www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية13/أسامة عكنان

0

لم يكن مما توقعه صُناع مشروع الدولة الأردنية الوظيفية من مُحترفي لعبة “لوغو الهويات” الذين امتلكوا ناصية “الهوية الأردنية” فرهنوها لمشاريع “سايكس بيكو”، أن تُسفرَ عملية التخصيب التاريخية لـ “الهوية الأردنية” بمُهَجَّري “الهوية الفلسطينية” ولاجئيها، عن مولودٍ مكتنزٍ بالحيوية والصحة والعافية، اكتسب من الهويتين “الأردنية” الوظيفية المُتَضَخِّمَة، و”الفلسطينية” التَّحَرُّرّيَّة المُغتالة، أكثر جيناتِهما احتواءً على الكروموزومات الداعمة لمفهوم “العروبة الوحدويَّة” من جهة، ولمبدأ “مقاومة” العلاقات الإمبريالية والصهيونية في المنطقة من جهة أخرى.

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية
“دراسة في حلقات”
“جزء من بحث قُدِّمَ لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية”
أسامة عكنان
عمان – الأردن
الأردن وطن وليس مزرعة خراف
والأردنيون شعب وليسوا قطيع ماشية
والأردني مواطن يملك وطنا، وليس عابر سبيل يستجدي كسرة خبز
وحكام الأردن خدم وموظفون عند شعبهم، وليسوا سادة عليه أو مستعبدين له
فمن فهم فليعمل بما فهم، ومن لم يفهم فليذهب إلى الجحيم
قراءةٌ في دور الأردن التاريخي كوطن مُهِمٍّ يلد رجالاً أهم، ورفضُ دورِه الوظيفي كمزرعة تسمِّن الخراف لخلق فضاءٍ آمنٍ لأعداء الأمة

الحلقة الثالثة عشرة
ملامح الثقافة المجتمعية والهوية الأردنية في الفترة 1950 – 1965
نلفت انتباه القراء الأعزاء إلى أن هذه الحلقة كان يجب أن تكون هي الحلقة الثالثة من الدراسة وليس الحلقة 13، فليضعها القارئ الذي تابع كافة الحلقات في موضعها المناسب كي يستشعر التواصل الموضوعي بين حلقات الدراسة، مع الاعتذار والشكر

لم يكن مما توقعه صُناع مشروع الدولة الأردنية الوظيفية من مُحترفي لعبة “لوغو الهويات” الذين امتلكوا ناصية “الهوية الأردنية” فرهنوها لمشاريع “سايكس بيكو”، أن تُسفرَ عملية التخصيب التاريخية لـ “الهوية الأردنية” بمُهَجَّري “الهوية الفلسطينية” ولاجئيها، عن مولودٍ مكتنزٍ بالحيوية والصحة والعافية، اكتسب من الهويتين “الأردنية” الوظيفية المُتَضَخِّمَة، و”الفلسطينية” التَّحَرُّرّيَّة المُغتالة، أكثر جيناتِهما احتواءً على الكروموزومات الداعمة لمفهوم “العروبة الوحدويَّة” من جهة، ولمبدأ “مقاومة” العلاقات الإمبريالية والصهيونية في المنطقة من جهة أخرى.
لقد أُريدَ لعملية التخصيب المشار إليها، والتي كانت بمثابة صيرورة تاريخية متوقعة ومرتقبة – منذ كان “سايكس” و”بيكو” يتفاوضان في الغرف المظلمة حول الكيانات القطرية التي سوف يتم إنجازها عقب الحرب – ما خُلِّقَت الدولة الأردنية بالهيئة التي خُلِّقَت بها، ولا نُمِّيَت “الهوية الأردنية” على النحو الذي نُمِّيَت به، إلا لتكونا وعاءً جيوسياسيا لاحتوائها، أي لاحتواء تلك الصيرورة..
نقول.. لقد أُريدَ لعملية التخصيب تلك أن تُسفرَ عن مولودٍ وظيفي قُطْري مُتضخم، ماتت فيه كل احتمالات المقاومة، ودُفِنَت على أرضه إلى غير رجعة كل آمال النزعة الوحدوية في فكرة العروبة. هذا ما توقعه صُناع المشروع الوظيفي الأردني من عملية التلقيح الغريبة هذه. فقد تساءل الجميع وهم يستكملون شرب أنخاب النصر في آخر مراسم الجنازة التي بدأت بمهزلة حرب 1948، ومرت بقانون تجنيس عام 1949، لتنتهي بآخر مشهد في مسرحية مؤتمر أريحا في العام 1950، عن شكل الجنين “الطفرة” الذي سيتخلَّق في رحمِ “الجغرافيا الأردنية”، باختراق نطفة “جثة” لبويضة “مومس”. كانت الجثة هي جثة “الهوية الفلسطينية المقاوِمَة”، فيما كانت المومس هي “الهوية الأردنية الوظيفية”.
لقد كان المتوقع والمأمول أن تنقلَ نطفة الجثة إلى بويضةِ المومس “جينات موت المقاومة”، وأن تحاصرَ بويضةُ المومس نطفةَ الجثة بـ “جينات الوظيفية”، فينشأ المولود مُفَرِّغا من المقاومة، مجبولا بعجين الوظيفية، غارقا بحجمه المتضخم الجديد في أبشع مستويات القُطْرِيَّة. لكن الواقع دل على أن عدم تطور علم الهندسة الوراثية في تلك الحقبة من الزمن بما يكفي لاستقراء كافة صور التبادل الجيني المحتملة، جعل صُناع المشروع ومنظمي مراسم الجنازة، لا يتخيلون أن إحدى تلك الصور الجينية الممكنة قد تتحقق، فتقلب كل عناصر الخطة على رؤوس راسميها.
لقد أسفرت عملية التخصيب التاريخية تلك عن الصورة الجنينية التي لم يتوقعها صناع المشروع، فبدل أن تنقل “نطفة الجثة” إلى “بويضة المومس” جينات “موت المقاومة”، نقلت إليها بقايا تلك المقاومة وهي تحتضر، مُقَدِّمَة للمومس آخرَ مواعظ شهيدة تستعد لمفارقة الحياة. وبدل أن تحاصرَ “بويضةُ المومس” بالوظيفية “نطفةَ الجثة”، فقد دَثَّرَتها بالنبل والأصالة التي كانت رابضة في بقايا ضمير مومسٍ اكتشفت في مواعظ الشهيدة الراحلة فجأة، أن صُناعَها مومساً تلاعبوا وما يزالون يتلاعبون بجسدها ليمنحوه للشيطان.
وكانت النتيجة مولودا غير متوقع، احتضن الشهيدة الراحلة طوطما صنع به من أرض المومس التي انتحرت متحولة إلى قديسة، أرضا أعادت إنتاج هوية أصحابها على نحوٍ استعادت به عروبتها ونزعتها التحررية بعد أن ورثت من الشهيدة الراحلة روح المقاومة لكل ما يقف ضد طموح الأمة في التحرر والوحدة والنهضة، ليصبح الأردن – المولود الجديد – أرضا وشعبا وهوية مشروعَ القاعدة القومية الآمنة المرتقب.
على مدى الفترة الممتدة من منتصف القرن العشرين وحتى منتصف عقد الستينيات من القرن نفسه، خاض المولود الجديد – الأردن الجديد – معركتَه الشرسة ضد نظامٍ كان يناجز الحقيقة والمنطق، ويعاند قوانين الحركة ونواميس التاريخ، ويدافع عن بقاء وظيفيته واستمرار قطريته، اللتين لا يجد نفسَه ولا يستشعر ذاتَه وأناه إلا وهو غارق في ممارستهما.
أما الأردن الجديد الخارج لتَوِّه من مرحلة التيه، فقد كان يعمل على حماية نموه السليم واستكمال عناصر الديمومة في هويته الجديدة المولودة من رحمٍ كل ما فيه موتٌ في موتٍ، من موت الوطنية في “هوية أردنية” وظيفية، إلى موت المقاومة في “هوية فلسطينية” نُحرت وشُيعت إلى مثواها الأخير، إلى موت العروبة الوحدوية في “قطرية” استفحلت إلى درجة التَّغَوُّل. وكان الأردن الجديد هذا يعزز في معركته تلك من مواقع ثقافة “الفكرة” في مجتمع دمرته ثقافة “العصبية” على مدى عقود من الزمن جعلت بينه وبين التطور الفاعل والأداء السياسي المنتج، حواجز لم يعد ينفع معها سوى الهدم كي يستقيمَ الأمر.
لم يمض وقت طويل على انتهاء مراسم الجنازة، حتى بدأ الجنين الجديد بالتَّخَلُّق على القواعد الجديدة غير المتوقعة ولا المرتقبة من قبل صُناع المشروع الأردني الوظيفي. فقد أثبتت الهوية الأردنية أن كلَّ محاولات تغييبها عن جذورها العربية، وإبعادها عن دورها القومي التَحَرُّري، عبر مسخها بثقافة “مصلحة العصبية” التي عملت فيها تشويها وتخريبا على مدى ثلاثين عاما، باءت بالفشل الذريع عند أول بادرةٍ جادةٍ تُذَكِّرُها بأنها خُدِعَت واستُخْدِمَت جسرا لتمرير مصالح أعداء الأمة العربية برشوة عديمة القيمة، هي “الهوية الأردنية” التي انتبه الأردنيون بعد استكمال عمليات التخصيب التاريخية، إلى واقعة أنها عُزِلَت عن حواضنها القومية لتؤدي أدوارا صهيونية إمبريالية.
أُسْقِط في يدي النظام ومروِّجي ثقافته وداعمي وظيفيته والمستفيدين من قُطْرِيَّته، لأن الوقائع على مدى أقل من عقد ونصف العقد من الزمان، أثبتت أن سرعةَ تخلُّص الشعب الأردني ببُنْيَتِه الجديدة التي أنتجتها الأعوام 48، 49، 50، بمنعطفاتها التاريخية الثلاثة “الحرب” و”التجنيس” و”أريحا”، من الموروثات الثقافية والسياسية القاسية للأعوام الثلاثين التي دشنها إعلان الإمارة في عام 1921، لم تكن متوقعة خلافا لكل التكهنات. ما جعل الأحداث التي شهدتها تلك الفترة الوجيزة من الزمن تسفر بتلاحقها الباعث على انقطاع الأنفاس، عن تراجعٍ حادٍّ في ثقافة “العصبية” لصالح ثقافة “الفكرة”، بكل ما يمكنه أن يستتبع ذلك من تَغَيُّراتٍ على صعيد تراجعِ وظيفية وقُطْرِيَّة الدولة الأردنية، برواج كل تداعيات ثقافة “الفكرة” على الصعيد المجتمعي في بيئة اجتماعية كانت بالأمس القريب تتعامل مع الدولة ذاتها باعتبارها قبيلة، ومع الملكية باعتبارها مشيَخَة، ومع الملك باعتباره “الشيخ أو المختار”.
فبعد أن أسفرت الحرب عن سقوط فلسطين، وحُلَّ تنظيم “الجهاد المقدس” الذي كان يقوده الشهيد “عبد القادر الحسيني” باستشهاده الأسطوري في “القسطل” هو ورفاقه، وتراجع وانكفاء الدور التمثيلي لـ “الهيئة العربية العليا” التي كان يقودها الحاج “أمين الحسيني” باعتبارها الجسد التمثيلي للهوية الفلسطينية، التي تمت الحيلولة بينها وبين أن تتجسَّد على أي جزء من أرض فلسطين المتبقية خارج الاحتلال الإسرائيلي، بحصار “حكومة عموم فلسطين” الناشئة في غزة، وبعد أن ظن الجميع أن القضية الفلسطينية تراجعت، وأن مبدأ التحرير طُوِيَ في عوالم النسيان، خاصة بعد بدءِ الترويج للدور القومي الذي ستتزعمه وتقوده الأنظمة العربية نفسُها لإنجاز التحرير، إمعانا في دفع أصحاب الحق إلى الاستكانة والانتظار والترقب وتَجَنُّب المبادرة..
نقول.. بعد كل ذلك، فجَّر “الأردنيون الجدد” ببُنْيَتِهم الجديدة وبثقافتهم المتحفزة إلى الوحدة والتحرير، ثورتَهم في منتصف عقد الستينيات، لتكون بادرتُهم تلك أولَ تعبير حقيقي عن أن الهوية الأردنية تخلصت من عباءةِ وظيفيتها ومن بوتقة قُطْرِيَّتِها، متبنية زمام الطليعية لقيادة الأمة نحو إنجاز مشروعها الوحدوي النهضوي التحرري انطلاقا من الجغرافيا الأردنية التي قُرِّرَ لها أن تكون مشروعَ قاعدة الأمة الآمنة نحو ذلك المشروع القومي الكبير، ليصبحَ الشعب الأردني مُغردا في سرب، ونظام “الملك حسين بن طلال” مغردا في سرب آخر، وهما السربان المتناقضان اللذان كان تجاذبهما وتنافرهما، بمثابة المحددات التي رسمت لتلك المرحلة معالمها السياسية والثقافية.
وإننا كي نتعقَّبَ ملامح ذلك التجاذب والتنافر على مدى الفترة التي ناضلت فيها ثقافة “الفكرة” كي تنتشل “الهوية الأردنية” من قُطْرِيَّتِها ووظيفيتها، والتي استمات خلالها النظام في الدفاع عن مواقعه التي كان قد اكتسبها على مدى الأعوام الثلاثين التي سبقت حلول منتصف القرن العشرين، يجدر بنا أن نراقبَ محطات تجسيد ثقافة الترابط المجتمعي كيف راحت تتغير متيحة الفرصة لهيمنة ثقافة “الفكرة” على حساب ثقافة “العصبية”، ليكون هذا هو الدليل على أن الهيمنة على صعيد الهويات بدأت تنتقل بدورها – تناغما مع تَغَيُّر مواقع الهيمنة في ثقافات الترابط المجتمعي من العصبية إلى الفكرة – من “الهوية الأردنية الوظيفية القطرية” إلى “الهوية الأردنية التَّحَرُّريَّة القومية”.
كانت انتخابات 30 آب 1951 التي نظمت بمشاركة واسعة من الأحزاب السياسية – وهي ثالث انتخابات تنظم منذ إعلان استقلال المملكة عام 1946 –  أول مظاهرِ زحفِ ثقافة “مصلحة الفكرة” نحو المجتمع الأردني الجديد، في حقبة ما بعد التآمر على “الهوية الفلسطينية” وتغييبها في قلب “الهوية الأردنية” الوظيفية.
وإذا كانت هذه الانتخابات في ذاتها، وهي تُنَظَّم لأول مرة في تاريخ الأردن على قاعدة مشاركة حزبية، بكل ما للتحزب من معاني التجمع على أساس “الفكرة”، تدل على سرعة تجلِّي النتائج العكسية للتخصيب التاريخي الذي أشرنا إليه سابقا بين “الجثة” و”المومس” خلافا لكل التوقعات، فإن نتائج هذه الانتخابات تدل بشكل قاطع على فشل مشروع “الضم” و”التغييب” الذي اضطلع به كل من قانون “التجنيس” ومؤتمر “أريحا” بعد وضع الحرب لأوزارها، في تحقيق أهداف صُناع المشروع الأردني “السايكسبيكوي” من عمليتي “التجنيس” و”الضم” هاتين. “فقد كانت نتيجة الانتخابات فوز الأحزاب بـ 26 مقعدا من أصل 40 في مجلس النواب”(1).
ومنذ أن صُدِمَ النظام بهذه النتيجة التي جاءت لتؤكد له أن إنجاز السنوات الثلاث التي أعقبت الحرب، تفوَّقَ على إنجاز الأعوام الثلاثين التي سبقتها مجتمعةً، في أخطر رسالة يمكنها أن تُوَجَّهَ لنظام وظيفي، من شعبٍ كان يُعِدُّه على قدم وساق ليغرقَ في متاهات الوظيفية التي اضطلع بها دورا إستراتيجيا لا يحيد عنه، راحت الأحداث تتلاحق مُنَمِّيَةً هذه الحقيقة على أرض الواقع. فقد كان أهم إنجاز لهذا المجلس المنتخب الجديد “التصويت على إقرار دستور جديد للبلاد. إلا أن المجلس حُلَّ بتاريخ 22/6/1954 بسبب أنه كان ينوى في ذات اليوم حجب الثقة عن حكومة “توفيق أبو الهدى”(2)، لتأتي انتخابات تشرين الأول 1954 مؤكدة تنامي ثقافة “الفكرة” بشكل لم يعد من السهل مقاومته، عندما “وجهت اتهامات للحكومة بتزوير تلك الانتخابات والتسبب في خسارة الأحزاب، ما أدى إلى وقوع اضطرابات شعبية استمرت عدة أيام، سقط فيها 14 قتيلا و117 جريحا”(3).
جاءت قضية “حلف بغداد” التي انشغل بها الشارع الأردني انشغالا غير عادي منذ أواخر عام 1955، لتكشف عن نقلة نوعية في مستوى هيمنة ثقافة “الفكرة” على قطاعات واسعة من الشعب الأردني، في إشارة واضحة إلى أن الثقافة “المركبة” توسِّع في دوائرها، مزيحة شيئا فشيئا المساحات الواسعة التي كانت تحتلها ثقافة “العصبية” لصالح ثقافة “الفكرة”.
“فلما تبين للأردنيين أن الحكومة تهم بالدخول إلى الحلف، قامت اضطرابات شعبية واسعة تقودها الأحزاب العقائدية وهي “البعث” و”الشيوعي”، ضد الحلف. وفي 19/12/1955 استقالت حكومة “هزاع المجالي” على خلفية تلك الاضطرابات. ولما شكل “سمير الرفاعي” حكومةً جديدة في كانون الثاني 1956، تقدم ببيان وزاري إلى مجلس النواب يعلن فيه أن الحكومة لا تنوي الانضمام إلى أي أحلاف”(4).
وهكذا تمكَّنَ الشعب الأردني من إسقاط مشروع “حلف بغداد” بسبب أن ثقافة “الفكرة” – العاملة بطبيعتها ضد الوظيفية والقُطْرِيَّة خلافا لثقافة “العصبية” – كانت قد بدأت تهيمن على مفاتيح الحراك المجتمعي السياسي في البلاد.
وفي نقلة تاريخية غير مسبوقة ولا متوقعة الحدوث بهذه السرعة في الساحة الأردنية – لأنها جاءت بعد أربع سنوات فقط من إقرار الدستور، وبعد خمس سنوات من أول انتخابات برلمانية تجري في المملكة بعد استكمال عملية الضم والاحتواء والتغييب التي أعقبت ثلاثين عاما من التدمير المجتمعي على أسس “مصلحة العصبية” – تشكلت ولأول مرة حكومة على أساس الأغلبية البرلمانية التي أسفرت عنها نتائج انتخابات عام 1956.
فقد كان مجلس النواب الرابع – الذي اتُّهِمَت الحكومة بتزوير انتخاباته – قد حُلَّ في 19/12/1955، غير أن ديوان تفسير الدستور اعتبر أن قرار الحل لم يكن دستوريا، ليعود المجلس المطعون فيه إلى الوجود، ما أدى إلى وقوع موجة من الاضطرابات الشعبية احتجاجا على هذا التلاعب في إرادة الشعب بغطاءٍ شبه قضائي، إذا تم اعتبار “ديوان التفسير” هذا مؤسسة شبه قضائية. “وفي 26/6/1956 حُلَّ المجلس من جديد نزولا عند رغبة الجماهير والأحزاب السياسية، ثم نظمت انتخابات المجلس النيابي الخامس في 21 تشرين الأول 1956، وأسفرت عن فوز الأحزاب السياسية اليسارية والقومية بالأغلبية، حيث حصلت على 23 مقعدا من أصل 40 مقعدا”(5)،
ونحن هنا لا نحتسب المقاعد التي حصلت عليها الأحزاب الإسلامية التي كان من الصعب اعتبارها منجزات لثقافة “الفكرة”، لأنها كانت في الواقع حليفا للنظام، وبالتالي لثقافة “العصبية” على قاعدة دينية. “فقد حصلت هذه الأحزاب الإسلامية على 5 مقاعد، فيما كان نصيب التيار المحافظ 12 مقعدا فقط”(6). أي أن التيار المحافظ الممثل لثقافة “العصبية” في بُنْيَتها العشائرية القبلية المدعومة بالواجهة الدينية التقليدية، انحدر في مدة خمس سنوات فقط، بفعل حيوية المجتمع الأردني الجديد وسرعة تَقَبُّلِه للمخصبات الثقافية الجديدة القائمة على “مصلحة الفكرة”، من تيار كان يهيمن هيمنة  كاملة على المؤسسة التمثيلية، إلى تيار لا يتمثل فيها بأكثر من 30% من المقاعد.
“في ضوء هذه الانتخابات تشكلت أول حكومة في تاريخ الأردن على أساس الأغلبية البرلمانية، برئاسة “سليمان النابلسي”، زعيم الحزب الوطني الاشتراكي صاحب أكبر كتلة برلمانية. وقد ضمت الحكومة ثمانية وزراء من الحزب الوطني الاشتراكي والبعث والجبهة الوطنية المقربة من الحزب الشيوعي المحظور، وثلاثة وزراء غير حزبيين”(7).
ولأن منظمات المجتمع المدني بمختلف أشكالها، تعد تعبيرا متطورا عن انتشار ثقافة “مصلحة الفكرة” وتراجع ثقافة “مصلحة العصبية”، حيث يتجمع الأفراد على أساس مصالح أكثر تخصصا، وتربط بينهم علاقات مبنية على قواعد مهنية وحرفية وتقنية أكثر تعبيرا عن المصلحة في سياقها التفصيلي، فقد كان من الطبيعي أن تُعَبِّرَ ظاهرة هيمنة ثقافة “الفكرة” عن نفسها، في تشكيل عدد لا يستهان به من هذه المنظمات، التي تأسس معظمُها في الفترة من 1950 إلى 1957، أي بالتزامن مع تطور حضور ثقافة “مصلحة الفكرة”. وقد تركزت منظمات المجتمع المدني التي نشأت في تلك الفترة، في كل من “النقابات المهنية” و”النقابات العمالية” و”المنظمات الطلابية”.
فعلى صعيد النقابات المهنية، “تأسست نقابة المحامين عام 1950، ونقابة أطباء الأسنان عام 1952، ونقابة الأطباء عام 1954، ونقابتا الصيادلة والمهندسين(8) عام 1957″(9).
ولقد استندت هذه النقابات إلى القاعدة الاجتماعية ذاتها التي استندت إليها الأحزاب السياسية العقائدية، “لا بل إن الأحزاب القومية واليسارية كان لها دور كبير في المبادرة والمطالبة بتأسيس هذه النقابات. ولذلك اتسم أداء هذه النقابات بالتسييس الشديد والمشاركة النشطة في الأحداث الوطنية”(10).
أما على صعيد العمل باتجاه تأسيس منظمات مجتمع مدني نقابية ذات طابع عمالي وليس مهني، فإن ثقافة “مصلحة الفكرة” لم تكن أقل حضورا. فقد بدأ الأردنيون يدركون أهمية التجمع على أساس ما يشتركون فيه من حقوق مطلبية. “فقد تأسست 10 نقابات عمالية خلال النصف الأول من عام 1954. وفي الأول من أيار من ذلك العام شَكَّلَت ستٌّ منها “الاتحاد العام لنقابات العمال”. وحتى عام 1957 بلغ عدد هذه النقابات 39 نقابة، وبلغ مجموع عدد أعضائها “9566” عضوا”(11).
وعلى الرغم من أن هذه النقابات العمالية قد تأسست على قواعد رفع الشعارات المطلبية ذات الطابع النقابي، “إلا أنها كانت هي الأخرى جزءا من الحركة التي تقودها الأحزاب السياسية العقائدية، وبالذات حزبي البعث والشيوعي”(12). وهو الأمر الذي جعلها لا تقف متفرجة إزاء التحركات الشعبية التي كانت تترافق مع الأحداث السياسية الساخنة التي عمَّت البلاد في تلك الفترة من الزمن.
وإذا انتقلنا من المنظمات النقابية بشقيها المهني والعمالي إلى المنظمات الطلابية، فإننا سنجد الظاهرة نفسَها تتكرر وبتأثير العناصر الثقافية نفسِها. فقد تشكل التنظيم الطلابي في البداية من طلبة المدارس الثانوية بصفة أساسية، نظرا لتأخر تأسيس الجامعات في المملكة إلى عقد الستينيات. “وقد أخذ التنظيم الطلابي حتى عام 1957 شكل مؤتمر الطلبة الذي انعقد لأول مرة في صيف 1953، بعد جولات من التحضير بدأت في أواخر 1951 بإشراف مباشر من حزبي البعث والشيوعي. وقد انعكس ذلك على نشاطات هذا التنظيم خلال السنوات التالية. لا بل أن الطلبة شكلوا العمود الفقري لمظاهرات عام 1955 في قضية حلف بغداد”(13).
 رغم الانتكاسة التي مُنَيَت بها الحركة الوطنية والأحزاب الأردنية بعد أحداث عام 1957 والتي تمثلت في محاولة الانقلاب الفاشلة ضد نظام الملك حسين، ورغم الضغوطات الهائلة التي تعرض لها النشاط الحزبي، والحصار الشديد الذي عانت منه كل مظاهر الفعل الجماهيري في أعقابها، إلا أن ذلك لم يؤثر بقدر كبير وجوهري على ثقافة “مصلحة الفكرة” لصالح ثقافة “مصلحة العصبية” كما يُظَنُّ، مع أن النظام عاد إلى ممارساته السابقة على هذا الصعيد بكل ما أوتي من قوة، مستخدما كل الوسائل المتاحة أمامه لاستعادة مواقع تلك الثقافة التي كانت قد بدأت تضمحل وتنزوي عن التأثير على الساحة الثقافية الأردنية، بله عن الهيمنة على تلك الساحة.
هذا ولقد كشفت طبيعة الظروف التي كانت تجري فيها الانتخابات النيابية اللاحقة لعام 1957 وعلى مدى عقد الستينيات، والموبوءة بكل عناصر المنع والتضييق والحصار وتزوير الإرادة الشعبية، عن أن واقع ثقافة “الفكرة” لم يتعرض لانتكاسة حقيقية، رغم نتائج تلك الانتخابات التي بدا واضحا أنها لا تعكس الواقع الثقافي الذي كان عليه الأردن في تلك الفترة، وإنما تعكس ظروف الحصار والإقصاء التي انتُهِجَب بوسائل القمع والقهر والقبضة الحديدية والخروج عن الأطر الدستورية.
وهو الأمر الذي كان يتجلىَّ عبر الفرص التي تخِفُّ فيها القبضة الأمنية، ويتقلص فيها نهج الإقصاء السياسي، حيث كانت ثقافة مصلحة الفكرة” تعود لتُطِلَّ برأسها مباشرة، مؤكدة للقاصي والداني أن غيابَها المؤقت والنسبي عن سيادة المؤشرات السياسية عبر الانتخابات النيابية، ليس راجعا إلى انتكاسةٍ فعلية في ثقافة المجتمع الأردني بنكوصها إلى “العصبية” في الستينيات بعد تقدمها نحو “الفكرة” في الخمسينيات، بقدر ما هو راجع إلى سياسات اتبعها النظام بعد عام 1957، تتعارض تعارضا كاملا مع ما كان قد أقره دستور عام 1952.
فلو قمنا بتَتَبّع ظروف وملابسات ونتائج انتخابات “المجلس النيابي السادس” في تشرين الأول 1961، و”المجلس النيابي السابع” في تشرين الثاني 1962، و”المجلس النيابي الثامن” في تموز 1963، و”المجلس النيابي التاسع” في نيسان 1967، لأمكننا ملاحظة ما أشرنا إليه سابقا.
“فقد أجريت الانتخابات الأولى بالنسبة لعشرين مقعدا فقط، فيما فاز نواب المقاعد الأربعين الباقية بالتزكية، حيث كان عدد أعضاء مجلس النواب قد زيد إلى 60 مقعدا”(14). وبالتالي فإن انتخابات عام 1961 هذه لا تُعَبِّر عن أي شيء ذي دلالة بالنسبة للحالة الثقافية الحقيقية للمجتمع. لأن المجتمع الذي كانت ثقافة “مصلحة الفكرة” فيه تزحف صعدا حتى عام 1957، نتيجة لمتغيرات موضوعية وحقيقية تدفع باتجاهها، ما كان لها أن تتراجع بهذه السهولة لتتحول بين عشية وضحاها إلى ثقافة “عصبية”، بدون تغييرات عميقه في بُنْية المجتمع في الاتجاه الداعم لمثل هذه الثقافة، بل وفي ظل وقائع تؤكد على عدم وجود أي مبررات لهذا النكوص الثقافي على أي صعيد منطقي.
ولعل هذا ما دل عليه مطلب رئيس الحكومة آنذاك “وصفي التل”، ففي 26/9/1961 طلبت حكومته “حل مجلس النواب، لأن رئيسها لم يكن يرغب في الإبقاء على مجلسٍ فاز ثلثا أعضائه بالتزكية، وكان محط انتقاد وسخط قطاع كبير من المواطنين، خاصة أنه مجلس جاء في ظل الأجواء التي أعقبت أحداث 1957، ما جعل الانتخابات تُنَظَّم خلالها على أساسٍ غير حزبي أفقد المجلسَ دلالتَه التمثيلية الحقيقية، لأن الحكومة كانت قد اشترطت على كل من يريد ترشيح نفسه أن يحصل على موافقة مسبقة”(15).
هذا التصور الذي أوردناه بشأن عدم القيمة الموضوعية لنتائج انتخابات عام 1961 في سياق الدلالة على تدني مستوى التمثيل الشعبي للمجلس النيابي الناتج عنها، أكدته انتخابات “المجلس النيابي السابع” عام 1962 التي أُجْرِيَت ضمن شروطٍ أقل تشددا وأكثر نزاهة أدت إلى فوز عدد من المحسوبين على أحزاب المعارضة العقائدية، وهو ما يكشف لنا وبما لا يحتمل اللبس، أن أيَّ إجراء يحول دون الشعب وتعبيره عن إرادته الحقيقية عبر أحزابه السياسية، يجعل الثقافة المجتمعية تكشف عن نفسها في الاتجاه الصحيح، ألا وهو اتجاه “مصلحة الفكرة”.
“ففي 20/4/1963 حجب المجلس النيابي السابع الثقة عن حكومة “سمير الرفاعي”، وفي اليوم التالي صدر قرارٌ بحله. ثم أجريت انتخابات تموز 1963 لـ “المجلس النيابي الثامن”، في ظروفٍ شبيهة بظروف انتخابات مجلس عام 1961، حتى أن 21 نائبا فازوا بالتزكية في انتخابات عام 1963. وما حصل في هذا العام حصل في انتخابات نيسان 1967 للمجلس النيابي التاسع، والتي تلت موجة اعتقالات ضد أحزاب المعارضة العقائدية نفذت عام 1966 في ظروف كثيرة التشدد كتلك التي أجريت فيها انتخابات عام 1961، وعام 1963″(16). وهكذا يمكننا القول مجددا أن انتخابات عامي 1963 و1967 كما كانت قبلهما انتخابات عام 1961 لا تعبر أيٌّ منها عن الحالة الثقافية الحقيقية للمجتمع بسبب الظروف غير الطبيعية التي رافقت الانتخابات، وأن الحالة الثقافية الحقيقية تلك بقيت كامنة ممنوعة من التعبير عن نفسها بشكل موضوعي من خلال المؤسسة التمثيلية والنشاط الحزبي.
رغم كل ما ذكر، فإن ذلك لم يَفُت في عضد الجماهير والأحزاب السياسية على صعيد النشاط في الشارع، وهو النشاط الذي لا يمكن الحجر عليه بقرارات وتعليمات حكومية إذا توفرت الإرادة على ممارسته ومواصلة مزاولته. فقد ظل الشارع الأردني نشطا، “ويتضح من مسيراته إبان إعلان الوحدة المصرية السورية في عام 1958، ثم انهيارها في عام 1961، وكذلك خلال مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق في عام 1963، أنه ظل قريبا من فكر الأحزاب العقائدية التي انتقلت بعد عام 1957 للعمل السري، إلا أنها بقيت حاضرة في الشارع من الناحية العملية، وهو ما جعلها تتعرض لحملة اعتقالات واسعة في عام 1966″(17).
  من المؤشرات الدالة على أن ثقافة “مصلحة الفكرة” لم تتأثر – على وجه الحقيقة – بسياسات النظام في تلك الفترة، وأن كل ما استطاعت السلطات تحقيقه لا يتجاوز استخدام القبضة الحديدية في فرض الإجراءات السياسية التي تريدها، دون أي تأثير يذكر على الثقافة الحقيقية التي كانت قد بدأت تتغلغل في المجتمع الأردني، تنامي حضور منظمات المجتمع المدني الرئيسة، ممثلة في النقابات المهنية والعمالية، وفي التنظيمات الطلابية، رغم كل أشكال الحظر السياسي التي عانت منها الأحزاب السياسية بالدرجة الأولى.
فقد شهدت مرحلة الستينيات وبالتحديد عام 1966 “تأسيس نقابة المهندسين الزراعيين، وزيادة كبيرة في أعداد أعضاء النقابات بفعل كثرة الخريجين الجامعيين الجدد من مختلف التخصصات”(18). ولقد كان من أهم مظاهر التطور في العمل النقابي، أن أقامت النقابات المهنية في عام 1965 مُجَمَّعا لها ضمها جميعها، لغايات تنظيم وتوحيد العمل النقابي. ولقد أثرت أحداث عام 1957 في تطور العمل النقابي على غير ما خطط له النظام واستهدفه. فمنذ تلك الأحداث التي أسفرت بالدرجة الأولى عن حظر الأحزاب السياسية، “سعت الأحزاب العقائدية التي أصبحت محظورة وممنوعة من ممارسة نشاطها الحزبي العلني، إلى الاستفادة من نفوذها في المنظمات النقابية، لتحويلها إلى واجهات للعمل السياسي والنشاط العلني. وهكذا تعزَّزَ حضور هذه المنظمات وتحولت إلى قيادات للعمل السياسي والتحركات الشعبية”(19). أما على صعيد النقابات العمالية، فمع أن عددها عانى من الانخفاض بعض الشيء بعد أحداث عام 1957، “ليبلغ 16 نقابة في عام 1961، إلا أنه عاد ليرتفع فبلغ نحو 40 نقابة عام 1966، وزاد عدد أعضائها عن 20 ألف عضو في ذلك العام”(20).
أما فيما يخص العمل الطلابي فقد بدأت الحركة الطلابية الأردنية تشق طريقها نحو المشاركة الفعالة في العمل الوطني، بعد أن بدأت أشكالها النقابية تتحدَّد وتترسَّخ بفعل تطور التعليم، وارتفاع أعداد المتعلمين، وتأسيس الجامعة الأردنية، وانتقال الكثيرين للدراسة في الدول العربية. “فقد تأسس الاتحاد العام لطلبة الأردن عام 1959 بإشراف من حزب البعث، وشكل فروعا له في المدن العربية التي يدرس في جامعاتها طلبة أردنيون، بالإضافة إلى فروع في الدول غير العربية. كما أشرف الحزب الشيوعي على تأسيس “اتحاد الطلبة الأردني” في عام 1963، وكان أكثر حضورا في الداخل من الاتحاد العام، كما كان حاضرا في الخارج، خاصة في دول أوربا الشرقية”(21).
ولكننا إذ نؤكد على أهمية التحولات التي شهدها المجتمع الأردني، خلال الفترة الممتدة من عام 1951 وحتى عام 1965 – سواء على صعيد صيرورته الداخلية، عبر ما أفرزته حرب عام 1948 وما تبعها من تجنيس وضم، أو على صعيد تأثُّرِه بمحيطه الإقليمي، وبالأخص عقب بروز المد القومي الناصري الذي أثبت نفسَه وجدارتَه بقيادة العرب عقب العدوان الثلاثي – وعلى دورها الفاعل باتجاه النزوع إلى هيمنة ثقافة “مصلحة الفكرة” على المنتجات المجتمعية السياسية والاقتصادية، وتأثيرها فيها وتأثرها بها في الوقت نفسه، بما يعنيه كل ذلك من مظاهر الحصار لـ “وظيفية” الدولة والهوية والنظام، فإننا لا نستطيع إلا أن نرفدَ تأكيدَنا ذاك بتأكيدٍ آخر أكثر منه أهمية وأشدَّ حضورا، ألا وهو أن تأثير تلك التحولات على البُنْيَة المجتمعية للأردن كان في كفَّة، وتأثير “المقاومة والثورة” التي انطلقت في عام 1965 على تلك البُنْيَة كان وحدَه في الكَفَّة الأخرى.
مع توضيح أن استخدامَنا للفظة كفَّة لا يشير إلى تعارض وتناقض ومواجهة وتناظر، بل إلى مُعْطىً كَمِّى في الاتجاه نفسه. وهو ما يعني أن عنصر “المقاومة والثورة” أثر في المجتمع الأردني نزوعا به نحو ثقافة “مصلحة الفكرة” نفسِها، وبالتالي نحو اللاقطرية واللاوظيفية، بأكثر مما أثر به كل ما سواه من العناصر.
فمهما يكن من أمر حضور المنظمات المدنية وعلى رأسها النقابات المهنية والعمالية والاتحادات الطلابية في غياب الأحزاب السياسية، في فترة ما بعد عام 1966 عموما، وما بعد عام 1968 خصوصا، “فقد حُكِمَ العمل الشعبي في الأردن خلال هذه الفترة ببروز حركة المقاومة ومنظماتها التي اتخذت مقرات رسمية لها في عمان وعدد من المدن الأردنية، حتى أن الأحزاب السياسية المعارضة اندمجت في عدد من منظمات المقاومة، فاندمج القوميون العرب في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، وشكل حزب البعث/الجناح السوري، “طلائع حرب التحرير الشعبية – الصاعقة”، وشكل حزب البعث/الجناح العراقي، “جبهة التحرير العربية”، ثم انقسمت “الجبهة الشعبية” وتأسست “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين”، وبعد ذلك أقام الحزب الشيوعي تنظيما مسلحا باسم “قوات الأنصار”، وقد ضمت هذه المنظمات المسلحة في أطرها – خاصة بعد معركة الكرامة التي هزم فيها الجيش الإسرائيلي في آذار من عام 1968 – أعدادا كبيرة من أبناء المجتمع “الشرق أردني”(22).
وعندما وجدت منظمات المجتمع المدني وخاصة النقابات المهنية نفسَها في قلب العمل السياسي في ظل استمرار حظر الأحزاب السياسية ونمو وتطور الظاهرة الأهم الجديدة ألا وهي “المقاومة”، “فقد شاركت في تأسيس ما سمي بـ “التجمع الوطني العام في الأردن”، بمشاركة شخصيات وطنية حزبية ومستقلة وبعض أعضاء مجلس النواب”(23). أما النقابات العمالية فبعد فترة من الارتباك خلال عامي 1968 و1969، “فقد عادت لتنشط مطلبيا في عام 1970، ونفذت ما لا يقل عن 70 تحركا مطلبيا تتعلق بظروف العمل”(24). فيما ازدهرت الحركة الطلابية في الداخل وخصوصا في الجامعة الأردنية التي ارتفع عدد طلابها في أواخر الستينيات “ليقارب 3000 طالب، مقارنة بـ 167 طالبا في عام تأسيسها وهو 1962″(25).
إذا نظرنا إلى تاريخ “الدولة الأردنية” من زاوية “الحالة الثقافية” للترابطات المجتمعية – ثقافة عصبية، ثقافة فكرة، ثقافة مركبة – نستطيع القول أنه في أيلول من عام 1970، وهو عام المجزرة الكبرى التي شهدتها البلاد، تنتهي المرحلة الثالثة من تاريخ التجاذب الثقافي في المجتمع الأردني المعاصر، وهي المرحلة التي تجلَّت فيها الهيمنة الواضحة لثقافة “مصلحة الفكرة” على حساب ثقافة “مصلحة العصبية” التي سادت المرحلة الأولى من تاريخ الدولة الأردنية كاملة، بعهديها “الإمارة” و”أول سنتين من عمر المملكة”، وبعد أن مهَّدت لها الطريق – أي لثقافة الفكرة – في المرحلة الثانية من تاريخ الدولة، “ثقافةٌ مركبةٌ” بدأت تنتشر منذ عام 1948، لتساعدها على تجسيد أولى تجلياتها – أي لتساعد هذه الثقافةُ المركبة ثقافةَ الفكرة على تجسيد أولى تجلياتها – في انتخابات عام 1951 وما أعقبها من إقرار لدستور عام 1952، مدشِّنَةً المرحلة الثالثة من تاريخ التجاذب الثقافي المجتمعي في المملكة، وهي المرحلة التي انتهت بمجزرة أيلول 1970 إياها، لينتكس المجتمع الأردني من جديد إلى مرحلة ستهيمن عليه خلالها ثقافة “مصلحة العصبية” لمدة عقدين كاملين من الزمن.
أما إذا نظرنا إلى تاريخ “الدولة الأردنية” من زاوية “نمط الحكم” أو “شكل الدولة” – الدولة القبيلة، دولة الانتقال، دولة الشد والجذب بين القبلية والحداثة – فإننا نستطيع القول أنه في أيلول من عام 1970، تنتهي المرحلة الفرعية الأولى من المرحلة الرئيسة الثالثة. أو بتعبير أدق، ينتهي الفرع “أ” من “ثالثا”. وإذا كانت “ثالثا” هي مرحلة “دولة الشد والجذب” بين “القبلية” و”الحداثة”، فإن الفرع “أ” من “ثالثا” هو نزوع الدولة الأردنية إلى فضاءات “الدولة الحديثة” على “حساب “دولة القبيلة”، لتعود تلك الفضاءات وتنتكس راجعة بالدولة الأردنية إلى مواصفات “دولة القبيلة” خلال الفرع “ب”، الذي سيمتد من أيلول 1970 إلى نيسان 1989، وبالشكل الذي كان عليه حالها في الفترة “1921 – 1951”.
ولقد كان من أبرز ملامح الفرع “أ” من مرحلة “دولة الشد والجذب بين القبلية والحداثة”، ظهور العديد من تنظيمات المجتمع المدني وتطورها، وسيادة المناهج والأفكار العقائدية في المجتمع الأردني، في إطار سيادةٍ ظاهرةٍ لـ “ثقافة المصلحة” وهيمنتها على مساحات متزايدة في الثقافة الوطنية السائدة، ليبدأ كل شيء بالتغير بعد أحداث أيلول عام 1970. “فبعد أن تمَّ حسم حالة الاحتقان التي سادت البلاد بإخراج منظمات المقاومة من الأراضي الأردنية “70/71″، فإن أثر أحداث أيلول من عام 1970 لم يتوقف عن حد عودة الفراغ السياسي في ضوء ملاحقة الأحزاب السياسية المعارضة، وإنما امتد إلى المجتمع الأردني مؤثرا في نوعية الثقافة التي تسوده”(26).
ولقد حكمت سياسةَ النظامً خلال الفرع “ب” من “ثالثا”، وهو الفرع الذي سيبدأ بجلاء آخر معاقل المقاومة عن الأردن عام 1971، بعد معارك “جرش” و”عجلون”، وسيمتد لغاية “ثورة نيسان” عام 1989، المكوناتُ الأيديولوجية التي حاول الارتكازَ عليها في الفرع “أ” ذاتُها، وخاصة بشكلها القبلي البدائي الشوفيني الذي مارسه في السنوات الثلاث الأخيرة من عمر هذا الفرع. وقد ارتكز النظام الأردني إلى تلك المُكَوِّنات في المرحلة “ب” من ثالثا لسببين هما.. 
1 – لأنها نجحت – على مدى سنوات قليلة جدا، هي السنوات الممتدة من بداية عام 1968 وحتى أيلول عام 1970 – في تمكين النظام من استعادة شرعيته التي كان يفقدها تدريجيا على مدى السنوات الممتدة من عام 1951 وحتى عام 1967، والتي كان فقدانه لها قد تسارع بشكل غير مسبوق، بعد انطلاق المقاومة التي عززتها هزيمة حزيران، ونقلَها نقلة نوعية انتصارُ آذار.
2 – لأنها ملَّكَته القدرةَ على الهدم السريع للبناء المجتمعي والثقافي الذي أنجزته الحركة الشعبية وقواها الوطنية على مدى عقدين من الزمن تقريبا، إلى درجة أنه كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط والرحيل، لولا أنه ابتكر لعبة “لوغو الهويات” القائمة على استغلال ثقافة “مصلحة العصبية” أكفأ استغلال وفق ما أتاحته ظروف المقاومة وفضاءاتها الأيديولوجية، بنصائح أميركية وإسرائيلية وسعودية، ومارسها بمنتهى الاتقان والدهاء، ليعيد إحياء مفاهيم رجعية وظيفية قُطْرِيَّة ماتت واندثرت، وليقوم بإماتة مفاهيم وطنية وحدوية تحررية قومية ولدت وتكونت ونمت وتطورت، على مدى أول عقدين من النصف الثاني من القرن العشرين.
لقد بدأ النظام الأردني في توجيه حالة المجتمع الثقافية منذ عام 1957 نحو ثقافة “مصلحة العصبية”، بهدف استعادة المواقع التي أفقدته إياها الحركة الوطنية، وتلك التي انتزعتها منه الحالة الثقافية الجديدة للجماهير، ألا وهي ثقافة “مصلحة الفكرة”. ولما كان على النظام في سياق توجيهه الجديد هذا، مواجهة نفوذ القوى اليسارية والقومية صانعة “الحراك الشعبي”، وناشرة ثقافة “مصلحة الفكرة”، ومحاصِرَة “الدولة القبلية”، والمُبَشِّرَة بـ “الدولة الحديثة” التي ستقوم على أنقاض “الدولة الوظيفية”، فإن التوجيه الذي مارسه لم يتوقف عند إعادة إحياء الثقافة التي تناقض ثقافة “مصلحة الفكرة” مجتمعيا، وإنما شمل ما يناقضها عقائديا. “وهكذا فإن قرار حظر وحل جميع الأحزاب السياسية في البلاد عام 1957، لم يشمل “جماعة الإخوان المسلمين”، بدعوى أنها ليست حزبا سياسيا. وفي الحقيقة فقد كان ذلك جزءا من المعركة، وتحالفا بين الجماعة والسلطات في مواجهة خصمها، لأن الإخوان المسلمين كانوا يخاصمون تلك القوى فعلا”(27).
إن هذه السياسة التحالفية مع جماعة الإخوان المسلمين، استمرت على مدى العقدين التاليين لمجزرة أيلول، لتقوم هذه الجماعة بدور عقائدي رديفٍ أنجحَ الدور “العصبي القبلي” الذي مارسه النظام خلال الفرع “ب” المشار إليه من “ثالثا”. “وهكذا فقد اعتمد النظام الذي كانت بيده القوة والشرعية بعد عام 1971 على العشائرية، وعلى الدين بشكله الإصلاحي الاجتماعي السلمي المهادن الذي يتبناه الإخوان المسلمون”(28). لمواجهة القوى السياسية العقائدية اليسارية والقومية التي كانت تستمد شرعيتها من تعاطفِ قطاعاتٍ واسعة من الجماهير، بينما هي لم تكن تملك أدواتِ تأثيرٍ كتلك التي كان يملكها النظام.
ولكن إذا كان التحالف “القبلي – الديني” التقليدي متمثلا فى قوى الشد باتجاه ثقافة “مصلحة العصبية” من جهة، وفي ثقافة التديُّن المهادن الذي تمثله جماعة “الإخوان المسلمون” من جهة أخرى، قد تمكن من إنجاز المهمة التي أُخْلِيَت له الساحة الأردنية السياسية لأجل إنجازها فيما بعد أيلول 1970، فإنه كان قد فشل في إنجاز المهمة ذاتها خلال السنوات العشر “1957 – 1967″، بسبب أن الخصم السياسي والثقافي والأيديولوجي النِّدَّ له، والمتمثل بالقوى اليسارية والقومية، كان يستفيد من البيئة السياسية في الإقليم، وعلى رأسها حالة المد القومي الناصري بعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956.
وهنا نجد أنفسنا غارقين في أتون سؤال كبير محيِّرٍ ومثير للجدل: ما الذي حصل في أواخر الفرع “أ” من “ثالثا”، حتى تمكن النظام الأردني في الفرع “ب”، وهو الممتد من عام 1971 وحتى عام 1989″، من تحقيق ما عجز عن تحقيقه في معظم المساحة الزمنية لـ “أ”، وهي تلك الممتدة من عام 1951 وحتى عام 1968؟!
إن التغيرات والتطورات التي شهدها الإقليم بعد أيلول 1970 وعلى مدى سنوات طويلة، لم تقل أهمية وتأثيرا عن تلك التي حاصرت الفعل الأردني الرسمي ونقيضه الشعبي، خلال الفترة 1951 – 1971، ومع ذلك نجح النظام بعد عام 1971 فيما فشل فيه قبله. فما الذي تغيَّر في بُنْيَة الإقليم أو في بُنْيَة المجتمع الأردني، حتى حصل الفشل في مرحلةٍ، فيما تحقق النجاح في أخرى؟!
في واقع الأمر – وهذا ما سوف نتعرف على تفاصيله في الفصول التالية عندما نباشر في تتبع مفاصل ومحطات جريمة السَّطْو السياسي التي ارتكبها النظام الأردني بقيادة “الملك حسين بن طلال” في حق الشعب الأردني – فإن حالة الترنُّح الخطيرة التي كان يعاني منها النظام بمستوياتٍ غير مسبوقة في تاريخه كلِّه، حتى في اللحظة التاريخية التي كانت حكومة “سليمان النابلسي” تخطط خلالها للإطاحة به في عام 1957 – وهي الحالة التي بدأت بهزيمة المشروع الرسمي العربي في حزيران، وتفاقمت بانتصار مشروع المقاومة الشعبي في آذار – كانت ناتجة عن أن مشروع “سايكس بيكو” الذي رأى في التهام “الهوية الأردنية” الوظيفية، لـ “الهوية الفلسطينية” الثورية المقاومة بعد حرب تجسيد “الهوية الصهيونية”، المشروعَ السياسيَّ الأقدرَ على حماية أمن هذه الأخيرة ومشروعها السياسي “إسرائيل”، اكتشف فجأة أن هذا الالتهام أنتج مشروعا مقاوما تحرريا قوميا، تحركت فيه المخصِّبات باتجاهٍ عكسي لم يتوقعه صناع المشروع كما مر معنا سابقا، ولا هم خططوا له.
فبدل أن تُخَصِّبَ “الهوية الأردنية” بوظيفيتها “الهويةَ الفلسطينيةَ” المُلْتَهَمَة في جوفها، ليتضخم المشروع الوظيفي الأردني، حصل العكس، فخصَّبت “الهوية الفلسطينية” المُلْتَهَمَة بثوريتها – حتى وهي تموت وتحتضر كهوية – “الهويةَ الأردنية”، ليتم تخليق مشروع هوية أردنية جديدة مقاومة وثائرة وتحرُّرِيَّة متضخمة، شملت المُكَوِّنين الأردني الأول، والأردني الجديد الذي تأردن بالالتهام من قِبَل الأول، والانهضام بعصاراته.
وعندما اكتشف خدام المشروع “السايكسبيكوي” هذه الحقيقة، كان عليهم أن يفكروا بجدِّيَّة، وأن يتحركوا بسرعة، لتداركِ تداعيات المخلوق الطَّفْرة الذي لم يحسبوا له حسابا، والذي بدا لهم كحالةٍ سرطانية ستتفشى بأخطر وأسرع مما يتوقعون، إن لم يجدوا الدواء القادر على استئصالها من جذورها في وقتٍ قياسي.
وبالفعل فقد كانت لعبة “لوغو الهويات” هي الدواء. وكانت الفكرة في هذه اللعبة تقوم على أن المهم الآن – والآن هو الفترة التي بدأت بهزيمة حزيران وانتصار آذار، وما نجم عنهما من تضخم للمقاومة الأردنية – هو أن يتم تفريغ “الهوية الأردنية” التي ثارت وتمردت وقاومت، فراحت تهدد المشروع “السايكسبيكوي” وكل تداعياته الوظيفية والقُطْرِيَّة، من ثوريتها ومقاومتها، وإعادتها إلى وظيفيتها وقُطْرِيَّتها السابقتين، وبكل الطرق، حتى لو كان ذلك على حساب وقائع تاريخية، كانت في حينها بمثابة منجزات إستراتيجية هامة وذات طبيعة تحظى بالقداسة.
لقد فرضَت “الثورة” على كلّ أصحاب المصالح المرتبطين بالوظيفية وبالقُطْرِية، أن يعيدوا النظر في ثوابتهم، وأن يراجعوا مقدساتهم السياسية، بعد أن أثبتت تلك الثورة أن المقدس الوحيد في السياسة، هو ما ينطوي على مقوِّمات وعوامل إنجاز المشروع الإستراتيجي نفسِه، أي أن السياسة في ذاتها لا مقدسات ولا ثوابت فيها.
فالثابت بالنسة للأردنيين والفلسطينيين والعرب، هو مشروع التحرير والنهضة والوحدة والعدالة، وأيما أيديولوجية سياسية يمكنها تحقيق ذلك، فهي صاحبة القداسة، وقداستها هذه تبقى مرهونةً باستمرار انطوائها على مقومات وعناصر إنجاز مشروع التحرير والنهضة والوحدة والعدالة ذاك، بحيث أن أيَّ تغيرات تفقِدُ تلك الأيديولوجية تلك المقومات والعناصر، إنما هي تغيُّرات تعَبِّر عن مطلب تاريخي برفع القداسة عنها، والبحث عن غيرها لمنحه إياها، يكون منطويا على ما فقدته تلك الأيديولوجية من مقومات وعناصر استحقاقٍ للقداسىة.
إن هذا الوعي الجديد الذي ساد “العقل السايكسبيكوي” في تلك الفترة الحرجة من تاريخ المشروع الوظيفي الأردني، جعل التفكير السياسي الإستراتيجي ينقلب في ذلك العقل رأسا على عقب. فما غدا موتُه ضروريا بالأمس، أصبح إحياؤُه مسألة حياة أو موتٍ اليوم. وما كان تغييبه وإخفاؤُه هو صمام أمان الوظيفية عام 1948، أصبح إبرازه وإظهاره هو ذلك الصمام عام 1968. ومن هنا بدأت اللعبة الخطيرة التي أنجزت في التاريخ العربي – كما سيتبين لنا في الفصول القادمة – ما عجز عن إنجازه مشروع “سايكس بيكو” بعد مرور قرابة الخمسين عاما من عمره، وهو يمعن في الأمة العربية تدميرا وتغييبا واستنزافا.          
إن خطاب النظام إزاء فكرة “الوطنية الأردنية” دالةٌ ومؤشرٌ على اتجاهات “لعبة لوغو الهويات”. فالنظام الذي ظل يفسر الوطنية على أنها تلك النابعة من “الدولة الأردنية”، وهي التي ظلت منذ الخمسينيات وحتى حرب حزيران 1967 قائمة على مبدأ وحدة الضفتين كمبدإ إستراتيجي لا محيد عنه، باعتبار هذه الوحدة هي قوام تلك الدولة، انتقل بعد احتلال “الضفة الغربية”، إلى تفسيرٍ جديد لمعنى الوطنية قوامُه وحدة الشعب الأردني، أي “الوحدة الوطنية” على الأرض الأردنية، من كافة الأصول والمنابت. “وهو ما نستطيع أن نرصدَه في الإعلام الأردني، فالإذاعة مثلا أنتجت أغانٍ تعزز تلك الوحدة بين الضفتين مثل “وين ع رام الله”(29)، في ما يمكنه أن يعني استمرارا خجولا في الحرص على الوحدة في الديموغرافيا، بعد أن تمزقت الجغرافيا بفعل الاحتلال، ليؤول الأمر بعد انتصار الكرامة واتساع نطاق المقاومة وتضخم الثورة، إلى خطاب مختلف تماما، راح يكرس الفرقة بين أبناء الشعب الواحد، خلافا لما كان يفعله فيما مضى.
لقد بدأت مفاهيم مثل “الهوية الفلسطينية” و”المقاومة الفلسطينية” و”المنظمات الفلسطينية” في التَّخَلُّق لتأخذَ مكانها في لعبة اللوغو المريبة، ليتجلى انقلاب مؤشرات القداسة السياسية بشكل ملفت. فبعدما كانت مفاهيم “وحدة” الدولة الأردنية” و”وحدة الشعب الأردني” هي المقدسات السياسية، عندما كانت هذه الوحدة تخدم المشروع الوظيفي في ظل غياب الثورة وعدم وجود المقاومة، أو على الأقل عندما لم تكن هذه المفاهيم الوحدوية تشكل خطرا على النظام بوظيفيته في المدى المنظور، كان الخطاب الرسمي للنظام خطابا وحدويا على الصعيد الديمغرافي والجغرافي. أما عندما أصبحت مفاهيم “تنوع الهويات” و”فلسطينية المقاومة ولا أردنيتها”.. إلخ، هي المفاهيم التي من شأنها أن تنجزَ الشرخ المطلوب في جسم “وحدة الشعب الأردني”، وبالتالي أن تحجِّمَ من حيِّز الفعل الثوري المتنامي، فقد أصبحت هي عناصر الخطاب التي تحظى بالقداسة، والتي تمارسها لعبة “اللوغو” باحتراف.
إن “الهوية الأردنية” التي كانت فرسَ الرهان التاريخي في المشروع “السايكسبيكوي”، لأجل احتواء تداعيات نشوء الحالة الصهيونية الإسرائيلية في جزء من الأرض المستحدَثَة “فلسطين”، أثبتت أنها بطبيعتها – رغم نشازية واصطناع نشأتها – عصيةٌ على التوظيف الإمبريالي الصهيوني، عندما يكون أمرُها لنفسِها، فأصبح من الضروري أن يُحالَ أمرها ومعها أمر شقيقتها “الهوية الفلسطينية” إلى غيرهما من مديري المشاريع الوظيفية ذوي العلاقة المباشرة بالأمر، ممثلين بالدرجة الأولى في النظام الأردني بقيادة “الملك حسين بن طلال” الذي أصبحت الحياة الدستورية والقانونية في الأردن تؤهله لأن يكون “نصف إله” لا يُسْأَل عما يفعل، ليتولى مهمَّتَه في لعبة “اللوغو” عن سبق إصرار وترصد، وبالدرجة الثانية في قادة المقاومة التي كانت أردنية قلبا وقالبا، لتصبح بموجب عملية السَّطْو، فلسطينية القلب والقالب بعد ذلك، عن سبق غباء وجهل وقصور نظر من هؤلاء القادة.
إننا كي نحوِّل ادعاءَنا بأن هناك جريمة سطو نُفِّذَت في سياق مؤامرة محبوكة ضد ثورة نزعمُ أنها ثورة الشعب الأردني التي كانت تعمل على تحرير الأرضين المحتلتين “الأردنية” و”الفلسطينية”، من مجرد ادعاء إلى حقيقة، فإن علينا أن نتَتَبَّع مفاصل ومحطات وخيوط هذه الجريمة منذ بداياتها الأولى، لنتلمسَّ مُكَوِّناتها، ولنوضِّحَ من ثمَّ كيف تمَّ التلاعب بالهويتين الأردنية والفلسطينية لتنفيذ جريمة السطو على نحوٍ حقَّقَ الغاية من الجريمة كلِّها من جهة، وعلى نحوٍ كشف عن القصدٍ ووضوح الرؤيةِ في جانب رأس النظام الأردني، فيما كشف عن السذاجةِ وقصورِ النظرِ وضبابيةِ الرؤيةِ في جانب رؤوس الثورة من جهة أخرى، هذا إذا لم نفترض مسبقا مبدأ الشراكة في عملية السّطو.
…   يتبع
الهوامش..
1 – (كتاب “المرشد إلى مجلس الأمة الأردني الثالث عشر”، تأليف “هاني الحواراني وأيمن ياسين”، منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، عمان 1999، ص 38).
2 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 83).
3 – (كتاب “المرشد إلى مجلس الأمة الأردني الثالث عشر”، تأليف “هاني الحواراني وأيمن ياسين”، منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، عمان 1999، ص 38).
4 – (كتاب “تاريخ الأردن المعاصر في القرن العشرين 1900 – 1959″، تأليف “منيب الماضي وسليمان الموسى”، منشورات “مكتبة المحتسب”، عمان، 1988، ص 623).
5 – (كتاب “انتخابات تشرين الأول 1956 والمجلس النيابي الخامس”، تأليف “هاني الحوراني”، منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، عمان، 1999، ص 33). 
6 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 84).
7 – (كتاب “المرشد إلى مجلس الأمة الأردني الثالث عشر”، تأليف “هاني الحواراني وأيمن ياسين”، منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، عمان 1999، ص 39).
8 – (“تأسست نقابة المهندسين فعليا في عام 1958، غير أن مجلس النواب كان نظر في مشروع قانونها منذ عام 1957، كما أقره مجلس الأعيان في شهر شباط من العام نفسه 1957”).
9 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 85).
10 – (كتاب “النقابات المهنية وتحديات التحول الديمقراطي في الأردن”، تأليف “هاني الحوراني وآخرون، من فصل بعنوان “نظرة تاريخية على تطور الدور السياسي للنقابات المهنية 1959 – 1989″، بقلم “هاني الحوراني”، من منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، عمان، 2000، ص 20).
11 – (مجلة “الأردن الجديد”، نيقوسيا، 1989، ص 17، من دراسة بعنوان “الحركة العمالية الأردنية 1948 – 1988″، بقلم “هاني الحوراني”).
12 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 86).
13 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 86).
14 – (كتاب “تاريخ الأردن في القرن العشرين 1958 – 1995″، تأليف “سليمان موسى”، الجزء الثاني”، منشورات “مكتبة المحتسب”، عمان، 1996، ص 54).
15 – (كتاب “تاريخ الأردن في القرن العشرين 1958 – 1995″، تأليف “سليمان موسى”، الجزء الثاني”، منشورات “مكتبة المحتسب”، عمان، 1996، ص 50).
16 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 87 – 88).
17 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 8).
18 – (عن مجلة “الأردن الجديد”، نيقوسيا، 1989، ص 22، من دراسة بعنوان “الحركة العمالية الأردنية 1948 – 1988″، بقلم “هاني الحوراني”).
19 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 88).
20 – (عن مجلة “الأردن الجديد”، نيقوسيا، 1989، ص 21 – 22، من دراسة بعنوان “الحركة العمالية الأردنية 1948 – 1988″، بقلم “هاني الحوراني”).
21 – (كتاب “الحركة الطلابية الأردنية 1948 – 1998″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، 2000، ص 52 – 68).
22 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 90).
23 – (عن مجلة “الأردن الجديد”، نيقوسيا، 1989، ص 23 – 26، من دراسة بعنوان “الحركة العمالية الأردنية 1948 – 1988″، بقلم “هاني الحوراني”).
24 – (مجلة “الأردن الجديد”، نيقوسيا، 1989، ص 29، من دراسة بعنوان “الحركة العمالية الأردنية 1948 – 1988″، بقلم “هاني الحوراني”).
25 – (كتاب “الحركة الطلابية الأردنية 1948 – 1998″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، 2000، ص 30).
26 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 90).
27 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 99 – 100).
28 – (كتاب “انتخابات تشرين الأول 1956 والمجلس النيابي الخامس”، تأليف “هاني الحوراني”، منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، عمان، 1999، ص 202).
29 – (ورقة عمل بعنوان “الإذاعة الأردنية في الخمسينيات والستينيات”، مقدمة إلى “المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ الأردن الاجتماعي”، المنعقد في عمان، في أيار 2002، من إعداد “محمد عبد الله الجريبيع”، ص 10).

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.