www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية/15//أسامه عكنان

0

لم يكن من السهل أن تتراجع المساحات التي احتلتها والتي راحت تحتلها ثقافة “مصلحة العصبية” لحساب نقيضتها ثقافة “مصلحة الفكرة” في الفترة 1971 – 1989، والواقع المجتمعي الأردني فضلا عن الواقع الإقليمي يعادُ إنتاجُهما على قدمٍ وساقٍ، بالارتكاز إلى ثلاث وقائع هامة شكَّلَت مجتمعةً الرافعةَ الصلبة لوظيفية “الأردن” و”فلسطين” الجديدتين. وهذه الوقائع هي..

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية
“دراسة في حلقات”
“جزء من بحث قُدِّمَ لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية”
أسامة عكنان
عمان – الأردن
الأردن وطن وليس مزرعة خراف
والأردنيون شعب وليسوا قطيع ماشية
والأردني مواطن يملك وطنا، وليس عابر سبيل يستجدي كسرة خبز
وحكام الأردن خدم وموظفون عند شعبهم، وليسوا سادة عليه أو مستعبدين له
فمن فهم فليعمل بما فهم، ومن لم يفهم فليذهب إلى الجحيم
قراءةٌ في دور الأردن التاريخي كوطن مُهِمٍّ يلد رجالاً أهم، ورفضُ دورِه الوظيفي كمزرعة تسمِّن الخراف لخلق فضاءٍ آمنٍ لأعداء الأمة

الحلقة الخامسة عشرة
كيف تجسَّدت وظيفية النظام الأردني منذ أيلول 1970 وحتى نيسان 1989
ثانيا
مشروع المملكة العربية المتحدة عام 1972، مشروع الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية عام 1984

لم يكن من السهل أن تتراجع المساحات التي احتلتها والتي راحت تحتلها ثقافة “مصلحة العصبية” لحساب نقيضتها ثقافة “مصلحة الفكرة” في الفترة 1971 – 1989، والواقع المجتمعي الأردني فضلا عن الواقع الإقليمي يعادُ إنتاجُهما على قدمٍ وساقٍ، بالارتكاز إلى ثلاث وقائع هامة شكَّلَت مجتمعةً الرافعةَ الصلبة لوظيفية “الأردن” و”فلسطين” الجديدتين. وهذه الوقائع هي..
1 – واقعة أن الأردن الجديد – أي أردن ما بعد 1970 – هو في الحقيقة نتاجٌ خالص لحربٍ شرسة تمَّ خوضُها على جبهة الهويات التي فرَّختها لعبة “لوغو هوياتٍ” مُتقنة، حدَّدَت معالمَها حرب “الثقافات” على مدى السنوات 1968 – 1970، والتي خرجت منها ثقافة “العصبية” منتصرةً، ناصرةً بنصرِها هذا وظيفيةَ كلٍّ من الهويتين الجديدتين “الأردنية” و”الفلسطينية”.
وقد كان من الطبيعي جراءَ ذلك أن تبدأَ مرحلة ما بعد 1970 مسيرتَها من نقطة فرزٍ واضحة المعالم في عالم “الهويات” و”الثقافات”، هي النقطة التي تقوم على أن تكريس الشرخ بين الهويتين الوظيفيتين الجديدتين “الأردنية” و”الفلسطينية”، يعتمد على تفعيل ثقافة “العصبية” وتغييب ثقافة “الفكرة”. في حين أنه إذا حصل العكس، فتمَّ تغييب “العصبية” لحساب “الفكرة”، فإن سياسة الهويات المستهدفة لن تتحقق. وهو ما يبدو أن الطرفين الوظيفيين “الأردني” و”الفلسطيني” أدركاه، فعملا معا – كلٌّ بطريقته وفي بيئته ووفق طبيعته – على دفعه في الاتجاه المطلوب وظيفيا.
علما بأن التضليل الأيديولوجي الذي قامت علية “الوظيفية الفلسطينية” عبر تكريس “الهوية الفلسطينية” التي تمَّ الترويج لوطنيتها المطلقة والأبدية، في ظروفٍ كتلك التي شهدها النصف الثاني من عقد الستينيات – وهو التضليل المرتكز إلى قداسة وأهمية وأولوية “أي شيء فلسطيني” يتمُّ تجسيده، في ضوء المعاناة التي قاسى منها الفلسطينيون على مدى الفترة 1948 – 1965 – هو الذي وقف وراء عدم التعامل مع “الهوية الفلسطينية”، وبالتالي مع “الثورة الفلسطينية”، من منطلق التشابه التام والكامل في القطرية والوظيفية بينهما من جهة، وبين ما يمثله في هذا الصدد النظام الأردني نفسه.
وهو الأمر الذي جعل التجاذبات “الثقافية” و”الهوياتية” في مرحلة 1970 – 1989 تتخذ شكل “وطنيةٍ فلسطينيةٍ” تناجز “وظيفيةً وقطريةً أردنية”. في حين أن ما كان يحدث على وجه الحقيقة، هو أن تناقضا ماَّ بين وظيفيتين وقُطريتين هما “الأردنية” و”الفلسطينية”، يمكن فهمه على هذا النحو بعيدا عما كان يتِمُّ الترويج له، هو الذي حكم تلك التجاذبات ووجَّهَها لخدمة مشروعٍ واحدٍ، هو المشروع الوظيفي القطري العربي المُمَرِّر للعلاقات الإمبريالية في الإقليم، لا فرق في ذلك بين “الوظيفية القطرية الفلسطينية” و”الوظيفية القطرية الأردنية”، بل ولا بينهما وبين “الوظيفية القطرية السعودية” و”الوظيفية القطرية المصرية الساداتية”، وغيرها من الوظيفيات القطرية العربية التي كانت والتي ما تزال منتشرة في الإقليم حتى يومنا هذا.
2 – واقعة أن النظام امتلك بعد عام 1970 مؤسسات الدولة الأردنية بأكملها تحت سيطرته المطلقة، بعدما حسمت الحرب مسألة ازدواجية السلطة لصالحه، فوظَفَها بشكل غير مسبوق لتغذية ثقافة “مصلحة العصبية” على حساب ثقافة “مصلحة الفكرة”. أي أن النظام كان يصول ويجول في الساحة الأردنية بدون منافس حقيقي وفعال يُلَجِّم من اندفاعته نحو تحقيق أهدافه الثقافية الخادمة لدوره الوظيفي الجديد. 
3 – واقعة أن القائمين على قيادة وإدارة وتوجيه مشروع “الهوية الفلسطينية الوظيفية” التي ولدتها لعبة “لوغو الهويات”، ساندوا النظام الأردني مساندة كبيرة وغير متوقعة في سياساته الثقافية خلال تلك الفترة، بأن اعتبروا أن التضحية التي قدموها لقاء الحفاظ على هويتهم المنجزة فكرةً، قيدَ التجسُّد والتطور “الموهومين” واقعا، وهي التضحية المتمثلة في قبول مغادرة الساحة الأردنية باتجاه لبنان، تقتضي الاستمرار في تكريس هذه الهوية في كل المحافل والأماكن، وبالأخص في صفوف أبناء الشعب الفلسطيني، بمن فيهم أولئك الذين يُعتبرون أردنيين بحكم التابعية منذ الضم والتجنيس.
هذا الأمر سهَّلَ مهمة النظام الأردني، الذي لم يكن ليجد صعوبة لكي يدفع باتجاه “العصبية الشرق أردنية”، بل ولكي يمهد الطريق أمام تجسيدات “العصبية الفلسطينية”، مادامت هذه “العصبية” تتمسك بنفسها حتى على الأرض الأردنية “بأن راح هؤلاء الأردنيون من ذوي الأصول الفلسطينية يبرزون هويتهم من جهة، ويبحثون عن أدواتٍ لتمثيلها من جهة ثانية، وجدت ضالتها في الجمعيات الخيرية ذات الصبغة المناطقية وفي النوادي الرياضية، وبالذات تلك التي تمثل مخيمات اللاجئين، وكان أهمها على الإطلاق “نادي الوحدات”(1).
إلا أن ظاهرة جديرة بالاهتمام كانت تطلُّ برأسها من وقت لآخر ومنذ زمنٍ مبكر لم يكن بعيدا عن تاريخ القضاء على آخر معاقل المقاومة في “جرش” عام 1971، أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن النظام الأردني لم يتمكن من التحرُّر على مدى الفترة 1970 – 1989 من إصراره الدفين على أن يهيمن على الفلسطينيين ويسيطرَ عليهم ويقودَ حراكهم حتى بعد أن أصبحت لهم هويتهم الخاصة بهم ممثلةً في ثورتهم. وهي ظاهرة لا تمكن قراءتُها إلا تحت عناوين الوظيفية الجديدة التي لم تتحرر من مكونات الوظيفية القديمة التي مارسها النظام منذ سقوط فلسطين عام 1948 وحتى انطلاق الثورة عام 1965.
فإذا كان نظام “الملك حسين بن طلال” يدرك جيدا أن استعادتَه لشرعيته في تمثيل “هويةٍ أردنيةٍ” كانت قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الإفلات من بين يديه بعد انطلاق الثورة واحتضان “الهوية الأردنية” لها، متحررة بهذا الاحتضان من وظيفيتها وقطريتها التاريخيتين، تطلبت في ظروف تطور العمل الثوري على الساحة الأردنية في الستينيات، أن يقبلَ على مضضٍ بإحياءِ “الهوية الفلسطينية” وتسهيلِ مهمة تعبيرها عن نفسها ومنحِها ثورة الشعب الأردني كي تؤَسِّسَ بها لمشروعيتها، فإنه في الوقت ذاته – وانطلاقا من وظيفيته – كان يحرص دائما على أن لا تُفلت “الهوية الفلسطينية” المتجسدة حديثا، من عباءة المشروع الإمبريالي الصهيوني الوظيفي، وعلى أن تبقى دائرةً حول محاور هذا المشروع.
فالهوية الفلسطينية كان يجب أن تتجسَّد كي تنقذَ مشروعا وظيفيا قُطريا من الاندثار هو المشروع الأردني فتجسَّدت. وكانت لهذا السبب بالذات وظيفية قطرية. وإنها كي تبقى وظيفية وقطرية، يجب أن تلاحَقَ كافةُ المخارج التي يمكنها أن تنزلق منها نحو “اللاوظيفية” و”اللاقطرية”، كما حصل للهوية الأردنية عندما حررتها الثورة في الستينيات من وظيفيتها ومن قطريتها. ولهذا السبب يجب أن تحاصرَ وتغلقَ في وجهها كل تلك المخارج، وتفتحَ في طريقها كافة مُفَعِّلات قطريتها ووظيفيتها.
وإذا كان ما مارسه النظام في الأردن على مدى الفترة 1970 – 1989 من دفعٍ باتجاه ثقافة “العصبية الشرق أردنية”، وما قدمه على مدى الفترة نفسها من تسهيلات لثقافة “العصبية الفلسطينية”، يعملان في اتجاه حصار “الهوية الفلسطينية” كي لا تتاح لها فرصة التحرك خارج حدود “قطريتها” و”وظيفيتها”. وإذا كان ما فعلته “الثورة الفلسطينية”، سواء على الساحة الأردنية في صفوف الأردنيين المنحدرين من أصول فلسطينية، أو على الساحتين الإقليمية والدولية من سياساتٍ ممعنةٍ في تكريس “الهوية الفلسطينية”، على قاعدة أهميتها في مشروع التحرير من جهة، وعلى أساس قداستها هي في ذاتها من جهة أخرى، يعمل في الاتجاه نفسِه، فإن هذا وحده لا يكفي، لأن مخاطر الانزلاق إلى “تعريب الثورة الفلسطينية” أو “أنسنتها” من جديد أمر ممكن ومتاح ضمن معطياتٍ محددة، في سياق الظروف العالمية والإقليمية المحتقنة على كل الصعد على مدى سنوات الحرب الباردة.
لذلك وجب انتهاج نوعٍ آخر من السياسات يعمل في اتجاه سد كل الطرق أمام الثورة كي لا تنزلق إلى تلك العروبية أو العالمية، وكي تبقى فلسطينية قطرية وظيفية عاجزة، لا تملك أكثر من الدوران حول نفسها، والغرق في أوهام إنجازاتها القطرية والوظيفية المقدسة تلك. وهذا النوع من السياسات تجلَّى في جانبٍ من جوانبه عبر الدَّوْر الذي كان على النظام الأردني أن يضطلع به، وهو العمل الدؤوب على استعادة هيمنته على الفلسطينيين إن استطاع، لتلجيم “الهوية الفلسطينية”، ربما تمكن إعادتها بهذا التلجيم إلى ظروفها التي كانت عليها في الفترة 1948 – 1965، وإن يكن بمعطيات جديدة تأخذ في الاعتبار مرارة تجربة 1965 – 1970 بالنسبة للمشروع الإمبريالي الصهيوني الوظيفي.
ففي ثلاث مبادرات تقدم بهما “الملك حسين”، كانت الأولى في عام 1972، وكانت الثانية في عام 1984، أي بعد مرو 12 سنة على المبادرة الأولى، فيما جاءت الثالثة في عام 1988 على خلفية فشل المبادرتين السابقتين، وفي اتجاهٍ مضاد لهما في الظاهر، متطابق مع هدفها الإستراتيجي في الباطن، كشف النظام الأردني عن هذا التوجه الذي ما حاد عنه في وظيفيته التي قامت منذ أن قامت لتحتوي تداعيات المشروع الصهيوني في فلسطين.
المبادرة الأولى أُطْلِقَ عليها مشروع “المملكة العربية المتحدة”، أما المبادرة الثانية فقد أُطْلِقَ عليها مشروع “الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية”، وهما المبادرتان اللتان استهدفتا إعادة احتواء “الهوية والبندقية الفلسطينيتين” ومحاصرتها أردنيا. لتُتَوَّج سياسة الملك حسين إزاء الفلسطينيين بمبادرته الثالثة المتمثلة في قرار “فك الارتباط القانوني والإداري بين الأردن والضفة الغربية”، فاتحا الطريق بهذه المبادرة أمام قيام “الخيار الإسرائيلي” بدوره في ما عجز عنه النظام الأردني. وفي المبادرات الثلاث ظهر جليا ما للهوية الفلسطينية عند قادة المشروع الفلسطيني من أهمية تجاوزت أهمية مشروع التحرير ذاته.
أ – مشروع “المملكة العربية المتحدة لعام 1972..
“بعد أن تمكنت السلطات الأردنية من السيطرة تماماً على الأوضاع وتصفية التواجد الفدائي في “أيلول/سبتمبر 1970، وتموز/يوليو 1971″، أعلن الملك حسين في خطاب له في 15 آذار/مارس 1972، مشروع “المملكة العربية المتحدة”. وهو مشروعٌ جاء استثماراً من السلطات الأردنية لما بدا انتصاراً على “منظمة التحرير الفلسطينية” والفصائل الفلسطينية، وجزءاً من المعركة بينهما على تمثيل الفلسطينيين أو جزء منهم”(2).
لقد ظهر أن طرحَ هذه المبادرة بعد مرور أقل من تسعة أشهر على تصفية آخر جيوب المقاومة في أحراش مدينة “جرش”، كان بمثابة خطوة متسرِّعة من “الملك حسين”، كشفت عن عدم قدرته على إخفاء حرصه على إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 1967، أو بتعبير أدق إلى ما كانت عليه قبل عام 1965 الذي أسَّس لتغيير الشرعيات في الأردن، وتسبب بالتالي في ابتكار لعبة “لوغو الهويات” سيئة السمعة.
لقد كشف الطرح المبكر لهذا المشروع، عن أن دهاء “الملك حسين” قد تعثَّر هذه المرة، وأن حنكتَه السياسية قد خانته. فالدعوة إلى العودة إلى وضعٍ لم تجف بعد دماء الضحايا الذين سقطوا وهم يُعَبِّرون عن رفضهم لما لا يختلف عنه كثيرا، وعن تمردهم على ما ليس بعيدا عن تداعياته، لهو دليل على انعدام الحكمة والحنكة معا. نستطيع تحسُّس انعدام الحنكة والحكمة في هذه المبادرة المبكرة في اطلاعنا على مضمونها.
“فقد تلخص برنامج “المملكة العربية المتحدة” في أن تتكون هذه المملكة من قطرين هما، فلسطين “الضفة الغربية وأيُّ جزء يتم تحريره أو يرغب بالانضمام” والأردن. ويرتبط القطران بوحدة فدرالية تحت سلطة الملك. وهناك سلطة تنفيذية مركزية يتولاها الملك، ومعه مجلس وزراء مركزي. وهناك سلطة تشريعية مركزية يتولاها الملك، ومعه “مجلس الأمة” ينتخب أعضاؤه بالاقتراع السرِّي المباشر، وبعددٍ متساوٍ من الأعضاء لكل من القطرين. ولكل قُطر حاكم عام من أبنائه ومجلس وزراء قُطري من أبنائه أيضاً، وله سلطة تشريعية خاصة به هي “مجلس الشعب”. وللمملكة قوات مسلحة واحدة قائدها هو الملك”(3).
من الواضح أن “الملك حسين” وهو يطرح هذا المشروع كان تحت تأثير واحدٍ من أمرين، فإما أنه كان فاقدَ الذاكرة وإن يكن جزئيا، بحيث اختفت من شريط حياته كل أحداث الفترة الممتدة من عام 1948 حتى عام 1970، لنتَفَهَّمَ بالتالي سبب انعدام تأثيرها في مبادرته المريبة والغريبة تلك. وإما أنه كان من القدرة على تبسيط الأمور، وتسطيح صيرورة الأحداث، وتجاهل حركة التاريخ حتى أمام نفسه، إلى الحدِّ الذي حال بينه وبين قدرته على رؤية سلبيات كشف هذه المبادرة لما حاول إخفاءَه خلال حرب السنوات الثلاث 1968 – 1970. أما إذا لم يكن تحت تأثير ذينك الأمرين، فهو تحت تأثير الثمالة بخمرة النصر على المقاومة بلا أدنى ريب. فلندقق مليا في عناصر المبادرة الرئيسة التي يمكننا إعادة ترتيبها على النحو التالي..
1 – المملكة هي دولة مكونة من قطرين هما “فلسطين المحتلة” و”الأردن المستقل”. 2 – المملكة هي دولة فدرالية تحت سلطة الملك.
3 – المملكة تخضع لسلطة تنفيذية يتولاها الملك إلى جانب مجلس وزراء.
4 – المملكة تخضع لسلطة تشريعية يتولاها الملك إلى جانب مجلس أمة منتخب.
5 – للمملكة قوات مسلحة واحدة قائدها هو الملك.
ما الذي يمكن لمبادرة مكونة من النقاط الخمس السابقة يتقدَّم بها ملك مثل “الملك حسين”، أن تعنيه أو تدل عليه أو ترمي إليه، في ظل الظروف التي كانت محيطة بها وبالأردن وبالإقليم في تلك الفترة؟!
كيف يمكن للملك حسين تصَوُّرُ أن من قاتلوه بالأمس القريب حتى النهاية، عندما كان يفكر مجرد تفكير في منعهم من مقاومة العدو المحتل لأرضهم، في ظروف كان يستطيع فيها محاربتهم بقواته وباديته، يمكنهم اليوم أن يسلموه أسلحتهم ويستسلموا لقيادته لهم عبر جيشٍ خبروا مهماته غير الوطنية على مدى ربع قرن؟!
وكيف يمكن للملك حسين أن يتخيل أن من استطاع استدراجَهم بلعبة “لوغو الهويات” إلى شَرَكِ “الهوية الفلسطينية”، بعد أن جعلهم يتعاملون معها بقداسةٍ أعمتهم عن وظيفيتها وقطريتها وعن كل عناصر الضعف والهزال المزمنة فيها، وبعد أن أصبحوا أكثر قدرة على الحفاظ عليها واستشعارها عقب انتقالهم إلى لبنان والتحرُّر من رحمة ضغوطاته، أن يقبلوا بكل البساطة والسذاجة التي انطوت عليها مبادرة “المملكة العربية المتحدة”، بالعودة إلى ظروف شبيهة بظروف ما قبل عام 1965، فيسلموه مصيرهم ومستقبلهم في دولة يعلن مسبقا أنه سيكون سيدها الذي لا يُنازَع، وقائدَ جيشها الذي لا يُناقَش، وممثلَ السلطتين التشريعية والتنفيذية الذي لا يمر من خارج إرادته قرار أو تشريع، وكأنه إله لا يُسأل عما يفعل؟!
وإذا كانت المبادرة تتحدث عن القطر الفلسطيني، أو عن أي جزء يتحرر منه كشريك للقطر الأردني في هذه الدولة الفدرالية، فلماذا لم تشر إلى آلية التحرير؟!
بل كيف يمكنها تفسير وتبرير سياسات النظام في الفترة 1965 – 1970، والتي كانت ترفض التحرير وتحاربه وتقف في وجهه وهو جارٍ على قدمٍ وساق؟!
وما الذي جعل النظام الأردني ينقلب فجأة من نظامٍ كان ضد مشروع التحرير والمقاومة، إلى نظام يتحدث عن التحرير؟!
وإذا كان يتحدث فعلا عن دولة فدرالية تضم أي جزء محرر من فلسطين، فكيف سيتعامل مع البندقية التي تريد التحرير، سواء من لبنان أو من خارج لبنان؟!
وهل كان سيقبل عندئذٍ ومن منطلق أن القطر الفلسطيني هو جزء محتل من المملكة العربية المتحدة بأن يناضل ويحارب ويدعم المناضلين والمحاربين من أجل استعادته؟!
ولو أنه قبل بذلك، فلماذا منعه قبل ذلك؟!
بل كيف يمكن للملك حسين أن يبرر سياساته الممعنة في حماية إسرائيل وفي قمع الشعب الأردني المنحدر من أصول فلسطينية في الفترة 1948 – 1965؟! 
وبعد كل هذه التساؤلات المشروعة التي يفرضها على كلِّ عاقل مشروع “المملكة العربية المتحدة”، فهل يمكن أن يقفَ هدف آخر وراء هذه المبادرة برمتها، غيرَ تلجيم البندقية “الأردنية” التي غدت “فلسطينية”، عبر ملاحقتها حتى وهي في لبنان، والسيطرة عليها والتحكم في وجهتها، لتخضع لإرادة “الملك حسين” شخصيا كرائدٍ للوظيفية والقطرية العربيتين، مادامت هذه الدولة المملكة حتى لو تمت الموافقة عليها من قبل الفلسطينيين، ليست لها أي قيمة موضوعية بينما القطر الفلسطيني بكامله يرزح تحت الاحتلال، ومادام ملك هذه الدولة سيتعامل مستقبلا مع كل من سيستخدم بندقية ضد إسرائيل من خارج إرادته وسياسته باعتباره خارجا على القانون، ويلاحقه بالتعاون مع المنظومة الوظيفية القطرية العربية في كل مكان يتواجد فيه؟!
لهذه الأسباب مجتمعة، واستنادا إلى التوقيت المختار لطرح هذه المبادرة، والذي كان أبعد ما يكون عن الكياسة، وبالنظر للظروف المحلية والإقليمية والدولية التي كانت أبعد ما تكون قدرةً على دفع قادة الثورة إلى مجرد النظر في تلك المبادرة، لم يكتب لها النجاح، “فالضفة الغربية تحت الاحتلال “الإسرائيلي” الذي لا يرغب بالانسحاب، كما كان لـمنظة التحرير الفلسطينية وللمنظمات الفدائية تواجدٌ وتأييدٌ قوي في الساحة الفلسطينية يمكنه أن تعطيل هذا المشروع حتى لو وجد من يوافق عليه. لقد رفضت المنظمة وكافة فصائلها المشروع الأردني، وعقد المجلس الوطني الفلسطيني دورة استثنائية في نيسان/أبريل 1972، وانعقد بموازاته مؤتمر شعبي حضره نحو 500 شخص يمثلون بشكل واسع الأوساط الفلسطينية، وتم رفض المشروع”(4).
 ليس من الصعب قراءة ما حصل في آذار 1972، وفي نيسان من العام نفسه على نحوٍ شبيه إلى حد كبير، وإن يكن في الاتجاه المعاكس، بما حصل في كانون أول 1948 في أريحا، وما قبله في غزة. فعندما أدرك قادة الثورة أن مشروع “المملكة العربية المتحدة” لعام 1972، هو ذاته مشروع “المملكة الأردنية” الذي أنتجه “مؤتمر أريحا” في عام 1948، ولكن بوجه جديد أملته طبيعة المتغيرات، تعاملوا معه على هذا الأساس.
فالمجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في أبريل 1972 تحت مظلة “منظمة التحرير الفلسطينية”، هو استحضارٌ رمزي للمؤتمر الذي عقدته حكومة “عموم فلسطين” تحت مظلة “الهيئة العربية العليا” في غزة في أعقاب احتلال معظم فلسطين عام 1948. والمؤتمر الشعبي الذي حضره 500 عضو يمثلون كل الأوساط الفلسطينية، كان ردا واضحا وأكثر رمزية على المؤتمر الذي عقده 500 عضو في أريحا من كبار الإقطاعيين وملاك الأراضي والتجار في كانون ثاني/1948 مطالبين بضم فلسطين بدءا من الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية. ولا نعتقد أن العدد 500 اختير عبثا، أو أنه جاء متطابقا مع رقم صناع أريحا مصادفة، بل هو رسالة واضحة كلَّ الوضوح، رسالة كان نصها المقروء في صيرورة الأحداث والمواقف “مؤتمر أريحا لن يتكرر، وإنجازات أيلول لن يتم التراجع عنها”.
كانت الرسالةُ حازمةً، لأن الذين أرسلوها كانوا قد خاضوا ضد نظام “الملك حسين” حربا دموية ذهب ضحيتَها عشرات الآلاف من القتلى، لم يمضِ على وضعها لآخر أوزارها سوى أشهر قليلة.
فإذا كانت “أريحا” قد حضنت تجريةَ ضمٍّ واحتواءٍ لم تُسْبَق بخبرة دامية مريرة، ومع ذلك فقد تم النظر إليها بصفتها مؤامرة ضد “الهوية الفلسطينية” – عندما كانت للهوية الفلسطينية إذا تجسَّدت قيمةٌ موضوعيةٌ حقيقيةٌ على صعيد مواجهة العلاقات الإمبريالية الصهيونية الوظيفية في الإقليم – تمَّ قبولُها والتعاطي معها على مضَضٍ وعلى أملٍ بالانتصار على تداعياتها المفروضة، فكيف يمكن التعامل مع حاضنةِ “المملكة العربية المتحدة” المسبوقة للتوِّ بخبرة دامية يفوق وصفها كل مرارة، في صدام مع نظامٌ يتبجَّح بكل أنواع السيادة الثيوقراطية المطلقة على دولةٍ يعرضها، ما فتئ الفلسطينيون يحلمون بضدها ونقيضتها تماما، وهم يعلنون في كل المناسبات بأنهم يريدون إقامة دولة ديمقراطية؟!
خلاصة القول إذن، أن “الملك حسين” أقدم من خلال مبادرة “المملكة العربية المتحدة” على أول محاولة له لمحاصرة “الهوية الفلسطينية” في سياق دوره الوظيفي لمرحلة ما بعد أيلول 1970، كاشفا بمنتهى الوضوح عن أن كل ما كان قد فعله من أجل دفع تلك الهوية إلى التَّجَسُّد على مدى سنوات “المرارة” 1968 – 1970، إنما كان يحدث في سياق لعبة “لوغو الهويات” التي كان عليها أن تعبث بقداسة الهويتين الفلسطينية والأردنية، وبأولوياتهما ومكانتهما ومواصفاتهما ودلالاتهما التمثيلية، بما يخدم العلاقات الإمبريالية الصهيونية، التي كانت تتطلب في تلك الفترة القضاء على “ثورة الأردنيين القومية” بتجسيد “هوية الفلسطينيين القطرية”.
لذلك فهو – أي نظام الملك حسين – عندما أنجزَ هذه المهمة، واطمأن إلى أن شرعية تمثيله للهوية الأردنية القُطرية الوظيفية المستعادة من برزخ الموت لم تعد محلَّ مساومة، فإنه بادر على الفور إلى الالتفاف على “الهوية الفلسطينية” محاولا استحضار نموذج “أريحا”، ولكن دون حصافة سياسية كتلك التي تعودنا عليها منه. ولعل نتائج هذه اللاحصافة هي التي جعلته يعزف عن طرح المبادرات الشبيهة، إلى أن أصبحت الساحة مواتية سياسيا بعد مرور 12 عاما من تاريخ مبادرة “المملكة العربية المتحدة”، عندما بادر في عام 1984 بطرح مبادرة “الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية”.
لقد أثبتت تجربة “المملكة العربية المتحدة” للملك حسين ولنظامه، أن التاريخ له قوانينه وأحكامه، كما أن له قواعده التي لا يمكن القفزُ عليها. فإذا كان عام 1972 هو فاتحة التاريخ الجديد الذي بدأت به “الهوية الفلسطينية” حياتَها التي اعتبرت نفسَها قد قاتلت لأجلها النظام الأردني، والتي اعتبرت نفسها مضحيَّة لأجلها بقبول الطرد من الساحة الأردنية إلى المنفى اللبناني المجهول، فإنها ما كانت لتقبل بالعودة إلى واقع كالذي طرحته مبادرة الملك حسين، دون أن تحاصرَها التجارب وتعصرها الخبرات وتلتف حول عنق حراكها القيود التي تجرها جرا إلى مثواها الأخير، الذي لن يكون إلا واحدا من مكانين، فإما الأردن تحت رحمة النظام الأردني الوظيفي القطري، وإما فلسطين المحتلة تحت رحمة الاحتلال الصهيوني.
لقد كان مشروع استنهاض “الهوية الفلسطينية القطرية” مشروعا يعمل في اتجاه الحيلولة دون تحول “الثورة الأردنية” إلى مشروع قومي عربي أو إنساني ضد الإمبريالية والصهيونية. وهو قد نجح في تحقيق ذلك، عندما أدى استنهاض “الهوية الفلسطينية” القطرية من رحم “الهوية الأردنية” الثائرة إلى القضاء على ثورية هذه الأخيرة. والآن وبعد أن أصبحت “الثورة فلسطينية”، وبما أنها قد أدت مهمتها الوظيفية المستهدفة، فقد آن الأوان لتلاحَقَ الثورة التي جسَّدت تلك الهوية، كي لا تتحول إلى مشروع قومي عربي أو إلى مشروع إنساني يناجز الإمبريالية والصهيونية من قلب المنطقة العربية المشرقية.
ولأن قادة المشروع الإمبريالي الصهيوني يدركون جيدا أن قرون استشعار الفعل الثوري الفلسطيني التي يمكنها التأثير في الجسم العربي، ناقلة الثورة الفلسطينية من ثمَّ من القطرية والوظيفية إلى القومية والإنسانية، كامنةٌ في ملامسة هذه الثورة للشعوب العربية والعالمية ملامسة التحفيز والتثوير عبر بقائها مشروعا يمارس دوره التثويري من خارج حدود الأرض الفلسطينية المحتلة، القادرة وحدها إذا عادت الثورة إليها في ظروف الاحتلال، على التمهيد لدفنها النهائي، فقد كانت الخطة الجديدة التي استهدفت محاصرة الثورة واستدراجها بعد عام 1970 تنصب باتجاه جعلها تبلع طعم العودة إلى الأردن بفلسطينيتها الخاضعة للنظام الأردني، أو بجعلها تبلع طعم العودة إلى الضفة الغربية تحت عنوان التحرير الموهوم والدولة الأسطورة. فهوية فلسطينية تحت الاحتلال مشروع دولة فاشل ومشروع تثوير أكثر فشلا، تماما كما كان مشروع هوية فلسطينية في الأرض الأردنية مشروعا ثوريا فاشلا أيضا.
جاءت محاولة الملك حسين في عام 1972 في سياق الدفع بالهوية الفلسطينية وثورتها لبلع طعم العودة إلى الأردن تحت رحمة النظام الوظيفي القطري الأردني، لتعيش تجرية 1948 – 1965 ولكن بألوانٍ ومذاقات جديدة، تفرضها ظروف ما بعد أيلول الأردني. لكن المحاولة فشلت لأنها كانت مبكرة جدا طُرِحَت في ظروفٍ لم تنضج لها. فلم تكن تلك الهوية ولا ثورتها قد خاضتا بعد ما يكفي من التجارب، ولا مرتا بما يكفي من الخبرات، ولا تعرضتا لما يكفي من الحصارات والاختناقات والملاحقات، لاعتبار أن عرضا كعرض الملك حسين قابل لأن يُنظرَ فيه.
ب – مشروع “الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية” لعام 1984..
إن عام 1984 الذي جاء على خلفية اندحار الثورة مجددا من منفاها اللبناني إثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 كان عاما مختلفا، لأن الثورة أصبحت مهيأة لتنظر في عروضٍ شبيهة. ولهذا السبب تحديدا، كانت مبادرة الملك الجديدة، المتضمنة لمشروع “الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية”، مبادرةً أكثر عقلانية، لأنها جاءت في ظروفٍ نضجت لمناقشتها بعد سلسلة الأحداث والحصارات والاختناقات والتصفيات التي عانت منها الثورة، ولم تستطع الخروج من دوائرها الضيقة، بسبب عجزها المزمن عن التحرر من أوهامها القطرية، وبإصرارها الدائم على عدم الانعتاق من وظيفيتها الإقليمية، باتجاه تقمُّصِ دور قومي وعالمي كانت فُرَصُه أمامها متاحة حتى عام 1982، لولا هذا الوهم المتمثل في مطلقية وديمومة وطنية “الأنا الفلسطينية”، القائمة على قداسة وحُرمة تَجَسُّد “الهوية الفلسطينية”، التي أصبحت مُقَيَّدَةً بقيود النظام العربي بعد أن غدت جزءا لا يتجزأ منه.
“فقد طرح الملك حسين لدى افتتاحه الدورة السابعة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني المنعقدة في عمَّان في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1984 الخطوط العريضة لمبادرة أردنية – فلسطينية مشتركة مبنية على قرار 242 كأساس للتسوية، وعلى مبدأ الأرض مقابل السلام، في إطار مؤتمر دولي تحت إشراف الأمم المتحدة. وقد جرت مباحثات أردنية – فلسطينية مشتركة تم في ختامها إقرار الاتفاق الأردني – الفلسطيني في 11 شباط/فبراير 1985، وكان من أبرز أفكاره:
1 – يتم التحرك الأردني – الفلسطيني على أسس الشرعية الدولية التي تمثلها قرارات الأمم المتحدة، التي تنص على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني مع مراعاة قرارات 242 و338.
2 – يجب أن تتم عملية السلام من خلال مؤتمر دولي تشارك فيه منظمة التحرير الفلسطينية.
3 – الاعتراف بمبدأ “السلام مقابل الأرض”، وانسحاب “إسرائيل” الكامل من الأرضي المحتلة عام 1967، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
4 – تكون العلاقة المستقبلية بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية علاقة كونفدرالية فيما إذا قامت الدولة الفلسطينية.
5 – الاتفاق أنه في حالة نجاح مفاوضات “الملك فهد” في واشنطن وقبول الإدارة الأمريكية بمقترحاته، أن تقوم منظمة التحرير الفلسطينية بخطوات متقدمة نحو الاقتراح الأمريكي القاضي بالاعتراف المتبادل “مع الكيان الإسرائيلي”(5).
يميل الكثيرون إلى اعتبار أن هذا الاتفاق يعكس التحسُّن الذي ساد العلاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية والنظام الأردني في تلك الفترة، بعد أن كانت علاقاتٍ مشوبةً بالتوتر الحاد على مدى عقد السبعينيات كاملا. لكن الوقوف عند حدِّ ذكر مقولة “تحسن العلاقات بين الطرفين” لتبرير الاتفاق، دون الانتقال إلى خطوة متقدمة تنظر في الأسباب التي جعلت تلك العلاقات تتحسَّن بعد أحداثِ عام 1982 وليس قبل ذلك، هو وقوفٌ يغضُّ الطرف عن جوهر الموضوع، ويتجاهل المُكَوِّن الأساسي للتناقض الذي يحكم العلاقة بين الهويتين “الأردنية” و”الفلسطينية”، والذي جعل عام 1982 المنطوي على انهيار الثورة الكبير في لبنان، فرصةً تاريخية يسهلُ فيها الزجُّ بها إلى خاناتٍ جديدة تدفعها إلى الإمعان في تجسيد أداءاتها الوظيفية والقطرية.
فالاتفاق كان في أهم أوجهه استجابةً من منظمة التحرير الفلسطينية للتعامل مع الضغوط الدولية – “الأمريكية و”الإسرائيلية” بالذات” – التي تُفَضِّل التعاملَ مع قضية فلسطين أرضا وقضية من خلال البوابة الأردنية، التي يُنْظَر إليها دائما باعتبارها معقل “الهوية” التي إن لم تتوفر في “الهوية الفلسطينية” مقوماتُ تثويرها من الداخل كما حدث في منتصف الستينيات، فإنها ستذوب فيها وتموت كما حصل في نهاية الأربعينيات، فضلاً عن أنه كان في وجه آخر من أوجهه بمثابة تراجعٍ من قِبَلِ منظمة التحرير عن إصرارها على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
أي أنه جاء ليشطب بـ “أستيكة” – كما يقول المصريون – ما اعتبرته منظمة التحرير الفلسطينية، والثورة الفلسطينية، حزمةً من الانجازات بدأ تحَقُّقُها ببروز “الهوية الفلسطينية” منذ أواخر الستينيات، وتواصلَ في المحافل المحلية والعربية والدولية على مدى عقد السبعينيات، مُدَشِّنا ذلك بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني في مؤتمر الرباط عام 1974، ومارا بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للمساس بها، وعلى رأسها حقه في تقرير مصيره، وحصول “منظمته” على صفة مراقب في الأمم المتحدة.. إلخ.
إن حالةَ الشتات الجديدة التي عانت منها الثورة الفلسطينية بعد طردها من لبنان عام 1982، أفقدتها الكثير من عوامل قوتها، وقلصَّت أمامها “خيارات الحركة والفعل” إلى حدٍّ كبير. وإذا كان الطرد من الأردن عام 1970 تمَّ تعويضه نسبيا باللجوء إلى ساحةٍ يمكن من خلالها مواصلة الكفاح المسلح هي الساحة اللبنانية، بحكم أنها تمتلك حدودا جغرافية مع فلسطين المحتلة، فإن الطرد من لبنان غيَّبَ بشكل كامل احتمالات الكفاح المسلح، بفقدان الثورة لكل الساحات الممكنة والمحتملة كمنطلق لذلك الكفاح.
وبالتالي فلم يعد أمامها – بعد أن كرَّسَت أناها وهويتها الفلسطينيتين على مدى الفترة 1970 – 1982، بصفتهما منجزات تاريخية ووطنية مقدسة لا يمكن المساس بها لأي سبب، حتى لو كان هذا السبب هو تحويل المعركة إلى معركة قومية تختفي لأجل قوميتها، هذه “الأنا” وتلك “الهوية”، وتستحقان التضحية لأجل تجسيدهما بأي مستوى من مستوياتهما، بأي شيء آخر غيرهما – سوى “الخيار المستحيل” ألا وهو ممارسة السياسة والدبلوماسية لتحقيق ما لم يحققه الكفاح المسلح، ولتجسيد ما عجزت عن تجسيده البندقية.
وبإزاء هذا الواقع الجديد، لم يعد أمام الثورة سوى واحدٍ من خيارين اثنين حُشِرَت في أنفاقهما، هما “الخيار الأردني” الذي تجسد في مشروع “الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية” الذي طرحه “الملك حسين” عام 1984، كمحاولة أخيرة منه في اتجاه استعادة فلسطين والفلسطينيين إلى حضن الوظيفية والقطرية الأردنية التي يمثلها نظامه، و”الخيار الإسرائيلي” الذي ما كان أمامه إلا أن يتفعَّلَ عقب فشل الخيار الأردني، الذي دفع فشله بالملك حسين إدراكا منه لفقدانه كلَّ أمل في تجسيد طموحه التاريخي باستعادة هيمنته على الفلسطينيين، إلى أن يُمَهِدَ له بقرار “فك الارتباط” التاريخي عام 1988.
مع ضرورة لفت الانتباه إلى أن الخيار الأردني إذا كان ينطوي على نوع من “أردنة الفلسطينيين” بحكم طبيعته من جهة أولى، وبسبب طموحات طارحه وخبرة التعامل في هذا الشأن معه ومع جده “عبد الله الأول” قبله من جهة ثانية، فإن الخيار الإسرائيلي لم يكن ينطوي على نوع من “أسرلة الفلسطينيين” – إن صح التعبير – ما جعله يبدو لقادة المنظمة أنه خيار فيه من “الفلسطينية” أكثر مما في الخيار الأردني منها، فاعتُبِرَ لهذا السبب خيارا فلسطينيا وليس خيارا إسرائيليا.
ولأن شروطَ الطرفين الأردني والإسرائيلي في خياراتهما تدور حول حزمةٍ من العناصر تصبُّ جميعها في خانة تحجيم “الهوية الفلسطينية” ومتطلبات تجسيدها من جهة أولى، وفي خانة تغييب البندقية والكفاح المسلح تغييبا كاملا، وحصر كافة التحركات باتجاه الحل الدائم، في فضاءات التفاوض الأبدي، والاعتماد على الدعم السياسي والدبلوماسي الدولي، وخاصة من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة من جهة ثانية، وذلك بعد أن تمَّ ضمان فقدان الثورة الفلسطينية لكل أوراق إعادة ضخ المكونات القومية والإنسانية في عروقها، بعد أن أصبحت قطريتها ووظيفيتها التي أقامتها على قداسة مطالب “الهوية” و”الأنا” الفلسطينيتين، مسألةً أيديولوجية وثقافية متجذرة في أعماق الوعي والإحساس الفلسطينيين..
نقول.. إنه بسبب تلك العناصر التي كانت تدور حولها شروط الطرفين الأردني والإسرائيلي، فقد كان من الطبيعي أن تهبط الثورة بسقوف شروطها ومطالبها إلى مستويات دنيا لا تتيح أكثرَ منها طبيعةُ الحالة التي بدأت تعاني منها بعد عام 1982. وفي هذا السياق وضمن هذه الظروف جاءت مبادرة “الملك حسين بن طلال” بمشروع الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية سالفة الذكر.
إنها مبادرة العودة إلى نقطة الصفر التي كانت رحى الصراع تدور حولها قبل منتصف الستينيات، شداًّ باتجاه موقفِ نظامٍ أردني يحرص على الغطاء الأردني للفلسطينيين كما قرره مؤتمر أريحا، وجذبا باتجاه موقف آخر بدا أنه كان يحرص على الغطاء الثوري كما راح ينمو في الوعي الذي عبر عن نفسه “هوية غامضة الملامح تتراوح بين أردنية مفروضة وفلسطينية مبتغاة” في مبادرة عام 1965، ليعبر عن نفسه “فلسطينيا” بوضوح وجلاء منذ عام 1968.
إلا أن هذه العودة إلى نقطة الصفر لم تستطع ألا تأخذ في الاعتبار واقعةَ أن الغطاء الأردني الذي كان مطروحا قبل منتصف الستينيات، اختلف في طبيعته عن الغطاء الذي طُرِحَ في مبادرة الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية في منتصف الثمانينيات. فالغطاء الأول قام على ضرورة “إخفاء فلسطين في الأردن”، أما الغطاء الثاني فقد قام على “إمكانية اصطفاف فلسطين إلى جانب الأردن”، وهو ما قد يبدو للبعض إنجازا. أما وجه الضرورة في الأول فيرتكز إلى أن قيام فلسطين على الأرض – لولا هذا الإخفاء – كان حتميا وقطعيا، أما وجه الإمكان في الثاني فيرتكز إلى أن قيام فلسطين على الأرض ليس أكثر من وهمٍ وخيال مجنَّح تتحدث عنه أطراف مهزومة لا تملك مقومات اقتراح الشروط ناهيك عن فرضها.
لكن هذا الاختلاف الشكلي في مرتكز الغطاءين لم يكن قادرا على التغطية على حقيقة أن الهدف منهما كان واحدا، وهو منع تجسدُّ “فكرة فلسطين” على الأرض. ومع ذلك فالتساؤل المثير حول الدافع الحقيقي وراء حرص “الملك حسين” على طرح غطاءٍ يعرف جيدا أنه غطاءٌ لحالة فلسطينية مستحيلة التَّحَقُّق بالشكل الذي يؤسس له ذلك الغطاء، يطرح نفسَه بإلحاح.
أي أن الملك حسين إذا كان يعرف أن “إسرائيل” ومن ورائها “الولايات المتحدة” لن تقبلا – مادامتا غير مكرهتين – بتجسيد دولة فلسطين على الأرض على أي جزء من فلسطين التي أصبحت كلها تحت الهيمنة الإسرائيلية، حتى لو تمَّ ضمان أن يكون هذا التجسيد تحت الغطاء الأردني الوظيفي، فلماذا يطرح مشروعه إذن، وهو مشروع يتحدث في البند الرابع منه عن “الدولة الفلسطينية”؟!
في الحقيقة لا يمكن لتجربةِ عقودٍ من تعامل النظام الأردني مع إسرائيل – حتى لو لم يكن نظاما وظيفيا يعمل في خطٍّ تتكامل ممارساته وسياساته مع خطِّ ممارسات وسياسات الصهيونية لتمرير العلاقات الإمبريالية في المنطقة – أن تبقيه نظاما واهما بأن الصيغة التي طرحها في مبادرته، أو حتى ما هو أقل منها يمكنه أن يتحقق، مادامت البندقية قد حُيِّدَت وخرجت من اللعبة بالكامل. وهو مع ذلك يطرح مبادرتَه ويتفاوض بشأنها مع الفلسطينيين بشكل جدي، وكأن إسرائيل تقف خلف الباب تنتظر نتيجة المفاوضات الأردنية – الفلسطينية كي تتحرك نحو الحل، كما ينتظر الأب المتلهف على مولوده خبر “جاءك ولد، جاءك ولد” لينطلق مزغردا مولولا تعبيرا عن فرحته.
فما السر في ذلك؟!
إن فلسطين بطبيعتها منذ أن أصبحت بعد احتلال معظمها عام 1948، واستكمال احتلالها عام 1967، صاعقَ التفجير والتحريك والتحفيز لكل مُفَعِّلات الإحساس بالكرامة العربية، وبالحقوق العربية، وبالهوان العربي، من المحيط إلى الخليج، لم يكن من السهل فصل التعاطي معها من وجهة النظر الإمبريالية والصهيونية عن التعاطي مع الأحبال السُّرِّيَّة التي كانت تربطها بكل الأرحام العربية، مُغَذِّيَةً عبر تلك الأرحام شعوب الأمة بالترقب والانتظار، وبالإحباط واليأس، وبالألم المشوب بالأمل، وبالتحولات الداخلية التي تعيد إنتاج كل بُناها السياسية وثقافاتها المجتمعية في الاتجاه العامل على فكرة “الاستعادة”، استعادة كل شيء فقدوه بفقدان فلسطين.
إن هذه الحقيقة التي وعتها كلٌّ من الإمبريالية والصهيونية، ومن خلالهما الوظيفية القطرية العربية منذ وقت مبكر من عمر القضية، لا يمكنها أن تعني إلا أمرا واحدا، هو أن قضية فلسطين لا تحتمل أبدية “التراخي” في الوصول بها إلى نتائجَ ما، تخفِّفُ من زخم المادة المُغَذِّيَّة التي تتدفق من تداعيات ذلك التراخي عبر الأحبال السُّرِّيَّة نحو الأرحام العربية التي كانت مستويات الاحتقان فيها تتزايد وتتراكم مع كلِّ تراخٍ وتسويفٍ وتأجيل للحلول. خاصة وأن كل تراخٍ وتسويفٍ وتأجيلٍ مرتبطٌ في الوعي الشعبي العربي بوظيفية وقطرية الدول العربية التي يفهم الجميع أنها بوظيفيتها وقطريتها هي التي تقف عائقا أمام تمرير الحلول العادلة المتعلقة بفلسطين.
إن فلسطين امتلكت منذ أن استهدِفَت بالمشروع الإمبريالي الصهيوني، صفةَ المركز والأساس في البناء العربي، وصفة المحرك والمحفز والمُوجِّه للمستقبل العربي، وهي بامتلاكها هاتين الصفتين لم تعد ملكا للفلسطينيين بمفردهم ولا خاصة بهم وحدهم، مثلما أن اليمن لليمنيين والجزائر للجزائريين ومصر للمصريين رغم عروبة الجميع. بل هي ملك للجميع بالمعنى المباشر للملكية، بمعنى أنها ملك لليمنيين مثلما أن اليمن ملك لهم، وأنها ملك للجزائريين مثلما أن الجزائر ملك لهم، وأنها ملك للمصريين مثلما أن مصر ملك لهم. وإن كان هذا المعنى يتباين في مستويات بروزه بتباين مستويات الوعي، وأنماط الثقافة المجتمعية التي تسود الشعوب العربية من وقت لآخر، وخاصة تلك الأقرب إلى فلسطين جغرافيا وديموغرافيا.
وفي كل الأحوال، فإن هذه الصفة تمنح الفلسطينيين وغيرَهم ممن يتصدون في مرحلة أو في أخرى للتعاطي مع “الحالة الفلسطينية”، صفةَ “الوكلاء المؤقتين” الذين تنتهي وكالتهم بفشلهم في تحريك القضية وقيادتها في الاتجاه المُنْبِئ بالحلول الحقيقية والجادة. وهذه الوكالة منحا أو انتهاء، لا تُمْنَح بقرارات وبوثائق رسمية، بل هي تُمْنَح بشكل ضمني تُعَبِّر عنه حركة التاريخ العربي، وتعسكه صيرورات المجتمعات العربية وتغيراتها واتجاهات تطورها ومنعطفاتها الكبرى. وتحدد معالمَه ومواصفاتِه طبيعةُ المنتجات الثقافية والسياسية والاقتصادية الجديدة في هذه المنطقة العربية أو في تلك.
فعندما غابت فلسطين في الأردن منذ عام 1948، انطوى هذا الغياب على دلالة ضمنية لمعنى “الوكالة” التي أشرنا إليها. أي أن الحالة الأردنية الجديدة التي أفرزتها تغيرات المرحلة – بصرف النظر عن مُسبِّب تلك التغيرات وعن طبيعتها، سلبية كانت أم إيجابية، وطنية أم رجعية، وظيفية أم استقلالية الطابع – وُكِلَت ضمنيا بالتعاطي مع “فلسطين” الأرض والقضية بالشكل الذي يحقق أهداف الأمة وغاياتها المشروعة.
وتم سحب هذه الوكالة بشكل ضمني منذ منتصف الستينيات بعد فشل الوكيل الأول فشلا ذريعا في تحقيق مقتضى الوكالة، لتمنحَ لحالة أردنية جديدة تخلَّقَت على أنقاض الحالة الأردنية المتخاذلة التي كانت تتهاوى آنذاك بسبب فشلها الذريع ذاك، وقد مثلت هذه الحالة الجديدة ثورة الأردنيين التي انطلقت عام 1965. إلا أن الدهاء والتآمر مكَّنا النظام الأردني المتهالك من إحداث بعض التغييرات في الوكالة، بحيث انتقلت إلى “حالة فلسطينية” تمَكَّن من إنتاجها ومن إعادة إنتاج نفسه بإنتاجها، في ظل ظروف البلاد والإقليم، ليصبح “الفلسطينيون” بشكلهم الذي تمَّ إنتاجه في الستينيات هم الوكلاء على فلسطين أرضا وقضية.
ومنذ عام 1970 وحتى الآن، وفلسطين أرضا وقضية أمانة في يدي الوكيل الفلسطيني الذي انتقل بها من فشل إلى فشل، ومن كارثة إلى كارثة، فيما بدا أن مجمل التغيرات والتحولات الإقليمية والدولية لم تكن كافية بعد لسحب التوكيل من الفلسطينيين وتسليمه لغيرهم، بسبب الحنكة الصهيونية الإمبريالية الوظيفية في التعامل مع الوكيل الفلسطيني، كلما تم الإحساس بأنه قاب قوسين أو أدني من دفع الأمة العربية باتجاه سحب توكيلها له ومنحه لغيره، خاصة وأن التوكيل لا يسحب بقرار ولا يمنح بقرار، وإنما يسحب ويمنح بتحولاتٍ تَنْقُلُ ضمنا ثقلَ ومركزَ التعاطي مع القضية من مكان إلى آخر، ومن وكيل إلى وكيل غيره.
في واقع الأمر فإن نقل الوكالة بشأن فلسطين من يد الشعب الأردني الثائر في الستينيات لتصبح في يد الشعب الفلسطيني المنشق عنه منذ بداية السبعينيات وحتى الآن، كان كارثة ألمت بالقضية العربية ككل وليس بالقضية الفلسطينية وحدها، لأن ذلك الوكيل الأردني كان مؤهلا لتغيير المنطقة إن هو أطاح برمز الوظيفية والقطرية، ألا وهو نظام “الملك حسين”، في حين أن تسليم القضية للوكيل الفلسطيني القطري الجديد، في سياق لعبة “لوغو الهويات” التي استهدفت إنقاذ الوكيل الفاشل السابق، حقن الجسم الوظيفي القطري العربي القائم ككل، بجرعات من الحيوية والمشروعية التي فاقمتها بعد ذلك تداعيات أكتوبر المصري على الصعيد الفلسطيني وعلى الصعيدين الإقليمي والعربي.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق هو: ما الذي جعل التوكيل الذي مُنِحَ ضمنا للفلسطينيين منذ عام 1970 يستمر حتى الآن رغم فشله الذريع في التقدم بالقضية إلى الأمام، بل رغم اتضاح تراجعه بها إلى الوراء؟! وما الذي جعل الأمة لا تنطوي على نوع من الحراك يسحب هذا التوكيل ضمنا من أيدي الفلسطينيين ويمنحه لغيرهم، كما حصل عام 1965؟! أي ما الذي جعل التوكيل الأول يصبح منتهي الصلاحية بعد أقل من عشرين عاما من عمره “1948 – 1965″، وجعل التوكيل الثاني يصبح كذلك بعد أقل من خمس سنوات من عمره “1965 – 1970″، فيما أطال في عمر التوكيل الثالث ليتجاوز الأربعين عاما حتى الآن؟!
صحيح أن الوكيل الفلسطيني ممثلا بالثورة الفلسطينية التي استقرت في لبنان، كان من النواحي الأخلاقية والعسكرية والتنظيمية يسير في الاتجاه الصحيح المستنزِف لزخم قطريته ووظيفيته التي استهل بها مرحلة وكالته في بداية عقد السبعينيات منتقلا على هذين الصعيدين إلى العروبية والعالمية، فيما بدا من النتائج التي حققتها الثورة الفلسطينية على صعيد علاقاتها بكل ثوار العرب والعالم وقواهم التقدمية، إلى درجة أن أطلق عليها اسم “أم الثورات”. لكن الصحيح أيضا هو أن هذا الوكيل كان من الناحيتين الأيديولوجية والسياسية يمعن في تراجعه العروبي والعالمي محققا المكاسب لموقعه القطري والوظيفي، وهو ما يتناقض مع النتائج التي كان يحققها على الصعد الأخلاقية والعسكرية والتنظيمية، وهو ما كان مطلوبا صهيونيا وإمبرياليا ووظيفيا.
أي وبلغة حسابات بسيطة، أن الوكيل الفلسطيني كان يتقدم بمشروعه في الاتجاه الصحيح خطوة ويتراجع خطوتين، وبتراجعه هاتين الخطوتين فهو إنما يؤخر استكمال نزيف زخم قطريته ووظيفيته على حساب التقدم بقوميته وعالميته، وهو ما أطال عمر هذا الوكيل إذا ما قورن بأعمار الوكيلين السابقين، “النظام الأردني” الوظيفي” 1948 – 1965، و”الشعب الأردني الثائر” 1965 – 1970.
إدراكا من أقطاب الوظيفية العربية وأساطين الصهيونية والإمبريالية لحقيقة “الوكالة الضمنية” التي أشرنا إليها ولمختلف حيثياتها، عندما يتعلق الأمر بالتعاطي مع فلسطين “الأرض” و”القضية”، جعلهم يفعلون كل ما بوسعهم لإطالة عمر الوكيل الوظيفي القطري الفلسطيني الذي بدأ مسيرته في التعاطي مع الحالة الفلسطينية عام 1970. إن بقاء الوكيل الفلسطيني متمتعا بحقوق الوكالة الممنوحة له بشأن فلسطين لمدة أربعين عاما هي الفترة الممتدة من عام 1970 وحتى الآن رغم فشله وتراجعه الواضحين، يرجع في حقيقة الأمر إلى عدة أسباب يمكننا إيجازها في التالي..
1 – التناقض الذي أشرنا سابقا بين التقدم على الصعد الأخلاقية والتنظيمية والعسكرية، والتراجع على الصعد الأيديولوجية والسياسية. ونعود لنستحضر في هذا المقام تناقض المقاومة في الأردن عندما كانت تدفع من جهة، باتجاه محاربة نظامٍ تدعي أنها لا تريد إسقاطه ولا منافسته على السلطة، فيما كانت تدفع من جهة أخرى باتجاه ازدواجية سلطةِ لا تعني إلا منافسة على السيادة والهوية، وهو ما يعني أكثر من المنافسة على السلطة. إن هذا التناقض المستحكم في أيديولوجية الثورة منذ أن استحضرت لنفسها “هوية فلسطينية” لا يمكنها أن تتجسد في أرض أردنية، عاد ليتجلى في ممارساتها في لبنان ولكن بشكل مختلف. ففي لبنان لم يكن أحد يتعامل معها على أساس أنها مقاومة لبنانية يريدها أن تتخلص من لبنانيتها كما حصل في الأردن. بل هي مقاومة فلسطينية معترف لها بفلسطينيتها، ولهذا السبب أخذ التناقض شكلا مختلفا عندما تجلى في صيرورةٍ أيديولوجية وسياسية تمعن في قطريتها ووظيفيتها، وفي صيرورةٍ عسكرية وتنظيمية تنزع إلى العالمية وليس إلى العروبية فقط، وهما النزعتان اللتان لا يستقيم الجمع بينهما في بنية ثورية واحدة على الإطلاق.
2 – التغيرات الاقتصادية التراجيدية التي عمَّت المنطقة بعد عام 1973 عندما دخل البترودولار الخليجي عاملا حاسما في إنتاج ثقافة الشعوب وتوجهاتها، ما غيَّب مركزية فلسطين في النهضة والحرية والوحدة العربية، بل ما غيَّبَ مركزية هذه الأهداف في ثقافة الإنسان العربي أساسا. 
3 – التغيرات السياسية والثقافية التراجيدية التي أعقبت انكفاء مصر إلى قطريتها بعد اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل، بكل الآثار السلبية لذلك الانكفاء على زخم القومية العربية والارتباطات التقدمية للعرب على الصعيد العالمي.
4 – الدور السوري الرمادي في لبنان، وهو الدور الذي واجه المشروع الوطني الفلسطيني – اللبناني، وقضى عليه بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من تحويل لبنان إلى نموذج لتزاوج الحركة الوطنية مع الثورة المتجهة لتحرير فلسطين، وهو ما عاد ليشغل المشروع الفلسطيني بصراعات جانبية استنزفته وأتاحت الفرصة لأعدائه كي يعيدوا بناء أنفسهم، إلى أن أصبح مشروعا مكشوفا تمكنت إسرائيل من القضاء عليه في اجتياح صيف عام 1982.
لقد كان الواقع العربي الإقليمي شعبيا ورسميا، يتحرك في اتجاهٍ مغايرٍ لذلك الذي كان يدفع باتجاهه النزيفُ البطيءُ في زخم الوظيفية والقطرية الفلسطينية في لبنان. وهو ما أطال في عمر الوكيل الفلسطيني من جهة، وما أتاح لأعداء المشروع القومي التحرري النهضوي العربي من الأنظمة الوظيفية القطرية من جهة أخرى فُرَصَ إعادة إنتاج هذا المشروع في ضوء التغيرات التي كان يشهدها الإقليم، على أسسٍ تُمَدِّدُ في وكالته القطرية والوظيفية أطول مدة ممكنة، خاصة مع غياب ملامح الوكيل البديل، بسبب عدم أهلية الأمة العربية لتتمخض عن ذلك البديل في تلك المرحلة.
إن طبيعة مُكَوِّنات الخريطة “السايكسبيكوية”، وطبيعة المسارات التي تطورت ونمت في أنفاقها القضية الفلسطينية منذ بداية الانتداب البريطاني وحتى الآن، جعلت الوكلاء المحتملين لتولي أمر فلسطين أرضا وقضية، هم فقط “الأردنيون” أو “الفلسطينيون”. وما باقي العرب في ذلك إلى تبع لهذا الوكيل أو لذاك، أو محفزون للتغيير من وكيل إلى آخر، أو ضاغطون على توكيل من يتصف بالصفات الفلانية وليس بالصفات العلانية من بين الفلسطينيين والأردنيين تحديدا، في ضوء التشكيلات والبُنى العربية الشعبية والرسمية الضاغطة بطبيعة الحال، لأن هذه البُنى هي التي تحدد شكلَ الوكيل وطبيعته ومواصفاته أردنيا أو فلسطينيا.
إن هذه الحقيقة تُعَدُّ مُكونا أساسيا من مكونات قضيتي الشعبين الأردني والفلسطني على حدّ سواء. وبالتالي كان على “الموكِّل” وهو يبحث عن بديل في هذه المرحلة أو في تلك، ألا يخرج في بحثه عن حدود المُكونين “الأردني” و”الفلسطيني”. هذا على كل حال هو ما أثبتته الخبرة والتجربة، وما أَشَّرَ ودلَّ عليه التاريخ.
فالوكالة انتقلت من “الفلسطينيين الثائرين” عبر تنظيم “الجهاد المقدس” خلال الانتداب البريطاني حتى سقوط معظم فلسطين عام 1948، إلى “النظام الأردني الوظيفي” في الفترة 1948 – 1965. وفي الفترة 1965 – 1970، انتقلت الوكالة إلى “الشعب الأردني الثائر”. ومنذ عام 1970 حتى الآن تم تسليم الوكالة إلى “الثورة الفلسطينية الوظيفية”.
وعلى مدى كل هذه الفترة، لم تكن أي محاولة من تلك التي تحركت في اتجاه تعديل الوكالة أو سحبها أو إعادة إنتاج عناصرها، تخرج عن هذا السياق، فهي دائما محاولات تصب في اتجاه إعادة الوكالة لـ “النظام الأردني الوظيفي”، أو في اتجاه جعلها شراكة بينه وبين “الثورة الفلسطينية الوظيفية”. فحتى المحاولة العربية الوحيدة التي تحركت في هذا الاتجاه من خارج المكونين الأردني والفلسطيني، وهي المحاولة السورية في لبنان، فشلت في ذلك، ولم تستطع إحراز أي خطوة على هذا الصعيد. فوكلاء فلسطين، أو بتعبير أدق الوكلاء الطليعيون الذين يسحبون وراءهم كل الأمة نحو فلسطين، هم “الأردنيون” و”الفلسطينيون” ولا أحد غيرهم.
ومن هذا المنطلق، وعلى ضوء كل ما سبق، فقد كان على “القضية الفلسطينية” بعد أن دخلت منعطف القطرية والوظيفية منذ أيلول 1970، وبعد التطورات العالمية والإقليمية التي أدت إلى أحداث عام 1982، أن تدخل نفقا جديدا من أنفاق صيرورتها الوظيفية القطرية الأبدية، قبل أن تستنزف كل إمكانات قطريتها ووظيفيتها اللتين أتاحهما “أيلول”، فتنعطف بهذا الاستنزاف إلى آفاق اللاقطرية واللاوظيفية التي تحرص على تجنبها التوليفة “الإمبريالية – الصهيونية – الوظيفية” في الإقليم.
أي أنه كان على المنظومة الوظيفية العربية، وعلى رأسها نظام “الملك حسين” المعنِيُّ الأول بالأمر، أن تباشر منذ أيلول في البحث عن بدائل تكون جاهزة ومناسبة لاحتواء تداعيات نزيف الوظيفية والقطرية الذي بدأ بأيلول. وقد كانت مبادرته بمشروع “الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية” عام 1984 آخر محاولة لإعادة التوكيل إلى الأردن القطري الوظيفي، بوصف هذه المحاولة إن نجحت قادرة على إعادة إنتاج عناصر التسويف والتأجيل المانعين للبحث عن وكيل بديل يكون من خارج الوظيفية القطرية الأردنية والفلسطينية. “وعلى أي حال، لم يكتب لهذا المشروع النجاح، إذ لقي معارضة فلسطينية داخلية من بعض الفصائل. وقام الملك حسين بإيقاف المشروع في 19 شباط/فبراير 1986″(6). 
…   يتبع
الهوامش..
1 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 107 – 108).
2 – (من دراسة بعنوان “مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية”، من موقع “المركز الفلسطيني للإعلام”، بتاريخ 10/10/2011، على الرابط التالي:http://www.palestine-info.info/arabic/books/altasweyah/altasweyah1.htm).
3 – (كتاب لـ “منير الهور وطارق الموسى”، بعنوان “مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية 1947- 1985، ط2 “عمان – الأردن، منشورات “دار الجليل”، 1986، ص 129).
4 – (من دراسة بعنوان “مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية”، من موقع “المركز الفلسطيني للإعلام”، بتاريخ 10/10/2011، على الرابط التالي:http://www.palestine-info.info/arabic/books/altasweyah/altasweyah1.htm).
5 – (كتاب لـ “منير الهور وطارق الموسى”، بعنوان “مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية 1947- 1985، ط2 “عمان – الأردن، منشورات “دار الجليل”، 1986، ص 230 – 231).
6 – (كتاب لـ “منير الهور وطارق الموسى”، بعنوان “مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية 1947- 1985، ط2 “عمان – الأردن، منشورات “دار الجليل”، 1986، ص 230 – 231).

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.