www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية/22/أسامة عكنان

0

إن الشعب الذي لا يُعَبِّر عن إرادته إلاَّ من خلال حالاتٍ فردية يُحاول أن يستدرج بواسطة تضحياتها الشخصية بطولاتِ فرسانٍ افتقدهم وراح يَحِنُّ إليهم، هو شعب عاجزٌ عن تمثيل قضاياه وتشخيصها. إن أيَّ عمل فردي قد يكون بطوليا وقد يخلق في حياتنا رموزا نستلهم تضحياتها مع مرور الوقت كنماذج نقتدي بها في المستقبل. لكننا لا نستطيع أبدا أن نقيم معارضة حقيقية وفاعلة على مبادراتِ أفرادٍ حتى لو كانوا في مستوى الأنبياء، لأن الأنبياء أنفسُهم قد يفشلون في مهماتهم إذا لم يكن برفقتهم وحولهم أتباع وحواريون، يرفدون عِصمتَهم الربانية التي كفلها الإله، ويسندون دعواتهم التي يقف وراءَها الرب نفسه، بفكرة الجماعة المتماسكة المتحابة المنظمة المتوافقة.

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية

“دراسة في حلقات”

“جزء من بحث قُدِّمَ لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية”

 

أسامة عكنان

عمان – الأردن

 

الأردن وطن وليس مزرعة خراف

والأردنيون شعب وليسوا قطيع ماشية

والأردني مواطن يملك وطنا، وليس عابر سبيل يستجدي كسرة خبز

وحكام الأردن خدم وموظفون عند شعبهم، وليسوا سادة عليه أو مستعبدين له

فمن فهم فليعمل بما فهم، ومن لم يفهم فليذهب إلى الجحيم

قراءةٌ في دور الأردن التاريخي كوطن مُهِمٍّ يلد رجالاً أهم، ورفضُ دورِه الوظيفي كمزرعة تسمِّن الخراف لخلق فضاءٍ آمنٍ لأعداء الأمة

 

الحلقة الثانية والعشرون

تحوُّل الأردن في الفترة 70 – 1989 إلى دولة أمنية تقودها دائرة المخابرات العامة

 

 

– تفشي مظاهر العمل الفردي وانعدام مظاهر العمل الجماعي..

إن الشعب الذي لا يُعَبِّر عن إرادته إلاَّ من خلال حالاتٍ فردية يُحاول أن يستدرج بواسطة تضحياتها الشخصية بطولاتِ فرسانٍ افتقدهم وراح يَحِنُّ إليهم، هو شعب عاجزٌ عن تمثيل قضاياه وتشخيصها. إن أيَّ عمل فردي قد يكون بطوليا وقد يخلق في حياتنا رموزا نستلهم تضحياتها مع مرور الوقت كنماذج نقتدي بها في المستقبل. لكننا لا نستطيع أبدا أن نقيم معارضة حقيقية وفاعلة على مبادراتِ أفرادٍ حتى لو كانوا في مستوى الأنبياء، لأن الأنبياء أنفسُهم قد يفشلون في مهماتهم إذا لم يكن برفقتهم وحولهم أتباع وحواريون، يرفدون عِصمتَهم الربانية التي كفلها الإله، ويسندون دعواتهم التي يقف وراءَها الرب نفسه، بفكرة الجماعة المتماسكة المتحابة المنظمة المتوافقة.

إن العمل المعارض القادر على جلب الحقوق هو بطبيعته التكوينية، عمل جماعي مُفرط في جماعيته. ولنستلهم بعد ذلك نكهة البطولة والفروسية في مبادرات الأفراد داخل الجماعة، ولتظهر عبقرية هؤلاء الأفراد متلاحمة مع الفعل الجماعي ومنهرسة فيه، لأن الفردية عندئذٍ قد تكتسب المزيد من القدرة على الدفع باتجاه تطوير فعلٍ جماعي معارضٍ بناَّءٍ.

لكن الذي حصل في الأردن على مدى عقود، كان يُغرد سياسيا خارج سرب المفهوم الحقيقي والتجسيد الموضوعي لفكرة الجماعة، ولعله أيضا هو ما حصل نفسه في معظم أنحاء الوطن العربي. فالجماعة ليست عددا من الأفراد قلُّوا أو كثروا، يَجمعهم مكتب وتضمهم حولها حلقة ذكر سياسي. والجماعة ليست مجموعات متحمسة من الرجال والنساء يجتمعون في خلوة سرية، أو يقفون في مظاهرة، أو يوزعون مناشير سياسية، ثم ينتهي كل شيء بعد ذلك. والأداء الجماعي ليس صراخا وطنيا بشعارات تندلق من الأفواه حتى تُبَحَّ الحناجر وتتلاشى الأصوات، لنبحث عن أثر لكل ذلك فلا نجد منه سوى بقايا أشياءٍ غير مفهومة تسربت واختفت في جوف الحياة السياسية وكأن شيئا لم يحدث.

لقد فشلت كافة التنظيمات السياسية والقوى الوطنية العاملة في الأردن في أن تُجَسِّدَ المواصفات الحقيقية للتنظيم الفاعل والناجح والقادر على تحريك الناس وإقناعهم بأن مصيرَهم مرهونٌ بالاصطفاف وراءه كطليعة. ومَرَدُّ فشلها في واقع الأمر إلى نَجاح المخابرات العامة في إِحْداَثِ أعلى مستويات الاختراق المُدَمِّرَة والنَّاخِرَة في أجساد هذه التنظيمات والمُخَرِّبَة لكل بُناها، مثلما يفعل السوس في الأسنان. إن المخابرات كانت من الذكاء إلى درجة أنها لم تترك سياستها الاختراقية تقتصر على زرع العناصر الجالِبَة للمعلومات التي تجعل التنظيم مكشوفا لجهاز الأمن وعاجزا بالتالي عن العمل بحرية بعيدا عن أعين البوليس السياسي في الأوقات الحرجة. فهي قد وضعت خُطَطَها الأمنية الإستراتيجية بشكل يُحقق لها النتائج المرجوة دونما حاجة إلى اختراقات تَجَسُّسِيَّة واسعة النطاق.

في هذا السياق تَجَلَّت سياسة “تجفيف المنبع”، التي تقطع الصلة التَّغْذَوِيَّة بين التنظيم والجماهير، عبر بتر الحبل السري المتكون من أنبوبتين غاذيتين رئيستين هما، “التجديد” الهابط من أعلى إلى أسفل، و”الثقة” الصاعدة من الأسفل إلى الأعلى. أي أنه كان يجب من منظور الخطة المخابراتية لتجفيف المنبع الذي سيقضي تَجفيفه على تلك التنظيمات بكل يسر وسهولة، أن ينعدم التجديد أو أن يتقلص إلى أبعد الحدود، في الأداء التنظيمي على كل المستويات، وأن تنعدم الثقة الجماهيرية في تلك التنظيمات انعداما يَجعلها تنعزل عنها وتعتبرها أبعد ما تكون عن تَمثيلها أو عن النطق باسمها, وهذا ما كان بمنتهى الدقة.

كان أهم دور لعبته العناصر المخابراتية التي اخترقت تلك التنظيمات، ليس هو أنها جلبت المعلومات – فهذا الجلب المعلوماتي اعْتُبِرَ عملا إضافيا لتلك العناصر – بل هو أنها مارست دورا تخريبيا، تَمثل في إعطاء أسوأ صورةٍ مُمكنة عن هذه التنظيمات أمام القواعد الشعبية التي تراهن عليها تلك التنظيمات وتعمل في صفوفها. إن أيَّ تنظيم في العالم مُعَرَّض للاختراق وللتَّضَرُّر الأمني الكبير من الاختراق بالتالي، لكن ديْمومة سلامةِ قنوات الاغتذاء التي تربط التنظيم بِجماهيره، هي التي تُعَوِّض كل تلك الخسائر عادةً بدماءٍ جديدةٍ تَحل مَحل تلك التي تَمت خسارتها بالاختراق.

فكي يُحاصَرَ التنظيم ويتلاشى جماهيريا بشكل نِهائي لابد من تطويقه من الجبهتين، الداخلية عبر الاختراق المعلوماتي الذي يُصَفِّي التنظيم القائم بتصفية عناصره من خلال كشفهم أمنيا، والخارجية عبر تدمير الصورة المُشْرِقَة للتنظيم أمام الجماهير، كي يُحْرَم من الدماء الجديدة التي من شأنها أن تُعَوِّضَ خسارته وتبقيه قادرا على مواصلة نضاله بجماهيره ولأجلهم. لذلك فقد كان الدور التخريبي الذي لعبته العناصر المخابراتية على صعيد التأثير على الجبهة الخارجية أكثر أهمية من ذلك الذي لعبته العناصر المعلوماتية على صعيد الجبهة الداخلية.

فالجبهة الداخلية حتى لو بقيت عَصِيَّة على هذا النوع من الاختراق بسبب آليةِ بناءٍ تنظيميٍّ حديديةٍ وصارمةٍ، فإن جفاف المنبع الخارجي سيُفْقِد التنظيم فاعليَّتَه، لأنه سيحوله إلى كتلة من البشر المتحركين في فراغ بلا قيمة أو جدوى. وقد يندفعون في مرحلة معينة بسبب هذا الانفصال الجماهيري المدعوم ببُنْيَة تنظيمية حديدية، إلى مُمارسة أعمالٍ متهورةٍ تُفْقِدُهم ما تبقى من صلةٍ لهم بالواقع وبالجماهير وبأي منطق نضالي موضوعي.

أما تدمير الصورة التنظيمية للتنظيم أمام جماهيره فقد اتَّخَذَت أشكالا مختلفة حسب الحاجة والواقع. ولقد لجأت المخابرات العامة في هذا السياق إلى زرع أفرادٍ امتلكوا قدرةً عالية على تَمرير واحد أو أكثر من عناصر التشويه والتدمير التنظيمي التالية..

– التدمير السلوكي، بأن يُمارس أولئك الأفراد المزروعون لهذه الغاية، أعمالاً يأباها المجتمع المحيط بالتنظيم، بشكل يُظْهِر تلك الممارسات وكأنها جزءٌ من التركيبة الأخلاقية للعناصر المنضوية تحت لوائه، ليتولد الانطباع التدريجي لدى المحيط والمنبع الجماهيري، بأن التنظيم يَجمع في صفوفه مجموعة من سيئي الخلق ومنحرفي الفكر. وما الحالات الملتزمة عندئذٍ إلا استثناءاتٌ تؤكد القاعدة ولا تنفيها. خاصة وأن الاختلاط التنظيمي المباشر بين التنظيم والجماهير يكون في الغالب عبر الأطراف التي تكثر فيها مثل هذه النماذج المسيئة بشكل ملفت، نظرا لسهولة زرع أفراد من هذا القبيل فيها. لتزداد الطامة عندما يتمكن بعض عناصر المخابرات من الوصول إلى مستويات تنظيمية أعلى يُمارسون وهم فيها ذلك النوع من الأخلاق المسيئة، ما يولد الانطباع أكثر فأكثر لدى الجماهير، بأن هذا التنظيم ليس أكثر من بالوعة صرف صحي، أو سلة نفايات. فتحصل القطيعة بين الطرفين، خاصة عندما لا يكون التنظيم على مستوى قيادته وقمة هرمه قادرا على التعامل مع هذه الظاهرة بإيجابية تُخلِّصه من وقعها السلبي القاتل هذا.

– التدمير الفكري، وهو نوع من التدمير الأخلاقي والقيمي، ولكن على مستوىً عقائدي هذه المرة. إذ تتولى بعض العناصر المندسة على التنظيمات عبر قنوات تَعْبَوِيَّةٍ لا تُمحِّص في مستوياتِ أداءِ من ينضمون إليها، الترويج لأفكارٍ تتعارض بشكل صارخ مع مقدسات ومعتقدات الجماهير التي يُفْتَرض أن تلك التنظيمات تناضل لأجلها. كالترويج للإلحاد وللاستهتار بالدين، إذا كان التنظيم شيوعيا أو ماركسيا، علما بأن مثل هذه القضايا المعتقدية ليست هي لا من قريب ولا من بعيد ما تقوم عليه تلك الدعوات الاجتماعية الطابع بشكل أساسي. فالمواطن الذي يصطف حول تنظيمٍ يفهم أنه يدافع عن قضاياه العادلة في العمل وفي توزيع الثروة وفي الحرية، سيُصْدَم عندما يفهم من جهات تنظيمية مدسوسة أن الإلحادَ أمر أساسي في دعوات هذه التنظيمات، وأن الدين يَجب أن يُحارب لأنه أساس البلاء والتخلف والظلم، وأن النماذج المتدينة التي يحترمها ويجلها هي محل انتقاد وتسفيه وتشويه من قبل تلك الجهات.. إلخ.

وهنا مرة أخرى تنجح المخابرات حيث تفشل التنظيمات في القضاء على هذا الانفلات الفكري لدى أعضائها وأفرادها، سواء كانوا فعليين أو مندسين. فالنضال التنظيمي هو في الأساس عمل سياسي وليس عملاً معتقدياً على الإطلاق. والعمل السياسي لا مكان فيه للمساس بالمقدس أياًّ كان وتحت أيِّ ظرف. لقد تَمكنت المخابرات العامة في الأردن عبر مُمارساتٍ اختراقيةٍ من النوع غير المعلوماتي، أن تُحْدِثَ في التنظيمات السياسية العاملة على الساحة، ضررا أكبر بكثير من ذلك الذي أحدثته الاختراقات المعلوماتية.

في واقع الحال فإن هذا الواقع المزري الذي آل إليه العمل السياسي في سياقه الجماعي، أفقد الجماهير الثقة تماما في فاعليته وفي كفاءته وفي قدرته على تقديم أيِّ شيء لها ولقضاياها، ففاقد الشيء لا يعطيه كما تنص على ذلك القاعدة المنطقية الذهبية الناظمة والمؤطِّرَة لمبدأ المساعدة والتعاون والعمل المشترك. لكن من الضروري التأكيد في هذا السياق على أن المشكلة ليست من جميع جوانبها نتيجة لمخططات المخابرات ولا عملا من أعمالها، بل إن جزءا منها لا يستهان به يرجع إلى القوى السياسية نفسها، وإلى أسلوب قياداتها الفكرية والحركية في التعامل مع العملية السياسية وفي إدارتها.

فإذا كان قصارى ما تستطيع أجهزة المخابرات فعْلَه، هو أن تُحاول الاختراق الذي كان يُمكن أن يكون صعبا جدا بدوره لو أن التنظيمات المسْتَهْدَفَة به كانت على قدرٍ عالٍ من الكفاءة في إدارة بُناها التنظيمية وفي الذَّوْدِ عن حياض وحرمات مؤسساتها الحركية في مرحلة الأحكام العرفية. فإن الحد الأدنى مِماَّ كان بإمكان التنظيمات فعلَه وهي ترى السوس ينخر جسدها، أن تُجَدِّدَ في أنْماط تفكيرها وفي وسائلها التَّعْبَوِيَّة وفي قياداتها على كل المستويات، بل وفي أنظمتها ولوائحها الداخلية، وأن تتجاوب مع المتغيرات السياسية والفكرية الداخلية والإقليمية والعالمية، لابتكار وسائل وآلياتِ تعاطٍ مختلفة مع فكرة العمل السياسي والحركي، كي تتحصن ضد المرض بهذا النوع الفعال من الأمصال واللُّقاحات. لكن هذا لم يحصل مع الأسف. فقد أثبتت معظم القوى السياسية الأردنية، أنها ليست أكثر من صورة مصَغَرّة إلى درجة القَزَمِيَّة عن النظام الذي طرحت نفسها معارضةً له.

فبالقدرِ نفسهِ الذي يُصاب فيه المواطن الأردني – ومثله  العربي – بالضيق والاختناق من رؤيته لحكامه متشبثين بعروشهم وكراسيهم، وبالقوة الدموية إذا لزم الأمر، إلى أن يَقْضُوا أمواتاً لا يَأْسَف على رحيلهم كائن حيً، بقدر ما كان قادة التنظيمات والقوى السياسية العرب ومنهم الأردنيون بطبيعة الحال يفعلون ذلك. وبقدر ما كان النظام الأردني – على الأقل قبل مطلع عام 2011 عام الربيع العربي – وبإدارة كاملة من المخابرات العامة يُحارب بلا هوادة أيَّ تَجديد في الفكر السياسي يُشعره بأن هيمنته على السلطة في خطر، وبأن عليه أن يُعطي الفرصة لجيل جديد من القادة والمفكرين السياسيين الذين يفكرون بشكل مُختلفٍ في كل شيء ليشتركوا معه في إدارة شؤون البلاد. بقدر ما انطبق هذا على مختلف القوى السياسية، التي ما فتئت تدعو إلى التغيير وتداول السلطة، وإلى الديمقراطية والتعددية الفكرية، في أغرب ظاهرةِ تناقضٍ صارخةٍ بين النظرية والتطبيق، وهي النظرية العلمية التي أكد عليها الدياليكتيك التاريخي، الذي يُفترض أنه كان وعاءً أيديولوجيا لمعظم فصائل العمل السياسي في الأردن. وما كان لهذا الحال إلاَّ أن يعمق القطيعة بين تلك التنظيمات والقوى السياسة من جهة، وبين الجماهير من جهة ثانية، بشكل غدا معه أيُّ حديث عن إصلاح الخلل حديثا تَرَفِياًّ لا معنى له.

ما أغرب أن نعترف بأن مرحلة الأحكام العرفية قبل عام 1989 كانت غطاءَ ساترا حَمى عورات التنظيمات السياسية التي كانت تعمل تحت الأرض، من مغَبَّة الانكشاف أمام جماهيرها بهذا القدر من التَّرَدّي. فكما يقول المثل: “الليل ساتر، وللنهار عيون ترى وتبصر”.. ولقد جاء النهار لتبصر الجماهير أنها كانت قد أسلمت زمامَ أمورها نسبيا لمن لا يستحق، عندما أظهر العمل الحزبي العلني – الذي بدا مرعبا للنظام عندما كان سِرِّياًّ – عجزاً فاضحا لم يتوقعه أحد.

وعندما وصل الحال إلى ما وصل إليه من يأسٍ وإحباط من العمل الجماعي بفعل مجموعة الأسباب التي ذكرناها سابقا، وجد الجمهور الأردني نفسه أمام بطولاتٍ فرديةً هنا وهناك، فأعجبته ولاذ بروح الفروسية التي تتلَفَّع بها من لظى الجماعات الحارق، ومن جفاف الأحزاب الخانق، معبرا بصورة وجدانية أعمق ما تكون عبقا بالتعاطف والحب مع فرسانها الذين كان من الضروري أن يفشلوا، عندما اعتقدوا أن جمهورهم الذي تعاطف معهم في المحنة، والذي أكبر فيهم فروسيتهم ونزعتهم النيتشوية الإسبرطية لعشق “الحياة في خِضِمَّ الخطر”، سيسير وراءهم ويوصلهم إلى سدة الريادة، ناسين أو متناسين أو غير مدركين، أن هذا الجمهور ما لجأ إلى صوفية تَجاربهم إلا لائذا بهم من الخذلان بطريقة الضعيف في اللوذ بالرموز الأسطورية وبِسِيَرِ الفرسان المغاوير.

ثم ماذا؟! لا شيء!!

انتهت القصة وفُضَّ المولِد، وعاد كل شيء إلى موضعه، وكل شخص إلى موقعه يجتر ألمه وأمله، لتفشل فشلا ذريعا أول ثورة عربية خطها الأردنيون عام 1989، قبل سقوط جدار برلين الذي غيَّر سقوطه وجه العالم.

عندما تسمع من طليعي مفترض أو من فارس رُصِّع صدره بنياشين البطولة الممنوحة له بسخاء من الجماهير التي تعشق أبطالها حتى وهي تخذلهم وتنحرهم على مذبح خنوعها وضعفها البادِيَيْن، عندما تسمع منه أن الجماهير خذلته، أو أنه وَثِقَ فيها أكثر مما يجب. فاعلم أنه إنما أعطى لنفسه حجما أكبر مما يستحقه، وأنه تعامل مع شعبٍ لا يفهمه، ومع عدو لم يعرف كيف يعاديه، ومع ساحة لم يتحصل بصورة مسبقة على خريطة حقول ألغامها الشائكة، والأهم من ذلك أنه دخل معترك السياسة في أخطر وأدق وأعقد منطقةٍ في العالم بأدواتٍ لا تصلح إلاَّ للاستمتاع بالتزلج على الجليد في جبال الألب. فهل كان ينتظر شيئا آخر غير ما سماه خذلان الجماهير؟! في حين أن الحقيقة أنه هو الذي خذلها عندما لعب في منطقةٍ خطرة بأدوات الإيهام، التي تَقيَّد بها مُكَبِّلاً نفسه من جديد، حتى على مستوى الفروسية التي عشقتها فيه.

7 – تحوُّل مصر من دولة قومية إلى دولة قطرية وظيفية سهل الطريق أمام ثقافة العصبية..

“تسبب انتهاج الرئيس “أنور السادات” لسياسةٍ مغايرةٍ لتلك التي كان ينتهجها عبد الناصر من قبل على صعيد القومية العربية ومناجزة الإمبريالية والصهيونية، وخصوصا منذ زيارته – أي السادات – لإسرائيل، “في تراجع تأثير ثقافة “مصلحة الفكرة” وانتشار ثقافة “مصلحة العصبية في الأردن”(1).  وقد تسبَّب ذلك بالتالي في انتعاش النهج “الوظيفي القطري” للنظام الأردني في ظل تخافتٍ ملموسٍ في أصوات المدِّ القومي والثوري على الساحة الأردنية. وقد يبدو الربط بين ما حدث في مصر، وما راح يحدث في الأردن آنذاك، ربطا تعسُّفيا للوهلة الأولى، إذ قد يتساءل الكثيرون عما في سياسة مصر “الساداتية” من عناصر دفعت باتجاه تفعيل وتقوية سياسات الملك “حسين بن طلال” العصبية ثقافيا، والوظيفية سياسيا؟!

إن الكشف عن عناصر الدفع تلك، يتطلب منا أن نوضح معالم اللوحة السياسية التي كانت مختلف القوى المتصارعة أو المتحالفة في الإقليم، تتحرك داخل إطارها. فنحن عندما تحدثنا في مقالات سابقة عن معالم الإقليم بعد عام 1970، أشرنا إلى المحاور “المصري” و”العراقي” و”السعودي” و”الأردني” و”السوري” بصفتها بأجنداتها ومصالحها وإستراتيجياتها تمثل مُخَلِّقات ومُكَوِّنات الحراك في الإقليم بعد ذلك التاريخ، أي أن تلك المحاور في سياق صيرورة الصراع “العربي – الإمبريالي” بشكله الناجم عن “أيلول الأردني” أولا، وعن “أكتوبر المصري” ثانيا، هي التي صنعت لذلك الصراع وتداعياته مساراتِهما المختلفة منذ 1970، وليس فقط إلى عام 1989، بل وحتى الآن.  

إن الكشف عن معالم اللوحة السياسية للإقليم في مرحلة ما بعد أيلول الأردني وأكتوبر المصري، يتطلب منا الغوص في أعماق مُكَوِّنات إستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية ما بعد حرب أكتوبر، وتحديدا إثرَ حسم وترتيب شؤون الصراع العربي الإسرائيلي على الجبهة المصرية، بعد أن تمَّ حسمه قبل ذلك على الجبهة الأردنية، وهي الإستراتيجية التي انطوت على العناصر التالية..

1 – انتهاج سياسة نفطية ومالية عالمية تعيد إنتاج الاقتصاد العالمي على أساس ما يتطلبه العصر الإمبراطوري الأميركي القادم من مقومات الهيمنة والنفوذ، بعد أن اتضحت إمكانيات تجسُّدِ ذلك العصر مع بدايات القرن الحادي والعشرين. وفي هذا السياق كان للمحور “الوظيفي السعودي” دور بارز في تمرير النهج الإمبراطوري الأميركي النفطي والمالي، وهو النهج الذي سيكون بمثابة بوصلة تحدد للنهج السياسي مساراتِه.

2 – انتهاج سياسة تصفيةَ الحسابات مع من أمكن تصفية الحسابات معهم من عناصر القوة المنتشرة في الساحة العربية المشرقية أو المرتقبة. وفي هذا السياق تمَّ تكريس إستراتيجية سياسية أميركية تقوم على اعتبار أن تغييب “العراق”، بعد تغييب مصر باتفاقيات كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل، وبعد تغييب مشروع الثورة العربية الجماهيرية في الأردن بطردها إلى لبنان، هو الضمانة الحقيقية لدخول القرن الحادي والعشرين على أجنحة العصر الإمبراطوري الأميركي.

3 – انتهاج سياسة صراع عربي إسرائيلي تؤول به إلى أن يتجسَّد صراعا “فلسطينيا – إسرائيليا”، و”سوريا – إسرائيليا”، ولبنانيا – إسرائيليا”، و”أردنيا – إسرائيليا”.. إلخ. على أن يقوم في محوره الأهم وهو المحور “الفلسطيني”، على المناوشات المستمرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشكلٍ يدفع بالفلسطينيين بعد أن تجسدت هويتهم “القطرية الوظيفية” في مشروع ثورتهم “الفاشلة المشردة” بعد أيلول، إلى الاقتراب التدريجي من الشَّرَك المنصوب لهم حتى يقعوا فيه، وهو التفاوض مع الإسرائيليين مباشرة، وفق الشروط الإسرائيلية التي كان يقف على رأسها جميعها استدراج “منظمة التحرير الفلسطينية” إلى داخل الأرض المحتلة، كي تفقدَ كل عناصر قوتها المتبقية لها، وكي تُقْحَمَ في دوامات لا تختلف كثيرا عن تلك التي أُقْحِمَت فيها “الهيئة العربية العليا” بعد سقوط فلسطين عام 1948.

إن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، أُتْبِعَت على الفور بالبدء بتنفيذ بنود المخطط الأميركي الذي فُرِضَت عليه بعض التعديلات بعد أن دخل العنصر الإيراني الجديد على خط المشاريع الطموحة في المنطقة إثر سقوط نظام الشاه، وبعد أن اتخذت سوريا قبل ذلك نهجا براجماتيا حذرا وغريبا في الصراع، يقوم على ثلاثة مبادئ إستراتيجية تعبر عن “انتهازية سياسية” رائدة تعتبر ابتكارا سوريا خالصا هي.. “المواجهة مع إسرائيل بالوكالة”، و”الحرص على التفرد بالهيمنة على قرار المواجهة”، و”تكثيف كل عناصر الصراع لتتخذ ما تشاء من أشكالٍ وصيغ في لبنان، للإبقاء على الساحة السورية في مأمن من تداعيات المواجهة بعد فشل مشروع التحرير السوري عام 1973″، وهي “الانتهازية السياسية” التي حظيت بدعم عربي صريح منذ عام 1976، عام التدخل السوري في لبنان بغطاء عربي رسمي.

ولقد بُدِئَ بتنفيذ السياسة “النفطية والمالية” الأميركية، بعد ظهور الإرهاصات الأولى لتوقيع اتفاقية سلام بين الإسرائيليين والمصريين. أي أن الأميركيين لم تتأكد لديهم ولا حُسِمَت في مخططاتهم فكرة إعداد دول الخليج ماليا وعسكريا وتنمويا بالشكل المناسب للتعامل مع تغييرٍ إستراتيجي تُجَهَّزُ له المنطقة، إلا بعد أن تم تحييد مصر تحييدا تاما في أيِّ حربٍ أو تغيير إستراتيجي قادمين. لأن مثل هذه الحرب ومثل هذا التغيير ما كان لهما أن ينتقلا من مجرد كونهما أملا يراود واشنطون، إلى كونهما ملفا قابلا للتنفيذ، إلاَّ بعد أن تم ضمان أن مصر بكل ثقلها العربي والإسلامي والعالم ثالثي، قد أصبحت خارج اللعبة بالكامل.

لا بل، وبعد أن تم ضمان أنها قد أصبحت جزءا من مُكَوِّنات الخندق الإمبريالي – الصهيوني في اللعبة، عبر سياسة الانفتاح، وعبر عملية التَّشْويه الاقتصادي والثقافي التي بدأ يمارسها النظام المصري الجديد بِحُزَمِهِ الثقافية الموبوءةِ بِأَمْرَكَةِ العصرِ في مصر، والتي بدأ يُصَدِّرُها إلى كامل الوطن العربي بعد ذلك. كما أن إسرائيل لم تبادر إلى العمل على تصفية الوجود الفلسطيني في لبنان عام 1982، تنفيذا لخطة استدراج منظمة التحرير نحو الأرض المحتلة، إلا بعد أن تم تحييد الجانب المصري من الصراع العربي الإسرائيلي تحييدا تاما وكاملا.

إن تحييد مصر في الصراع العربي الإمبريالي، بوصفه مَثَّل حداًّ فاصلا بين مرحلتين متباينتين كلَّ التباين في تاريخ هذا الصراع وفي صيرورته، ترافق مع عنصر آخر هام حكَمَ المسارَ التاريخي الذي اختطه هذا الصراع منذ ذلك التحييد. وفي هذا السياق فإننا نودُّ الإشارة إلى نقطة رئيسة وهامة تَبَدَّت بوصفها مُكَوِّنا ومدخلا لا غنى عنه لفهم مفاعيل الحراك السياسي والمجتمعي في الإقليم العربي المشرقي.

فقد ظهرت كافة مفاعيل السياسة العربية الرسمية بعد زيارة السادات للقدس عام 1976 ولغاية احتلال العراق عام 2003 وكأنها تجلٍّ لصراعٍ حادٍّ بين معسكرين عربيين رسميين، هما..

1 – معسكر المهادنة الذي مثَّلَتْه مصر وقادته برجالات ما بعد حرب أكتوبر. وهي القيادات التي أخذت على عاتقها في ضوء التماهي التام مع المخطط الإستراتيجي الأميركي المُعَد للمنطقة في تلك الحقبة من الزمن، إخراج مصر من دائرة كونِها قاعدةَ القومية العربية المقاوِمة. لتصبح مُجَسِّدَةً بدل ذلك لفكرةِ الهوية القطرية المهادنة، ولمفهوم البراجماتية الوطنية المُمْعِنَة في الذاتية القطرية التي سحبت الهوية “مصر”، إلى أبعد ماضٍ لها، وهو ماضي “الادعاءات الفرعونية”، التي لا قيمة موضوعية لها في زماننا المعاصر إلاَّ في الوهم المتدفق حفنات من الدولارات من جيوب السياح.

ولتصبحَ مصرُ أيضا مُرَوِّجَةً لـ “ثقافة الهزيمة والاستهلاك والارتهان”، ولعقيدة “الزمن الأميركي”، ولـ”حقائق العصر الصهيوني”، ولأيديولوجية “أنا وبعدي الطوفان”، ولدبلوماسية “إنني لا أكذب ولكني أتجَمَّلُ أمام الجماهير”، كل ذلك بالتكامل مع سياسات منظومة “البترودولار” الخليجية – السعودية بالدرجة الأولى – التي دعمت الثقافة المصرية المتهاوية في كل المجالات ببترودولار ما بعد الانفتاح، وبالتزامن مع السياسات الوظيفية القطرية القائمة على ثقافة “العصبية” للنظام الأردني، الذي مارس داخل الأردن كل ما كان بوسعه ممارسته ليمعن في ملاحقة المقاومة الطريدة، كي يدعم الإستراتيجية الإسرائيلية في حصارها واستدراجها إلى الخيار الإسرائيلي في حال فشل الخيار الأردني لتصفية القضية الفلسطينية.

لنصبحَ بإزاءِ أُمَّةٍ تنحدر إلى هاويةٍ بلا قرار على أجنحة ثقافةٍ ضحلةٍ، استبدلت عظماء الفن بأقزامهم، وعباقرة الرواية بتُفَّهِهِم، ومبدعي الشعر برواد مؤلفي أغاني الأعراس والموالد، والفلاسفة والمفكرين الكبار بأشباه الصحفيين من قصار القامات ومُعْدَمي الهامات، والأبطال والثوار وعمالقة الجهاد، بمروجي ثقافة “قتلته الفئة التي أخرجته” التي تنسب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو يحاول شق صف فريق علي بن ابي طالب كرم الله وجهه.. إلخ.

2 – معسكر المقاومة والمواجهة الذي كان العراق أحد مُمَثِّلَيْهِ بدون وكلاء، والذي كانت سوريا مُمَثِّلَهُ الآخر ولكن عبر وكلائها في لبنان. وللمفارقة فقد قاد الفريقان عمليةَ المواجهة هذه تحت رايةٍ واحدة لم تطقْ أن تبقى موحدة، هي راية “حزب البعث العربي الاشتراكي” بجناحيه “العراقي” و”السوري”. إلى أن تم تدمير الممثِّل الأول لهذا المعسكر تدميرا شاملا عبر سلسلةٍ متتابعةٍ من المصادمات والاعتداءات والمؤامرات والحروب والانشغالات الجانبية التي لم تترك له فرصةً لالتقاط الأنفاس. فيما تجري على قدمٍ وساق عملية الإعداد للإجهاز على الممثِّل الثاني.

ورغم يقيننا بان المؤامرة على الممثل الأول وهو العراق كانت كبيرة، إلا أننا لا نستطيع أَلاَّ نُحَمِّل النظام السياسي العراقي قسطَا من مسؤولية العجز عن إدارة الصراع ضد العلاقات الإمبريالية في المنطقة، بوقوعه مرَّةً في المطبات والشِّراك التي كانت تُنْصَبُ له بسهولةٍ لا تُتَوَقَّع من نظام سياسي يُعِدُّ نفسَه ويُؤَهِّلُها ليقود قوى الثورة والتغيير العربية كلِّها. وبنزوعه مرة إلى الذاتية الممعِنة في “الأنا السياسية” الخالقة للفجوات والحافرة للمسافات البعيدة بينه وبين من يُفْتَرَض أنهم جماهيرُه. وبعدم قدرته أحيانا على اختراق المؤامرة الإمبريالية التي لم تكن على ذلك القدر من الجبروت، إذا هو تَمَكَّن فقط من الالتحام الكامل والموضوعي والصحيح، بقاعدته الجماهيرية المفترضة.

وهو الأمر الذي لم يُقدم عليه على ما بدا من تاريخه المُقاوِم للعلاقات الإمبريالية، بالشكل الذي يُنْبِئُ عن تناغمٍ فعلي مع ما طرح نفسه متبنياً له من قيادةٍ للأمة، ففشل في أن يفرض على الإمبريالية بالتالي الأسلوب الجماهيريَّ في المقاومة. وهو الأسلوب الذي لم يبدأ بأخذِ موقعهِ في بُنْيَة الفعل الثوري الجماهيري إلاَّ مؤخرا وبعد سقوط بغداد. في حين كان بإمكانه الحيلولة دون أن يَحدث ما حدث، لو أنه عرف فقط كيف ينقل المعركة لتُخاَضَ ضد المعكسر المعادي من صفوف الجماهير العربية منذ وقتٍ مُبَكِرٍ، بدل أن تبقى معركة تخوضها النخب العسكرية ضد قوى إمبريالية وصهيونية وبؤر رجعية وظيفية، هي أقدر على التعامل مع القوى العسكرية النظامية ومواجهتها، منها على التعامل مع الجماهير ومواجهتها.

إن عناصر الإستراتيجية الأميركية الثلاثة التي كوَّنَت معالمَ اللوحة السياسية للإقليم بعد أكتوبر المصري، وأيلول الأردني، مُمَهِّدّةً للعصر الإمبراطوري الأميركي، والمتمثلة في “السياسة النفطية والمالية العالمية التي أفقرت العالم واستنزفته” أولا، وفي “سياسة تصفيةَ الحسابات التي استهدفت العراق بدءا من توريطه في حربٍ مدمرة ضد إيران لمدة 8 سنوات، ومرورا بتوريطه في أداءٍ سياسي أرعن تسبب في حربٍ مدمرة ثانية أعقبت السابقة في عام 1992، وانتهاء بفرض حربٍ ثالثةٍ عليه أسقطت نظامه القومي وأسفرت عن احتلاله عام 2003” ثانيا، وفي “سياسة محاصرة واستدراج الفلسطينيين المطرودين من الأردن في عام 1970، إلى أن وقعوا في فخ أوسلو” ثالثا، جعلت النظام الأردني يدفع باتجاه ثقافة “مصلحة العصبية” بصفتها الحاضنة لوظيفيته المستفحلة في تلك الفترة من الزمن، ما جعله يتمكن وإلى حدٍ بعيد من أن ينجح في هذا الدفع، الذي حوَّل الأردن إلى بؤرة من بؤر القُطْرية، وإلى رأس حربةٍ في منظومة الوظيفية العربية، فضلا عن أنه حوله إلى مستنقع آسن من مستنقعات الفساد في الإقليم.

ففي الوقت الذي كان فيه المجتمع الأردني ما يزال مهيئا – نتيجة بنيته الطبقية، ونتيجة التطور المعيشي الطبيعي الموروث من المراحل السابقة – في بداية السبعينيات لتقبل مفاهيم “ثقافة المصلحة” وتبنيها من جديد، إن هو خرج من صدمة أيلول بشكل متماسك، فإن سياسات النظام المدروسة التي كانت تحسن استغلال الواقع الإقليمي والدولي، وتعرف كيف توظف تداعيات أحداثه على الداخل الأردني، وخاصة ما تعلق منها بتطورات الفعل الثوري الفلسطيني على قاعدة “الهوية الفلسطينية” الممعنة في استحضار “أناها” داخل عباءة النظام العربي القطري الوظيفي الجديد الذي أنتجته لعبة “لوغو الهويات” في الفترة 1968 – 1970، ألا وهو “النظام الفلسطيني، لم تتح الفرصة للقوى السياسية التي يمكنها توظيف هذا الوضع وتنظيم تلك الثقافة، لأن تتحرك في هذا الاتجاه.

وإنه إذا كان تنامي البعد الوظيفي للهوية الفلسطينية وللنظام الفلسطيني المختبئين وراء “الفعل الثوري الفلسطيني” في لبنان من جهة أولى، وإمساك النظام الأردني بزمام إدارة الدولة الأردنية إمساكا محكما جعله يديرها بثقافة العصبية على جميع الصعد من جهة ثانية، فإن التحولات الكبرى التي راحت تحكم صيرورة الإقليم السياسية والاقتصادية متمثلة في تراجع الدور القومي لمصر وتنامي دورها الوظيفي القطري من جهة ثالثة، كان صاحب الأثر الأكبر في اختناق القوى السياسية الأردنية وتراجع زخمها الأيديولوجي الذي كان يستند إلى الفضاء المصري الناصري بالدرجة الأولى. “وعلى العكس من ذلك تحالفت ضدها القوى التي تستند إلى ثقافة العصبية ومفاهيمها “الحليف الثقافي” للنظام (العشيرة والقبيلة والحمولة)، مع القوى التي لا تحفل كثيرا بهذا التمايز الثقافي، لأنها لا تعتبره وسيلتها للوصول إلى المجتمع “الحليف الأيديولوجي، (الإخوان المسلمون)”(2). ليتم رفد النظام ودعمه بكل أمصال البقاء والاستمرار والاستقواء.

ولكن للتاريخ منطقه الذي لا يهادِن في نهاية المطاف. إذ مع كل خطَّةٍ توضع في سياقٍ يعاند حتميات التطور التقدمي للمجتمعات، يتم بذر بذور التغيير المرتقبة، تراكماتٍ تتجمع على شكل احتقانات مجتمعية، تجد التعبير عن نفسها ضمن ظروف ومعطيات خاصة، في حراك شعبي يأخذ طابع “الثورة” أو “الهبَّة” أو “الانتفاضة”.. إلخ.

إن تعاقب حكوماتٍ فاسدة أفرزتها ثقافةُ العصبية التي ما كان لها إلا أن تُمَهِّدَ للفساد بكل أشكاله، وإدارتها للدولة ومقدراتها استنادا إلى قواعد اقتصاد سوق متوحشة، لم تأخذ في الاعتبار كمنطلق لإدارة الاقتصاد الوطني، لا مكونات السوق المحلية، ولا الضرورات والحاجات الاستهلاكية للشعب الأردني، ولا الإنتاج السلعي والخدمي المرتكز إلى تضخيم القيم المضافة محليا، رابطة كل مفاعيل هذا الاقتصاد بمتطلبات واحتياجات مراكز رأس المال من جهة، وبمتطلبات واحتياجات المشروع الصهيوني من جهة أخرى، بعيدا عن أيِّ نوع من الرقابة الشعبية التي غيبتها مُغَيِّبَة معها كل أشكال التمثيل الشعبي، أحكامٌ عرفية وقوانين دفاع سادت عقودا.. نقول.. إن كل ذلك راكمَ العُقَد والمشكلات البنيوية والهيكلية في مفاصل الاقتصاد الأردني، لتحصل الانتكاسة الكبرى في هذا الاقتصاد في نسيان 1989.

ومع بدء إرهاصات هذه الانتكاسة التي تعرض لها الاقتصاد الأردني، منذ أواسط الثمانينيات، “فقد أخذت الطبقة الوسطى في المجتمع تتآكل لصالح تضخم الطبقة الفقيرة، حتى وصل الأمر ذروته في أواخر الثمانينيات، لتنفجر ثورة معان ومدن الجنوب الأخرى في نيسان من عام 1989 احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية المتردية وغلاء الأسعار”(3).

 

الهوامش…

1 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 107).

2 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 117).

3 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 116).

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.