العلمانية ضد الدين
الظروف التاريخية لنشأة العلمانية في الغرب (الحلقة الأولى)
مصطفى إنشاصي
منذ أن انطلقت حركات التغيير –الثورات إن صح التعبير- لأن الثورة تعني التغيير الجذري للواقع القائم، وإحداث تغيير ملموس في بداياتها والتأثير بنسب متفاوتة في الواقع تنتهي بالتغيير الجذري والحقيقي على جميع الأصعدة، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي ومحاربة الفساد وغيرها، ولكن الذي حدث في بعض أقطارنا العربية ليس تغييراً جذرياً بقدر ما هو تغيير محدود لبعض الوجوه في الصفوف الأولى وذات الأدوار الرئيسة في الأنظمة السابقة واستبدالها بوجوه من الصفوف التالية من نفس النظام كانت جزء أصيل منه وتتحمل عبئ كبير أو صغير من أخطائه وجرائمه! أضف إلى ذلك أنها مازالت حارس أمين لنفس نهج الأنظمة السابقة سواء سياسياً أو فكرياً، خاصة أنها حريصة سياسياً على استمداد شرعيتها من الخارج المعادي لمصالح وطموحات الأمة في العدالة والتحرر والاستقلال الحقيقي (العدو اليهودي-الغربي)، كما أنها حريصة فكرياً على نفس نهج الأنظمة السابقة في ولائها للنهج الغربي العلماني ومحاربتها للدين ومنع الجماهير من تقرير مصيرها واختيارها المنهج الذي يحكم حياتها!.
والأخطر من ذلك -لأنه قد يكون أمر طبيعي أن يستمر مًنْ تربى في مدرسة الأنظمة السابقة على نفس النهج في الفكر والممارسة- أن الاتجاهات السياسية الحزبية والتنظيمية -الوجه الآخر للنظام- التي كانت معارضة للأنظمة السابقة وركبت موجة حركة الشباب التغييرية التي لو استمرت بعيداً عن هيمنتها وسيطرتها كان ممكن أن تكون ثورة حقيقة وتُحدث تغييرات جذرية في واقع الأمة، للأسف أنها لعبت دوراً كبيراً في إجهاض نواة الثورة الحقيقة وقطع الطريق على نضوجها لأنها استعجلت قطف الثمار والوصول إلى غايتها الحقيقية –الكرسي- وليس التغيير الحقيقي الذي لو كان هو هدفها لتريثت وتركت الثورة تأخذ دورتها كاملة في تحقيق أهدافها، ولكننا وجدنا بعضها سارع إلى التحالف مع رموز النظام السابق التي تقدمت الصفوف لإجهاض الثورة بزعم حماية إنجازات الثورة ومكاسب الشعب وحقن الدماء وهي في الحقيقة جاءت لتحمي نهج النظام السابق وإلى حد ما رموزه من خلال حماية نهجهم! ولم تكتفِ تلك الأحزاب السياسية المعارضة يذلك بل وتحالفت مع العدو اليهودي-الغربي سواء كان ذلك علناً أو من خلال إرسال الرسائل أو الاتفاقيات في الكواليس وطمأنته على حماية مصالحه في وطننا وبعضها وعد بحفظ أمن العدو الصهيوني ومزيد من التطبيع معه. بمعنى أنها سعت للحصول على شرعيتها بانتهاج نفس نهج الأنظمة السابقة التي كانت تأخذه عليها وتنتقدها وتهاجمها وتحرض الجماهير ضدها بسببه، أي أنها كما كانت الوجه الآخر للنظام في صفوف ومقاعد المعارضة فإنها ستكون امتداد للأنظمة السابقة في الفكر والمنهج والممارسة وليست بديلاً عنها أو انقلاباً عليها!.
منذ تفجر تلك الحركات التغييرية عاد إلى الساحة السياسية والفكرية الصراع القديم الجديد حول نوع النظام السياسي الذي يصلح للحكم في بلادنا، فمن مطالب بنظام علماني على اعتبار أنه أفضل ضمانة للمساواة في حقوق المواطنة لجميع أبناء القطر على اختلاف طوائفهم ومعتقداتهم الدينية، إلى مطالب بنظام ديني ودولة دينية إسلامية، إلى مطالب بدولة إسلامية تتفاوت في مدى مدنيتها أو العكس بدولة مدنية تتفاوت في مدى دينتيتها إن صح التعبير. والبعض اعتبر أن العلمانية ليست ضد الدين وذهب البعض إلى أن الإسلام أول من أسس العلمانية الحقيقية، ومثل هذا إما أنه أسلوب خبيث لتضليل الشباب والجماهير عن حقيقية العلمانية للدين وخاصة الإسلام، أو أنه جهل بحقيقة العلمانية وظروف نشأتها في الغرب …إلخ، وجاء أخيراً السيد طيب رجب أردوغان ليفجر قنبلته ويدعو أقطارنا إلى إقامة أنظمة علمانية، وما تفجر بعدها من اتهامات من البعض عن مدى ارتباط أردغان وتركيا بالمصالح الصهيونية الغربية، وأن حزب العدالة والتنمية -الإخوان المسلمون- في تركيا يلعب دور العراب لتلك المصالح في وطننا! وليس موضوعي الدفاع أو الهجوم على الدور التركي؛ ولكن أوضح موقفي الثابت منه منذ سنوات وقد طرحته في كثير من الحوارات هنا في مراكز دراسات رداً على مَنْ يهاجم حزب العدالة والتنمية التركي أو تصحيحاً لمَنْ يدعو لأن يكون مثلاً وقدوة للأحزاب الإسلامية في بقية أقطار الوطن وخاصة العربية منها، وهو:
أن لتركيا خصوصيتها وظروفها الخاصة منذ أن حاول أن يفصلها أتاتورك وتلامذته الأوفياء لنهجه العلماني المعادي للإسلام والمسلمين عن دينها ومحيطها الإسلامي، ولذلك يجب أن يكون للإسلاميين في تركيا تجربتهم الخاصة التي هم أدرى بصلاحيتها لواقعهم العلماني ولتفادي الصدام المبكر مع حراس العلمانية من قادة الجيش والفكر العلماني وأجهزة المخابرات الصهيونية والغربية المتغلغلة في كل مؤسسات وأجهزة الدولة التركية ومتحالفة معها ضد الأمة والدين، وأنه يجب علينا ألا ننتقد نهجهم الذي يختارونه بما يتناسب وواقعهم السياسي والأمني من خلال تجربتهم وآخرها ما حدث مع الزعيم الإسلامي أربكان ومحاكمته وسجنه وقد فاز برئاسة الوزراء، ولكن أن يدعو البعض أو يدعو هم إلى انتهاج تجربتهم ونهجهم في وطننا فذلك خطأ وقلة وعي باختلاف الواقع والتجربة، وإن كان ذلك لا يعني ألا يستفاد من تجربتهم بما يتوافق مع خصوصية تجربتنا في أقطارنا العربية ولكن لا يكون استنساخ لتجربتهم!.
ذلك ما يدعوني لإعادة نشر محاضرة ألقيتها منذ سنوات في أحد مراكز الدراسات هنا بصنعاء عن “تعريف العلمانية والظروف التاريخية لنشأتها في الغرب”، وأن تاريخ الغرب كله علماني سواء في مراحله البدائية والوثنية أو عصوره الوسطى وحكم رجال الدين والكنيسة أو عصور الحديثة، وسأقسمها لحلقات، وأرجو أن يعذرني القراء إن تأخرت في نشر بعض الحلقات لأن ذلك مرتبط بتوفر التيار الكهربائي وإن شاء الله يعود إلى الانتظام، فأنا كتبت المقدمة منذ تصريحات أردوغان ولم تسعفني الكهربائي لمراجعتها وتقسيم المحاضرة لحلقات إلى الآن.
تعريف العلمانية
تأخذ المفاهيم والمصطلحات حيزاً كبيراً في صراع الأمة مع الآخر اليهودي-الغربي، وقد بات ما يُعرف باسم “معركة المفاهيم والمصطلحات” يشكل جزءً مهماً من معركة الآخر معنا، الذي باتت أهدافه وغاياته في وطننا واضحة المعالم، كما أنه لم يعد يُخفي نواياه في استهداف أغلى وأثمن ما تملك الأمة، عقيدتها ودينها وقيمها، أضف إلى ذلك أن أعوانه من أبناء جلدتنا ووطننا لم يعودوا يتخفوا بأقنعة تُجمل كلماتهم وتُخفي سمومهم وسهامهم التي كانوا يوجهونها إلى ظهر أمتهم وعقيدتها، ولكنهم شهروا أقلامهم سيوفاً ماحقة دون خجل أو حياء، وكشفوا عن حقيقة وجوههم وتفاخروا وتباهوا بعلاقاتهم وارتباطاتهم الخارجية، وأصبحوا يدعون ويمارسون علانية سياساتهم الهدامة والمدمرة لكل ما تبقَ في الأمة ومجتمعاتها من عوامل قوة وتماسك.
ومن تلك المصطلحات الخطيرة مصطلح (العلمانية)، وتلك الترجمة الخاطئة لأصل الكلمة الإنجليزية التي يتداولها الكتاب والعامة منذ عقود طويلة! وقد يتوقع البعض أنني سوف أتناول الموضوع بحكم العنوان: “الظروف التاريخية لنشأة العلمانية في الغرب”، بنفس الطريقة التقليدية التي تحدث بها الكتاب والمفكرين عن تاريخ وأسباب نشوء العلمانية في الغرب، إلا أني سأعرض الموضوع من خلال رؤية جديدة أحاول فيها إعادة قراءة تاريخ الغرب، وإن كانت تلك الرؤية تتفق في كثير أو قليل في مضمونها مع آخرين، إلا أنها تختلف إلى حد ما في منهجية طرحها وسياقها العام.
وللأمانة العلمية وحق حفظ جهد الآخرين في البحث والدراسة لضيق وقتي وبطئي في الطباعة، كانت الفكرة كما قدمت موجودة لدي ولدي تصور عما سأطرحه في هذه المحاضرة ومادتها المتوفرة في بعض الكتب، وإن كانت ليست بنفس السياق والرؤية التي أريد إلا في النادر القليل، إلا أني قد وُفقت للحق برسالة دكتوراه للدكتور سفر الحوالي، ووجدت لدية معظم الأدلة التي كنت أريدها مطبوعة وجاهزة، وكذلك أضاف لي فكرة كثير مهمة لرؤيتي ومن حقه أن تُحسب له، وهي: الربط بين الداروينية والميكافيللية كما سيتضح في المحاضرة، لذلك استعنت بجزء مما احتجته من أدلة من رسالته مطبوعاً. كما أني أوصي لكل مهتم بقراءة تلك الرسالة فهي قيمة جداً وفيها قراءة جديدة ونادرة ومتميزة لتاريخ الغرب يفتقدها الكثيرين.
العلمانية تبدو لأول وهلة للناظر فيها أنها كلمة عربية مشتقة من العلم، ولو كانت كذلك فإنها مرحب بها من وجهة النظر الإسلامية لاهتمام الإسلام بالعلم والعلماء، ولكن حينما تكون وسيلة من وسائل الغرب لخداع المسلمين فإن الأمر يصبح خطير، إذ لا تبقى على ظاهرها لفظاً ومعنى، وإنما تكون ترجمة عربية خاطئة للفظ أجنبي له مدلوله ومعناه الخاص في البيئة الغربية، مثل كثير من الألفاظ الأجنبية التي تم ترجمتها ترجمة خاطئة سواء عن جهل المترجم بمعناها الحقيقي ومدلولها أو لإخفاء حقيقتها عن أبناء وطنه من المسلمين حتى لا يستثيرهم ضدها من البداية، ليعطي الفرصة والوقت لتثبيت تلك المعتقدات والمفاهيم والمصطلحات المعادية للأمة في مجتمعاتنا وعقول أبنائنا بمفهومها الخاطئ، وليصبحوا حراس أمناء عليها ويطالبون بتطبيقها في وطننا بكل ما فيها من مخاطرها على مستقبل الوطن وأجياله معتقدين أنها هي خلاص الوطن والأمة من واقع الجهل والتخلف الذي كرسته الأنظمة العلمانية نفسها، ولا يدرون أنهم بذلك هم يكرسون التبعية والاحتلال للوطن وعقول أبنائه من خلال تكريس منهج الغرب وأخلاقياته وممارسة واقعاً في حياة الأمة!.
فالعلمانية ترجمة خاطئة لكلمة سيكولارزم (Secularism) في الإنجليزية، أو سيكولاريت (Secularite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ “العلم” ومشتقاته على الإطلاق. فالعلم في الإنجليزية والفرنسية معناه (Science) والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة (Scientism) والنسبة إلى العلم هي (Scientific) أو (Scientifique) في الفرنسية. والترجمة الصحيحة للكلمة في اللغة الإنجليزية هي (اللادينية) أو (الدنيوية) لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى أخص هو ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد. ذلك يعني أن العلمانية تعني اللادينية، وليست مشتقة من معنى العلم! وذلك ما سنلقي عليه مزيداً من الضوء من خلال عرضنا لبعض معاني كلمة (سيكولاريتي Secularity) والترجمة الصحيحة لتعاريفها التي توردها المعاجم ودوائر المعارف الأجنبية:
يُعرف معجم ويبستر الشهير العلمانية: بأنها “رؤية للحياة أو أي أمر محدد يعتمد أساساً على أنه يجب استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها”، ومن ثم فهي نظام أخلاقي اجتماعي يعتمد على قانون يقول: “بأن المستويات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تُحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعاشة والرفاهية الاجتماعية دون الرجوع إلى الدين”.
وتقول دائرة المعارف البريطانية مادة (Secularim): “هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيهم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها”.
ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الأخر، وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت الـ ( Secularism) تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة. وظل الاتجاه إلى الـ (Secularism) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة (للمسيحية).
وفي قاموس “العالم الجديد” لو بستر، شرحاً للمادة نفسها ذكر لها عدة معانٍ:
1- الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، ونحو ذلك. وعلى الخصوص: نظام من المبادئ والتطبيقات(Practices) يرفض أي شكل من أشكال العبادة.
2- الاعتقاد بأن الدين والشؤون الكنسية لا دخل لها في شئون الدولة وخاصة التربية العامة”.
ويقول معجم أكسفورد شرحاً لكلمة ( Secular):
1- دنيوي، أو مادي، ليس دينيا ولا روحياً: مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
2- الرأي الذي يقول أنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية”.
ويقول “المعجم الدولي الثالث الجديد” مادة (Secularism): “اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعاداً مقصوداً، فهي تعنى مثلاً “السياسة اللادينية البحتة في الحكومة”. ويضيف: “وهي نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين”.
ويقول المستشرق “أر برى” في كتابة “الدين في الشرق الأوسط” عن الكلمة نفسها: “إن المادية العلمية والإنسانية والمذهب الطبيعي والوضعية كلها أشكال اللادينية، واللادينية صفة مميزة لأوروبا وأمريكا، ومع أن مظاهرها موجودة في الشرق الأوسط فإنها لم تتخذ أي صيغة فلسفية أو أدبية محددة، والنموذج الرئيسي لها هو فصل الدين على الدولة في الجمهورية التركية”.
وبناء على ذلك فإن التعبير الشائع عندنا بأنها (العلمانية) تعني (فصل الدين عن الدولة)، هو في الحقيقة لا يعطى المدلول الكامل لمعنى ومدلول العلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة، ولو قيل أنها “فصل الدين عن الحياة” لكان أصوب، ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية “إقامة الحياة على غير الدين” سواء بالنسبة للأمة أو للفرد، ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود: فبعضها تسمح به، كالجماعات الديمقراطية الليبرالية، وتسمى منهجها (العلمانية المعتدلةNon Religious) أي أنها مجتمعات لا دينية ولكنها غير معادية للدين، وذلك مقابل ما يسمى (العلمانية المتطرفةAnti Religious)، أي المضادة للدين، ويعنون بها المجتمعات الشيوعية وما شاكلها.

التاريخ: 25/9/2011