحرب، ولقد راج هذا التفسير أيام الاتحاد السوفياتي، أي عندما كانت الأحزاب الشيوعية هي التي تحكم في كل من الصين والاتحاد السوفياتي حكما حديديا منغلقا، أي عندما كانت فكرة “الدعوى الواحدة” مجسِّدة في “الشيوعية”، والكثير من التكفيريين يقيمون فهمهم للدين الإسلامي ككل على أشباه هذا النص وما أكثرها في موروثنا..

 

ترى ما الفرق في مستوى التفكير والإدراك بين من يريدنا أن نقتنع بأن ما يحدث في سوريا سيقسم روسيا إربا إربا، وسيحرق الصين بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وبين من يعتقد أنهما ستتحاربان فتفنيان لكي يخلو لنا الطريق لاستقبال المهدي المنتظر والمسيح عليه السلام؟!!!

 

مع الأسف ليست ظلمة التاريخ وأغبرة التداعي الزمني هي وحدها التي سوَّقَت وتسوِّق لنا مثل هذه الأساطير، فقد استغنت أجهزة المخابرات العالمية في زماننا هذا عما فعله مزورو التاريخ وخالقو الطواطم المقدسة فيه، بعلم النفس العسكري، وعلم نفس الإشاعة، وبعلم قصف العقول إعلاميا، وبعلم الاجتماع التراكمي، وبعلم الباراسايكولوجيا.. إلخ لتحقق وتنجز نتائج أجدى على صعيد تزييف الوعي الإنساني بعشرات أضعاف ما فعله صناع الكذب عبر التاريخ. 

 

 

 

لا تفكر، ولا تحاول حتى أن تفهم.. الأساطير والخرافات ”أَرْيَح” (!!)

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.