“الخبير” أو “المحلل السياسي” هو ظاهرة سخيفة مهمتها ابتسار واختزال إسقاطات “الفكر السياسي”
في قراءات هزيلة لـ “وقائع سياسية”
لا يمكنها أن تُفهمَ فهما صحيحا وناضجا إلا تحت عناوين ذلك “الفكر السياسي” ذاته،
تماما مثل ما هي ظاهرة “الخبير” أو “المحلل الاقتصادي”،
الذي يختزل إسقاطات “الفكر الاقتصادي” في قراءات لـ “مؤشرات اقتصادية”، هي على الدوام مجرد تعبير عن مُخرجات ذلك “الفكر الاقتصادي”.
وكلاهما نوع من “الببغاوات” المُغْتَرَّة بنفسها، تُلَقَّن من “أبواق الإعلام” المأجورة أو مغسولة الأدمغة، ما يسهم في تشكيل “الإنسان الإمَّعَة” مُعَلَّب التفكير.
فإذا كان “الخبير” أو “المحلل” الاقتصادي هو ذلك الشخص الذي يمتلك قدرة فائقة على محاولة إقناعنا بالسبب الكامن وراء أن ما تنبأ به بالأمس لم يحصل اليوم، وبالسبب المحتمل في أن ما يتنبأ به اليوم قد لا يحصل غدا، فإن “الخبير” أو “المحلل” السياسي هو ذلك الشخص الذي يمتلك قدرة فائقة على اجترار ما تقيئُه ماكينة الإعلام المُوَجَّهَة، من أخبار ووقائع وأحداث وتصريحات، ليرسمَها على شكل ادعاءات يُراد للناس أن يغرقوا إلى الأذقان في تبنيها واعتناقها والإيمان بها دينا يركعون لأوثانه ويسجدون، ليكونوا وقودا لها، أيا كان شكل الوقود الذي سيكونونه، بدءا من “الوقود الإعلامي” الذي يتقمصه مؤدو دور “محطة البنزين”، مرورا بكل من “الوقود السياسي” الذي يتقمصه مودو دور “الولاعة” أو “قداحة الشرر”، و”الوقود الأمني” الذي يتقمصه مؤدو دور “فرن الغاز” أو “طابون الحطب”، وانتهاء بـ “الوقود الإنساني” متجسدا في مادة كل هذه المحارق الدينية والأيديولوجية والعرقية والطائفية والمذهبية، التي هي هذه “الكائنات البشرية” المنقادة إلى تلك الأفران.
هناك بطبيعة الحال استثناءات تؤكد القاعدة التي أشرنا إليها ولا تلغيها، فيظهر من وقت لآخر محللون يرقون إلى مستوى مفكرين إن في السياسة أو في الاقتصااد، لكنهم لن يستوقفونا كثيرا بسبب كونهم استثناءً، مادمنا نشهد ظاهرة مستشرية من العقم الحقيقي في الطرح تعتصره النمطية، ومن الإسهام المريب في خلق فضاءات التضليل والتزييف والتغييب لدى المتلقين.
دفعني إلى البدء بهذه المقدمة التي تبدو فلسفية في ظاهرها، ما نشاهده من تسابق وتنافس إعلاميين وسياسيين محمومين على تشخيص ظاهرة “داعش” – التي طفت على السطح السياسي الإقليمي فجأة، خالقة حالة من التهديد غير المفهوم ولا المتوقع – عبر استضافة وسائل الإعلام على مختلف أنواعها، من تُسَمِّيهم خبراء ومحللين ومختصين في هذا الشأن أو في ذاك، حتى أصبح المرء يتوقع أن يصحوَ من نومه ذات يوم على برنامج إخباري يستضيف خبيرا في شؤون الألوان المفضلة عند “الخليفة البغدادي”، وآخر خبيرا في شؤون أنواع الأحلام التي اعتاد الداعشيون على التفاؤل بها فيقاتلون بحماسة، وتلك التي اعتادوا على التشاؤم منها، فيؤجلون بسببها قتالهم عدة أيام.
في ضوء مئات اللقاءات في عشرات البرامج التي تبثها عشرات القنوات الفضائية، ومن خلال مئات المقالات والتحقيقات والتقارير المنشورة في أكثر من خمسين مطبوعة صحفية عربية وعالمية، وفي أكثر من مائة موقع إلكتروني، تصدت كلها لتسويق فهمها لظاهرة “داعش” في سوريا والعراق، على مدى الأشهر الستة الأخيرة، اتضحت لي المسألتان التاليتان:
أولا: هناك نفق سياسي قليل الإضاءة على نحوٍ ملفت في قدرته على تضليل المبصرين وتزييف قدرة العقلاء، تم تحديده لهؤلاء الخبراء والمحللين، ليقرؤوا الظاهرة الداعشية من خلاله لا يخرجون عن أبعاده وأركانه ومُحَدِّداته ومستويات الإضاءة المتاحة فيه، كي لا تتمَّ الرؤية إلا بالقدر المُقَرَّر والمُراد.
ثانيا: هناك وقائع عصية على التفسير المنطقي بلغة وبأدوات السياسية العاقلة والحكيمة، تمَّ الإجماع على تجاوزها واعتبارها مسلمات ومقدمات غير قابلة للمناقشة، بل وتمَّ البناء عليها بلا منطقيتها تلك، ليتم الترويج لمنتهى منطقية ما بُنِيَ على منتهى اللامنطقية، في ظاهرة معرفية غير مسبوقة في التاريخ السياسي. كل ذلك، لأن من شأن مناقشة تلك المسلمات والمقدمات بلغة المنطق، أن يؤدي بالعقلاء والنزيهين والحكماء من متعاطي السياسة ومحلليها ومراقبيها، إلى رفض القبول بالنفق المظلم السابق كإطار لقراءة الظاهرة الداعشية.
النفق قليل الإضاءة إلى درجةٍ تقاربُ الإظلام، والذي أشرنا إليه في “أولا”، يتجلى في ذلك الحبل السُّرِّي الرقيق الواصل بين الوقائع والأحداث والتصريحات المتعلقة بالظاهرة الداعشية وتداعياتها من جهة، ومواقف وممارسات كافة الأطراف التي تقف في الجهة المقابلة للحالة “داعش” من جهة أخرى. ويرجع السبب في كون هذا الحبل السُّرِّي الواصل بين الخندقين الواضحين والبارزين أشبهَ بنفق مظلم، إلى عدم قدرة الخبراء والمحللين على تقديم تفسيرات منطقية وحكيمة وعاقلة للعلاقة بين ما يحدث في هذا الخندق وما يحدث في الخندق المقابل، ما يشي حتما بأن هناك في هذا الحبل السُّرِّي الذي يجسِّد ممرَّ الاغتذاء المتبادل بين الخندقين، ما يحدث بعيدا عن الأنظار وما لا تعرف طبيعته، خالقا هذه الفجوة من اللامنطقية واللامعقولية بين حزمة الوقائع والأحداث والسيرورات في الخندقين، مع أن الحزمتين يفترض أنهما – كما يسوِّق ذلك الإعلاميون والسياسيون والخبراء.. إلخ – متلازمتان وجودا وعدما.
أما حزمة الوقائع العصية على التفسير المنطقي بلغة وأدوات السياسة العاقلة والحكيمة، والتي أشرنا إليها في “ثانيا”، هي في حقيقة الأمر المجسِّد الفعلي لحالة انعدام التوازن الجيوسياسي بين خندقي الظاهرة الداعشية، خندق “داعش” ذاتها، وخندق “أعداء داعش”، إلى الحدِّ الذي يجعلنا نرى بأم أعيننا كيف أن جميع الأطراف المتعاملة مع هذا الشبح المسمى “داعش”، يقفزون على التساؤلات الكبرى ويبقونها معلقة بلا إجابات، ثم ينطلقون من اعتبارها مسلمات لا تناقش، ليبنوا رؤاهم وتحليلاتهم – التي يتم تسويقها إلى كلِّ المستويات الأدنى التي تستقي منهم وعيها السياسي – بدون أسس معرفية عقلانية، فتظهر أشبه بالخرافات والأساطير والهلوسات، منها بالرؤى السياسية التي يفهمها العقلاء والحكماء عادة. والأدهى والأمر في هذه الظاهرة هو أن من يسوقون تلك الهلوسات والأساطير هم أنفسهم من “يقرفوننا” ليل نهار، وصباح مساء بادعاء علميتهم وعقلانيتهم، واعتمادهم على مخرجات التجارب العلمية والحس السليم (!!)
تعالوا نتعقب ونستعرض معا التساؤلات الكبرى التي يتم تسويق سيرورة الظاهرة الداعشية بخندقيها، بدون تقديم إجابات مقنعة ومنطقية لها، ما يجعلنا مضطرين إلى التوقف توقفا يفرضه علينا احترامنا لعقولنا عند البضاعة السياسية المسوقة بالقفز على تلك التساؤلات، معتبرين إياها – أي نحن – بضاعة غير يقينية وغير صالحة للاستهلاك العقلي، داعين كل العقلاء والحكماء إلى عدم القبول بأيِّ فهمٍ لأيٍّ من مكونات الحدث الداعشي، لا يقوم ابتداء على تقديم تفسير منطقي وعاقل وفيه قدر مقبول من العلمية لتلك التساؤلات الأساس.
التساؤل الأول:
فجأة وبدون مقدمات وكما يقول المثل الشعبي: “في ليلة ما فيها ظَوّْ قمر”، تمكَّن عدد من المقاتلين الذين لا يجيدون سوى الكر والفر وحرب العصابات، بناء على معلوماتنا وخبراتنا السابقة عنهم وعن ماضيهم وماضي حواضنهم التي يُسَوَّق لنا أنها فرَّخَتهم وأنجبتهم، وهو عدد لا يتجاوز في أقصى التقديرات المتساهلة جدا الـ “13” ألفا، مع أن بعض التقديرات اعتبرت أنهم لا يتجاوزون الثلاثة آلاف مقاتل، مسلحين بأسلحة معظمها – كي لا نقول كلها – خفيفة ومتوسطة، تتراوح من البنادق الآلية، والعبوات الناسفة، والقنابل اليدوية، إلى المدافع الرشاشة، وقذائف الآر بي جي، ومدافع الهاون، من السيطرة على مواقع وأسلحة وأفراد “جنودا وضباطا وضباط صف”، 6 فرق عسكرية عراقية كاملة منتشرة في مساحة مائة ألف كيلومتر مربع من الأراضي العراقية، وهي فِرَقٌ تشكِّل ما يقارب ربع الجيش العراقي الذي ما لبث أن وُصِفَ بأنه انهار بكامله حتى غدا العراق “دولة بلا جيش” عقب تلك الهزيمة السريعة وغير المسبوقة في تاريخ الجيوش، بدباباتهم وطائراتهم ومدفعيتهم الثقيلة وعرباتهم المدرعة وكامل عتادهم العسكري الثقيل والخفيف، وكافة ذخائر ذلك العتاد، وقد قُدِّرَ تعداد تلك الفرق ما يقارب التسعين ألف فرد، فروا بدون ملابسهم العسكرية بدءا بقادتهم الميدانيين (!!)
بعد الحدث تلاحقت التفسيرات لتقديم تبرير لما حدث:
فمن قائل بأن هناك خيانات حدثت على مستوى قيادات الفرق فتم الأمر بالانسحاب وعدم القتال.
ومن قائل بأن الجيش لم يكن مدربا تدريبا كافيا، وهو جيش هش رغم عشرات المليارات التي أنفقت على تسليحه وتدريبه.
ومن قائل بأن الهزيمة النكراء حصلت بسبب أن تلك الفرق فوجئت وأُخِذَت على حين غرة.. إلخ.
وكان هناك تفسير تمَّ المرور عليه مرور الكرام دون أن يقف عنده أحد، تقدم به محلل عراقي، جاء فيه أن الجيش العراقي لم ينهزم ولا هو انسحب، لأن القتال لم يحدث أصلا، بسبب أن الجيش سلم الأمر للشعب بدون قتال لنقمته على نظام المالكي المتجبر والمتغطرس والإقصائي. ويَعْتَبِرُ صاحب هذا التفسير أن الذي حقَّق هذا الإنجاز ليست “داعش” – لأن داعش تقتل أسراها، أو على الأقل لا تُسَرِّحُهم وتطلق سراحهم بهذه السهولة وبلا ثمن، ليكونوا ورقة ضغط بيدها، فهذا ديدنُها الذي نتابعه عبر ما تسوقه لنا وسائل الإعلام، فكيف إذا كانوا آلافا مألفة من جيش مهزوم يُخشى إن تُرك من أن يعيد تجميع وتنظيم نفسه – وإنما هم ثوار العشائر وبقايا البعث والصَّداَّميين.. إلخ، ويستدل صاحب هذا التفسير على رؤيته بأن جنديا أسيرا واحدا لم يقتل، وأنه قد تم تسريح الجميع ليعودوا إلى ديارهم.
ثم فجاة أيضا وبدون مقدمات، تنقلب المعادلة رأسا على عقب، فيصبح هؤلاء المتسامون في تعاملهم مع الجيش ومع أسراهم منه، مجموعة من الوحوش المفترسة التي تجز رقاب المدنيين والصحفيين، وتتاجر بالنساء، وتُخَيِّر المسيحيين بين الموت أو إعلان الإسلام أو الطرد وتنفذ ذلك، لا بل ترتكب في حق “الأزيديين” ما يعتبر جرائم في حق الإنسانية، دون أن نعرف أي نوع من الفيروسات اخترق عقول هؤلاء، فقلبهم فجأة من مُعتقين لأسرى الحرب من الجنود المسلحين بلا ثمن، إلى قتلة يذبحون المدنيين الأبرياء ويسومونهم سوء العذاب (!!)
والسؤال الذي لا يمكن بناء قصة سياسية حقيقية وكاملة تنير لنا طريق ما حدث لاحقا بدون الإجابة عليه هو:
كيف حصل ذلك الأمر الجلل، في ظل هذا الاختلال الكبير جدا في موازين القوة بين داعش والجيش العراقي (؟!)
ومن هم من فعلوه على وجه الحقيقة، إذا كانوا ينحنون للجندي الأسير ويطلقون سراحه بفروسية، ويقتلون المدني ويبيعون المرأة بلا أي ذنب ارتكباه، وبلا أي تفسير لهذا التناقض العجيب (؟!)
التساؤل الثاني:
ثم وبعد رحيل “المالكي” قائد الجيش المهزوم، يتِمُّ السكوت على الفضيحة، ويسود صمت القبور على الواقعة الكارثية التي لا يتم السكوت على عشرها لو حصل في أيِّ دولة في العالم، ويتمُّ غض الطرف عن أيِّ تحقيقات في الأمر، وكأن شيئا لم يحدث، لتبدأ تطورات الوضع تأخذ منحى تراجيديا عرفنا تفاصيله عبر وسائل الإعلام، وطُوِيَت على نحوٍ مريب صفحة الهزيمة النكراء، وطويَ سرُّ سقوط الحجر والشجر والبلاد والعباد في أيدي تلك الحفنة من الوحوش التي لم يعد يدري أحدٌ من أيِّ حديقة للحيوانات أفلتت ومن أفلتها من عقالها، كي تعيثَ في الأرض فسادا كما لا تحتمله مخيلةٌ خارج إطار تصورها لما ستفعله يوما ما “يأجوج وماجوج” في أساطير آخر زمان اللاهوت الديني الإسلامي (!!)
لماذا يتم هذا الصمت المريب على أكبر كارثة في تاريخ العراق ما بعد صدام حسين، ولماذا لم تفتح تحقيقات واسعة النطاق لفهم ما حصل، وشرحه للشعب العراقي (؟!)
هل هناك ما يُخشى من أن ينكشفَ أمره في الأسرار التكوينية للظاهرة الداعشية (؟!)
التساؤل الثالث:
كل الإعلام العالمي، وكافة المحللين السياسيين وصناع القرار العالمي والإقليمي، وعلى رأسهم الأميركان والإنجليز والإيرانيين والسعوديين وحكام العراق والأكراد.. إلخ، ما فتئوا يتحدثون عن أن داعش تحولت إلى تنظيم خطير بعد امتلاكها كل تلك الأسلحة الثقيلة والمتطورة، وأنها أصبحت أخطر تنظيم في العالم.. إلخ (!!)
ترى هل الـ “13” ألف مقاتل داعشي هم من سيستخدمون مئات الدبابات والعربات المدرعة ومدافع الهاوتزر وأجهزة الرادار المتطورة، والصواريخ المضادة للطيران، وراجمات الصواريخ، والأسلحة المتطورة الأخرى، وهي الترسانة التي كانت تحركها 6 فرق بتعداد تسعين ألف جندي وضابط وضابط صف مدربين (؟!)
كيف يمكن لهذه الأسلحة الكثيرة والثقيلة والمتطورة أن تشكل خطرا حقيقيا على الإقليم والعالم إذا لم تقع في أيدٍ مدربة وعالية التأهيل تستطيع تشغيلها واستخدامها، ليكون لامتلاكها لها معنى حقيقيا ينطوي على فعل التهديد (؟!)
هل معنى هذا أن مقاتلي داعش هؤلاء مدربون على هذا المستوى العالي النظامي (؟!)
وإن كان الأمر كذلك فأين تم تدريبهم، إذا كانت أفغانستان نفسها، وحاضنة القاعدة نفسها، لا تملك مثل هذه الكفاءات والخبرات العسكرية حتى نقول أن داعش ورثتها من هناك (؟!)
أم أن الذين فعلوا كل ذلك وسيطروا على كل تلك الأسلحة فجعلوا لوجودها في حوزتهم معنى خطيرا ليسوا هو هؤلاء المقاتلين البسطاء الذين يُسَوَّقون لنا بصفتهم قتلة وسفاحين ومصاصي دماء ليل نهار، وإنما جهات أخرى (؟!)
عندئذ من هي هذه الجهات (؟!) هل هي جهات عراقية، أم هي جهات لها ارتباطات إقليمية ودولية محددة (؟!) أم أن الأمر هو فعلا داعشي، لكن هذا التهويل غير حقيقي ومقصود لأهداف أخري (؟!) وإذن فما هي هذه الأهداف إذا كان الأمر كذلك (؟!)
كل هذه الأسئلة تم القفز عنها، وتجنب تقديم إجابات عليها، وتم فرض فكرة أن كل تلك الترسانة انتقلت إلى داعش التنظيم الإسلامي الإرهابي وهذا مكمن خطورة هذا التنظيم. أما كيف تم ذلك ومدى إمكانه في ضوء حزمة التساؤلات السابقة، بل ومدى إمكان توظيفه لخدمة السياسات الداعشية، فقد تم السكوت عنه وإبقاؤه معلقا بدون إجابات، ليتم التأسيس على المقدمة الافتراضية التي تمَّ تسويقها بدون منطق أو دليل أو برهان (!!)
التساؤل الرابع:
داعش تمددت وتوسعت واحتلت مدنا وقرى وبلدات تعدادها بالملايين. وتم الاستسلام أمام بطشها وجبروتها، والانحناء أمام قوتها وإرهابها، إلى درجة أننا أصبحنا نتساءل: هل نحن بإزاء البغدادي – هذا الخليفة الشبحي – أمام جنكيبز خان جديد، أم أننا أمام هتلر جديد، أم أننا أمام نيرون جديد، أم أننا أمام شخصية تفوقت على هؤلاء جميعا. وأصبحنا نتساءل بإزاء “داعش”: هل نحن أمام زحف مغولي، أم نازي، أم ماذا (!!)
لقد انعدمت القدرة على مقاومة داعش شعبيا.. إلخ، وراحت تقيم لنفسها مؤسسات دولة الخلافة، وتنشئ شرطتها ورجالات حكمها وإدارييها، وتفرض آليات لتنظيم الدولة الناشئة، وسيطرت على حقول نفط عديدة، وراحت تديرها بالقوة، وراحت تسوق النفط وتبيعه وتجبي الأموال من بيعه على نحو انحنت أمامه دول إقليمية ورعته وساعدته رغم خروجه عن كل قواعد التجارة الدولية المشروعة.. إلخ، هذا فضلا عن القتال ومواجهة أعدائها على كل الجبهات الشمالية والشرقية والغربية والجنوبية، بل وحتى السماوية (!!)
ترى، إذا كان تعداد الشعب العراقي الذي يقع تحت سيطرة داعش هو عدة ملايين من البشر ينتشرون في عشرات المدن والقرى والبلدات (!) وإذا كانت هناك عشرات المؤسسات التي تمت السيطرة عليها والتي لابد لها من إداريين داعشيين يديرونها ويضمنون ولاءها (!) ولو افترضنا أن عدد أعضاء داعش ثلاثون ألفا وليس 13 ألفا كما ذكرت أكثر التقارير تَبَسُّطا في الأمر (!) فهل يكفي هذا العدد لتكوين جيش يقاتل كل العالم، ومنه بقايا جيش المالكي، والبشرمجة، وأعداؤهم الداخليين من السنة، ويهدد بغزو الأردن، ويستعد لمواجهة أميركا، ويفرز عشرات الآلاف من الموظفين لإدارة تلك المؤسسات والإشراف على حقول النفط وعلى خطوط بيعه.. إلخ (؟!)
هل فعلا يستطيع حتى خمسون ألفا أن يقاتلوا دولة أولى هي “العراق”، ومشروع دولة ثانية هي “كردستان”، ويهددوا بغزو دولة ثالثة هي “الأردن”، ويتحملوا قصف جوي من دولة رابعة عظمى هي “أميركا”، ويديروا دولة خامسة هي دولة “داعش” نفسها، ويثيروا كل هذا الرعب المُسَوَّق إعلاميا لدى كل دول الإقليم والعالم والأمم المتحدة التي أصدرت قرارات صارمة بشأن داعش ومعها في رجحة الميزان “جبهة النصرة” (؟!)
التساؤل الخامس:
رغم كل ما قيل عما فعلته داعش في العراق وسوريا قبل تجاوزها ما أطلق عليه الخطوط الحمراء العراقية متمثلة في إقليم كردستان، وسد الموصل، وتهديدها باجتياح بغداد.. إلخ، فإن ذلك كله وعندما كان يحدث داخل حدود جغرافيا محدَّدة رغم بشاعته، فإنه لم يدفع الولايات المتحدة ولا بريطانيا ولا العالم على تحريك أيِّ ساكن. ولكن منذ اللحظة الأولى التي خرجت فيها داعش عما بدا أنه جغرافيتها الخاصة التي لا يجوز لها أن تتجاوزَها، تحرك الكل، وبدأت الضربات والحشود.. إلخ، مرفقة بتوضيحات أميركية دائمة كشفت حرصا أميركيا على أمورٍ غاية في الأهمية والدلالة هي أن محاربة داعش ستطول، وأن المعركة الجوية لن تحسمها، وأنها تحتاج إلى تحالفات دولية، وان الولايات المتحدة لن تتورط في أيِّ حرب خارج إطار الضربات الجوية المحدودة لإستعادة ما احتلته داعش من كردستان، وتحرير سدِّ الموصل، وحماية الأقليات التي تضررت من الأفقعال الهمجية لداعش، وأن البقية تقع على كاهل الشعب العراقي والحكومة العراقية.. إلخ، وبدا واضحا أن الضربات الجوية تقلصت، ولن نقول توقفت بعد أن عادت داعش لتنحصر داخل جغرافيتها السابقة وقبل التمدد خارج الخطوط الحمراء المسموح بها، على ما يمكن فهمه مما يحدث (!!)
ترى، ماذا يعني كل هذا (!) هل داعش استحقاق إقليمي مطلوب ولها دور لا تعترض عليه لا الولايات المتحدة ولا إيران إذا التزمت بحدود دورها المرسوم “مِنْ” و”في” داخل خريطتها الجغرافية والديمغرافية المُقَرِّرَة والمسموح بها (!) أم أن المسألة لها وجه آخر غير هذا وغير ذاك مختبئ في الأحبال السرية التي فُرِضَت علينا كأنفاق لفهم الظاهرة (!)
التساؤل السادس:
رغم كل البشاعة التي يوصف بها تنظيم داعش لجهة ممارساته الوحشية المتعارضة مع أيِّ شكل من أشكال حقوق الإنسان، كما تسوِّق لنا ذلك يوميا وسائل الإعلام على مختلف أنواعها، وجدنا أن ظاهرة عجيبة راحت تجد لها مكانا في التعاطي مع هذه الظاهرة اللاحضارية.
ففي الوقت الذي كان يُغتال فيه المتنورون في سالف العصر والأوان، معنويا مثل “نصر حامد أبو زيد/نموذجا”، وجسديا مثل “فرج فودة/نموذجا”، وفي الوقت الذي قامت فيه الدنيا ولم تقعد بسبب رواية مثل “وليمة لأعشاب البحر”، وقبلها لرواية مثل “آيات شيطانية”، لجهة ادعاء اعتداء تلك النماذج على الدين وعلى المقدسات والثوابت.. إلخ، دون أن يظهر أيُّ اتجاه فقهي إسلامي يتعاطي مع تلك النماذج باعتبارها ممكنات إسلامية عقديا وفقهيا وفكريا وأدبيا، بصرف النظر عن الموقف منها قبولا أو رفضا أو اعتراضا وانتقادا وتخطيئا، ليصار على الفور إلى تصنيفها باعتبارها تتحرك خارج حدود الدائرة الإسلامية من حيث المبدأ، رغم أن الإطلالة المعمقة والمحايدة والمتجردة عليها تكشف عن منتجات بشرية بعضها إيجابي جدا، وبعضها الآخر أبعد ما يكون عن التهم التي وجهت إليه، فيما بقيتها فيه شيء من التطرف، نجد أن كل النقاشات الفقهية والعقدية التي تصدت للظاهرة الداعشية، تتحدث من داخل دائرة المشروعية الدينية الإسلامية فقهيا وعقديا، معتبرة أن اجتهادات داعش متطرفة، وأنها غير دقيقة، وأنها لا تقوم على إلمام حقيقي بدلالات النصوص والوقائع المرجعية للإسلام.. إلخ. أي ألا أحد من هؤلاء انطلق من اعتبارها ظاهرة تقع خارج الدائرة الإسلامية أصلا، مع أنها قصمت ظهر منظومة القيم الإسلامية على مستوى الأصول والعقائد وتفسير الوجود أساسا، إلى درجة أنه لم يعد ممكنا معها الحديث عن أننا بصدد اجتهاد إسلامي أو وجهة نظر إسلامية – وإن يكونا متطرفين – عند الحديث عن داعش. لا بل راح الكثيرون يتحدثون عما أطلقوا عليه وصف “مشروع داعش”، وعن مدى اقترابه أو بعده عن “مشروع الخلافة” الذي يوصف بأنه مشروع حقيقي وأصيل.. إلخ، إلا أنهم يأسفون لأن داعش استعجلته، ولم تتبع الطريق الصحيح في تجسيده، وتمارس من خلاله أعمالا متطرفة تسيء إليه كمشروع يصبو إليه هؤلاء (!!)
إن ملاحظات عابرة كافية لأن تكشف لنا عن أن مشركي قريش الذين ناصبهم القرآن العداء، وحمل ضدهم حملة شعواء بسبب منظومة القيم التي كانوا يستندون إليها، والتي كان هدف الإسلام بالدرجة الأولى تغييرها لجهة استكمال أوجه النقص فيها لتصبح صالحة للمشروع الذي سينهض به أتباع الرسالة، إن مشركي قريش هؤلاء كانوا يعتبرون أنفسهم الورثة الشرعيين لدين إبراهيم، وأنهم سدنة الكعبة بيت الله الحرام، والقائمين على وفادة الحجيج، وأنهم أهل الوسط بين العرب، وأنهم يكرمون الضيف، ويحسنون الجوار، ويعلون من شأن المرأة، ويمارسون الشورى بين أهل الرأي والحكمة منهم، ولا يقطعون أمرا بدون عقلائهم وحكمائهم، ويرفضون الظلم الذي استدلوا على رفضه بحلف الفضول الذي يعتبر واحدا من أهم الاتفاقيات الإنسانية لجهة اعتنائها بالدفاع عن حقوق الإنسان في ذلك الزمان.. إلخ، ومع ذلك لم يُقِمْ الله وزنا لهذه الاعتبارات، ورَفَضَ هذه الادعاءات، مؤسسا لأرضية قِيَمِيَّة جديدة لاستحقاق ادعاء وراثة مِلَّة إبراهيم عليه السلام، يتم أخذها كحزمة واحدة تتوالد بعض مكوناتها من بعضها الآخر..
نقول.. إذا كان هذا هو موقف القرآن الكريم والإسلام عموما من مشركي قريش الذين من السهل الانتباه إلى أنهم كانوا أكثر رقيا وتطورا والتزاما بالقيم الإنسانية قبل أربعة عشر قرنا، من “داعش” ونظيراتها في القرن الحادي والعشرين، فهل يمكن لعاقل أن يقيمَ وزنا لأيِّ ادعاء داعشي بالانتساب إلى مرجعية “الإسلام” و”القرآن” و”الرسول محمد” (؟!) أوليس الأجدى معاملتهم بأشد مما عامل القرآن مشركي قريش الأكثر رقيا وتطورا والتزاما بالقيم من داعش (؟!) ألا يعني هذا ضرورة الخروج من دائرة أسلمة المنظومة الفكرية والفقهية والعقدية التي تقوم عليها داعش وربيباتها ونظيراتها، وعدم التعامل معها باعتبارها ممكنا إسلاميا، وإنما باعتباره ضدا من أضداد الإسلام ونقيضا له أشد عداوة له وإساءة إليه من مشركي قريش الذين كانوا أكثر تمدنا وتحضرا والتزاما بالقيم الإنسانية النبيلة من كل “الدواعش” المعاصرين (؟!)
وبإزاء هذا الافتراض المنطقي نتساءل:
لصالح من، ولحساب أي مشروع وفلسفة وفكر، تتم أسلمة داعش، واعتبارها ممكنا شرعيا إسلاميا هي وشقيقاتها الأخريات، وإن يكن ممكنا متشددا ومتطرفا وخالف القرآن وصحيح السنة في مسائل تنظيمية وإدارية فقهية الطابع – وهو ما يجوز فيه الاختلاف طبعا عند من يتحدثون بهذه النمطية – كما يؤسس لذلك فقهاء السلاطين، وفقهاء النمطية العاقر في هذا الزمن البائس (؟!)
لماذا يُكَفَّر التنوير والتجديد الراقي والعاقل، ويُسَفَّه الإبداع والأدب الناقد والمخالف، باعتباره خروجا عن الدائرة الإسلامية أساسا، وتتم شيطنته باعتاره ولاء لأعداء الأمة وخدمة للإباحية والانحلال والعلمانية والإلحاد.. إلخ – ولن نناقش في مشروعية ذلك في مقالنا هذا – فيما يُحتضَن التطرف، وتُحتضن البشاعة، وتتم شرعنة القتل وجز الرقاب واحتلال الأرض وتهجير المسيحيين وإبادة المخالفين ونحر الأسرى والمتاجرة بالنساء ومبايعة الأطفال، لا باعتبارها جائزة طبعا – فلا أحد قال بذلك حتى من المتعاطفين مع داعش – بل باعتبارها ممكنات إسلامية مادامت تجسد فهما خاطئا للمرجعية، في كارثة تأصيلية تؤسس لبشاعة الإسلام ذاته مادام قابلا لأن يحتضن هذا الممكن في بعض تفسيرات بعض مرجعياته التاريخية (؟!)
من هو المستفيد من القول بأن تلك البشاعات لا يوجد ما يسندها من أدلة شرعية، وهي مخالفة صريحة لممارسات الرسول والصحابة وخروج عن منطق القرآن الواضح، دون المساس بإسلامية “داعش” والإبقاء عليها فئة إسلامية متطرفة، في حين يتم التكفير الفوري وغير القابل للنقاش لمن يقول بأن “الله يفكر”، أو بأن “الجنة هي مآل جميع البشر” مثلا، حتى لو أنه كان خادما للإنسانية ومبجلا لقيم التعايش بين البشر (؟!)
عندما فرحت الشعوب العربية بانتفاضات شبابها منذ عام 2011، تم النجاح في ربط نتائج تلك الانتفاضات بالعنف والإرهاب وانعدام الأمن، حتى أصبحت العودة إلى ما مضى، وحتى غدا الإبقاء على الراهن بدون أي مساسٍ به مطلبا تهون دون تحقيقه كل المطالب (!!)
فهل يراد مثلا تكريس صورة للإسلام مرتبطة بهذا المُخرَج الداعشي وما كان على شاكلته، حتى يغدو الحديث عن “الوهابية السعودية” المتخاذلة والمرتبطة بالأجنبي والمرسخة لكل المظالم والنكوصية والبدائية في التفكير، هي أهون الشرور، إذا كان لابد من الاختيار بين داعش الدموية و”الوهابية السلفية السعودية” البغيضة، ويتم القبول بها من ثمَّ خيارا لا مفر منه، مثلما تم القبول بعودة العسكر خيارا لا مفر منه إذا كان بديله هو انهيار الدولة (؟!!)
ترى، هل هذا نوع من الدهاء يمارسه “المهاجمون الجدد” في استخدام ما هو متاح من ضلالات وانحرافات وبقايا قيء تاريخي عربي إسلامي، لتسويق هذه الصورة البشعة عن الإسلام، لضمان هيمنة صورة أقل بشاعة لكنها ممعنة في رجعيتها هي أيضا (؟!)
ولا نقصد بالصورة البشعة ما تقوم به “داعش” ونظيراتها على الأرض من أفعال يندى لها الجبين، فقد تجاوز أعداؤنا الجدد هذه الفكرة النمطية الغبية في تشويه الإسلام، والتي من السهل دحضها بخروج من يقول أن الإسلام لا يقبل بذلك، وهو ما يفعله الكثيرون فعلا فيما نسمعه صباح مساء وليل نهار من رؤى وتحليلات، تحاول الدفاع عن الإسلام من هذه المارسات التي يقال أنها أساءت فهمه فحرفته عن سكته (!!)
إن البشاعة التي نقصدها – والتي غدت هي الأسلوب المتبع لشيطنة الإسلام – تتمثل في جعل دائرة الاجتهادات الإسلامية تقبل مثل هؤلاء المجرمين الخارجين عن كل الخطوط الإنسانية، رغم اعتبارها اجتهادات خاطئة، أي أنها بشاعة تحويل الجريمة إلى ممكن إسلامي بشكل من الأشكال (!!)
إننا في زمن أصبحت كل فلسفة تنطوي على قبول الممكنات المتناقضة قيميا هي فلسفة مطعون فيها ومشكوك في إنسانيتها. إننا نتحرك باتجاه أنسنة القيم، ونصبو إلى جعل كل الممكنات تبدأ من إنسانية القيم، وألا ممكنا يمتلك مشروعية من أي نوع داخل فضاءات تلك القيم إذا كان لا يكرسها ويجذرها أصلا، ناهيك عن كونه يعارضها ويتناقض معها (!!)
هل يريدون أن يهدموا الإسلام بالقول بأنه ينطوي على اجتهاد ممكن، أو أنه كان ممكنا، أو أن المرجعية الإسلامية يمكن فهمها على أنه ممكن ضمن سياقات معينة، اجتهاد ينطوي على ذلك القدر من البشاعة والتوحش واللاإنسانية، في زمن لم يعد يقبل أي مرجعية يكون من ممكناتها التأسيس لهذا التوحش تحت أي عنوان (؟!)
وإذن أفليس فينا رجل عاقل رشيد يخرج ليقول للعالم وللمسلمين وللعرب:
“إن داعش” ومثيلاتها، ليسوا مسلمين ولا علاقة لهم بالإسلام، وهم أعداؤه الأشد والأخطر، مثلهم مثل المستعمرين والمحتلين.. إلخ، وأن أبا جهل وأبا لهب وعتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وغيرهم من عتاولة قريش المشركين، هم أقرب إلى دين محمد وقبله إلى دين إبراهيم من هؤلاء، وبالتالي ولأن القرآن رغم ذلك لم يعتبرهم مقبولين من وجهة نظره في التأسيس للقيم الإنسانية، فالأجدى أن لا يقبل وبكل المعايير أي ادعاء بالانتساب إليه وباستخدام كلماته من قبل أعداء الإنسانية الجدد هؤلاء، بعد أن انضموا إلى محفل العنصرية والاستعلاء والدماء وهم يتمسحون باسم الهن العظيم، وينسلون جرائمهم إلى مرجعياتٍ ارتضاها هو للبشر (!!)
أم أن هناك أمرا مريبا ما يزال يتخفى داخل ظلامات ذلك الحبل السُّرِّي الذي أشرنا إليه في مطلع هذا المقال، بحيث أن علينا أن نجيب إجابات واضحة على كل هذه التساؤلات والاستفسارات ونتأكد من معطياتها على الواقع قبل أن نصدر أحكامنا النهائية (؟!)
إن هذه الحزم الست من التساؤلات هي المكونات الأساس لظاهرة “داعش” في الإقليم خلال سيرورة تداعياتها على مدى الأشهر الستة الأخيرة. فهل يمكن فهم هذه الظاهرة إذا ما تم القفز عن هذه التساولات وتجنب الإجابة عليها وإبقائها معلقة (؟!) بل هل يمكن اعتبار ذلك القفز والتجاوز والتعليق أمورا بريئة لا تشي بأن وراء الأكمة ما وراءها، خاصة وأن أيا من الإجابات المحتملة على تلك الحزم من الأسئلة سيفرض رسم سناريوهات متباينة للظاهرة ولسيرورتها لا تتفق مع السيناريو المُسَوَّق عبر الإعلام وعبر رؤى الخبراء والمحللين السياسيين وعبر مواقف أصحاب القرار الإقليمي والعالمي من الظاهرة الداعشية (!!)
سنقف عند هذا الحد من طرح الأسئلة، فليست مهمتنا في هذا المقال طرح أسئلة لنجيب عليها، بل طرح أسئلة تشكك في مصداقية ومشروعبة الرواية المُسَوَّقَة عبر وسائل الإعلام وعبر آراء الخبراء ومواقف صناع القرار، تاركين للقارئ ولخياله وحدهما تصور السيناريوهات المحتملة بإزاء كل إجابة محتملة، ليكتشف بنفسه أننا أمام حدث إقليمي ضخم ومصيري عليه أن يفهمه ببذل الجهد الخاص في ذلك، لأنه المقدمة الثقافية الكبرى التي تَسوق إلى الهاوية أربعة كيانات يقوم عليها وجوده: كيانه هو كإنسان أولا، ودينه كرؤية تفسيرية للكون متنورة ومتحضرة وراقية وقابلة للنمو ثانيا، ووطنه كجغرافيا وديموغرافيا للتعايش كي تنتفي فيها كل أنماط التعايش ثالثا، وعروبته كحاضنة لحراكه التحرري والتوحدي والنهضوي رابعا (!!)