على الناصية وفي كورنيش التجارة، أقفلت باب السيارة ونزلت، ومشيت خطوات صغيرة ووقفت تحت مظلة أبو ممدوح صاحب عربة الفول النابت، وبعد التأهيل والترحيب والتسهيل كانت الكفكيرة تلعب في الحلّة وتستخرج الكنوز، ووضع أبو ممدوح زبدية الفول أمامي والبخار يتصاعد من حبّاتها وشريحتين من الليمون، وعلى اليسار الملح المجبول بالكمّون وعلى اليمين سلّة من البلاستيك الشبك لوضع القشور، و(سمّي وكول)…
سوريا معشوقتنا الأبدية… بقلم آرا سوفاليان
على الناصية وفي كورنيش التجارة، أقفلت باب السيارة ونزلت، ومشيت خطوات صغيرة ووقفت تحت مظلة أبو ممدوح صاحب عربة الفول النابت، وبعد التأهيل والترحيب والتسهيل كانت الكفكيرة تلعب في الحلّة وتستخرج الكنوز، ووضع أبو ممدوح زبدية الفول أمامي والبخار يتصاعد من حبّاتها وشريحتين من الليمون، وعلى اليسار الملح المجبول بالكمّون وعلى اليمين سلّة من البلاستيك الشبك لوضع القشور، و(سمّي وكول)… وأبو ممدوح يصب المرقة مبكراً حتى تبرد ويعرف العيارات المتعلقة بكل زبائنه على التمام، كنت في مرمى مصابيح السيارات القادمة من جنينة التجارة، (مكشوف أشكرة)، وكالعادة لم أهتم، ووصلت سيارة فخمة جداً عرفتها من مصابيحها ولم أرى من بداخلها، وتذكرت شخص معين أعرفه جيداً ويعرفني أكثر يقتني مثلها، ومضت السيارة في سبيلها ولم أرى من بداخلها بسبب العتمة، واستطاع أبو ممدوح تجهيز المتممات مع إضافة الشطة الحمراء ماركة نار وشرار، ومددت يدي لأخذ زبدية المرقة فوضع رجل يديه على عيناي… على مبدأ احزر مين؟؟؟!!! فربطت الأمور ببعضها وتذكرت السيارة التي مرت بي وأبهرت مصابيحها عيناي، وتذكرت صاحبها الذي لا يوجد في دفتر مواعيده موعد أقرب من شهر… فقلت حتماً هو ولا أحد غيره، وتأكد من رائحة العطر التي يستعملها والتي استعملها أنا ولا نغيرها كلانا مهما حدث.
ـ أهلاً دكتور لقد استطعت بسرعة العثور على مكان لوضع سيارتك، وجئت الآن تضبطني بالجرم المشهود أنني أقف في وسط الشارع على عربة الفول.
ـ ليس ضبطاً بالمعنى الدقيق للكلمة ولكن مشاركة، فلقد رأيتك واشتهيت فجئت لهدفين، إلقاء التحية، وأكل الفول.
رحّب ابو ممدوح بالضيف بطريقة تفوق الطريقة التي رحب بها بي بعشرة أضعاف، وكان فطناً لأن هذه المعادلة صحيحة من وجهة نظره وغير صحيحة من وجهة نظر المرحب به.
تبادلنا حديث طويل لا يتعلق بالمهنة، تحدثنا عن عربات الفول التي كان تقف امام مدارسنا في مرحلة الطفولة واليفاع، فهذا ابو ممدوح وذاك ابن خالتي وابو عبدو وابو كاسم وأبو كاسر سنو، ومعهم بياع الايكسيلانس الذي كان يبيعنا الجوز هند بثلاثة ألوان، أبيض جوز هند سادة، وبني على شوكولا، وزهري على فريز وبطعم يذهب بعقولنا وأفئدتنا لدرجة أنه لا زلنا نعتقد ان هذا لن يتكرر أبداً، وآخرين زينوا لوحات طفولتنا، وكان اصرارنا على اعادة هذا الفولكلور الذي نحبه يمثل التعلق بالماضي والطفولة والأيام السعيدة التي خسرناها والى الأبد.
وفي معرض البحث عن استرجاع الهوايات عثرت على محل لبيع الفول والفتات بأنواعها في منطقة الفحامة فدخلت وجلست بين العمال والفعالة والمكنسيانية والأذنة وعمال الحدائق وورشات المحافظة بملابسهم الملوثة بالاسمنت والشحوم والزيوت والجبصين والدهان والتراب والعفاير، وكنت ولحسن الحظ أرتدي أبهدل بيجامة رياضة موجودة عندي وأبهدل اسبدرين، وجلست بين العمال الذين افسحوا لي مكان على طاولة الرخام الوسطى فجلست اشاركهم الحديث بعد مفتاح التعارف السهل وهو : السلام عليكم… وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته… ووضع أحدهم في يدي رغيف خبز اشتراه من فرن المجتهد الملاصق وقرب صحنه منيّ فقلت له سيصل طلبي في الحال… فقال لي: (والله العظيم لتمالحنا… حلفت بالله) … وأكلت لقمة من صحن الرجل وكنت أرى ملامح السعادة في عينيه، وكان بدون شك يرى ما أرى، ووصل طلبي وفعلت كلمة “على ذوقك” فعلها بأبو ياسر … حبات الفول الكبيرة والمنهكة في قعر الصحن وحبات الحمّص على الوجه، وفي القمة جبلة من الثوم والملح وفرمات البندورة والبقدونس والبصل، والكل يسبح في دائرة من الزيت وخل العنب ودبس الرمان ورشة بهارات (بتغوِّب القلب)… أما السرفيس فكان صحن شخطورة حجم وسط يحوي مخلل الخيار ومخلل اللفت ومخلل الفليفلة الحدة الخضرا يتوسطهم فحل بصل حلو …(وكول…وكول…وكول) ولا حاجة للتصليح لأن في كبجاية ابو ياسر كل الخير والبركة.
وفي الأعلى تلفزيون صغير قديم مربوط بفيديو سي يدي وضعت فيه فلاشة قال لي أبو ياسر انها تحوي كامل القرآن الكريم المرتل بأصوات متعددة … هذه الجلسة التي أحن اليها مرة كل شهر تساوي عندي كل الجلسات الأخرى، وتساوي عندي كل أجهزة المكتب وكومبيوتراته وطابعاته وسكنراته وتيليفوناته وفاكساته وايميلاته وكل شيء فيه وكل البرامج وكل الروشورات وكل الاجتماعات وكل الانكليز ولغتهم الباردة مثلهم، وأعتقد جازماً بأن هذه الجلسة في دكان أبو ياسر أجمل وأرفع شأناً… وأحرص في كل مرة أن أضع سيارتي بعيداً لكي لا يراها أحد وأرتدي أهركل بيجامة رياضة موجودة عندي وأهركل اسبدرين فأجلس هنا بين الناس الحقيقيين الذين يصر أحدهم على أن آكل لقمة من صحنه الى أن يصل طلبي … هذه هي الشام التي أحببتها بشوارعها وحاراتها وشعبها الطيب الأمين، هذا الحنين الى الماضي يحلق بي في سماء الحب والتألق الحقيقيين، وهو حب من نوع خاص يخصني أنا ويعرفه كثيرين غيري هو حب سوريا التي تنسمت هوائها وشربت مائها وكانت مسقط رأسي ورأس أبي، ومن هذه المقاربة فقط أعرف نار الحنين وشوق المغتربين ومنهم العائدين اليوم من ليبيا لمعانقة تراب سوريا وتقبيل أرضها… هؤلاء الذين لهم علينا حق الوعد بأن لا نكون السبب في تكبيدهم العناء والمشقة والاغتراب ومقارعة الموت خارج بلدهم مرة أخرى، أهلاً بعودتكم الى سوريا التي أحبتكم وأحببتموها وأحببتها معكم بشوارعها وحاراتها وأسواقها وناسها الطيبين… سوريا معشوقتنا الأبدية.
Ara Souvalian
arasouvalian@gmail.com