إن الشعب الذي لا يعي هويتَه، ولا يعرف أبعادَها ومكوناتِها، ولا كيف تكونت أو تشكلت في الصيرورة التاريخية، هو شعب لم تتكامل فيه بعدُ صفة “الشعب”، لأنه بافتقاره إلى ذلك الوعي وإلى تلك المعرفة، لا تكون هويتُه قد تكاملت في الواقع
الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية
“دراسة في حلقات”
“جزء من بحث قُدِّمَ لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية”
أسامة عكنان
عمان – الأردن
الأردن وطن وليس مزرعة خراف
والأردنيون شعب وليسوا قطيع ماشية
والأردني مواطن يملك وطنا، وليس عابر سبيل يستجدي كسرة خبز
وحكام الأردن خدم وموظفون عند شعبهم، وليسوا سادة عليه أو مستعبدين له
فمن فهم فليعمل بما فهم، ومن لم يفهم فليذهب إلى الجحيم
قراءةٌ في دور الأردن التاريخي كوطن مُهِمٍّ يلد رجالاً أهم، ورفضُ دورِه الوظيفي كمزرعة تسمِّن الخراف لخلق فضاءٍ آمنٍ لأعداء الأمة
الحلقة الثانية عشرة
الهوية الأردنية التي أرادها النظام كانت دائما ملتقى للمصلحة القائمة على العصبية
إن الشعب الذي لا يعي هويتَه، ولا يعرف أبعادَها ومكوناتِها، ولا كيف تكونت أو تشكلت في الصيرورة التاريخية، هو شعب لم تتكامل فيه بعدُ صفة “الشعب”، لأنه بافتقاره إلى ذلك الوعي وإلى تلك المعرفة، لا تكون هويتُه قد تكاملت في الواقع الموضوعي على نحوٍ يؤهِّلُها لأن تتجَسَّد واقعيا. إن هناك قواعدَ وأصولاً يصنعها الحراك التاريخي للشعوب والمجتمعات وهي تحفر في أخاديد الزمن مُكَوِّنات هوياتها التي ستغدو عند استشعارها والإحساس بها جزءا لا يتجزأ من “أناها” الجمعي، ومن “الأنا” الفردي لكل فرد من أفرادها. الهوية الوطنية لأي شعب تتشكل – في الوضع الطبيعي – من الأسفل إلى الأعلى، عبر تطور مديد للبُنى المجتمعية التي تكتشف نفسَها ووحدتَها وتجانسَها مع مرور الزمن، فتستشعر ضرورة التعبير عن نفسها في إقليم جغرافي لإقامة الدولة والنظام داخل حدوده، والتي هي – أي الإقليم والدولة والنظام – المُكَوِّنات الفعلية للهوية الوطنية.
الهوية الوطنية الأردنية لم تتكون ولا تشكلت على هذا النحو التراكمي الطبيعي، بل هي تشكلت على نحو معكوس، فجاء ظهورها في الواقع من الأعلى إلى الأسفل. أي أن هناك فئةً اعتبرت نفسها “النظامَ” المفترضَ الذي أفرزته تداعيات “الانقلاب الهاشمي” بكل الأخطاء التي تلت انطلاقتَه والتي أشرنا إليها سابقا. وراحت هذه الفئة “النظام” تبحث لنفسها عن إقليم تقيم عليه “دولة”، وعن “شعب” تقيم به تلك الدولة. فظهرت الدولة وظهر شعبها داخل الإقليم المختار بمساعدة الحليف الاستعماري المهيمن آنذاك، ألا وهو “بريطانيا”، وكأنها كلها إنجاز لذلك “النظام” الذي افترض من هذا المنطلق وعلى أساسه، أنه المالك الحقيقي لهذه “الهوية” لأنه صانعُها، وبالتالي فهو صاحب الحق في تحديد مُكَوِّناتها وتغييرها وتطويرها وإضافة مُكَوِّن لها هنا وإسقاط مُكَوِّن من مكوناتها هناك، بل واستخدامها وتوظيفها على النحو الذي يريد، وذلك بحسب ما ينسجم مع مصالحه التي راحت تتكون بعيدا عن المصالح الحقيقية لهذه الدولة المفاجئة التي يفترض أن تكون هي ذاتها مصالح الشعب الذي حوصرَ في داخل حدودها ليجد نفسه فجأة ورغم أنفه يسمى “الشعب الأردني”(1).
ولأن “الهوية الأردنية” نشأت على ذلك النحو وبتلك الطريقة، بعيدا عن وجود وعي حقيقي بها وعن تبلور ضمير جمعي يستشعرها، فلم يكن من الصعب التلاعب بها، لأن هذا الشعب كان في الواقع ينتظر من نظامه الذي صنعه، أن يشرح له مُكَوِّنات هذه الهوية، وكيف يريدها أن تكون ليكونَها، فأصبح من السهل أن يتلون الأردنيون بالألوان التي راح يفيض بها من وقت لآخر نظامُ دولةٍ أُنْشِئَت ليؤدي بها ذلك النظام الدور الوظيفي المنوط به.
كانت تلك هي بداية الفجوة في طبيعة الهوية الأردنية، وفي طبيعة علاقتها مع عناصر الدولة الأخرى. وراحت هذه الهوية ومُكَوِّناتها تتغير، بناء على دور وظيفي محدد أنشئت هذه الدولة لأجله. فلم يعد “الأردنيون” بعد سلسلة الشروخ والإضافات والإنقاصات التي اعترت هويتهم لأسباب غير منطقية ولا طبيعيةِ التراكم، يعرفون جوهر تلك الهوية ولا حقيقتَها، فراح كل فريق منهم يبحث عن مخرج لأزمة الهوية لديه في اختلاق “هويات” فرعية وقاصرة وبدائية وضعيفة، ساعد النظام على دعمها وإبرازها، لأنه رأى فيها عبر حقبةٍ دامت أكثر من ستين عاما أنها الوسيلةُ الأضمنُ لاستمرار هيمنته على هذا الشعب الذي اعتبرَ نفسَه مالكَه بعد أن اعتبر نفسه أولا وقبل كل شيء صانعَه، بعد إذ لم يكن موجودا من قبل بشكله ذاك وبطبيعته تلك.
فالإقليم الجغرافي المسمى “الأردن” والتجمع البشري المسمى “الشعب الأردني”، لم يكونا موجودين على أرض الواقع ولا بأي مستوى من مستويات التَّكَوُّن قبل عام 1917، وهو عام الاحتلالين البريطاني والفرنسي لبلاد الشام. وعندما قرر البريطانيون أن تكون هناك دولة يسكنها “شعب” ذو مواصفات محددة، ليحكمهم “النظام” الذي جاء مرافقا لهم من الحجاز باحثا عن دولة وعن شعب لأداء دور وظيفي محدد فرضته طبيعة المنطقة في ضوء كل من “اتفاقية سايكس بيكو” التي رسمتها نهاية معارك الحرب، و”إعلان بلفور” مرتقب التنفيذ، بدأت تتبلور شيئا فشيئا عناصر “الهوية” التي يجب أن تتكوَّن مرافقة لظهور “الدولة” و”الشعب” المستهدفين.
وهكذا أُظْهِرَت لهذا الإقليم الجغرافي ولقاطنيه هويةٌ هي “الهوية الأردنية”، لتكون هويةَ تَجَمُّعٍ بشري من أبناء بلاد “الشام”، لم تكن لهم فيما مضى أي خصوصية داخل هذا الإقليم، فهم شاميون، أو سوريون، فيما كانت قبائل البدو المنتشرة في المنطقة تتنقل بحرية، عابرة كل المساحات الممتدة من بادية الشام إلى العراق إلى شمال نجد إلى صحراء النقب دونما أدنى شعور بالانتقال من دولة إلى دولة، أو من أقليم إلى إقليم، أو حتى بتصور الانتقال إلى ربوع قومٍ يختلفون في هويتهم وطبيعتهم وأصولهم وانتمائهم عنهم!!
ولقد كانوا جميعا يُنسبون – شأنهم في ذلك شأن كل أبناء إقليم بلاد الشام – إلى مدنهم إن كانوا أهل حضر، وإلى قراهم إن كانوا فلاحين، وإلى مضاربهم إن كانوا بدوا، ولا يعرفون لأنفسهم تقسيمات إدارية غير تلك التي حكمتهم قرونا طويلة إبان الحكم العثماني، والتي كانت تتداخل فيها المناطق في إقليم الشام تداخلا يجعل “إربد” و”صفد” منطقة إدارية واحدة، و”نابلس” و”السلط” منطقة واحدة، و”الكرك” و”الخليل” منطقة واحدة.. إلخ(2).
وجد هولاء الشاميون – الذين حاصرتهم حدود الإقليم “الأردني” المرسوم حديثا – أنفسَهم فجأة “أردنيين” داخل إقليم لم تكن تظهر لحدوده التي رُسِمت بعد الاحتلال البريطاني، أيُّ ملامح قبل ذلك التاريخ. كان هذا الشعب هو “الشعب الأردني”، وكان هذا الإقليم هو حدود “الدولة الأردنية”، وكانت الهوية من ثم هي “الهوية الأردنية” التي لم يجد “الأردنيون” في ظهورها المفاجئ على هذا النحو، وفي منحِها هذا الاسم، وإلباسهم إياها بتلك الطريقة، ومحاصرتهم بها داخل هذا الإقليم، أيَّ مُسوِّغ لحرمانهم من حق اعتبار أنفسهم أولئك الجمع من الناس بانتماءاتهم وقضاياهم “السورية” التي كانت لهم قبل أن يكتشفوا فجأة أنهم “الأردنيون”، كما حصل مع جيرانهم الذين اكتشفوا فجأة أنهم “الفلسطينيون”.
إن الواقع والتاريخ ينبئانا عن الكثير من الأمم والشعوب بل والهويات التي نشأت وتكونت بطريقة غير منسجمة مع المنطق وبقوة خارجية قاهرة، ومتعارضة كل التعارض أحيانا مع حيثيات العدالة الإنسانية. فالأمتين الأميركية والأسترالية مثالا لا حصرا، قامتا على إبادة شعوب وحضارات بأكملها. ومع ذلك فلا أحد يعتبر أن إعادة الأمور إلى نصابها، وإقامة العدل التاريخي، وإحقاق الحق في تلك السياقات، إنما يكون بالعودة إلى الوراء، وبإسقاط ما بُني على الباطل، لأن ذلك في مستويات التَّغَيُّر والتطور الحاصلة انبناءً على تلك الأحداث التاريخية الدرامية، وصل إلى ما يستحيل معه أيُّ شكل من أشكال التراجع إلى الوراء، لا عمليا ولا منطقيا.
فالخطأ عندما ينتقل به الزمن إلى مستوى من التكرُّس المؤثر على مجموعة من العناصر والبيئات تأثيرا وجوديا عضويا، وعندما ترتبط به حياة ملايين البشر الذين لا ذنب لهم في مستويات الظلم التي رافقت الحدث التاريخي التراجيدي، يغدو الصواب أن نتعامل معه كما هو، مع محاولة ما في وسعنا لتحريره من مخلفات ذلك الخطأ بما يخدم البيئة والمحيط والعدالة والمنطق. ماذا يعني هذا على صعيد ما نحن بصدده من حديث عن الهوية الأردنية؟
من الناحية التاريخية فإن “الهوية الأردنية” – ومثلها “الهوية الفلسطينية” على سبيل المثال لا الحصر – نشأت وتكونت وتطورت في سياقاتٍ غير منطقية وغير مُعَبِّرَة عن صيرورة تاريخية طبيعية كما مر معنا. كما أنها أدت في ضوء الظروف التي نشأت فيها وتطورت من خلالها إلى إنتاج معادلات سياسية غير وطنية وضارة بأهل الجغرافيا المسماة “الأردن” وبتلك المسماة “فلسطين”، وبالإقليم “الشامي” كاملا، متيحة الفرصة لقيام “النظام” الذي أنشأ تلك الهوية ورعاها، بأداء دوره الوظيفي المنوط به. وهي من هنا، أي الهوية الأردنية، كانت ضحية استخدمت استخداما لا أخلاقيا ولا وطنيا لخدمة مصالح فئة محددة، مصالح لا تمت بصلةٍ – لا من قريب ولا من بعيد – لمصالح المادة البشرية لتلك الهوية، ألا وهم من أصبحوا بموجبها يُسَمَّون “الأردنيين”.
لكن هذه الهوية القُطْرِيَّة رغم كل الاختلالات التي رافقت ظهورَها وتَشَكُّلَها، ومع كل الاستخدامات والتوظيفات غير الوطنية لها من قبل “النظام” الذي أنشأها، أصبحت حقيقة واقعة لا يمكن المطالبة بالتراجع عنها لتصحيح الأساس الذي قامت عليه، فهذا أمر يتعارض مع المنطق ومع طبيعة الأشياء، ومع مقتضيات العدالة والتطور بكل معانيها. فلقد أصبحت هناك حقيقة مُكَرَّسَة لا مجال للتراجع عنها هي “الهوية الأردنية”، تعاني من كل القروح والجروح التي سببها لها “نظام” عرف كيف يستغلها ويستخدمها استخداما ما يزال مردوده السلبي ظاهرا للعيان. وأمام هذه الحقيقة فليس أمام “الأردنيين” سوى أن يعملوا على إعادة وضع هذه الهوية في سياقها المنطقي والموضوعي، عبر تحريرها من كل الاختلالات والإساءات والتوظيفات غير الوطنية التي عانت منها منذ نشأتها وبدء تكوُّنها في مطلع القرن الماضي.
وإذن فكيف يمكننا أن نتعاطى مع هذه “الهوية” على النحو الذي يقويها ويُفَعِّلُها ويطورها وطنيا وقوميا، ويُمَكِّنُنا من تحريرها من أن تكون أداة في أيدي من يريدون للأردن أن يبقى بحدوده وشعبه، كما كان منذ نشأ وتأسس “دولة وظيفية” بكل ما لكلمة “دولة وظيفية” من معاني ودلالات، بعد أن أصبحت هذه الهوية أمرا واقعا وحقيقة من حقائق التاريخ المعاصر التي لا يمكن التراجع عنها أو مناكفتها أو مقاومتها؟! بل كيف يمكننا أن نحرر الدولة الأردنية من أحد أهم مظاهر الفساد الأيديولوجي الذي بُنِيَت عليه، عندما تم تصنيع هوية شعبها في حاضنة لا يمكنها أن تصبغ تلك الهوية إلا بالرجعية والنكوصية وأبشع أشكال الوظيفية، ألا وهي حاضنة “العصبية” بدل تنميتها في حاضنة “الفكرة” التي هي الحاضنة الطبيعية لتطور ونمو الهويات إذا اريد لها أن تؤدي أدوارا ملموسة في النهضة والتنمية والتحرير، كما سيتبين لنا؟!
في الواقع فإن “الهوية الأردنية” تعرضت لعملية تشويه جعلت الأردنيين يحتارون في طبيعة دورهم الوطني والقومي المنسجم مع جوهر هويتهم تلك. ولقد انصب هذا التشويه نحو نقطتين أساسيتين كلاهما مدمر للهوية الأردنية ومغَيِّب لها عن ساحة الفعل حتى لأجل نفسها ومصيرها ومستقبلها وحقوق أبنائها.
تمثلت النقطة الأولى في ذلك الفصل الفاجع الذي تم تكريسه بين من أريد له أن يكون “فلسطينيا” مستضافا على أرض “الأردن” بصورة مؤقتة قد تصل إلى ألف عام، ومن الأفضل له أن يحترم أصول الضيافة ويتجنب التدخل في أمور هذه الدولة، مع أنه أريد له أن يكون شريكا كاملا في كل ما عدا إدارتها والمشاركة في حراكها السياسي. ومن أريد له أن يكون هو وحده “الأردني” المضيف الذي عليه أن يعرف أن علاقته بفلسطين التي نشأت مثل الأردن بشكل نشاز ومقلوب، وبالفلسطيني الضيف الذي نشأ مثل الأردني بالنشازية واللامنطقية نفسيهما، ليست أكثر من التعاطف والدعم المعنويين.
لقد تم خلق ثقافة “التوجس” و”الحياد” بين من أريد له أن يكون “أردنيا” وفقط، ومن أريد له أن يكون “فلسطينيا” وفقط أيضا، الأول يتوجس خيفة من الثاني على هويته التي راح يخاف عليها من هبة الهواء، في تعبير لاواعٍ عن كل معاني انعدام الثقة في هويةٍ يعلم لاوعيه ظروفَ نشأتها غير الطبيعية، والثاني محايد إلى حد سلبي إزاء ما يحدث في الأردن، بعد أن اقتنع هو الآخر بأن هذه ليست أرضه ولا هذا الوطن هو وطنه، وأنه بالفعل مجرد ضيف قد يكون ثقيلا إذا تجاوز حدود اللياقة وتدخل فيما لا يعنيه، بعد أن أُفْهِم أن هويته إنما هي تلك الهوية المقدسة الشهيدة “الهوية الفلسطينية”.
ولأن هذه الثقافة – في ظل الحقيقة التي تؤكد على أن كل أكاذيب التاريخ لا يمكنها أن تُشْعِرَ الفلسطيني أو الأردني بأن هناك فوارقَ حقيقيةً بين هويتيهما وقضاياهما وحقوقهما وواجباتهما تجاه الأردن وفلسطين معا، بل وتجاه الأمة العربية كلها، يمكنها أن تبرر وقوف أيٍّ منهما على الحياد في قضايا الآخر ونضالاته من أجل حقوقه التحررية في فلسطين والمطلبية في الأردن – لم تكن قادرة على تحقيق الغاية منها أو النجاح في إحداث الشرخ المطلوب بين مُكَوِّنَي الهوية الواحدة في الأردن وفلسطين تمريرا للدور الوظيفي للنظام وللدولة التي أنشأها وللشعب الذي كونه، لمجرد أن تم إلقاء طعم “الهوية الجديدة” أمام من أريد لهم أن يكونوا “أردنيين” وفقط، وخاصة على مدى العقود الأربعة الأخيرة التي أعقبت مجزرة أيلول عام 1970، فقد تدخل النظام بأجهزته الأمنية وأجهزة تنشئته الاجتماعية، وفعل كل ما يستطيعه ليُجَذِّرَ هذه الثقافة، إلى أن غدت هذه الثقافة على الصعيد الاجتماعي الشامل ثقافة تكاد تكون مهيمنة. إنها مرة أخرى ثقافة “حياد الأردني الفلسطيني” و”توجس الأردني غير الفلسطيني”، لتصبح قضايا الأردنيين غير موحدة ولا متجانسة ولا متحالفة في مواجهة من استغل الطرفين معا خدمة لمصالحه وتمريرا للعلاقات الوظيفية التي يمثلها في المنطقة(3).
ولأن النقطة الأولى ما كان لها أن تتحقق، ولا أن ينجح النظام في تكييف الواقع الأردني ليتعاطى معها بعد أن تتجسَّد فيه باعتبارها مُكَوِّنا من مكونات بنية المجتمع الأردني، إلا بإحداث شرخ آخر أشد ضررا وأكثر بدائية وتراجعا من شرخ “الأردني – الفلسطيني”، ألا وهو الشرخ “العشائري” المقيت داخل المكون “الشرق أردني” لهذه الهوية، فما كان منه إلا أن راح يعمق هذه النزعة العشائرية. لقد أدرك النظام في سياق إثبات جدارته في أداء الدور الوظيفي المنوط به، أن نجاح خطتِه في إحداث الشرخ الكبير الأول، يحتاج إلى تغذية تلك الخطة بإحداث ذلك الشرخ على صعيد المُكَوِّن الشرق أردني للهوية الأردنية، وهكذا كان. وراحت تتعمق شيئا فشيئا النزعة العشائرية بأكثر أشكالها عنصرية وشوفينية وفراغا في الدلالة والمضمون، بعيدا عن إحساس الجميع بأنهم في خندق معاناة وألم واحد، تحت رحمة نظام عرف كيف يستخدم الجميع ويستغل الجميع ويغيِّب الجميع ويجر الجميع إلى الهاوية.
ولكن، غاب عن بال النظام أن النزعة العشائرية، هي في ذاتها شكل من أشكال التعبير عن “هوية ضيقة فرعية شوفينية عنصرية استعلائية، مُمْعِنَة في ضيقها وفرعيتها وشوفينيتها واستعلائها”، وهو ما يبدو أن النظام لم ينتبه إليه وهو يعمل على مدى أربعين عاما من الزمن على تكريسها – أي العشائرية – كوسيلة لإنجاح خطته في تقسيم الشعب الواحد إلى شعبين، وفي فصل قضية الشعب الأول عن قضية الشعب الثاني.
إن عدم انتباه النظام إلى المردود السلبي لتكريس النزعة العشائرية بشكلها ذاك، جعله يقع تحت وطأة تداعياتها ومضاعفاتها، عنفا دمويا يتفاقم في المجتمع الأردني منذرا بخطرٍ محدقِ لا تبدو لنهاياته آفاقٌ مطمئنةٌ في ظل عدم الرغبة في وضع اليد على أسبابه الحقيقية التي أدت إليه، لأنها أسباب ستُذَكِّرُ النظام بالجريمة التي ارتكبها في حق شعبه، عندما طعنه بكل معاول التقسيم والتجزيء، فقط ليقوم بأداء دوره الوظيفي على أكمل وجه، خدمة لمنظومة المصالح الكومبرادورية والإمبريالية في المنطقة، عبر الحالة الأردنية التي تم تشويهها لتستسلم وهي تؤدي هذا الدور النشاز غير المتناسب لا مع جوهر الشعب الأردني ولا مع طبيعة وحقيقة الهوية الأردنية، حتى بعد أن أصبحت هذه الهوية إنجازا تاريخيا يجب الحفاظ عليه وتفعيله لخدمة قضايا الأردنيين وقضايا الأمة العربية.
وإذا أضفنا إلى سياسة تكريس النزعة العشائرية الشوفينية الضيقة تلك على مدى عقود من عمر الأردن، حالة الفساد والاستلاب والتغييب والتهميش التي عانى منها الأردنيون عموما، ومن كُذِبَ عليهم بإقناعهم بأنهم وحدهم أصحاب هذا الوطن، وبأنهم وحدهم مادة هذه الهوية خصوصا، لَفَهِمْنا على الفور أن الأردني الذي أُتْخِمَت روحُه وأتخم ذهنه بفضاءات العشائرية الضيقة، لم يجد غيرها مُعَبِّرا عن ذاته وعن قضاياه، ولا ملجئا سواها يدافع عن أمنه المفقود وعن حقوقه المهدورة، بعد أن نظر حوله ليجد نفسه معلقا في فراغٍ سرقه فيه كل هؤلاء الذين كذبوا عليه لمدة أربعين عاما بأنه صاحب الوطن(4).
لقد اكتشف من أريد له أن يكون أردنيا وفقط، أن المسألة لم تكن أكثر من لعبة وخدعة مريرة حيكت ضده، ليساعد من خدعوه وضللوه من حيث يدري أو لا يدري على سرقته ونهبه بمشروعية حمايته والدفاع عن هويته التي يتهددها خطر الاندثار، بعد أن أسهم بتوَجُّسِه الدائم الذي تشرَّبَه ثقافةً واعتنقه عقيدة، من شقيقه الأردني الآخر، على تعبيد الطريق أمامهم، لتمرير كل السياسات الرعناء ذات الأبعاد الوظيفية التي استخدمته أسوأ استخدام.
ولو أنه ألقى نظرة إلى الأعلى قليلا لوجد أن هؤلاء الذين صنعوا منه تلك الحالة النشاز ليقوم بذلك الدور النشاز الحامي لمصالحهم، لم يعيشوا حالته ولا آمنوا بها ولا صدقوها، لأنهم كانوا هناك حلفاء متوحدي المصالح، التي جعلت البيروقراطية الوظيفية ذات الثقل “الشرق أردني””، تتحالف دونما أدنى تعارض في تلك المصالح مع الكومبرادورية الرأسمالية والتجارية ذات الثقل “الفلسطيني”. بينما الأردني والفلسطيني في القاعدة المسحوقة كانا وقودا حيا للمحرقة التي زُجّ فيها بجميع الكادحين من الطبقة الدنيا بعد أن غابت الطبقة الوسطى التي كانت فيما مضى صمام أمان واستقرار في هذا المجتمع(5).
ولكننا لا نستطيع استحضار السياسات التي اتبعها النظام الأردني في استخدام وتوظيف “الهوية الأردنية” عبر عقود عمره التي تجاوزت الستين عاما منذ استقلاله عام 1946، أو التي تجاوزت الثمانين عاما منذ نشأة الإمارة في عام 1921، دون أن نُؤَسِّس لثقافات “الترابط المجتمعي” التي كان النظام يتحسَّسُ طبيعتَها في المجتمع الأردني الذي كان يُشَكِّلُه ويطوِّرُه، ليتحرك بها ومعها، وليحركها من ثمَّ خدمةً لسياساته في هذه المرحلة أو في تلك من عمر “الدولة القُطْرِيَّة الوظيفية” التي كان يديرها، متجاوبا مع المتغيرات المحلية والإقليمية التي كانت تفرض نفسَها على تلك الثقافات من حين لآخر.
يعتبر الكثيرون ممن حاولوا دراسة ثقافات الترابط التي تسود المجتمع الأردني، أن هناك نوعين من ثقافات الترابط يسودان العلاقات بين الأردنيين، هما “ثقافة العصبية” و”ثقافة المصلحة”. وبينما تقوم “ثقافة العصبية” في نظر أنصار هذا التقسيم، بسبب “الحاجة إلى التعاضد والتجمع لمواجهة خطر خارجي ما، ما يجعل البيئة المناسبة لانتشارها هما البادية، حيث خطر الغزو من القبائل، والقرية، حيث خطر الجوع إذا لم يعطِ العمل إنتاجا كافيا”(6). فإن “ثقافة المصلحة” تجد – لدى أصحاب هذا التقسيم ذاته – في حياة المدينة أنسب بيئة لازدهارها نظرا لتضاؤل الخطر وانتفاء الحاجة المباشرة للتجمع. “وهكذا أعلى أهل المدينة قيمةَ الفرد حيث لا خطر من غزو على أساس قبلي، وحيث تعتمد عملية الإنتاج على الفرد وقدراته”(7).
من جهة أخرى يرى دعاة هذا التقسيم أن علاقة ثقافة الترابط المجتمعي بالمكان هي علاقة ذات اتجاه واحد فقط. بمعنى أن وجود المدينة لا يستلزم بالضرورة قيام “ثقافة المصلحة”، بينما “ثقافة المصلحة” لا تقوم إلا في بيئة مدنية. “وهكذا فمن الطبيعي أن نجد مدنا تسودها ثقافة العصبية، بينما لا يمكن أن نجد ثقافة المصلحة في القرية التقليدية أو في البادية”(8).
ومع ذلك فإن السبب الأصلي لتولد الثقافة هو الحاجة لها، وكنتيجة لذلك فإن تراجع ثقافة ما لصالح ثقافة أخرى يحدث فقط إذا ضعفت الحاجة لها، وباتت الثقافة الأخرى أكثر قدرة على تلبية ما هو مطلوب من “الثقافة”(9). هذا وتقوم علاقات التضامن بين الأفراد في “ثقافة العصبية” كما يتصورها أنصار تقسيم ثقافات الترابط المجتمعي في الأردن إلى “ثقافة عصبية” و”ثقافة مصلحة”، على أساس صلات القربى. ما يجعل قيمة الفرد في هكذا ثقافة ضئيلة، وقيمة الجماعة عظيمة، وهو الأمر الذي يجعل هذه القيمة تتحدد وفقا لقيمة الجماعة التي ينتمي إليها ذلك الفرد. ويمثل أفراد الجماعة كبيرها، بناء على قواعد من صلات القربى، إما بوراثة موقعه، أو بحكم كونه أكبر المترابطين بالقربى سنا. أما علاقات التضامن بين الأفراد في “ثقافة المصلحة” فتقوم على أساس المصالح المشتركة التي يصنعها الفرد، وليس على أساس تلك التي يولد فيها.
وفي هكذا نوع من الثقافة تكون قيمة الفرد كبيرة وقيمة الجماعة التي تتشكل على أساس صلات القربى ضئيلة، وذلك بسبب أن قيمة الفرد في هذا النمط من ثقافات الترابط تتحدد وفقا لقدراته وإنجازاته، ما يجعله ممثلا لنفسه بنفسه. وحين يقيم الفرد مجموعة صلات على أساس المصلحة، فإن من يمثله في هذه المجموعة، يتحدد على قاعدة أهليته لخدمة المصلحة التي تشكلت المجموعة بسببها وليس على قاعدة أخرى(10).
لاحظ أنصار “ثقافة العصبية” و”ثقافة المصلحة”، أن طبيعة المتغيرات التي كانت تفرض نفسها على الأردن في مراحل مختلفة من تاريخه، وخاصة في تلك المراحل التي جسَّدَت أكثر من غيرها تداعياتِ “القضية الفلسطينية” بشكلٍ مكثَّف، بسبب الهجرات واسعة النطاق التي انبثقت عن الحروب التي شهدتها الأراضي الفلسطينية، وَلَّدَت نوعا جديدا من ثقافات الترابط المجتمعي على الساحة الأردنية، لا يمكن وصفها بأنها “ثقافة عصبية” أو بأنها “ثقافة مصلحة”، لأنها في حقيقة الأمر مَثَّلَت “ثقافةً مركبة” جمعت بين “العصبية” و”المصلحة” في آنٍ واحد معا.
إلا أن تعبير “الثقافة المركبة” فرض معضلة مضمون على مستخدميه ومروجيه، تجسَّدت في أنه تعبير انطوى على معنيين حضرا معا في هذه الحالة الثقافية الجديدة هما.. “الأول.. المعنى الذي ينزع إلى توزيع ثقافتي العصبية والمصلحة بين أفراد المجتمع، بمعنى أن تتبنى مجموعات منهم مفاهيم ثقافة العصبية فيما تتبنى مجموعات أخرى مفاهيم ثقافة المصلحة.. الثاني.. المعنى الذي ينزع إلى تقاسم ثقافتي العصبية والمصلحة عند الفرد نفسه، بمعنى أن يتبنى كل واحد من الأفراد، وبالتالي مجموعات كاملة من المجتمع، بعض مفاهيم ثقافة العصبية في جزء من السلوكيات، وبعض مفاهيم ثقافة المصلحة في الجزء الباقي منها.. في المعنى الأول تكون ثقافة المجتمع هي المركبة، وفي الثاني تكون ثقافة الفرد – وبالتالي المجموعات – هي الثقافة المركبة”(11).
ومع ذلك، فقد أكد محللو هذه الظاهرة على أن النمط الأكثر شيوعا من بين نمطي التركيب الثقافي سالفي الذكر، هو ذلك الذي يجمع بين الثقافتين لدى الفرد الواحد، وليس ذلك الذي تنتشر فيه “ثقافة العصبية” بين شرائح من المجتمع، فيما تنتشر “ثقافة المصلحة” بين شرائح أخرى منه، كما دلَّ على ذلك تتبًّع الظاهرة في المجتمع الأردني منذ ولادتها، وذلك نظرا للأسباب التالية..
“الأول.. إن الفرد الذي يَعتبر “ثقافة العصبية” هي مرجعيتَه لابد له من أن يمارس بعض مفاهيم “ثفافة المصلحة” في ضوء عمليات التحديث واتساع المدن وانتقال الكثيرين للعمل فيها.. الثاني.. إن وجود بعض الظروف العامة – السياسية والاقتصادية – تدفع بطبيعتها نحو تفشي مفاهيم “ثقافة المصلحة”.. الثالث.. إن التأثر الطبيعي والعام بمفاهيم ثقافة المصلحة بات حاضرا في المجتمع، بفعل العديد من العوامل التي على رأسها العامل الديمغرافي.. الرابع.. لأن اللاجئين من القرى الفلسطينية إلى شرقي الأردن اضطروا بفعل عيشهم في ظروف جديدة لا تتيح لهم التجمع على أساس صلات القربى كما كان يحدث في قراهم الأصلية، إلى التخلي عن بعض مفاهيم ثقافة العصبية لصالح مفاهيم “ثقافة المصلحة”(12).
وكانت المحصلة أن حصل تقاسم وظيفي بين هاتين الثقافتين عند السواد الأعظم من أفراد المجتمع الأردني. فأصبح كل مواطن أردني تتنازعه ثقافتا “العصبية” و”المصلحة”، ينزع إلى التعامل مع مجموعة من قضاياه في ضوء معطيات إحدى الثقافتين، فيما يتعامل مع المجموعة المتبقية من تلك القضايا في ضوء معطيات الثقافة الأخرى. وكانت الصورة الغالبة أن تخصصت “ثقافة العصبية” بالجانب الأخلاقي القيمي السلوكي من الحياة الاجتماعية للفرد، فيما تخصصت “ثقافة المصلحة” بالجانب الإنتاجي والثقافي والسياسي من حياته الاجتماعية.
أما ضمن المعنى الأول الأقل شيوعا لـ “الثقافة المركبة”، وهو المعنى الذي ينزع إلى توزيع ثقافتي “العصبية” و”المصلحة” بين أفراد المجتمع، بمعنى أن تتبنى مجموعات منهم مفاهيم “ثقافة العصبية”، فيما تتبنى مجموعات أخرى مفاهيم “ثقافة المصلحة”، فإن جماعات محدودة ظلت تتمثل كامل مفاهيم “ثقافة العصبية” مستفيدة من الدعم الاجتماعي – السياسي الذي كان يقدمه النظام لهذا النوع من ثقافات الترابط المجتمعي، لأسباب ستتبدى لنا بوضوح في مكانها المناسب من هذه الدراسة. فيما ظلت جماعات محددة أخرى تتمثل كامل مفاهيم “ثقافة المصلحة”، على اعتبار أن هذه الثقافة تمثل مرجعيتَها الأصلية، مستفيدة من الواقع المدني الناشئ في المدن عامة، وفي عمان خاصة، ومن ندرة احتكاكها بالشرائح الاجتماعية التي تنزع إلى “ثقافة العصبية”، بسبب قوتها الذاتية المتمثلة بالمال والاقتصاد والتعليم العالي والتأهيل المهني الرفيع.
“ويمكن القول تحديدا أن القبائل البدوية التي ظلت تسكن البادية أو تمارس طبيعة حياتها في المراحل التالية، فضلا عن القبائل الريفية المتمركزة في القرى الزراعية، هي التي مثلت التعبير النقي عن ثقافة العصبية. فيما كانت العائلات ذات الأصول المدنية الفلسطينية، وخصوصا تلك التي تمركزت في عمان، هي التي مثلت الكتلة الأساسية للتعبير عن ثقافة المصلحة”(13).
في واقع الأمر لسنا متفقين اتفاقا كاملا مع هذه الرؤية في تقسيم ثقافات الارتباط المجتمعي في الأردن، وإن كان اختلافنا معها شكليا لا يطال جوهر الفكرة التي قامت عليها. فنحن وإن كنا نوافق على أن هنالك نمطين من ثقافات الارتباط سادت المجتمع الأردني، وتبادلت مواقعَ الهيمنة والنفوذ في إدارة الدولة وسياساتها، وتحكَّمت في اتجاهات تطور استجاباتها للمتغيرات المحلية والإقليمية على مدى عمرها الذي ناهز – منذ تأسست على شكل إمارة عام 1921 – التسعين عاما، إلا أننا نعتقد أن كلا الثقافتين قامتا على “المصلحة”، وإن كانت كل واحدة منهما قد أسندت تحقيقَ “المصلحة” إلى نمطٍ من الارتباطات يختلف عن الأخرى.
وهو ما يُخشى من أن يكون التصنيف الذي أوردناه سابقا قد غفل عنه، مُوَلِّدا الاعتقاد، بأن الثقافة التي تسود كلا من البادية والريف لا تحكمها المصالح إطلاقا، عندما أطلق مصطلح “ثقافة المصلحة” على النمط المقابل لثقافة العصبية التي اعتبرها هي النمط السائد في تلك البيئات. فحتى روابط “العصبية” التي تزدهر وتنتشر في “البادية” وفي “الريف”، تقوم على مصالح يرتبط بها الأفراد، تُحَتِّم مكوِّنات البيئتين البدوية والريفية الطبيعية والإنتاجية، أن تكون مصالحَ لا يمكن ضمانُها وتحقيقُها إلا على أساس فكرة “العصبية”.
وإذن فلا توجد من حيث المبدأ ثقافة ارتباط مجتمعي لا تقوم على المصلحة، وإن كان شكل تنظيم المصالح التي تقوم عليها تلك الارتباطات، يختلف من ثقافة إلى أخرى. وعلى هذا الأساس فإن ما تمت تسميتها – في وجهة النظر التي أوضحناها سابقا – بـ “ثقافة المصلحة”، يجب أن يتِمَّ البحث لها عن مسمىًّ آخر مستوحىً من نمط الارتباط الذي تحققه بين الأفراد، ضمن مفهوم “المصلحة” التي تتوسع لتطال الثقافتين معا، وهو وما نعتقد أنه “الفكرة”، سياسية كانت هذه الفكرة أو اقتصادية أو ثقافية.
فنحن إذن بصدد الحديث عن أنماط “ثقافات المصلحة” التي سادت ونمت وتطورت وتفاعلت داخل المجتمع الأردني على مدى تلك الحقبة الطويلة من الزمن. وهو ما يُمَكِّنُنا من القول بأن هذه الأنماط قد انحصرت في نمطين هما، “ثقافة المصلحة المرتكزة إلى العصبية”، أو “ثقافة مصلحة العصبية”، و”ثقافة المصلحة المرتكزة إلى الفكرة”، أو “ثقافة مصلحة الفكرة”. وفي ضوء هذا التصنيف الجديد الذي اعتمدناه نستطيع التأكيد بأقل قدرٍ من التحفظات على أن ما اندرج من وجهة نظر التصنيف الذي أوردناه سابقا تحت معنى “ثقافة العصبية”، ينسحب لدينا على “ثقافة مصلحة العصبية”، وما اندرج تحت معنى “ثقافة المصلحة”، ينسحب لدينا على “ثقافة مصلحة الفكرة”، لتبقى “الثقافة المركبة” هي ذاتها التي تجمع في الفرد الواحد أو في المجتمع ككل، بين نزعتين إحداهما تتجه به إلى “العصبية”، فيما تتجه به الثانية إلى “الفكرة”.
وفي تعقُّبِنا لسياسة النظام الذي أوكلت له مهام إدارة الإقليم الجديد “الأردن”، سواء في عهد الإمارة “1921 -1946″، أو في السنوات الأولى التي سبقت حرب 1948 من عهد الدولة “المملكة”، نستطيع التأكيد على أنه لم يقدم أي خطاب، ولا هو مارس أي سياسة تدل بأي شكل من الأشكال، على أنه كان يسعى أو يحرص على تغيير سيطرة العادات والتقاليد القبلية التي كانت سائدة ومهيمنة على نمط العلاقات الاجتماعية في الإقليم، والتي كانت تصب كلها في بوتقة ثقافة “مصلحة العصبية”. “بل إنه حاول أن يحفظ لشيوخ العشائر بعض امتيازاتهم سعيا لكسبهم في صفه، وأولى اهتماما خاصا بالبدو”(14).
وقد ساعدت النظام على نجاحه في سياسته تلك في المرحلتين المشار إليهما، التركيبة الديمغرافية لسكان الإقليم في تلك الفترة من الزمن. “فقد شكل سكان القرى – الفلاحون – خلال فترة الإمارة “1921/1946” ما نسبته 85% من مجموع السكان إلا أن معظم هؤلاء كانوا بدوا في الأصل تحولوا للإقامة في القرى منذ نهاية القرن التاسع عشر وخلال النصف الأول من القرن العشرين بفضل توافر الأمن والاستقرار”(15). “بينما توزع الـ 15% الباقون من السكان بين القبائل البدوية وسكان تجمعات أقرب إلى القرى الكبيرة منها إلى المدن، في السلط وعمان وإربد والكرك ومعان”(16).
وهكذا سادت ثقافة “مصلحة العصبية” بين سكان الإمارة الذين كان عددهم في عام 1921 “نحو ربع مليون نسمة، ارتفع مع نهاية عهد الإمارة عام 1946 إلى نحو نصف مليون نسمة”(17). وبسبب هذه التركيبة الديمغرافية المتجانسة، من حيث نمط ثقافة الترابط المجتمعي التي كانت تهيمن عليها، والتي كانت موغِلَةً في عصبيتها، كإطارٍ جامعٍ ومكوِّنٍ للمصالح القائمة بين الأفراد، فإن التنازع بين ثقافتي “مصلحة العصبية” و”مصلحة الفكرة”، تأخر حتى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، عندما بدأت الظروف الديمغرافية والأيديولوجية الجديدة التي أعقبت حرب فلسطين عام 1948، وما تلاها من لجوء واسع النطاق، ومن تجنيس للاجئين، وضمٍّ للضفة لتصبح جزءا من المملكة الأردنية، تفرض تأثيراتِها على المجتمع “الشرق أردني”، مكرِّسَة حضورا ملموسا لثقافة “مصلحة الفكرة”، جنبا إلى جنب مع ثقافة “مصلحة العصبية”، التي كانت طاغية في حضورها حتى ذلك التاريخ، بسبب الموروث القبلي غير المحتك بالحضارة والمدنية القائمة على “الفكرة” من جهة، وبسبب حرص النظام على إبقاء الدولة تحت هيمنة هذا النمط من ثقافات الترابط، لغايات تتعلق بالدور الوظيفي الذي نشأت الإمارة، وأعقبتها المملكة لأدائه في الإقليم من جهة أخرى.
دهمت المجتمع الأردني المنغلق على “عصبيته” منذ تأسيس الإمارة عام 1921، وحتى سقوط فلسطين عام 1948 متغيرات عميقة، انتقلت بحالته الثقافية خلال الفترة “1948 – 1952″، من الأحادية الممعنة في المصلحة المرتكزة إلى العصبية، إلى “الثقافة المركبة” التي تقوم على مبدإ انطواء ثقافة الترابط المجتمعي على وظيفتين، إحداهما تمرِّرُ العلاقات من خلال “مصلحة العصبية”، فيما تمرِّرها الثانية من خلال “مصلحة الفكرة”. وكان مرد هذه النقلة النوعية التي مثَّلَت بدايات التلاقح بين “العصبية” و”الفكرة” في بنية العقل الفردي والجمعي الأردنيين، إلى الأسباب التالية..
1 – تغَيُّر التركيبة الديمغرافية للمجتمع الأردني في ضوء هجرة الفلسطينيين إلى الأردن على إثر حرب عام 1948، حيث كانت لقسمٍ كبير منهم مرجعية ثقافية تختلف عن تلك التي كانت سائدة حينها في شرقي الأردن، وهي تستند إلى مفاهيم ثقافة “مصلحة الفكرة”. ولقد أسهم في تكريس الدور التأثيري لهذا التَّغَيُّر في التركيبة الديموغرافية، حمل هؤلاء اللاجئين للجنسية الأردنية بموجب قانون الجنسية لسنة 1949.
2 – دخول المبادئ والأفكار الأيديولوجية إلى الأردن وانتشارها بسرعة، ابتداء من عام 1948 أيضا، وهي التي يقوم خطابها على تعزيز مفاهيم ثقافة “مصلحة الفكرة”، وعلى التناقض مع مفاهيم ثقافة “مصلحة العصبية”. وهذا العامل نتج عن الهجرة الفلسطينية الواسعة من جهة بسبب ما كان يحمله الفلسطينيون – الذين عركوا النضال والتأطر التنظيمي والحزبي وخبروه عبر سنوات الانتداب البريطاني – من رؤى وقيم أيديولوجية تقوم العلاقات والترابطات المجتمعية المصلحية في ضوئها على “الفكرة” وليس على “العصبية”. فضلا عن بدء التلاقح والتواصل بين الأردنيين والدول العربية المجاورة التي نشأت فيها المنظمات الحزبية العقائدية مثل “الإخوان المسلمون” في مصر، و”حزب البعث العربي الاشتراكي” في سوريا.
3 – الاحتكاك مع الغرب المتمدن عبر مدنه المعاصرة التي تعتبر تجسيدا حقيقيا لمفاهيم ثقافة “مصلحة الفكرة”، وعبر تطور التعليم وعمليات التحديث التي كان من الطبيعي أن تشهدها البلاد، خاصة بعد الهجرة الفلسطينية التي نقلت إلى الأردن قطاعا لا يستهان به من الكفاءات المؤهلة والمتعلمة التي نقلت خبرتَها وتجربتَها إلى المجتمع “الشرق أردني”.
كان للتركيبة الديمغرافية للمجتمع “الفلسطيني” في تلك الفترة، أثر كبير في التَّغَيُّرات التي اعترت نمطَ ثقافة الترابط في المجتمع “الأردني”. فقد أسهم انتقال قطاع واسع من الفلسطينيين بسبب الهجرة، إلى شرق الأردن، في نقل ثقافتهم إلى هناك، لتُسْهِمَ بشكل حتمي وتلقائي في إحداث التغييرات التي ظهرت واضحة على المجتمع الأردني، منتقلة به من هيمنة ثقافة “مصلحة العصبية” إلى بدء ظهور الثقافة “المركبة”، كنمط ثقافي جديد بدأ يهيمن على منظومة العلاقات المجتمعية في البلاد.
“فقد بلغ عدد العرب في فلسطين في 31/3/1947، أي قبل الهجرة بقليل، وحسب إحصاءات رسمية “1,363,387” نسمة”(18). “كان نحو 70% منهم يعيشون في القرى”(19)، “ونحو 9% يعيشون كبدو رحل”(20). وهكذا يظل نحو 20% أو يزيد قليلا يعيشون في المدن. كما قُدّرَ عدد اللاجئين إلى شرقي الأردن على إثر حرب عام 1948 بنحو نصف مليون إنسان، وفقا لإحصاء رسمي أجرته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” في عام 1954، “حيث بينت الأرقام أن من ينطبق عليهم وصف اللاجئين في الأردن يبلغ “486.631” ألف شخص”(21). أما عدد المواطنين العرب الذين ظلوا في ديارهم في أواخر عام 1948 فقد بلغ “نحو “170,000” شخص توزعوا حسب أماكن سكناهم إلى “32,000” يسكنون المدن، و”120,000″ يسكنون القرى، و”18,000″ في البادية”(22). ومن الملاحظ أنه توزيع يقارب النسب التي كانت قائمة قبل الهحرة، إذ توزع نحو 19% في المدن، و71% في القرى، و10% في البادية.
وفق المعطيات التي تؤشر عليها الأرقام السابقة، يتضح أن الهجرة الفلسطينية التي أعقبت حرب عام 1948، حملت إلى الأردن عناصر ثقافة ترابط اجتماعي جديدة. فقد كان نحو 20% من اللاجئين – وهم القادمون من المدن الفلسطينية – يحملون – غالبا – مفاهيم ثقافة “مصلحة الفكرة”، فيما يحمل بعضهم ممن لم يكونوا محسوبين على هذه الثقافة بشكل مباشر بسبب عدم انحدارهم من عائلات المدن ذاتها، مفاهيم “الثقافة المركبة” التي تجمع بين “العصبية” و”الفكرة”، نتيجة عملهم في المدن وتأثرهم بثقافة الترابط الاجتماعي السائدة فيها قبل الهجرة من فلسطين. “ووفقا للأرقام سالفة الذكر، فقد وجدت ثقافة “مصلحة الفكرة” مساحة مباشرة لها في 10% من المجموع السكاني الجديد في “شرقي الأردن” المكون من السكان قبل عام 1948 مضافا إليهم اللاجئين الفلسطينيين إليه، على اعتبار أن عدد اللاجئين يساوي نصف عدد المجموع السكاني الجديد”(23).
لقد انعكس هذا التَّغَيُّر الجوهري في التركيبة الديمغرافية لسكان الأردن، على نمط الثقافة الاجتماعية المهيمنة في البلاد في تلك الفترة الانتقالية الحرجة من تاريخها، وهي الفترة الممتدة من عام “1948” وحتى عام “1952”، لتغدوَ ثقافةً اجتماعية “مركبة” بمعنَيَيْ التركيب، “الفردي” و”الجماعي” اللذين سبقت الإشارة إليهما فيما مضى، وهما “التركيب” على مستوى الفرد الواحد بنزوعه هو ذاته إلى الثقافتين معا، كلٌّ في قطاع من قطاعات ارتباطاته الاجتماعية، والتركيب على مستوى المجموعة بانقسام المجتمع هو ذاته – جراء التركيب على هذا النحو – إلى مجموعتين، تنزع إحداهما إلى الاستناد إلى ثقافة “مصلحة العصبية”، فيما تنزع الأخرى إلى ثقافة “مصلحة الفكرة”.
ومرد توصيفنا لطبيعة هذه المرحلة بالحراجة والانتقالية، إلى أنها بدأت في عام 1948 بحربٍ مصيريةٍ، أسفرت عن حالة عدم استقرار سياسي وديمغرافي، جراء احتلال الجزء الأكبر من فلسطين، وجراء حركة التَّنَقُّل واسعةِ النطاق التي عبَّرت عنها ظاهرة اللجوء الفلسطيني، وجراء حالة الارتباك التي عانت منها “الهوية الفلسطينية” التي كانت تبحث عن شروط تَجَسُّدِها، بسبب بقاء جزء من فلسطين خارج خضوعه للاحتلال الصهيوني، وخضوعه لتمركز القوات الأردنية فيه، وانتهت بحالة استقرار سياسي اجتماعي واقتصادي نسبي، أسفر عنها إقرار نظام دستوري، عبَّر عنه دستور المملكة لعام 1952، بعد أن تمَّ استيعاب التداعيات الأولى لتلك الحرب، وعلى رأسها ظاهرتي “اللجوء” الناجمة – بإرادة الجميع – عن تلك الحرب، و”الهوية الفلسطينية” المفلتة – رغما عن الجميع – من نتائجها، بتجنيس الفلسطينيين وفقا لقانون الجنسية لعام 1949، وبضم الضفة الغربية وفقا لمقررات مؤتمر أريحا لعام 1950.
وعلى مدى سنوات هذه الفترة الانتقالية، تجلَّى تأثير الكتلة البشرية الفلسطينية القادمة من فلسطين التي تم احتلالها في حرب عام 1948، على الكتلة البشرية الأردنية المقيمة شرقي النهر، وخاصة بعد أن أصبح ما تبقى من فلسطين جزءا سياسيا وديمغرافيا من “المملكة الأردنية الهاشمية”، في مجموعة من المُكَوِّنات الثقافية يمكن عرضها في التالي..
1 – تَمَيَّزَ أهل المدن من اللاجئين بالنشاط الاقتصادي التجاري والمصرفي المتسم بالاحتراف والمهنية الناجمين عن خبرة ووعي، “إذ نقل أصحاب رؤوس الأموال طموحاتهم الاقتصادية ورؤوس أموالهم معهم، خاصة في عمان حيث تمركزوا ليفوقَ حضورُهم المعنوي نسبتَهم الرقمية”(24).
2 – نقل اللاجئون عموما أيا كانت ثقافتهم الاجتماعية، خبراتٍ، وطباعا تولدت لديهم نتيجة الظروف السياسية التي مرت بها فلسطين منذ سنوات طويلة سبقت هجرة عام 1948، مثل الخبرة النضالية في مواجهة الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية، والتي ترافقت مع حياة سياسية وفكرية نشطة تخللها نشوء أحزاب عقائدية قومية وإسلامية وشيوعية، قُدِّرَ لها أن تصبح جزءا من الحياة الثقافية والسياسية للأردن، بعدما تشكلت امتداداتها، أو أحزاب عقائدية جديدة غيرها فرضتها المرحلة، على الساحة الأردنية، في الفترة بين عامي 1948 و1952.
“ففي المرحلة الأولى من تاريخ تشكل تلك الأحزاب العقائدية، انتقلت التنظيمات العقائدية إلى الأردن من البلاد العربية المجاورة، فجاءت فكرة البعث من سوريا، والشيوعية من فلسطين، وجماعة الإخوان المسلمين من مصر، وبعد ذلك في عام 1952 تحديدا، أي بعد أن أصبحت الضفة الغربية جزءا من “المملكة”، وبعد أن غدا أي نشاط سياسي يحدث فيها هو بمثابة نشاط يمارسه “الشعب الأردني”، ظهرت تنظيمات مثل “حركة القوميين العرب” و”حزب التحرير”(25).
3″ – أقبل اللاجئون الفلسطينيون على التعليم الذي كان يحظى في فلسطين بمكانة متقدمة ترتبط بعمليات الإنتاج وحركة التجارة والتحدي الوطني الناتج عن الاحتكاك المباشر مع الصهيونية”(26). وبسبب هذا الإقبال ارتفع عدد المدارس في المملكة “من 195 مدرسة عام 1947 إلى نحو 350 مدرسة عام 1952″(27). “وبدأ إنشاء معاهد المعلمين التي يلتحق بها الطلبة بعد إنهائهم الدراسة الثانوية ليتخرجوا معلمين ومعلمات اعتبارا من عام 1952″(28). ولأن التعليم يوجه الفرد المتعلم نحو بناء علاقاته مع الآخرين في المجتمع على أسسٍ غير تلك التي تعوَّدَ عليها في مجتمعه العائلي البسيط، بفضل العملية التعليمية أو من خلالها، فإنه – أي التعليم – قد دفع بالكثيرين من حملة الشهادات – وخاصة الجامعية – للاعتقاد بأن شهاداتِهم وعلمهم يجعلانهم يستحقون التقدم على كبار القوم ممن لا يحرزون مكانتهم الاجتماعية إلا بسبب “العصبية” في العادة، وهو الأمر الذي تسبب في خلخلة واحدة من مفاهيم ثقافة “مصلحة العصبية” الأساسية لصالح ثقافة “مصلحة الفكرة”، بفضل ما أحرزه المتعلمون من مكانة بسبب علمهم.
تدعمت جراء ذلك ثقافة “مصلحة الفكرة” من خلال ظهور ظاهرة “الثقافة المركبة” كجسر انتقالي على الصعيدين الفردي والجماعي، يعبر فوقه الفرد، وتعبر من خلاله الجماعة، إلى مرحلة متقدمة من تنضيج ثقافة “مصلحة الفكرة” لتصبح هي الثقافة المهينة. إن هذا التغير الديمغرافي في المجتمع الأردني قاد في المحصلة إلى خلخلة الحالة الثقافية التقليدية السائدة، إذ رغم أنه أضاف مصنفين إضافيين على ثقافة “مصلحة العصبية” بسبب وجود أمثال هؤلاء في الكتلة البشرية الفلسطينية المنتقلة إلى الأردن، فإنه أضاف – ولأول مرة بهذا الحجم – مصنفين على ثقافة “مصلحة الفكرة”، كانوا عظيمي النشاط والتأثير. “وهم يضافون بالطبع إلى ما كان موجودا في شرقي الأردن من قبل من مصنفين على الثقافة نفسها من المثقفين وأبناء الأقليات الذين يعيشون مفاهيم تلك الثقافة، وهو ما أسهم في نقل المجتمع الأردني إلى حالة “الثقافة المركبة”(29).
أدت كل تلك التطورات والتغيُّرات العميقة في بنية المجتمع الأردني إلى الاعتراف بعدم صلاحية دستور الاستقلال – أي دستور عام 1946 – لقيادة الدولة الجديدة التي أصبحت الأحزاب السياسية العقائدية مُكَوِّنا أساسيا من مُكَوِّنات حراكها الاجتماعي السياسي، “فتم إقرار الدستور الجديد الذي سرى مفعوله من “1/1/1952” متضمنا العديد من المبادئ الهامة التي كان على رأسها مسؤولية الحكومة أمام السلطة التشريعية، وهو مبدأ لم يكن منصوصا عليه في الدستور السابق وهو دستور عام 1946″(30).
وهكذا، وما أن كاد عام 1952 ينتهي، حتى بدأت تهل على الأردن بشائر مرحلة ثقافية جديدة، ستنقله نقلة نوعية إلى فضاءاتِ ثقافة “مصلحة الفكرة”، لتدخل الدولة ككل مرحلةً جديدة في نمط أدائها الوظيفي القُطْري، فرضته عليها التَّغَيُّرات الكبرى الحاصلة منذ حرب فلسطين.
فلأول مرة بدأ الأردن يشهد ظهور “طبقة وسطى”، بكل ما لظهورها من تداعيات سياسية واجتماعية أسهمت في تغيير لون الدولة الاقتصادي والاجتماعي، وفي تغيير مذاقها السياسي، “فالأعداد الكبيرة من اللاجئين الفلسطينيين من مختلف الأصول في مدنهم وقراهم في فلسطين، تكونت من “مثففين” و”مهنيين” و”شرائح واسعة من المتعلمين”، وهو ما عزز أجواء نهوض الطبقة الوسطى في الأردن”(31)، وبالتالي أتاح المجال لمفاهيم ثقافة “مصلحة الفكرة” لتحتل مساحات متزايدة عند أفراد المجتمع، كما وفر الفرصة لإنشاء مزيد من الأدوات التي يمكن أن تصب على المدى الطويل في صالح هذه الثقافة. “فقد ارتفعت أعداد المدارس، وارتفعت أعداد الملتحقين بالدراسة الجامعية في خارج البلاد بصورة ملحوظة، وزادت كذلك المؤسسات التجارية والاقتصادية المختلفة”(32). أدى كل ذلك إلى إحباط المشاريع الوظيفية “السايكسبيكوية” التي كان كلٌّ من “التجنيس”، و”مؤتمر أريحا”، و”ضم الضفة الغربية”، يهدف فيما يهدف إليه بالدرجة الأولى، إلى ترسيخها في الدولة الجديدة، بعد هذا التَّضَخُّم الديموغرافي الذي شهدته، عندما ابتلعت في جوفها سياسيا وديمغرافيا كل مُكَوِّنات “الهوية الفلسطينية” التي كان يجب أن تُبتلع، من خلال قيام “النظام الأردني” و”الدولة الأردنية” و”الهوية الأردنية” بأدوارها الوظيفية التي نشأت لأجلها في الأساس. لتأتي النتيجة على النقيض مما أراده النظام السايكسبيكوي.
إن ثاني مظهر من مظاهر الفساد في بنية “الدولة الأردنية”، كان على مدى تسعين عاما من عمرها منذ وُلِدَت على شكل إمارة ضئيلة، هو هذا النزوع الدائم إلى النكوص بـ “الهوية الأردنية” إلى الوراء، عبر جعلها بيئة تتخلَّقُ فيها وتتولَّدُ منها كل المكوِّنات الرجعية لثقافة “مصلحة العصبية”، حتى لو اضطر النظام بتحالفاته البيروقراطية الكومبرادورية الأمنية المريبة، إلى مناجزة المنطق، ومخالفة المعقول، والوقوف في وجه طبائع الأمور، بمعارضة ومحاربة ثقافة “مصلحة الفكرة”، التي تعتبر نتاجا طبيعيا للتطور الاجتماعي سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
لقد تجَلَّت إحدى أهم المُكَوِّنات الوظيفية القُطْرِيَّة للدولة الأردنية، في واقعة أن دورَها الوظيفي المنوط بها منذ أن تأسست، ما كان له أن يتحَقَّق إلا بـ “هوية أردنية” تقوم على “العصبية”، لأن التأسيس لمشروعيةِ نظامٍ ودولةٍ جاءا على أَسِنَّةِ الحراب البريطانية التي طعنت دولة الخلافة الإسلامية في الصميم، ما كان له أن يتمَّ إلا ببُنْيَةٍ مُجْتَمَعِيَّة هشَّة تستشعر ضعفَها الوجودي والكينوني، وتتقمَّصُ على الدوام كل نماذج الخوف والرعب على خِلقَتِها الخداج التي مُنِحَتْها بلا مقدمات منطقية للتَّخَلُّق، كي تبحث عن أمنها وأمانها في ذلك النموذج من الأنظمة الذي يشعِرُها بأناها كما عايشتها لمئات السنين مضت، دون المساس بجوهرها الذي ألفته.
أي إنه وكي يتمكن النظام الذي سيدير هذه الدولة من أن يكون وظيفيا قلبا وقالبا، كان على المادة البشرية لـ “الهوية الأردنية” – أي على الشعب الأردني – أن يكون “عصبيا”، يجد حماية “عصبيته” – التي ستغدو مع مرور الزمن مظهرا من مظاهر البُنَى المجتمعية الرجعية الضعيفة والهشَّة والمهدَّدَة بمخاطر السقوط والانكفاء، بل والانقراض – في الرعاية التي تحظى بها تلك العصبية، من قبل نظامٍ سياسي يؤمن ذلك المجتمع “العصبي” بهيبته وقوته وقدرته على حماية هذه الهوية “العصبية”، في محيط من الهويات التي تسابق الزمن، كي تكون هويات “أفكار”.
أي أن النظام الأردني ما كان له أن يحافظ على مشروعيَّتِه، وبالتالي على حظوتِه بالقبول في وسط “الشعب الأردني”، ليمارسَ من ثمَّ دوره الوظيفي به ومن خلاله على أكمل وجه مطلوب ولأطول مدة ممكنة، إلا بوجود هذا الفارق الهائل بين ذلك الشعب، وبين ثقافة “مصلحة الفكرة”. ولما كان من المُحَتَّم أن تكون لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي تحكم ترابطاته المجتمعية، فلتكن الثقافة التي تحكم تلك الترابطات في المجتمع الأردني، هي الثقافة التي كانت قائمة وموجودة قبل إنشاء الإمارة، ألا وهي ثقافة “مصلحة العصبية”.
وبالتالي فقد كان على النظام الأردني أن يمارسَ باستمرار، عمليةَ الشدِّ في الاتجاه العكسي، في حرصٍ محمومٍ على معاندة حركة التاريخ، وذلك بأن يدفع باتجاه منعِ انتشار ثقافة “مصلحة الفكرة” في صفوف الشعب الأردني، في تحدٍّ صارخ للصيرورة التاريخية التطورية، التي تؤكد على أن هذه الثقافة هي الثقافة التي يجب أن تهيمنَ على الترابطات المجتمعية في كل المجتمعات المتمدنة في المحصلة.
لقد كان النظام الأردني على الدوام يحارب في اتجاه استعادة “الهوية الأردنية” لثقافة العصبية كثقافة ترابط بين أفرادها وجماعاتها، كلما أفلتت هذه الهوية من أسر تلك الثقافة، بتأثير المدخلات السياسية والثقافية والاقتصادية التي كانت تفرضها المتغيرات المحلية والإقليمية، ومتطلبات التطور الطبيعي، في بنية المجتمع وفي مؤسسات الدولة، دافعة بتلك الهوية إلى تجسيد ثقافة “الفكرة”. وهو – أي النظام – عندما يدفع بهذا الاتجاه النكوصي الرجعي، إنما يخلق فجوة حضارية في قلب البُنية المجتمعية للشعب الأردني، غالبا ما كانت تملأ بالأساطير والخرافات، وبالجرائم والهويات الفرعية الضيقة الأكثر إمعانا في “العصبية” من “العصبية” الأمِّ ذاتِها.
إن ملاحظَتِنا لذلك الحبل السُّرِّي الرابط بين “وظيفِيَّة الدولة” و”عصبية الثقافة”، مُغَذِّيا الأولى من الثانية، والمُتَجَذِّر في صميم بُنْيَة وتكوين “الهوية” و”الدولة” و”النظام” في الجغرافيا الأردنية، تُمَكِّنُنا من اكتشاف تراجع “الوظيفية” كلما تراجعت “العصبية”. ولأن “الوظيفية” الأردنية ارتبطت بمصالح تحالفات طبقية توارثت السلطة والهيمنة والنفوذ، فلم يكن تراجع “الوظيفية” الأردنية يحمل سوى معنى واحد بالنسبة لتلك التحالفات الطبقية، هو المساس بمنظومات مصالحها التي ارتبطت بوظيفية الدولة منذ البدء. ولأن تراجع تلك “الوظيفية” لا يتحقق إلا بتراجعٍ حقيقي في مديات هيمنة ثقافة “مصلحة العصبية”، فقد كان من الطبيعي والمفهوم ضمنا، أن تلك التحالفات لا يمكنها أن تقتات إلا على العصبيات”. وهذا ما كشف عنه تاريخ الأردن في ظل هيمنة النظام الوظيفي على الدولة ومقدراتها وشعبها وهويتها.
إن القراءةَ الفاحصة والدقيقة لتاريخ تبادل المواقع بين الثقافات وهي تهيمن على الترابطات في ساحة الفعل المجتمعي، في ترافق تام مع لعبة “لوغو الهويات” وهي تتبادل مواقع السُّمُو والقداسة في ساحة الفعل السياسي التحرُّري، منذ نشأة الدولة وقبلها الإمارة وحتى الآن، تطلعنا بشكل واضح لا يحتمل الشك أو التأويل، على أن هناك منحنىً بيانيا، يعكس نوعا من العلاقة بين مستوى الوظيفية والقُطْرِيَّة في أداء الدولة الأردنية من جهة، ومستوى هيمنة ثقافة “العصبية” وثقافة “الفكرة” في أداء المجتمع الأردني من جهة أخرى. بحيث أنه كلما هيمنت ثقافة “الفكرة” على الأداء المُجتمعي وتراجعت ثقافة “العصبية”، كلما تراجعت “الوظيفية” عن أداء الدولة، والعكس بالعكس، أي كلما هيمنت ثقافة “العصبية” على أداء المجتمع وتراجعت ثقافة “الفكرة”، كلما زادت مظاهر “الوظيفية” في أداء الدولة.
أي أن البيئة التي تزدهر فيها “الوظيفية” و”القُطْرِيَّة” سياسيا هي تلك التي تزدهر فيها “العصبية” مجتمعيا، في حين أن البيئة التي تتراجع فيها “الوظيفية” وتنكفئ “القطرية” سياسيا، هي تلك التي تزدهر فيها “الفكرة” مجتمعيا. من هنا فإننا نستطيع استقراء المراحل التالية في مسيرة الأداءين الثقافيين السياسي والمجتمعي، على مدى تاريخ الأردن منذ الإمارة وحتى الآن..
1 – المرحلة الأولى، وفيها كانت ثقافة “مصلحة العصبية” هي المهيمنة والمتقدمة والمنفردة في سيادة الساحة الأردنية، وتمتد من تاريخ نشأة الإمارة في عام 1921 حتى تاريخ سقوط فلسطين عام 1948. وهي على العموم كانت امتدادا طبيعيا لما قبلها.
2 – المرحلة الثانية، وفيها نشأت “الثقافة المركبة” التي تجمع بين ثقافتي “مصلحة العصبية” و”مصلحة الفكرة” بمعنييها الفردي والجماعي، بسبب التغيرات العميقة التي رافقت سقوط فلسطين ووتلك التي تلتها، وتمتد من عام 1948 حتى نهاية عام 1952 عام إقرار الدستور الجديد.
3 – المرحلة الثالثة، وفيها كانت ثقافة “مصلحة الفكرة” تتقدم وتهيمن وتنمو على حساب ثقافة “مصلحة العصبية”، وتمتد من عام 1952 حتى 1971، وهو عام إنهاء وجود المقاومة في الساحة الأردنية عبر إعادة إحياء ثقافة “مصلحة العصبية” بأبشع صورها وأكثرها دموية.
4 – المرحلة الرابعة، وفيها كانت ثقافة “مصلحة العصبية” تتقدم وتهيمن وتنمو من جديد بعد تراجع ثقافة مصلحة الفكرة”، برعاية كاملة من المؤسسة الأمنية الأم “دائرة المخابرات العامة”، التي أصبحت في هذه الفترة هي الحاكم الفعلي للبلاد، وتمتد من 1971 حتى 1989، وهو عام ثورة نيسان في الجنوب الأردني.
5 – المرحلة الخامسة، وفيها كانت ثقافة “مصلحة العصبية” تتصارع وتتفاعل مع ثقافة “مصلحة الفكرة” بشكل براجماتي غير مسبوق، عكسته حالة الفوضى السياسية، وجدل الهويات العقيم الذي ساد الساحة الأردنية في المرحلة التي امتدت من عام 1989 وحتى الآن، وهي مرحلة تمكنت دائرة المخابرات العامة خلالها من الإبقاء على مكانتها المسيطرة والموجهة لكل سياسات البلاد.
وإننا بتتبعنا لتلك المراحل الخمس من تاريخ تبادل الهيمنة والريادة والسيادة بين ثقافة “العصبية” وثقافة الفكرة” على الصعيد المجتمعي الأردني، سوف نجد أنفسنا بصدد تتَبُّعٍ آخر رديفٍ ومواكبٍ له كان يحدث على الصعيد السياسي، يُجسَّد لعبة “لوغو الهويات” التي كان يمارسها النظام. وهو تتَبُّعٌ يؤرِّخ لتبادل الهيمنة والريادة والسيادة ومواقع القداسة الوطنية بين “الهوية الأردنية” و”الهوية الفلسطينية”.
ومن قلب هذين التَّتَبُّعين سيبرز لنا منحيان تاريخيان سيسجل لنا الأول، التذبذبات في “وظيفية” و”قُطْرِيَّة” الدولة – صعودا وهبوطا – وذلك بحسب ما يكون عليه وضع الثقافة المجتمعية “عصبية” أو “فكرة” من جهة، وبحسب ما يكون عليه وضع لعبة لوغو الهويات في “تجسيد الهويتين الأردنية والفلسطينية” من جهة أخرى. أما المنحنى الثاني فسيسجل لنا دالة واضحة على أزمة المجتمع الأردني في سياق العلاقة بين الشعب من جهة، والتحالف الطبقي الحاكم بقوائمه الثلاث “الكومبرادور” و”البيروقراط” و”القبضة الأمنية” من جهة أخرى، في مجالات الحريات العامة وسلطة الشعب أولا، والتنمية ومواجهة البطالة والفقر ثانيا، ومحاربة الفساد والتبعية والارتهان السياسي والاقتصادي ثالثا.
عبر قراءتنا المعمَّقَة لذَيْنِكَ التتبُّعين التاريخيين وهما “الثقافة المجتمعية” من جهة، ولعبة “تجسيد الهويات” من جهة أخرى، وفي ضوء تحليلنا للمنحيين المرافقين لهما، سنكتشف أننا نؤَسِّس لقانون خاص بالحراك المجتمعي السياسي والثقافي والتنموي يسود الحالة الأردنية ويتحكم فيها، ليس له مثيل في العالم.
يقوم هذا القانون على ارتباط حالة “الفساد”، و”تشويه التنمية”، وغياب الحريات”، و”انعدام سلطة الشعب” و”تمركز السلطات في يد الملك” بل وغياب “أي شكل من أشكال التداول الحقيقي والمنتج في السلطة”، وهيمنة “دائرة المخابرات العامة” على مجريات السياسة بصفتها ممثلة القبضة الأمنية في البلاد، و”تفشي البطالة”، و”انتشار الفقر”، و”التفاوتات الطبقية المهولة بين فئات الشعب”.. إلخ..
نقول.. إن قراءتَنا المشار إليها، ستكشف لنا عن ارتباط قانوني عميق بين تلك الظواهر السلبية، وتفشي ثقافة “مصلحة العصبية” على صعيد الترابطات التضامنية في المجتمع. وهو ما يعني في المحصلة أن هذه الثقافة القائمة على “العصبية” هي البيئة الخصبة لنجاح النظام في وظيفيته وقُطْرِيَّته، مادامت تلك الظواهر السلبية إنما تنتج في الأساس عن نظام “قطري وظيفي” يجد في قُطْرِيَّتِه ووظيفيته مرتعا لإدارة الدولة على ذلك النحو المُدَمِّر، بسبب كون هذا النحو من الإدارة القائمة على “ثقافة العصبية” هو الذي يغيِّب المؤسسات الرقابية ومؤسسات شراكة الشعب في اختيار حكامه وفي محاسبتهم وملاحقتهم عندما يفسدون. بهيمنة هذه الثقافة القائمة على “العصبية” يتم تحويل الدولة إلى قبيلة يرأسها شيخها الذي هو “الملك”، ويساعده في المشيخة “أعيان القبيلة” و”وجهائها” الذين هم الحكومات ومدراء المؤسسات.. إلخ، بناء على المعايير القبلية نفسها التي تمنح الثقة المطلقة للشيخ ولا تسائله.
كما أن قراءتَنا المشار إليها ستكشف لنا عن جانب آخر مهمٍّ في قانون الحراك المجتمعي الخاص الذي يحكم الحالة الأردنية مفادُه، أن واقع “إدارة الدولة” فيما يخدم مصالح الشعب ويستجيب لحقوقه أو العكس، وواقع “الثقافة المجتمعية” السائدة، “عصبية” أو “فكرة”، لا ينفصلان عن حالة لعبة “لوغو الهويات”، ولا يحدثان بمعزلٍ عن المكانة الوطنية المفترضة للهويتين “الأردنية” و”الفلسطينية” كما تفرضها المرحلة.
فكلما كانت مواقع الهويات تصب في خدمة المشروع القومي التحرري الوحدوي، كلما كانت الدولة تتجه نحو “اللاوظيفية” و”اللاقُطْرِيَّة”، وهو ما ينتجُ أساسا عن ثقافةٍ مجتمعية أَمْيَلُ إلى كفة “ثقافة الفكرة” وأبعد ما تكون عن “ثقافة العصبية”، وهو ما يؤدي بالتالي إلى نمط في “إدارة الدولة” أبعد ما يكون عن الاعتداء السافر على حقوق الشعب وتطلعاته في الحرية والعدالة، لأن الدولة لا تغدو في هكذا حالة مجرد قبيلة كبيرة يقودها شيوخها وأعيانها.
من أجل التسهيل المنهجي في البحث، نستطيع اعتبار أن الدولة الأردنية منذ نشأةِ الإمارة حتى الآن، مرت بثلاث مراحل تكاد تكون متباينة في نمط الوظيفية ومستويات القطرية التي مارسها النظام خلال كل منها، وذلك بسبب الاختلاف والتباين في العوامل المؤثرة على بنية الدولة في كل مرحلة. وهذا التقسيم يختلف من حيث مبرراته عن ذلك الذي قسمنا بموجبه تاريخ الدولة فيما مضى إلى خمس مراحل. التقسيم الذي قدمناه سابقا ينظر إلى تاريخ الأردن من حيث نمط الثقافة المجتمعية المهيمنة، أما المراحل الثلاث التي نعيد تقسيم تاريخ الأردن على أساسها، فهي مراحل بالنظر لنمط الحكم الذي اضطلعت به الدولة من حيث الجوهر.
فالمرحلة الأولى الممتدة من تاريخ تأسيس الإمارة وحتى سقوط فلسطين، هي مرحلة الدولة الأولى أو “الدولة القبيلة” التي لا يمكن اعتبارها أكثر من قبيلة كبيرة بكل ما لهذه الكلمة من معنى. أما المرحلة الثانية الممتدة من تاريخ سقوط فلسطين وحتى تاريخ إقرار الدستور عام 1952، فهي مجرد مرحلة انتقالية تعرضت فيها الدولة لتغيرات جذرية عميقة بسبب اضطرابات عسكرية وسياسة وديمغرافية، مهدتها لتدخل مرحلة الدولة الثانية، ويمكن تسمية الدولة في هذه المرحلة بـ “دولة الانتقال”.
أما المرحلة الثالثة للدولة الأردنية، فهي التي بدأت بدستور 1952 وما تزال قائمة حتى الآن، رغم أن المنعطفات التي عصفت بها ربما تكون أشد من كل ما سبق وأن تعرضت له في السابق. ويمكننا إطلاق اسم الدولة الثانية أو “دولة الشد والجذب” على الدولة الأردنية خلال هذه المرحلة، بالقياس لما مثله تاريخها كله منذ 1952 وحتى الآن، من شد وجذب بين الثقافات المتناقضة “عصبية” و”فكرة”، وبين الهويات المتناقضة “أردنية” و”فلسطينية”، وبين الإدارات المتناقضة “فاسدة وتابعة وأمنية” أو غير ذلك. وذلك على أساس الشد والجذب الأصيل في بُنيَة هذه الدولة بين “الوظيفية” و”اللاوظيفية”، وبين “القُطْرِيَّة” و”اللاقُطْرِيَّة”. والأردن لم يدخل حتى الآن مرحلة “الدولة الحديثة” القائمة على سلطة الشعب وثقافة الفكرة وإدارة الاستقلال في ضوء وطنية الهوية ولا وظيفيتها.
ونظرا لأننا تحدثنا بما فيه الكفاية عن الفترة التاريخية التمهيدية للدولة الأردنية الممتدة من عام 1948 حتى عام 1952، وهي مرحلة “دولة الانتقال”، ونظرا لعدم حاجتنا في هذه الدراسة للحديث عن مرحلة “الدولة القبيلة”، لأنها ليست محل خلاف في الغالب، فإننا سنرافق هذه الدولة منذ بدأت تنطبق عليها معاني ودلالات وصفات “دولة الشد والجذب”، بسبب الأهمية الخاصة لهذه المرحلة بالتحديد في سياق دراستنا التي نحن بصددها.
… يتبع
الهوامش..
1 – (تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الطريق لم تكن ممهدة أمام النظام الهاشمي القادم من مكة برفقة الإنجليز، وهو يحاول تكوين دولته عبر السيطرة على جغرافيا وديموغرافيا يشكل بهما هوية تلك الدولة. فقد واجهته مشكلات كبيرة لا يستهان بها، وقضى وقتا طويلا وهو يمارس عمليات القمع ضد الكثير من القبائل التي كانت ترفضه وترفض مقدمه وأيديولوجيته الجديدة التي قدم بها. ولقد شهدت الجغرافيا الأردنية خلال فترة تكوين وتشكيل الدولة حروبا ومعارك قامت لترويض الكثير من القبائل والمدن لقبول الواقع الجديد.. إلخ، ولقد كان القائد العسكري البريطاني “جون غلوب” هو الذي تولى هذه المهمة عندما أوكلت إليه مهمة تشكيل جيشٍ لهذا النظام سمي بالقوة النقالة التي كان قوامها الأساس بدويا معظمه من خارج الإقليم نفسه، وهو ما سيتضح لنا في آخر هذه الدراسة).
2 – (يشار في هذا الصدد إلى طبيعة التقسيمات الإدارية لبلاد الشام خلال الحكم العثماني والتي تنفي أي إمكان لتأسيس منطقي لهويات مثل الهوية الأردنية والهوية الفلسطينية وغيرها من الهويات القطرية بالشكل الذي انبنى على ما قررته اتفاقية سايكس – بيكو. فكل التقسيمات كانت عرضية تمتد من الغرب إلى الشرق، وليست طولية تمتد من الشمال إلى الجنوب. وبالتالي فالتداخل بين المكونات الديموغرافية والجغرافية لما يعرف الآن بالأردن وفلسطين، كان يؤسس في الواقع لنمط آخر من العلاقات بين سكان المنطقة الجنوبية من سوريا الطبيعية من الناحية الجغرافية).
3 – (إن نجاح ثقافة الحياد والتوجس في السيطرة على الديموغرافيا الأردنية، جعل ثورة مثل تلك التي اختزلها النظام الأردني فيما عرف بهبة نيسان عام 1989 تفشل في تحقيق أهدافها، لأنها ظهرت وكأنها ثورة شرق أردنيين يختلفون مع نظامهم، في ظل ظهور حياد غير مسبوق للأردنيين من أصل فلسطيني. حياد جعلهم يظهرون منفذين جيدين للثقافة التي كرستها المخابرات عبر عشرين عاما، والتي كانت تفيد بأن عليهم أن يكونوا ضيوفا محترمين لا يتدخلون في الشأن الداخلي للأردن الذي ليس بلدهم؟!!! إلى أن رأى النظام الأردني أن بإمكانه تفصيل قوانين حقوقية وسيادية على مقاس هذه الثقافة المقيتة. فقد ساعد قانون الانتخاب الحالي في تكريس هذه الثقافة فجعل حتى الفلسطيني غير الحيادي يحس بأن إرادته في العمل السياسي محاربة).
4 – (يؤشر على ذلك بكل وضوح انتشار العنف في الأردن على نطاق واسع بسبب عدم وجود قضية كبيرة يهتم بها الشاب الأردني، فعبر عن نفسه من خلال هوياته الفرعية الضيقة بهذا العنف الذي أصبح يندلع لأتفه الأسباب، وفي مواقع يفترض أنها أبعد ما تكون تعرضا لسيادة وهيمنة هذا النوع من الهويات الشوفينية الضيقة، الا وهي الجامعات حيث الفئات المتعلمة والمتحضرة).
5 – (من الجدير أن نشير في هذا السياق إلى أن الدولة الأردنية الوظيفية رسَّخت وظيفيتها عبر تحالف ثلاثي، جمع الجهاز البيروقراطي المُكَوَّن من كبار موظفي الدولة الأردنية في الجيش والأمن والوزارات والمؤسسات المختلفة، وهو جهاز ذو ثقل شرق أردني، والقوة البرجوازية المتحكمة في مُكَوِّنات الاقتصاد الأردني من أصحاب صناعة ومال واستثمارات تجارية وخدمية ومصرفية متنوعة، وهو جهاز ذو ثقل فلسطيني، أما الركن الثالث لهذا التحالف الطبقي فهو جهاز المخابرات العامة الذي مثل الرافعة الأمنية التي كانت تمارس دور الحامي لهذا التحالف وصانع كافة السياسات التي تُبقي عليه تحالفا متحكما في الدولة ومرافقها، ومنفذا للدور الوظيفي لها، وهو الدور الذي التقت فيه مصالح ذلك التحالف مع مصالح الإمبريالية التي كان يُمَرِّر علاقاتِها في المنطقة من خلال هذه الوظيفية).
6 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 18).
7 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 18).
8 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 18 – 19).
9 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 19).
10 – (بتصرف من كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 19 – 20).
11 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 70 – 71).
12 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 71).
13 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 72).
14 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 23).
15 – (كتاب “الفكر السياسي في الأردن، تأليف “د. علي محافظة”، منشورات “مركز الكتب الأردني، الجزء الأول، عمان، 1990، ص 19).
16 – (كتاب “تاريخ الأردن المعاصر – عهد الإمارة 1921/1946″، تأليف “د. علي محافظة”، منشورات “مركز الكتب الأردني”، عمان، 1989، ص 139 – 140).
17 – (كتاب “إمارة شرق الأردن نشأتها وتطورها في ربع قرن 1921/1946″، تأليف “د. محمد أحمد محافظة”، منشورات “دار الفرقان”، عمان، 1990، ص 252).
18 – (كتاب “بلادنا فلسطين”، تاليف “مصطفى مراد الدباغ”، منشورات “دار الطليعة”، بيروت، 1973، الجزء الأول/القسم الأول، ص 24).
19 – (كتاب “تطور القضية الفلسطينية”، تاليف “د. رياض علي العيلة”، منشورات جامعة الأزهر، غزة، 1996، ص33).
20 – (كتاب “الفكر السياسي في فلسطين من نهاية الحكم الفلسطيني حتى نهاية الانتداب البريطاني 1918/1948″، تأليف “د. علي محافظة”، منشورات “مركز الكتب الأردني”، عمان، 1989، ص 6).
21 – (كتاب “فلسطين تاريخيا وعبرة ومصيرا”، تأليف “شفيق الرشيدات”، منشورات “دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، فرع مصر، 1968، ص 345).
22 – (كتاب “الحصاد المر: فلسطين بين عامي 1914 و1979″، تأليف “سامي هداوي”، ترجمة “د. فخري حسين يغمور”، منشورات “رابطة الجامعيين في محافظة الخليل”، 1982، ص 246).
23 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 40).
24 – (ورقة عمل مقدمة إلى المؤتمر الدولي الثاني لتاريخ الأردن الاجتماعي بعنوان “التحولات الاجتماعية في الأردن 1945/1970″، إعداد “سليمان موسى”، عمان، تموز 2000، ص 9).
25 – (بتصرف من كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 40 – 42).
26 – (دراسة بعنوان “التعليم والإنتاج في الأردن”، بقلم “عصام أحمد”، الدراسة منشورة في مجلة “دراسات عربية”، السنة الثامنة، العدد الأول، 1971، ص 7).
27 – (دراسة بعنوان “التعليم والإنتاج في الأردن”، بقلم “عصام أحمد”، الدراسة منشورة في مجلة “دراسات عربية”، السنة الثامنة، العدد الأول، 1971، ص 20).
28 – (كتاب “الحركة الطلابية الأردنية 19481998″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، عمان، 2000، ص 24).
29 – (كتاب “سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “دار أزمنة للنشر والتوزيع”، البرنامج الثقافي المشترك بين “البنك الأهلي الأردني و”أمانة عمان الكبرى”، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 41 – 42).
30 – (كتاب “دليل منظمات المجتمع المدني في الأردن”، تأليف “هاني الحوراني وآخرون”، من فصل بعنوان “المجتمع المدني في الأردن تطوره التاريخي بنيته ودوره الراهن”، بقلم “هاني الحوراني”، منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، عمان، 2000، ص 13).
31 – (كتاب “الحركة الطلابية الأردنية 19481998″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، عمان، 2000، صفحات من 17 – 30، بتصرف).
32 – (كتاب “الحركة الطلابية الأردنية 19481998″، تأليف “سامر خرينو”، منشورات “مركز الأردن الجديد للدراسات”، عمان، 2000، صفحات من 17 – 30، بتصرف).