www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

البوصَلَة الأميركية في العراق: قَسِّم ثم قَسِّم ولا تتوقف عن التقسيم (!!)/: أسامة عكنان

0


الذي يبتعد كثيرا لا يرى التفاصيل، فيغرق في التنظير.

والذي يقترب كثيرا لا يرى إلا التفاصيل، فينفصل عن التأصيل.

الأول يرافق الخفافيش التي لا ترى بسبب الإمعان في البعد. والثاني يرافق الأفاعي التي لا ترى بسبب الإمعان في القرب.

 

وكلاهما لا يعرفان الحقيقة كما هي ولا يريانها. فالحقيقة تقوم على رؤيةِ التفاصيل في الكُلِّيات، وعلى معرفة الكُلِّيات من التفاصيل. أي على الارتفاع عن الأرض إلى مدى لا تغيب عنه التفاصيل، وعلى النزول من السماء إلى مدى لا تغيب عنه الكليات.

“الاختراق الهابط” هو إستراتيجية التدمير المتبعة من قبل الطغاة والمحتلين والأميركان (!!)
الطاغية في مسيرة عمله على ترسيخ طغيانه ونجاح مظالمه وسياساته، يعمل جاهدا على تحويل المعركة الناشبة بينه وبين فئاتٍ واسعة من الشعب، إلى معركة قائمة بين فئات متباينة من الشعب، ليظهرَ هو بمظهر البريء وصمام الأمان العامل على حفظ الأمن والاستقرار وحماية الأرواح والمرافق العامة والخاصة، لذلك فإنه لا يتورع عند اللزوم عن ارتكاب الجرائم التي يحاول أن يتقنَ إخراجَها بما يجعلها تظهرُ وكأنها جرائم يرتكبها المناوئون له، كي يُقْنِعَ أنصارَه والمحايدين والمتردِّدين وفئاتٍ واسعة أخرى من الشعب بأنَّ هؤلاء ليسوا في حقيقتهم مناوئين له بل مناوئين للشعب ذاته، وبأنَّ وُجْهَةَ المعركة الحقيقية من ثمَّ ليست ضدَه، بل يجب أن تكون ضدَّ من يرتكبون تلك الجرائم التي تنحصر مهمته في استئصالهم واجتثاثهم دفاعا عن الشعب والدولة والوطن. وهكذا يفعل المحتل أيضا، بل وهكذا تسلك السياسات الاستعمارية الإمبراطورية الإمبريالية الأميركية في العالم.
وهذا تاريخ الطغاة والمحتلين والإمبريالية الأميركية أمامنا فلنقرأه جيدا.
أروني طاغية واحدا أو محتلا واحدا، أو مكانا واحدا كانت الولايات المتحدة حريصة على اختراقه، دون أن يستخدموا – الطاغية أو المحتل أو الأميركان – هذا الأسلوب قبل أن يتم إسقاطهم والإلقاءُ بهم في مزابل التاريخ .
وأروني طاغية واحدا، أو محتلا واحدا، أو هجمة أميركية واحدة، لم نكتشف بعد عقود من سقوطه أو سقوطها وظهور المستور عن حقبَته أو حقبتها، وعن أجهزة مخابراته أو مخابراتها، أنه لم يكن أو أنها لم تكن، وراء عشرات الأعمال الإجرامية التي كانت تُنْسَبُ لمناوئيه أو لمناوئيها، ووراء تأسيس العديد من التنظيمات التي كنا نقاتلها ونبغضها، أو نتبناها وندافع عنها، ونبني سياساتِنا ومستقبلَنا على قاعدة أنها حقيقة، في حين أننا كنا في حقيقة الأمر منجرفين وراء وهمٍ هو بأكمله من صنع الطاغية وأجهزة مخابراته، أو المحتل وأجهزة أمنه، أو الولايات المتحدة ومخابراتها المركزية ليس لا (؟!)
لقد بدأت الرحلة الحديثة لهذا النمط من أنماط محاربة المعارضين للطغيان، عبر اختلاق الأحداث الإجرامية القادرة على توجيه الحركة الشعبية والنضالية المناوئة لأنظمة الحكم وفلسفاتها وثقافاتها، نحو الأعداء السياسيين لتلك الأنظمة، وليس نحو تلك الأنظمة نفسِها، أو عبر إحداث سيرورات سياسية أو عسكرية تستهدف إعادة ترسيم منطقةٍ ما وفق خرائط جديدة تمليها مجموعة من المتغيرات المرئية أو المرتقبة، لتصاغ هذه الخريطة وتتشكل على نحوٍ يصب في خندق سياسات الطرف صاحب المصلحة في توجيه الإقليم والتحكم في مسارات سيرورته لحقبة من الزمن قادمة من عمره وتاريخه..
نقول.. لقد بدأت الرحلة الحديثة لهذا النوع من الأعمال القائمة على مرجعيات استخباراتية عالية، في الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما لجأ بعض رجالات النظام هناك مُمَثَّلين في “مكتب التحقيقات الفدرالي/FBI”، بالتحالف مع بعض رجال الاحتكارات والمال الرأسماليين الصناعيين تحديدا، ممثلين في “كارتل الصناعات الكبرى”، إلى تنفيذ أعمال عنف إجرامية أدت إلى قتل عشرات العمال المتظاهرين ضد أعداء حقوقهم النقابية.
ولقد تمَّ إخراج أعمال العنف والجرائم تلك بشكلٍ أقنعَ الجميع بأنها من ترتيب وتنفيذ وتخطيط القيادات النقابية العمالية التي استخدمت أرواحَ ودماءَ العمال سلاحا لتحقيق أكبر قدر من التعاطف مع الحركة العمالية، ما أدى بسبب الحبكة المُتقنة إلى إدانة تلك القيادات وإعدام معظمها، فتراجعت الحركة العمالية الأميركية التي فقدت خيرةَ قياداتِها، والتي ضُرِبَت بهذه الخطة الأمنية القذرة في صميم تماسُك بنائها النقابي.
وبقي ذلك الأمر سرا مطويا، إلى أن كشفه أحد المتواطئين في تنفيذه من “مكتب التحقيقات الفدرالي” أَنَّبَه ضميرُه، ليُعادَ النظر في كلِّ شيء، وليقفَ كلِّ الأميركيين حائرين في كيفية ردِّ الظلم عمن تمَّ إعدامهم بغير وجه حق، فلم يجدوا سوى أن يكون يوم إعدامهم هو ذكرى سنوية يتمُّ الاحتفال فيها بعيدٍ أطلقَ عليه “يوم العمل/Labor day”، وهو أول يوم اثنين من شهر “أيلول/سبتمبر” من كلِّ عام، والذي انتقلت عدواه إلى العالم ليصبحَ هو “عيد العمال” الذي اختير له يوم الأول من “مايو/أيار” من كلِّ عام . ثم أصبحت كلُّ أنظمة الطغيان تستخدمُ هذا الأسلوب الأمني الأميركي الإجرامي القذر والمتفرِّد في جرائميته في التاريخ الإنساني.
ما لا يعرفه الكثيرون أيضا حول الفكر المخابراتي والاستخباراتي المعاصر، هو أن هناك دورات أمنية متقدمة جدا يتلقاها بعض ضباط المخابرات رفيعي التعليم والثقافة من رتبة مقدم فما فوق عادة، يُطْلَق عليها “دورات الاختراق الثقافي للمجتمع وللقوى السياسية المعادية”، ومن بين تلك الدورات وعلى رأسها، دورة أمنية غاية في الخطورة هي بمثابة إجابة على السؤال التالي: “كيف تُنْشِئ تنظيما معاديا لنظامك أيديولوجيا، وتجعله يخدمه ويعمل لصالحه سياسيا” (؟!)
ولفهم الفكرة والآلية المستخدمة في هذا السياق الأمني الاختراقي، يجدر بنا أن نفرِّق بادئ ذي بدء بين نوعين هامين وأساسيين من الاختراق الأمني تمارسهما أجهزة المخابرات عادة، وهما “الاختراق الصاعد”، و”الاختراق الهابط”، فما هما هذان الاختراقان (؟!)
“الاختراق الصاعد” هو الاختراق التقليدي العادي والبسيط والقائم على فكرة الزج بعناصر مخابراتية إلى تنظيم معين من خلال أطرافه وقواعده عادة، باعتبارها المناطق التنظيمية الأكثر هشاشة في أيِّ تنظيم، بغرض زرع تلك العناصر وارتقائها تنظيميا لتقوم بمهمة وحيدة ومحدَّدَة هي جلب المعلومات وفقَ نظام التقارير الأمنية التي تكون قد تدرَّبَت عليها، وهذا النوع من الاختراق متدني المردود، خاصة إذا كانت التنظيمات المستهدفة حديدية الطابع، وليس من السهل الترقي فيها عموديا أو قبول الأعضاء فيها أفقيا.
ولهذا السبب تطوَّرَ الفكر الأمني وابتدع نظام “الاختراق الهابط”، الذي لا يبدأ من الأسفل ومن الأطراف، وإنما يبدأ من الأعلى ومن الدماغ المفكر والعقل المدبر، ولكن وبسبب أنه لا يوجد أيُّ تنظيم يتيح الفرصة لاختراقه من الأعلى أو من الدماغ، لأسباب موضوعية تتمثل في أن الانضمام إلى أيِّ تنظيم يبدأ من الأسفل ومن الأطراف، وليس من الأعلى ومن الدماغ، فقد تطورت فكرة الاختراق الهابط باتجاه مبدإ غاية في الأهمية لا يقوم على شرخ وهلهلة تنظيمٍ قائم، كما هو حال الاختراق الصاعد، وإنما على مبدأ خلق تنظيم موازي للتنظيم القائم، يكون من السهل خلقه من خلال فئة من الضباط عالية التدريب والكفاءة والتعليم والثقافة، أو على مبدأ خلق ثقافة سياسية بأكملها يجسدها تنظيم جديد وقائم بذاته لغايات أعمق وأخطر من مجرد مواجهة تنظيمات بهذا النمط من أنماط الاختراق أو بذاك.
وهناك أسباب أسباب عميقة تدعو إلى اللجوء لـ “الاختراق الهابط” في إقليمنا العربي المشرقي هي:
أ – إنشاء تنظيمٍ موازٍ لتنظيمٍ قائم يُرادُ هدمُه أو زعزعته وشقُّ صفه وبلبلة شعبيته تمهيدا لإضعافه، في أجواء كلها سلمية، بسبب عدم انطواء أي محاولة غير سلمية لإنجاز ذلك على أي قدر من الاقناع لدى الجماهير. ومثال ذلك ما تمثله حالة “زمزم” في الأردن بالنسبة لحالة “الإخوان المسلمين” و”جبهة العمل الإسلامي”.
ب- خلق حالة غير مرغوبة جماهيريا، لتفريغ حالة أخرى موضوعية وواقعية تحظى بالرغبة وبالولاء الجماهيريين – وإن كانا رغبة وولاء نسبيين – من مضمونها ومن شرعيتها ومن جماهيريتها، والتشكيك بالتالي في مشروعيتها. بغية إنتاج البيئة السياسية والمجتمعية على نحو يؤسِّس لمشروعيةٍ ماَّ للطاغية ولطغيانه ولنظامه ولمرجعياته، على قاعدة أنه صمام أمانٍ يحمي الدولة من مخاطر الانهيار، والمجتمع من تهديدات القتلة والإرهابيين. ومثال ذلك ما تمثله حالات ممارسة الإرهاب الدامي في مصر عبر ما يطلق عليه “أنصار بيت المقدس”، بالنسبة لحالة تنظيم “الإخوان المسلمين” وحلفائهم في ما يسمى “تحالف دعم الشرعية” في وقتنا الراهن.
ج – إنجاح وتمرير سياسة إمبريالية صهيونية أميركية معينة مستهدفة في الإقليم العربي، تتحقَّق من قلب سياقات أيديولوجية، تتخلَّق في حاضنةِ تجاوبٍ شعبي محتمل أو قائم أو يتم تصنيعه على أسس ثقافية، لرسم خرائط محددة تتشكَّل في سياقات تبدو متباينة: “دينية ومذهبية وجغرافية وإثنية”، إلى أن تتماهى فيها تماما الخريطة “الجغرافية” مع الخريطة “الفئوية” إثنية كانت أو دينية أو مذهبية. ومثال ذلك “تنظيم القاعدة” في أفغانستان، ثم سلسلة المتولدات عنه أو على هامشه انتهاء بـ “داعش” في العراق وسوريا.
هذا النوع من الاختراقات بأشكاله الثلاثة السابقة يقوم على مجموعة من القواعد تجعل النتائج المترتبة عليه غاية في الجدوى عادة، لجهة تحقيق أهدافها المتوخاة، وهذه القواعد هي:
أ – اختيار ضابط كفء جدا أمنيا ونفسيا وذهنيا، وبعيد عن أيِّ شبهة أن يكون معروفا لأيٍّ كان حتى لزملائه في الجهاز، حتى لو تطلَّب الأمر تكليف شخص من خارج جهاز المخابرات بعد ضمه إلى الجهاز لهذه الغاية بالذات وتحديدا، على أن يُصارَ إلى استكمال تثقيفه بالثقافة الدينية الجهادية المتشدِّدَة المتناغمة مع الفكرة المُراد تأسيس التنظيم على أساسها، مادامت الفكرة الدينية المتشددة هي أصلا الوعاء الذي يراد له أن يحضن التنظيم المستهدف إنتاجه.
ب – البدء في إبراز الضابط المكلف بإنشاء التنظيم الموازي في الأماكن المستهدفة التي تكثر فيها الفئات القابلة لأن تنتظم وتتجنَّد بسبب كونها غالبا فئات شبابية مندفعة وعقائدية ومتدنية الوعي والمعرفة الدينية.
ج – جعل الضابط المكلف يبدأ بإبراز مؤهلاته بشكل هادئ ورزين، والبدء بإظهار تبنيه لأفكار من تلك التي تبدأ تستقطب فئات هي غالبا شبابية من النوع المشار إليه.
د – ثم في الوقت المحدد تبدأ عملية التنظيم وتشكيل الأنوية والخلايا، وإعداد الكراسات والوثائق السريَّة، والتحركات التوسعية ورصد مواقع النظام المستهدفة.. إلخ.
ه – وفي مرحلة محددة يتم اختيارها بعناية يتم وضع الرؤية العملية للتنظيم واختيار أهداف قابلة لأن تضرب عند الطلب والحاجة والتدرب عليها تحديدا.. إلخ.
و – تكون الخلايا التي تم تشكيلها والتي أصبحت جاهزة للتحرك معتقدة أنها تنفذ فكرا خاصا بها وتنصاع لقيادة مخلصة وعقائدية منتمية انتماء حقيقيا للفكر الذي ستموت لأجله، ستكون تلك الخلايا بمثابة خلايا نائمة لحين الطلب.
ز – وهكذا يكون قد تمَّ إنشاء تنظيم موازي مبرمج وجاهز لتنفيذ ما يراد في الوقت المناسب، دون أن يكون هناك أيُّ تصور لدى أيٍّ من أعضائه لواقعةِ أنه تنظيم يتحرك تحركا كاملا ضمن الدوائر التي رسمتها أجهزة المخابرات ووفق سياسات النظام الذي تعمل لأجله تلك الأجهزة المتغولة، وكأنه تنظيم مستقل يعمل باستقلال تام ووفق أجندته الخاصة، في حين أنه ينفذ إرادة النظام والطاغية الذي يمثله تنفيذا كاملا.
ح – ولأجل استكمال الدائرة التي يفترض ألا تثير الشبهات لاحقا، تُخْلَقُ كلُّ الحيثيات التنظيمية التي تتيح الفرصة لتحييد المؤسِّس الأول “ضابط المخابرات الكبير”، وإبعاده والتأسيس لعُزْلَتِه التنظيمية كي لا يُصار إلى التساؤل عن مصيره عند الصدام الذي ستترتب عليه اعتقالات ومحاكمات وتحقيقات وأحكام وربما إعدامات، أي أن ضابط المخابرات “الشيخ التقي المجاهد المفكر المؤسِّس” الذي أنشأ التنظيم سيغدو بشكل تنظيمي شرعي في معزل عن أيِّ سؤال من قبل النظام لاحقا، وحتى لو جرجرته التحقيقات والاعترافات، فإن واقعة انسحابَه من التنظيم وعزلته وابتعاده عنه قبل الأعمال الإرهابية ستجعله خارج نطاق المساءلة القانونية بطبيعة الحال.
ط – ولا تغفل أجهزة المخابرات التي أنشأت التنظيم الموازي هذا عن أن تخترقَه وكأنه مستقل عنها تماما بنمط “الاختراق الصاعد” أيضا لتكريس فكرة أنه تنظيم مستقل عندما تبدأ تكشف سيرورة العمل التنظيمي عن وجود تسريبات معلوماتية.
ي – وفي كل الأحوال وبسبب هذا الاختراق الأمني “الهابط” بالغ الخطورة، فإن التنظيم الذي تم إنشاؤه، يكون مهيئا للانشقاقات المدروسة التي يقودها الضباط الأكفاء الذين سيغدون هم الأتقياء الخُلَّص، وذلك كلما تطلبت الضرورات الأمنية لسبب أو لآخر، إعادة إخفاء بعض الخلايا لتعمل لاحقا، برؤية وممارساتٍ أكثر جذرية وعنفا يتم تبرير قوتهما ودمويتهما اللاحقة – التي ستغدو من الضرورات المخابراتية – بأنها – أي تلك الخلايا – انزوت وعادت للنوم مؤقتا بهذا الانشقاق، أو لتبريرِ تَشَدُّدٍ أكبر، إذا كانت ظروف مواجهة أعضاء التنظيم قد راحت تكشف عن تغيرات أيديولوجية بدأت بقبولها القواعد المغرَّر بها مخففة بها من حدة أيديولوجيتها، وإما لأيِّ سبب آخر تكشف الخطط المخابراتية عن أنه مبرر كاف لضرورة إحداث الانشقاق أو الالتفاف على التنظيم الأم للتمهيد لمرحلة قادمة.
أي أن هذا التنظيم الموازي يكون قد امتص من القاعدة الشبابية خيرتها لصالح البناء الأيديولوجي المستهدف، وأبقاها تحت إشرافه، وتحت قيادته وسيطرته التأمتين للاستخدام الأمني الأمثل، بغرض التوظيف السياسي والمجتمعي المطلوب بحسب الطلب، خدمة للطاغية وللطغيان ولخططهما، أو للاحتلال وخططه، أو للسياسة الإمبريالية الأميركية وخططها، فيما يظن الشباب الضحايا من أعضاء التنظيم الموجه بأجهزة التحكم عن بعد، أنهم يناضلون ويجاهدون خدمة لأيديولوجية ودين ورسالة وجنة عرضها السماوات والأرض.

الاختراق الأميركي الهابط في “الهلال الخصيب”: آمنوا بما شئتم.. المهم أن يكون إيمانا مؤسسا للتقسيم (!!)
لا يختلف شكل “الاختراق الهابط” الذي تمارسة أنظمة الطغيان الوظيفية عن ذلك الذي تمارسة الولايات المتحدة لأغراض التأسيس لسياساتها الإقليمية الكبرى في المنطقة، وهي سياسة إعادة ترسيم الخرائط الإقليمية بشكل جديد يؤسس لصراعات جديدة وطويلة الأمد، في الجوهر القائم في هذا النوع من الاختراق، بل في مداه وحجمه وأدواته، لأن السياسة الأميركية الأمنية إذ تلجأ لهذا النوع من أنواع الاختراق، فإنما تؤسِّس به لتغييرات كبرى تتجاوز حدود الدولة الواحدة، أو حدود الهدف الصغير والبسيطـ، خلافا للنظام الوظيفي الذي يتحرك غالبا داخل حدود ما يقع تحت سلطانه لترسيخ نفوذه وإطالة عمره طغيانه واستبداده. ولعل هذا ما يمكننا أن نلمسَه في تاريخ التنظيمين “القاعدة” وآخَرِ مُتَوَلِّداتِه “داعش”.
ما تمارسه الولايات المتحدة عبر أدق عملياتها المخابراتية، وأطولها عمرا، وأكثرها اتساما بالصبر والروية وطول النفس، وأجداها مردودا في السياسة والاقتصاد والثقافة، بحكم التماس المباشر لتلك العمليات مع المكونات الإستراتيجية بعيدة المدى في السياسة الأميركية العامة إزاء الإقليم العربي المشرقي، هو هذا “الاختراق الهابط” الذي يُعتبر أبشع أنواع الاختراق الثقافي والسياسي والتنظيمي للمجتمع وللقوى السياسية العاملة، وأخطرها عليه، وأفتكها به، لأنه يخلق ثقافة جديدة – جزئيا ولا نقول كليا – تكون فعالة في معادلة الصراعات المرسومة.
فهو اختراقٌ لا يستفيد في تحقيق غاياته المخابراتية، من خلق ثقافة جديدة بالكامل على هذا النحو الأمني في تخليق الثقافات، بسبب صعوبة تجسيد حالة واسعة من الاستقطاب التنظيمي التناحري المطلوب في مثل هذه الحالة، وبسبب عدم جدواها للمشاريع الإمبريالية إن حدثت، لأن حالة الاستقطاب المستهدفة أميركيا، وبالتالي صهيونيا، تتجلى في العمل على خلق خريطة متنوعة من التخندقات، تبرِّرُ الاقتتال والصراع والخلاف بعد أن تكون قد أسَّسَت له دينيا ومذهبيا وطائفيا وإثنيا، فيما لا يخدم وجود ثقافة واحدة مهيمنة بشكلٍ كامل على مكونات الإقليم هذه الغاية التي تتطلب التنوع التناحري، حتى لو كانت تلك الثقافة المهيمنة شديدة التماهي مع الثقافة الأميركية نفسها.
فالأميركيون ليسوا معنيين ولا مهتمين – في سياق نزعتهم الإمبراطورية الإمبريالية وهي تتفاعل مع قضايا الإقليم وسيرورته – بأن تهيمن ثقافتهم هم، بقدر ما يهمهم أن تكون ثقافتهم ودعاتُها وحملتُها في حالة صدام ونزاع دائمين، يجسدان شكلا من أشكال الصراع الحضاري كإطار كلي بمكونات سياسية كإطار تفصيلي، مع أتباع ومعتنقي وممثلي أنماط ثقافية أخرى متجذرة في الإقليم، لها طموحاتها ومشاريعها المثيرة للجدل وللإرباك، ليكون هذا الصراع من ثمَّ جسرا تمر من فوقه كافة المصالح الإمبريالية الأميركية المتوخاة في الإقليم ومنه وبه.
فالإمبريالية الأميركية لن تقبلَ، ولن تكون راضية بظهور خندق عربي واحد يكون كلُّه بلون سياسي أو أيديولوجي أو ديني أو مذهبي واحد، حتى لو كان هذا اللون حاليا تحت هيمنتها الكاملة، لأنه سيجعل الإقليم في حالة بُعْدٍ عن الصراعات والصدامات والخلافات المعرقلة للتنمية وللتطور الثقافي وللتوحد القومي في المحصلة.. إلخ، ما قد يُمَهِّد الطريق الهادئ للتغيير، وإن يكن طويلا وبعيد المدى. وإنما هي تحرص على التنوع الأيديولوجي والديني والمذهبي والإثني التناحري وليس التعايشي، حتى لو دفعت هي بنفسها – من خلال سياسة الاختراق الهابط – إلى خلق الحالات المتناقضة مع ما هو قائم ليحدثَ الصدام، حتى لو كان ما تدفع باتجاه تخليقه يتعارض في كل شيء مع ثقافتها وسياستها، أو ينطوي على قدر من ادعاء وإعلان العداء لها ولسياساتها في المنطقة.
ولعل ما يجري في العراق وسوريا – وهو أهم ما يجري في الإقليم على العموم – يعمل في هذا الاتجاه.
فسياسة الولايات المتحدة في الإقليم تنطوي على إرادة عميقة جدا ناتجة عن يقين يكاد يكون مطلقا، بأن خريطة “الهلال الخصيب” السياسية تحديدا – باعتباره منبع وموطن التغيير الإستراتيجي في الوطن العربي عبر التاريخ – يجب أن يُعاد ترسيمها على نحوٍ مختلف، تتكرس فيه كيانات سياسية جديدة تصنعها التغيرات الحاصلة فيه ذاتُها، من خلال سياقات صادمة وغير قابلة للتهدئة أو للمنع، بسبب ارتباطها بمكونات دينية ومذهبية وطائفية وإثنية متجذرة، وقيامها عليها قياما عميقا ووجوديا، تخلق صراعات جديدة غير تلك التي كانت قائمة على أسس قُطْرِية وطنية منذ بواكير عهد المنطقة باتفاقية سايكس بيكو ومُخرجاتها، وتستمر لعقود قادمة بين تلك الكيانات الجديدة ذاتِها – الدينية والمذهبية والطائفية والإثنية الطابع – بعد أن استنزفت الكيانات السايكسبيكوية ذات الهويات “الوطنية القطرية” الراهنة، كلَّ زخم الصراع والتنابز والاقتتال والاحتراب المنطوَى فيها، على مدى قرابة المائة عام من تبلورها في الواقع.
لهذا السبب بالذات كان تحرك الولايات المتحدة بالاختراق الهابط في الإقليم مستندا إلى هامش ثقافة قائمة من جهة، وأخرى تتخلَّق من رحمها وعلى هامشها من جهة أخرى، كي لا يكون الاغتراب الأولي بين الرحم والجنين كبيرا، وكي لا تنتج المعاداة للجديد الوافد من البدايات التأسيسية له، فيفشل المشروع برمته.
فكانت متخلقات “السلفية الجهادية” منذ تنظيم القاعدة الذي نشأ على هامش الغزو السوفياتي والصراع الأفغاني، وحتى تنظيم “داعش الحالي”، هي السياقات المستهدفة أميركيا للاختراق الهابط، عبر التلاعب بالفكرة وببُناها التنظيمية، وتطويرها وحرفها وتجذيرها في هذه النقطة أو في تلك، لأنها هي السياقات القادرة على الاستقطاب، وعلى توجيه الكتلة الشبابية كامنة العنف المحتمل، باتجاه أن تتحرك تحت إشراف مخابرات الأميركان وشركائهم في المشروع من الوظيفيين ومن القوى الإقليمية صاحبة المصلحة بشكل كامل.
لقد بدأ هذا الإطار التنظيمي القائم على الاختراق “الهابط” يتحرك في ضوء تلك الثقافة والغاية المستهدفتين، ويشوِّش على القوى السياسية القريبة أيديولوجيا من الفكر الاختراقي الجديد، ويبلبل القواعد الشعبية التي احتارت وارتبكت واختلفت وتناحرت وتخندقت دفاعا عن أمر هنا وعن أمر هناك، وبدأت تنقسم على ذاتها مرة، وتقف موقف العداء من التنظيمات الأخرى أو العكس لسبب أو لآخر مرة أخرى، لتبدأ معالم وملامح الاستقطاب المُؤَسِّس للكيانات السياسية المؤدلجة مذهبيا ودينيا وطائفيا وإثنيا بالتجلي والظهور كمقدمات مُحَتَّمَة لخريطة الصراع المقبلة.
وفي سياق هذه السياسات والإستراتيجيات الأميركية في الإقليم بدأت تتشكل كل مكونات المنطقة الدينية والإثنية والمذهبية.. إلخ، على أساس تجاوبها – الداعم أو الرافض، المتقبل أو المعاند – لهذا البناء التنظيمي الجديد. لتبدأ خريطة الصراعات تُصاغ على هذه الأسس الجديدة مُدخلة المنطقة في أتون سيرورات دامية وخلافات سياسية ستستمر لمدى زمني طويل قادم.
وليس بصعب أن نتصور الخريطة السياسية القادمة للهلال الخصيب على نحو يحتوي على عدة كيانات تتشكل هوياتها على أنقاض الهويات السايكسبيكوية التي اهترأت ولم تعد قادرة على حماية نفسها، من مثل “الكيان الكردستاني”، وهو كيان سيقوم على أساس إثني جديد ابتلعته سايكس بيكو فيما مضى، و”كيان الدولة الإسلامية في الشام والعراق/داعش”، وهو كيان قائم على أساس ديني سيعيش وهم استعادة الخلافة بكل ما سيولده ذلك من صراعات مع الجيران الإثنيين المختلفين قوميا، والدينيين المختلفين مذهبيا، فيعيث في الأرض فسادا وإفسادا باسم الدين ودفاعا عن الطائفة.. إلخ، وهو ما بدأنا نلمسه فورا بأحداث الفرز الديني المرعب في مناطق نفوذه في العراق وسوريا.
فضلا عن كيانات أخرى لم تتحدَّد معالمها بعد، للعلويين وللشيعة. أي أن العراق وسوريا إن نجحت الإستراتيجية الأميركية في استكمال خططها التي انبنت على الاختراق الهابط، سوف يتحولان من دولتين كبيرتين قويتين كانتا قد استنزفتا كل عناصر التمسك بقطريتهما السايكسبيكوية، وبدأتا تتجهان إلى فكرة التوحد القومي العروبي المحتم الذي كان سيتحقق خلال عقد قادم من الزمن في الظروف الطبيعية، إلى “أربع دول” على الأقل. والأخطر في كل ذلك، أن هذه الدول الجديدة ستكون هوياتها قائمة على “الدين” و”المذهب” و”الإثنية” بكل معانيها الإقصائية والدموية التي ترفض وتأبي التعايش مع الآخر وتقوم على العنصرية والاستعلاء.
نسمع في وسائل الإعلام يوميا عن تنظيم “داعش” الذي يتم الترويج لواقعة أنه خرج من عباءة تنظيم “القاعدة”، والذي وصلت قوته حدا أسطوريا – بحسب تلك المسموعات الإعلامية المتداولة – جعلته يحتل محافظتين كبيرتين في سوريا هما “الرقة” و”دير الزور”، وثاني أكبر المحافظات العراقية “الموصل” ويتجه إلى كردستان ويهدد بغداد، فضلا عن “سامراء” وقبلها “الفلوجة” في الأنبار، في مواجهة جيشين يفترض أنهما من أقوى الجيوش العربية في المنطقة، علما بأن هناك ما يشبه الإجماع الأمني والمخابراتي والإعلامي على أن هذا التنظيم تأسَّس عام 2013 – يعني بالأمس القريب – بعد أن خرج من عباءة تنظيم القاعدة الذي نستطيع الجزم بألا وجود له على أرض الواقع منذ زمن طويل.
إن هذا الذي نسمعه ونراه يثير كل التساؤلات، ويجعلنا نأنس إلى أن أنواعا بشعة من الاختراقات الهابطة وملحقاتها – مثل الانشقاقات التي أشرنا إليها، وإعادة التركيب وفق مبادئ لعبة الليجو – تعمل على شكل ماكينة لتفريخ مكونات تنظيمية ضمن سياقاتِ أهدافٍ محدَّدة لتمرير السياسة الأميركية لأجل إعادة ترسيم خريطة الهلال الخصيب، يموت من خلالها آلاف الشباب العربي النبيل المتحمس لحمل بندقية يدافع بها عن أمة اقتنع بأنها مُعْتَدى عليها، وراح يبحث عمن يقوده في معركة يريدها ضد أعدائها لكنه لا يعرف قواعدها ووجهتها والفكر الثوري الذي يجب أن تقوم عليه وتستند إليه، فأتقنوا اللعب بعقله وعواطفه وإرادته ونُبله، لتوجيهه إلى مفرمة الموت والقتل والعبثية هذه، ليموت في سبيل خريطة جديدة أشد بلاء وقسوة من خريطة سايكس بيكو القائمة.
إن الإستراتيجية الأميركية وإن كانت قد بدأت باستخدام “الدين الإسلامي” في بناء منظوماتها السياسية في المنطقة منذ زمن طويل استهلته بالحرب في أفغانستان، وبمساعدة كاملة من أقطاب محور الوظيفية العربي العريق في وظيفيته “السعودية، الأردن، مصر”، فاشتغلت بتؤدةٍ وروية متنقلة من مستوى من مستويات “الاختراق الهابط” إلى مستوى آخر دون عجلة أو مغامرة أو تهور، فإنها منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وعندما اعتلى أعتى عتاة المحافظين الجدد عرش البيت الأبيض في واشنطون، سرَّعت من نشاطها في هذا الاتجاه، بعد أن اقتنع قادتُها بأن العقد الأول من القرن العشرين هو قرن الانعطافة الكبرى في هيمنة الزمن الإمبراطوري الأميركي على العالم من خلال الشرق الأوسط عبر مركز ثقله “العراق”.
ولأن الإستراتيجية الأميركية في استخدام “الإسلام” كأداة مستحدثة للعداء الخارجي – أي لها هي بالدرجة الأولى وقبل أوربا الغربية – والداخلي – أي في صميم بنية الهلال الخصيب المستهدف – كانت تبحث عن متنفسٍ موضوعي ومنطقي لنقل المعركة المؤسَّسَة دينيا والمؤصَّلة سلفيا جهاديا إلى “الهلال الخصيب” باعتباره بؤرة الحدث القادم في تكريس الهيمنة الإمبراطورية الأميركية، بعد أن غاب الاتحاد السوفياتي بوصفه العدو الماثل والقائم عن ساحة العداء، وبعد إذ أن الإسلام الجهادي السلفي كان منشغلا في أفغانستان بإقامة دولته الإسلامية، بعيدا عن مركز الثقل العالمي المقبل..
نقول.. بسبب تلك الإستراتيجية التي انتهجها عتاة المحافظين الجدد، فقد كان من الضروري حدوث زلزال عالمي يبرر نقل مركز الثقل في تموضُع “السلفية الجهادية”، من أفغانستان التي لم تعد ذات قيمة إستراتيجية للأميركيين – من هذا الباب تحديدا رغم أنه من المحتمل أن تكون لها أهمية إستراتيجية من أبواب أخرى – إلى العراق الذي امتلك في الخطة الأميركية القادمة لإعادة ترسيم “الهلال الخصيب” أهمية مركزية.
ولكي يتحقق هذا الأمر للأميركان، كان لابد من حدوث ما يعطي الإدارة الأميركية مبررَ غزوِ أفغانستان لتشتيت السلفية الجهادية والدفع بها إلى تموضعات جديدة خارج أفغانستان، فكانت أحداث أيلول/سبتمر، هي ذلك الزلزال الذي لا يستطيع أحد أن ينكر أن البصمات المخابراتية الأميركية تقف ليس بالضرورة وراءه كحدث مباشر بتفاصيله، ولكن وراء التفكير فيه كحدث ربما يكون في الكثير من تفاصيله جاء أكبر مما توقعه وأراده الأميركان، إذ كان يكفي الولايات المتحدة موت مائة أميركي في عملية إرهابية أقل تراجيدية من أحداث البرجين العالميين كي تغزوَ أفغانستان وبعدها العراق.
وإنه لكي تكون تلك التموضعات الجديدة لفلول السلفية الجهادية قائمة في العراق تحديدا – أي في أهم ثقل في الهلال الخصيب – كان لابد للولايات المتحدة من أن تتواجد هناك كي تدفع بفلول القاعدة والأفغان العرب للتوجه إلى العراق بحثا عن ساحة جهاد جديدة، من باب تعقبهم للولايات المتحدة التي “شعتلتهم” و”شتت شملهم” في أفغانستان، وكي لا يجدوا لأنفسهم ساحة أخرى غير العراق، قد لا يكون تواجدهم وتمركزهم وإعادة تموضعهم فيها مرغوبا فيه من وجهة النظر الأميركية المرحلية على الأقل، فتفقد إستراتيجية واشنطون قدرتها على استخدام الإسلام السلفي الجهادي أداة فعالة في دعم وتجسيد تلك الإستراتيجية.
ومن هنا سارعت واشنطون إلى خلق كلِّ مبررات غزو العراق لتكون موجودة في الوقت المناسب للتَّأسيس لفقرات ومحطات خطتها التالية لغزو أفغانستان، استقبالا لفلول السلفية الجهادية بما يليق بهم، وتجهيزا للساحة بما يمكنهم من أداء دورهم المنوط بهم في الخطة الأميركية.
ولعله لهذه المنظومة غير المعلنة ولا المرئية ولا المعترف بها من الأهداف رأينا الولايات المتحدة تفعل المستحيل لتخليق أيِّ سببٍ ومن أي نوع لتبرير استعجالها في غزو العراق، الذي يكون مخطئا كل الخطأ من يعتقد أن واشنطون قَدِمَت إليه متحدية كل العالم، ومُضَحِّيَة بأكثر من عشرين ألفا من أبنائها بين قتيل وجريح، لأجل نفطٍ كانت وما تزال متحكمة في مُدخلاته ومُخرجاته العالمية بوجود صدلم حسين ونظامه وبغير وجوده، أو من أجل استكمال الإجهاز على نظام بعثي كان سيحتاج إلى ربع قرن من التنفس الاصطناعي على الأقل كي يستعيدَ عافيتة دون أن تكون عملية التنفس الاصطناعي هذه بعيدة عن اليد الأميركية ذاتِها.
ولأنها تدرك جيدا الدلالة الحقيقية لواقعة أن كل هؤلاء الفلول السلفيين الجهاديين الذين اعتمدت على إعادة تموضعهم في العراق جغرافيا، وعلى إعادة إنتاجهم بالاختراق الهابط تنظيميا، في مشروع التقسيم والتفتيت الذي جاءت لأجله، هم من عتاة “الوهابيين التيميين الحنبليين” بما يعنيه ذلك من مواقف متشددة جدا من الشيعة ومن التشيع، بل ومن كل الأديان والطوائف والملل والمذاهب الأخرى، فإنها استقدمت على ظهور دباباتها عتاة المعارضين الشيعة كي يعيثوا في العراق فسادا طائفيا ومذهبيا يؤسس لأبشع أنواع الطائفية والمذهبية المقابلة، تكريسا لمتطلبات الخريطة الجديدة للعراق. وبدأت قصة تجهيز العراق ليحتضن على نحوٍ تدريجي ومدروس ويتنامى بشكلٍ فعال، وضعَه الراهن، ومأساتَه الحالية.
لا تقف المسألة عند هذا الحد، فليست هذه المشاهد التي حدثت فعلا وفق التحليل الذي أوردناه هي أهم ما فيلم “المحافظون الجدد وخريطة الهلال الخصيب الجديدة”، بل هي بمثابة المشاهد التمهيدية فقط، أو ما يطلق عليه في السينما “مشاهد ما قبل الإشارة”. أما المشاهد الأهم ومن بينها “الماستر سين”، فما كانت لتحدث إلا والولايات المتحدة تحتل العراق، لأنها لم تكن تقدر على تخليق مكونات المعادلة التي تريدها هناك، بدون وجودها المادي على الأرض مجسدة احتلالا يولد كل مبررات مقاومتها، والتأسيس لمواجهة مُخرجات احتلالها ووجودها العسكري على أرض العراق. فما الذي حدث (؟!)
بالتواطؤ التام والكامل مع إيران ضمنا أو اتفاقا، تم تسهيل عبور المئات وربما الآلاف من فلول القاعدة وكافة فصائل السلفية الجهادية العرب الفارين من أفغانستان ليدخلوا إلى العراق. كان هذا أول بنود الخطة المرسومة بعد الاحتلال، وربما أن تنفيذ هذا البند بدأ قبل وقت قصير من الاحتلال.
أما البند الثاني فقد تمثل في ضرورة تجهيز حاضنة تنظيمية لهؤلاء غيرَ أنفسهم، وغير تنظيم القاعدة الأم، كي يعيدوا تنظيم أنفسهم من خلالها، ضمانا لأن يبقوا تحت السيطرة والتوجيه التامين والمضبوطين لاستكمال تنفيذ باقي بنود الخطة. وهو ما فعلته مخرجات سياسة “الاختراق الهابط” وخلاياه النائمة، التي تحركت بمنتهى الكفاءة في هذا الاتجاه. فبدأت تتجسد على الأرض بركات هذه السياسة عبر تقلبات وانشقاقات واندماجات وتولدات وتفاعلات تنظيمية آلت في نهاية المطاف إلى هذا المسمى الأسطوري “داعش”. ونحن لا نستطيع إلغاء عقولنا وتجاوز دلالات العلاقة القائمة فعلا وحتما بين محطات هامة في تاريخ تنظيم القاعدة وقيادته من جهة، وبين التحولات في مخرجات ومنتجات “الاختراق الهابط” التي كانت تجري وتتناسل كالأميبا على أرض العراق، ومن تلك المحطات الهامة نذكر على سبيل المثال لا الحصر: توقيت اغتيال أبو مصعب الزرقاوي، وأسامة بن لادن.. إلخ.
نعم، لم تحتل الولايات المتحدة العراق إذن من أجل النفط، فهو تحت سيطرتها، وكان البعث العراقي سيبقيه تحت سيطرتها، حتى لو رفع عنه الحصار وتمَّ قبول التعايش معه جيلا كاملا قادما من الزمن.
وهي لم تحتله لأجل امتلاكه مخزونا من السلاح الإستراتيجي، لأنها تعلم أكثر من غيرها عدم صحة ذلك، فقد قام مفتشو الأمم المتحدة بدخول القصور الرئاسية تحت إشرافها، ورأتهم يمعنون في إذلال القيادة العراقية فقط دون أن يجدوا شيئا.
وهي لم تحتله لأنه داعمٌ للإرهاب الذي يقف وراء تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك. فهي تعلم أكثر من غيرها أن العراق أصلا كنظام بعثي قومي علماني، اقتات على عدائه لليسار الشيوعي، وللإسلام السياسي بشقيه السني والشعي، لا يمكنه أن يكون داعما للإرهاب بل مستهدف منه. ولعلها تعرف أكثر من أي كان أن “أسامة بن لادن” كان هو وتنظيمه “القاعدة” أول من اقترح على السعودية والكويت والأميركان مواجهة نظام صدام حسين بعد أن اجتاح الكويت عام 1990.
وهي لم تحتله لتحوله إلى جنة للديمقراطية، فهذا آخر ما يحتاج إليه العراق في المنظور الإستراتيجي الأميركي القائم على فكرة إعادة ترسيم خريطة “الهلال الخصيب” بدءا من العراق. فبلد مثل العراق تعتبر الديمقراطية الحقيقية مَخْرَجه الوحيد القادر على امتصاص كل ما يمكنه أن يتوالد من صراعات طائفية ومذهبية وإثنية ودينية تغذيها لا ديمقراطيته ولا تعدديته اللتين ستحولان لو تحققتا – أي الديمقراطية والتعددية – دون تقسيمه وتجزئته وتفتيته وهي الأمور المستهدفة أصلا. دون أن ننسى أن الاحتلال الأميركي للعراق فتح الباب واسعا لقيادته وإدارته من قبل أعتى عتاة الإرهاب والتطرف والطائفية الذين يسَّر كلَّ سبل دعمهم أميركيا وإيرانيا.
ومن الحماقة الاعتقاد بأن ادعاء الرئيس بوش الابن رغبته في الثأر الشخصي من صدام حسين لأنه حاول قتل أبيه، هو ما يقف وراء جانب مهم من منظومة أسباب غزو العراق واحتلاله.
ومع ذلك جاءت الولايات المتحدة بقدها وقديدها، واحتلت العراق لتبدأ برسمه وفق خطتها التي أشرنا إليها، وهي إعادة الترسيم على أسس طائفية ومذهبية لخلق كيانات سياسية تسقط سايكس بيكو المهترئة، وتعيد إنتاجه على قواعد مختلفة.
كانت الولايات المتحدة تعي جيدا أن بقايا الجيش العراقي، وأعضاء حزب البعث وكافة الفصائل الأمنية والعسكرية وشبه العسكرية التابعة لنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، بالإضافة إلى العشائر العربية السنية بالدرجة الأولى، سوف ينتهجون نهج مقاومة الاحتلال حتى النهاية، ولم تكن الإدارة الأميريكية من السطحية والسذاجة بحيث لا تتوقع مثل هذه المقاومة الشرسة التس ستكون على الأغلب وراء ترتيب وفرض توقيتاتٍ مبكرة لانسحابها المُزْمَع من العراق.
ولأنها تعرف أن هذه المقاومة لن تكون – في أي ظرف من الظروف – قابلة لأن تنزلقَ لا شكلا ولا مضمونا إلى مربع المخطط الأميركي القائم على ترتيب تقسيم العراق على أسس طائفية وإثنية، بل هي مقاومة سوف تعمل على تحرير العراق واستعادته كاملا واحدا وموحدا وقوميا عروبيا بلا أي تحفظات، فإنها – أي واشنطون – سارعت، وما كان أمامها إلا أن تسارع إلى تخليق ذلك النوع من المقاومة التي هي بطبيعتها عدائية ومتطرفة إلى حدِّ أنها لن تتوافق على الأرض مع أيِّ مخالفٍ مذهبي أو طائفي أو حتى فقهي، لتحقيق غرضين من وراء استحداث هذا النوع من المقاومة في وقت واحد:
أ – أنها مقاومة تكرس الشرخ الطائفي والمذهبي والديني في العراق تجاوبا مع ما يفعله النظير الطائفي والمذهبي الآخر من موقع السلطة عبر أولئك المستجلبين من فنادق الاغتراب على ظهور الدبابات الأميركية.
ب – أنها مقاومة سوف تصطدم في وقت ما آجلا أم عاجلا، لهذا السبب أو لذاك، مع الشق الأهم والأخطر من المقاومة، وهي المقاومة التي تجسِّدها بقايا النظام الذي تمَّ إسقاطه وحلُّ مؤسساته السياسية والأمنية والعسكرية، ما يسهم في إضعافها – أي هذه الأخيرة – وعدم السماح لتلك – أي المقاومة المخلَّقَة والمصنعة – بأن تنمو بمستويات غير مُحَبَّذَة خارج نطاق الأجندة الأميركية، خاصة وأن الأميركيين يعرفون أن مقاومة الاحتلال قضية براقة تثير الإعجاب والتعاطف مع المقاومين في العادة.
وعندما استتب وضع المقاومة العراقية بعيد الاحتلال على هذه الصورة المرسومة سيرورتُها أميركيا، رغم أن طرفا مهما منها – أي من المقاومة – كان يعمل خارج نطاق الأجندة الأميركية، فإن الإدارة الأميركية راحت تراقب الوضع وتوجهه وتقوده بحسب محطات سيرورته نحو أهدافها المقررة منذ وقت طويل.
لم يكن يهم الولايات المتحدة أن تقضي على المقاومة قضاء تاما، فليس هذا بالهدف الحصيف الذي تتطلبه الخطة الأميركية والأهداف الإستراتيجية لها في العراق، وإن كانت معنية بتخفيف حدة اندفاعها وتوجيهها لتنقسم وتتخندق وتخضع لسياسة الاستقطاب المرسومة.
فمادامت الولايات المتحدة تفهم جيدا أنها ستغادر العراق إن آجلا أو عاجلا، فلن تغادر قبل أن تكون المعادلات الداخلية في العراق قد ترسَّخَت على نحوٍ طائفي مُحكم يصعب التراجع عنه. ولأن ذلك لن يتم لها على النحو المطلوب إن لم تجذر حالة الاستقطاب الفئوي في هذه الدولة المنكوبة، فقد حرصت على تكريس حالة معينة غير مكتملة من حالات الاستقلال لإقليم كردستان، تقابلها حالة خطيرة من الاستقطاب الطائفي والمذهبي والديني يجسدها الطائفيون الشيعة في طرف وعلى رأسهم رئيس الوزراء المالكي وميليشياته ورجالاته وحزب الدعوة الذي يترأسه، فيما يجسدها من الطرف الثاني ذلك التنظيم المتلون مثل الحرباء متنقلا من جلد إلى جلد حتى انتهى به المطاف إلى الجلد الداعشي في الطرف الآخر “السني”، تاركة الباب مواربا للعرب السنة المعتدلين الذين يمثلون العشائر وبقايا النظام السابق، ليستشعروا الخطر من الطرفين الطائفيين “الشيعي المالكي” و”السني الداعشي” المدعومين من إيران والولايات المتحدة، ما يدفع بتلك الفئة الأكبر والأهم من بين الفئات المتناحرة إلى الإبقاء على خيوط تحالفاتها مفتوحة بحسب ما تمليه الظروف.
وهكذا غادرت الولايات المتحدة العراق منسحبة لا تجر أذيال الخيبة كما يظن البعض، بل محققة كل سياساتها. بينما كان يمكننا القول بأنها قد انسحبت جارة أذيال الخيبة، فيما لو أنها كانت قد احتلت العراق لتبقي فيه مائة عام، فلم تتمكن من البقاء فيه سوى تسعة أعوام بسبب شدة المقاومة وفداحة الخسائر التي منيت بها. لكنها وقد احتلت العراق لتعيد إنتاجَه سياسيا ودينيا وطائفيا وإثنيا على نحو يمهد لتقسيمه، ولتقسيم سوريا معه بعد أن أدخلتها الانتفاضات العربية على خط الاهتمام التقسيمي المباشر هي أيضا في معية مشروع التقسيم العراقي، فإننا لا نستطيع إلا الاعتراف بأنها انسحبت متوَّجَةً بأكاليل الغار الإمبريالية. وكيف لا وها هي تجني الآن عراقا كل ما فيه يقول بأنه لن يكون إلا ثلاث كيانات سياسية إن لم يكن أكثر، لا بل كيانات سياسية تنعدم بينها كل أواصر التعايش المشترك، وحسن الجوار، على أسس طائفية ودينية ومذهبية وإثنية (؟!)
وبما أن “نوري المالكي” وسياسته الطائفية الرعناء قد استكملت دورها في تكريس حالة الاستقطاب والتخندق المطلوبة بعد أن نجح على مدى ثمان سنوات في حفرها في العراق حفرا عميقا جغرافيا وديموغرافيا. وبعد أن استكمل الاختراق الأميركي الهابط تخليقَ المولود المسخ الذي انتقل من كل أطواره الجنينية ليصبح “داعش” المتمترسة على الأرض، على نحوٍ يتماهي تقريبا مع الجغرافيا المطلوبة أميركيا. وبعد أن تكاملت مَوْضَعَة العرب السنة المعتدلين عشائر وثوارا وبقايا جيش صَدَّامي وبعث منحل.. إلخ، بين فكي كماشة “الدواعش السنية” و”الدواعش الشيعية”. وبعد أن غدت الحالة “الكردستانية” أقرب إلى الاستقلال الإثني الواضح..
فإن العراق قد أصبح مهيئا لاستلام قيادات جديدة تعمل من خلال سعيها – الذي قد يكون مخلصا ولكن في الوقت الضائع – على إنقاذه من تداعيات المرحلة السابقة، عبر بذل كل الجهود لإنهاء حالة التجاذب الراهنة بين المكونات الأربعة المتمترسة في خنادقها، لكي تشرف – أي القيادة الجديدة – بموروثها الكارثي الذي ورثته من مرحلة السنوات العشر السابقة، على سيرورة عراقٍ قد تقوده إلى تكريس التقسيم من حيث هي لا تريد ذلك ولا تسعى إليه، لجهة أنها ستتعامل مع كيانات قائمة فعلا، أصبحت أجندات كل منها ومكتسباته أمرا واقعا من الصعب التراجع عنه لصالح عراق واحد موحد ومدني ديمقراطي تعايشي، فهل تستطيع حل تناقضاتها على نحو يعيد اللحمة إلى العراق (؟!)
حاول المتطرفون الشيعة أن يكون العراق لهم وحدهم ففشلوا، لأن الولايات المتحدة لا تريده لهم وحدهم، فهذا لا يخدمها ولا يؤسس لسياساتها، ولأنها في الوقت الذي كانت ترى بنفسها ما يفعله متطرفو الشيعة لأجل هذا الطموح، كانت تعمل في المقابل على إعداد الجغرافيا العراقية لتحجِّمَ تلك الفكرة، ولتخلق بين حملتها وبين العراقيين الآخرين كل التناقضات المتصورة تأسيسا للصراع المذهبي والاثني.
فكيف سيتفاعل هؤلاء الطائفيون الشيعة مع واقعة أنهم كانوا قاب قوسين أو أدنى من الهيمنة على العراق وتحييد الجميع ليتحولوا إلى رعايا عندهم، ليصبحوا مطالبين بالتنازل الفعلي عن مكتسباتهم التي حققوها (؟!)
حاول الانفصاليون الأكراد وما يزالون يحاولون إنشاء دولة مستقلة لهم في إقليمهم، وقد أنجزوا الكثير في هذا السياق، مستغلين انشغال العراقيين الآخرين بمناوشاتهم البينية، غاضين الطرف عن استعجال الأكراد طموحهم القومي، ومستغلين أيضا سكوت الأميركيين على إعدادهم للانفصال الذي دعم مشروعيتَه أكثر ظهور “داعش” ومشروعها التوسعي الثيوقراطي على حدودهم الغربية والجنوبية.
فكيف سيتفاعل هؤلاء الانفصاليون الأكراد مع واقعة أنهم كانوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق طموحهم القومي، ليجدوا أنفسهم الآن مطالبين بالتجاوب مع دعوات العودة إلى العراق الواحد الديمقراطي التعايشي (؟!)
نشأت “داعش” وتطورت ونمت وتغولت وما تزال تتوسع وتمارس الفاشيستية باسم الدين، معلنة جهارا نهارا أن مشروعها يقوم على إقامة دولة الخلافة في العراق والشام تمهيدا لإقامتها في كل مكان مهددين مكتسبات الجميع بلا استثناء.
فكيف سيتفاعل هؤلاء المتطرفون الذين يتحركون خارج الزمن عقائديا، وخارج المعقول سياسيا، مع واقعة أنهم يحتلون أقاليم واسعة من العراق وسوريا، ويمتلكون نفطا ومالا يؤسس لدولة حقيقية، ويسيطرون على أرض وبشر وشجر، فيما هو يجدون أنفسهم يُدفعون جبرا إلى الوقوف عند حدود جغرافية يُمنع عليهم تجاوزها شمالا وشرقا وجنوبا، لأنها لغيرهم وليست لهم في الخطة الأميركية، وفي ظل العودة إلى الدعوة إلى عراق واحد وموحد وديمقراطي ومدني، وهم أكثر الناس تكفيرا لحملة هذه الكلمات ولكل المؤمنين بها (؟!)
وفي ظل حالة التحفز التي تحكم تلك الأطراف الثلاث، يظهر الطرف الرابع الذي يمثل العرب السنة المعتدلين بعشائرهم وبقايا نظام صدام حسين السابق أمنا وجيشا وحزب بعث.. إلخ، وهم الذين كانوا أكثر المتضررين والخاسرين على مدى السنوات العشر السابقة على جميع الصعد.. يظهرون وقد أنجزوا حالة مهدت لثورة حقيقية بانتفاضة حقيقية واسعة النطاق، حاول يحاول الكل ويحاولون سرقتَها والقفزَ عليها كما فعلوا بكل الثورات والانتفاضات العربية الأخرى في كل مكان. فيما هم ينظرون لمشهد عراقي معقد متشابك ومربك تستحيل فيه الأحلام الوردية التي حلموا بها في ظل بنية الجغرافيا والديموغرافيا الراهنة بعد سنوات عشر من التدمير والتغييب وإهلاك الحرث والنسيل وإحياء كل النعرات البائسة.. إلخ.
فكيف سيتفاعل هؤلاء مع واقعة أنهم صنعوا حدثا عراقيا حقيقيا يسرقه الكل أمام أعينهم، أميركان وإيرانيين وشيعة وأكراد ومتطرفين سنة، دون أن يقدروا على فعل شيء في ظل خريطة تحالفات وأجندات شديدة التشابك والتعقيد (؟!)
هذا هو العراق اليوم، إنه عراقٌ يقف على فوهة مدفع، يملك فيه كل المتنافسين قدراتٍ هائلة على التمسك بمواقفهم، وعلى التمترس في خنادقهم، وعلى استكمال ترسيم خرائطهم السباسية لتتماهى مع خرائطهم الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية، إذا اختاروا الصدام وشلالات الدم وأشلاء الوطن العراقي طريقا لهذا التمسك ولذاك التمترس، هذا إذا افترضنا أن هناك من يشعر بانتماء حقيقي لذلك الوطن.
إن ما يحدث أكير من “متطرفي الشيعة” ومن “متطرفي داعش”، ومن”انفصاليي الأكراد”، ومن “العرب السنة المعتدلين”، لأنه أمر دُبِّرَ بليل بذكاء منقطع النظير، وبدهاء غير مسبوق، مستخدما أعتى منجزات علم المخابرات المدعوم محليا بالغباء وبالاستعلاء وبالأحقاد وبالأنا (!!)
ولكننا نؤكد على أن هذا المخطط الأميركي ليس قدرا محتوما إن فهمناه وقررنا رفضه ومواجهته، وحرصنا على أن نرسم سياساتنا ومواقفنا في خنادق لا تتماهي مع الخنادق التي رسمها. ولن تكون البداية إلا من أن يكون العراقيون عراقيين وفقط (!!)

كلمة أخيرة:
فقرات غاية في الأهمية من كتاب:
“لماذا تتحارب الأمم؟ دوافع الحرب في الماضي والحاضر” – تأليف: ريتشارد نيد ليبو – ترجمة: د. إيهاب عبد الرحيم علي – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت – سلسلة عالم المعرفة – العدد 403 – أغسطس 2013 – الصفحات “51/52”.

إن معظم الحروب لا تقلل كثيرا من المصدرين الأساسيين للقوة في الدولة المهزومة وهما الناتج المحلي وعدد السكان.
نادرا ما تتسبب أكثر الحروب دموية في مقتل أكثر من 1 إلى 2 في المائة من سكان أي بلد محارب، وسرعان ما يمكن تعويض خسائر سكانية أشد تدميرا من ذلك.
ربما فقدت روسيا 25 مليون نسمة في الحرب العالمية الثانية، لكن تعداد سكانها انتعش مجددا وتجاوز مستويات ما قبل الحرب بحلول عام 1956.
إن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للحرب أن تقلل من قوة دولة ما على المدى الطويل هي التقسيم الدائم، أو تفكيكها واحتلال أراضٍ تضم نسبة كبيرة من سكانها ومواردها الاقتصادية.
في العام 1815 هزمت فرنسا على يد ائتلافٍ للقوى. جرد المنتصرون فرنسا من فتوحاتها، لكنهم لم يبذلوا أي جهد لتقطيع أوصالها أو إضعافها، ونتيجة لذلك حافظت فرنسا على تفوقها من حيث القوة أكثر مما فعلت بريطانيا وبروسيا حتى العام 1870.
تعرضت روسيا لهزيمة كبرى في الحرب الروسية – اليابانية خلال العامين 1904 – 1905، لكن تفوقها على اليابان ازداد في الواقع بعد الحرب.
ولم تتقلص قوة ألمانيا إلا لفترة مؤقتة فقط بفعل الحرب العالمية الأولى على الرغم من خسارتها لأراضٍ شاسعة.
وحتى بعد هزيمة ألمانيا الساحقة وتقسيمها في نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد تجاوزت جمهورية ألمانيا الاتحادية كلا من فرنسا وبريطانيا في إجمالي القوة بحلول عام 1960.

وإذن:
فالتقسيم والتفكيك الجغرافي والديموغرافي هو سبب الإطالة في إضعاف الأمم، وليس الهزيمة العسكرية ذاتها، ولا أي شيء آخر. هذا ما يدركه أعداؤنا ولا ندركه نحن. لا يبالون بما نعتقد وبما نفكر ولا يهمهم من ذلك شيء، بل هم يساعدوننا على أن نتبنى ونعتقد ما يريحنا مهما كان أرعنا ومتطرفا وخارج السياق التاريخي، إذا كان ذلك يخدم التجزئة والتقسيم ويؤدي إليه. ونحن إلى الهاوية سائرون، فلا نفكر في وحدة بلادنا وأراضينا، ونظن أن أفكارنا ومعتقداتنا ومذاهبنا وأيديولوجياتنا أهم منها، فنرسم خرائط الأوطان بحسب ما تفرضه علينا حدود الأيديولوجيات والمذاهب والأديان (!!) لنكتشف أننا خسرنا هذه بعد أن فقدنا تلك. كل المعتقدات باطل إذا كان ثمنها تمزيق أوصال الوطن، وتقطيع الأرض، وتحويلها إلى أشلاء متناحرة تحت عناوين “الدين” و”الطائفة” و”المذهب” و”الاثنية”، فالأوطان أكبر من كل المذاهب والأديان، فهل نتَّعِظ (؟!)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.