www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الفساد الأيديولوجي في بُنية الدولة الأردنية/أسامة عكنان

0

أفسدوا كل شيء فيك.. أفسدوا الهواءَ.. أفسدوا الترابَ.. أفسدوا الحاضرَ.. والمستقبلَ أفسدوه.. أفسدوا فيك زهرةَ الشباب.. أفسدونا فيك وأفسدوك فينا.. جعلوك أبعد عنا من أنفسِنا.. وأغشَى من السراب.. لكنا آمنا بك في زمن الردة.. وغذذنا السير نحوك.. ما انتظرنا حلولَ أجلٍ ولا انتهاءَ عدة.. فاقبل توبتنا.. احضن عودتنا.. ولك منا نزيف ألم نسكبه في “سبتة” حتى ترضى “المنامة”..

الفساد الأيديولوجي في بُنية الدولة الأردنية

أسامة عكنان
عمان – الأردن

أفسدوا كل شيء فيك.. أفسدوا الهواءَ.. أفسدوا الترابَ.. أفسدوا الحاضرَ.. والمستقبلَ أفسدوه.. أفسدوا فيك زهرةَ الشباب.. أفسدونا فيك وأفسدوك فينا.. جعلوك أبعد عنا من أنفسِنا.. وأغشَى من السراب..
لكنا آمنا بك في زمن الردة.. وغذذنا السير نحوك.. ما انتظرنا حلولَ أجلٍ ولا انتهاءَ عدة..
فاقبل توبتنا.. احضن عودتنا..
ولك منا نزيف ألم نسكبه في “سبتة” حتى ترضى “المنامة”..
     
مقدمة..
على نفسها جنت “براقش”، ومن فم الآثم تدينُه الكلماتُ..
فعلى قناة “الجزيرة” القَطَرِيَّة، وفي برنامج “الاتجاه المعاكس” المعروض يوم الثلاثاء 21 – 12 – 2010 حول دور الأجهزة الأمنية العربية في حماية الأنظمة، كان أحدُ المتحاورين، أو بتعبير أدق أحدُ “المتطاوشين”، ضابطَ مخابراتٍ أردني سابق، انحصرت مهمته في الدفاع عن الأجهزة الأمنية العربية، وعلى رأسها “دائرة المخابرات العامة” الأردنية..
من جهتنا، لا نظن أن ذلك الضابط ظهر على تلك القناة المثيرة للجدل، ليدافع على ذلك النحو العاطفي من الدفاع، عن دائرة المخابرات العامة في الأردن، كنموذج للدوائر الأمنية العربية، دون إذن من رؤسائه السابقين. أي أن ما قاله على الهواء مباشرة بلا شُبْهَةِ مَنْتَجَةٍ غيرِ بريئةٍ، أو تزييفٍ للأقوال، أو تحريفٍ عن المعنى المقصود، يمثل رأيَ وأيديولوجيةَ تلك المؤسسة الأمنية بلا شك، خاصة وأن أحدا من القائمين على تلك المؤسسة لم يعترض لاحقا على أي كلمة قالها ذلك الضابط المُفَوَّه، ولا تبرأ من أيٍّ من أفكاره التي تناقلها الناس عبر فمه ومن خلال كلماته.
فما الذي قاله ضابطنا الهُمام؟
لقد أعلن ذلك الضابط بالفم المليان، وبما لا يحتمل شكا أو تأويلا، في سياق دفاعه عن النظام في الأردن، وضرورة الاعتراف له بحقوقٍ غير عادية – وإن يكن بعباراته وأسلوبه الخاصين – أن الأنظمة العربية نوعان.. الأول هو النظام الذي ينشِئه الشعبُ بعد إنشاء الدولة، ما يجعل النظامَ خاضعا لإرادة من أنشأوه.. وأما الثاني فهو النظام الذي يُنْشِئُ شعبا ودولة، ما يجعل الحقوق والواجبات معكوسة، فيخضعُ المُنْشَأُ، وهو الشعب، لإرادة المُنْشِئِ، وهو النظام.. وضرب مثلا على هذا النوع الأخير من الأنظمة بـ “النظام الأردني”. حيث يجب بناء على هذا الفضل وهذه المِنَّة، أن تكون الشعوب في مثل هذه الأنظمة، والنظام الأردني من بينها بطبيعة الحال، جاهزة لرد الجميل إلى الأنظمة التي أنشأتها بعد إذ لم تكن، وذلك بتَقَبُّلِ سياساتها الأمنية.
لن نتوقف من كلام الضابط إياه عند ذلك الواجبِ الذي فرضَه هذا “الباشا” الصغير على الشعوب التي كانت مَيْتَةً فأحيتها الأنظمة، كما هو حال النظام الأردني كما صرَّح بذلك ضابطنا الهُمام. بل سنتوقف عند هوية وطبيعة هذا النظام الذي نشأ بطريقة مقلوبة ونشاز، لتكون بُنْيَتُه قائمةً على أسسٍ مقلوبة ونشاز، فكانت الأيديولوجية التي قامت عليها تلك الأسس والبُنى فاسدة من حيث المبدأ، مادام النظام لا يصح أن ينشأ قبل الشعب المقيم على إقليم، يُشَكِّل من خلال تواجده التاريخي عليه حدودَ الدولة التي يتم البحث بعد ذلك عن نظام سياسي يتولى قيادتها. ونحمد الله أن الاعتراف بهذه الطبيعة المقلوبة للنظام الأردني جاء على لسان ضابط متعلم ومثقف ومسَيَّسٍ قدمته تلك المؤسسة الأمنية المتغوِّلَة واجهة ليتحدث باسمها، حتى لا نتَّهم بأننا نضَلِّل أو نشكِّك أو نصطاد في الماء العكِر.
مع أننا في نهاية المطاف، لسنا لا ضد النظام في الأردن، ولا ضد الهوية التي أنشأها، بل نحن مدافعون عنهما وعن دورهما التاريخي الذي أصبح حقيقة واقعة، لن نكون من الغباء بحيث نعتقد أن السلامة تكمن في هدمهما، مادام بالإمكان إجراء بعض الجراحات التجميلية القادرة على تخليصهما من تداعيات النشازية في نشأتهما، لاستمرارهما بعد ذلك، وإثر تلك العمليات التجميلية، نظاما وطنيا وهوية وطنية.
كل ما في الأمر أننا نحاول تصحيح الوضع المقلوب، كي لا تُفْرَضَ علينا الحيثيات المغلوطة التي رافقت هذه النشأة المقلوبة، والتي يراد لنا أن نستسلم لها بمجرد قبولنا مبدأ التعايش مع هذا النظام، باعتبار ذلك الاستسلام مسألة لا مفر منها لذلك التعايش، وبوصف ذلك كله نتيجة حتمية للسياق التاريخي المقلوب الذي نشأت فيه الدولة والنظام، وكذلك الهوية.
إن السياق المقلوب الذي نشأت فيه “الدولة الأردنية”، عبر ظهورِ نظامٍ هو “النظام الملكي الأردني”، الذي راح يبحث لنفسه عن شعبٍ وعن أرضٍ ينشئ بهما دولة سماها “الدولة الأردنية”، استنادا إلى مرجعيةِ ثورةٍ لم تحرِّر أحدا عرفناها جميعا باسم “الثورة العربية الكبرى”!! جعل من الطبيعي أن تظهرَ خلال صيرورة الدولة، مجموعةُ عناصر تمثل شكلا مستفحِلا من أشكال الفساد الأيديولوجي في بُنية هذه الدولة. ونستطيع أن نتعقب ثلاثة عناصر شكلت مجتمعةً ركائز ذلك الفساد الأيديولوجي، ما أخرج الدولة الأردنية من دائرة كونها دولةً بالمعنى التاريخي، والزج بها في دائرة كونها دولةً بالمعنى الوظيفي. وهذه العناصر الثلاثة هي..
أولا.. الثورة العربية بصفتها ثورة لم تُحَرِر أحدا.
ثانيا.. الهوية الأردنية بصفتها نقيضا للهوية السورية.
ثالثا.. مؤسسة العرش بصفتها حاكمةً لا سيدةً فقط.
1 – الثورة العربية الكبرى بصفتها ثورة صغرى لم تُحَرِّر أحدا..
إن الثورة العربية التي انطلقت من مكة المكرمة في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، لم تأت جراء تراكم تاريخي في الحراك الجماهيري باتجاه التغيير الثوري، كما هو حال الثورات التي تُحًرِّرُ شعوبا وتُنْتِجُ حقوقا، والتي تترتب عليها بالتالي أنماطٌ جديدة من الشرعيات على أنقاض أنماطٍ سابقة ومترهلة منها، بقدر ما جاءت جراء قراراتٍ فوقية اتخذتها وتحركت في ضوئها “القيادة المكية” في ذلك الوقت، لتكون أشبه بانقلاب عسكري واسع النطاق، يتناسب مع ظروف تلك المرحلة وتلك الجغرافيا، مدعومة بقوة أجنبية استعمارية بامتياز، لإسقاط نظام سياسي، هو في أسوإ الأحوال، أقل سوءا وتدميرا ورهنا للمصير وللمستقبل، من الحليف الاستعماري الذي تم التعاون معه.
إلا أنها – أي تلك الثورة – كان يمكن لها أن تحقق بعضا من أهدافها التي أعلنت انطلاقها لأجلها، لو أنها لم تتحالف مع تلك القوة الاستعمارية التي هي “الاستعمار البريطاني”، الذي لا يمكن لأحد أن ينخدع بتوجهاته التي أعلنها في سياق بحثه عن حليف عربي يواجه به العثمانيين، والتي تمثلت في ادعاء حرصه الصادق على مساعدة العرب على تحررهم من السلطة العثمانية المتداعية، لإقامة دولتهم الحرة المستقلة الموحدة، في ظل بدء تبلور المشاعر القومية العربية وتناميها في تلك الحقبة من الزمن.
وإذا كان التحالف مع بريطانيا لتحقيق هدفٍ ما جاءت إلى المنطقة، لا هي ولا فرنسا، إلا للحيلولة دون تَحَقُّقِه في أي مستوى من مستوياته، هو في حد ذاته دليل على أن قادة تلك الثورة لم يكونوا في مستوى الوعي السياسي والتاريخي الذي يتطلبه تحقيق هدف قومي وحدوي عربي كبير كهذا، في ظل موازين القوى التي كانت سائدة في تلك المرحلة. فإنهم – أي قادة تلك الثورة – في استمرارهم في التحالف غير المفهوم وغير المُبَرَّر مع بريطانيا، بعد أن اكتشفوا حقيقة توجهاتها الاستعمارية للمنطقة هي وفرنسا، عقب انكشاف تفاصيل اتفاقية “سايكس بيكو”، التي تقاسَم الفرنسيون والبريطانيون بموجبها المنطقة العربية التي كانت وحدتُها والتي كان تحريرُها هدفَ خروج القيادة المكية على السلطة العثمانية أساسا، وبعد انكشاف تفاصيل “إعلان بلفور” الذي منحَ حقوقا ليهود العالم في فلسطين برعاية بريطانية، في غفلة من تلك القيادة..
نقول.. إن استمرار التحالف قائما بين قيادة الثورة العربية وبريطانيا بعد تجلي كل ذلك الخذلان والخداع البريطانيين، وعدم تغيير الخنادق والتحالفات بما يتناسب مع هذا الكشف الخطير، يكشف عن خلل كبير لا في الوعي فقط، بل في التوجهات والأهداف وربما في النوايا المسبقة أيضا. وهو ما نعتبره واحدا من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها تلك الحركة العربية المبكرة ضد العثمانيين، فأفقدتها الكثير من مشروعيتها ومرجعيتها. فكان أول مظهر من مظاهر الفساد الأيديولوجي في بُنْيَة الدولة الأردنية جراء ذلك، هو ارتكاز مشروعيتها إلى مرجعية هذه الحركة التي سمِّيت تجاوزا “ثورة عربية” أُريدَ لنا أن نقتنع بأنها “كبرى”، مع أنها كانت في واقع الأمر “صغرى” و”صغرى جدا”، بما آل إليه حال تحالفاتها مع القوة الاستعمارية البريطانية في المنطقة ماضيا، دون محاولة هذه الدولة الناشئة الخروج من العباءة البريطانية حاضرا.
في واقع الأمر رغم كل الزخم الذي تنطوي عليه الفكرة التي قامت عليها تلك “الثورة؟!”، ألا وهي فكرة التحرر من الظلم والاستبداد الذي كان “عثمانيا” في تلك الفترة، وإنشاء الدولة النواة للوحدة العربية عقب بدء تبلور الإحساس القومي العربي، في إقليمي الجزيرة والهلال الخصيب العربيين، إلا أنها لم تعد تملك في الواقع، وبعد كل الأخطاء التي رافقتها منذ لحظة تحالفها مع الاستعمار البريطاني ضد العثمانيين، وبعد استمرار تحالفها معه وهي تكتشف أنه يخدعها ويتآمر عليها وعلى العرب الذين ادعت أنها تُمَثِّلُهم، سوى الفكرة والفكرة فقط. ولا مرجعية لها خارج نطاق هذه الفكرة.
إذ لا يمكن لوطني أردني أو عربي أن يعتبر التحالف مع البريطانيين ضد العثمانيين، أمرا مرجعيا يُستَنَدُ إليه في البناء الأيديولوجي للدولة الأردنية أو لأي دولة عربية. فالتحالف مع استعمار قوي متطلع انكشف خداعه وتضليله وتآمره، ضد ما قد يكون لدى البعض استعمارا مريضا يتهاوى، هو بكل تأكيد جهل خطير بمعطيات السياسة الدولية وحقائق التاريخ. كما لا يمكن لوطني أردني أو عربي أن يَعتبر السذاجة السياسية، باستمرار التحالف مع من كشَّر عن أنيابه ليستولي على الأرض العربية، ويتقاسمها مع شركائه الاستعماريين الآخرين، مستخدما العرب وثورتهم تلك دروعا متقدمة لتحقيق أهدافه، مرجعيةً يُعْتَمَدُ عليها في أي حراك وطني تحرري وحدوي معاصر، ويُسْتَنَدُ إليها في تأطير البناء الأيديولوجي للهوية الوطنية وللدولة القومية. والتجارب القائمة على فكرة الاستعانة بعدو قوي له في أرضنا أطماع معروفة وواضحة، للتخلص من عدو ضعيف يتهاوى، ليست عنا ببعيد.
وعندما يحاول أي نظام يقود الدولة الأردنية، أن يقيمَ مرجعيةَ مشروعيته على كامل الفضاءات التاريخية والسياسية للثورة العربية، بكل الانحراف والفساد الذي يُغَلِّف معظم تلك الفضاءات، ويُلْزِمَ بها الشعبَ الذي أنشأه، ويُخْضِعَ لها الدولةَ التي أسسها، فهو في واقع الحال يؤسس للفساد والانحراف والتخاذل منذ البداية. وإذن، فنحن في سياق تصحيح أول خللٍ بنيوي في أيديولوجية الدولة الأردنية، على صعيد العلاقة المرجعية بين نشأتها كدولة، وبين الثورة العربية التي أنشأت النظام الذي أنشأها، لا نستطيع أن نرجع في هذه “الثورة” إلا إلى فكرتين اثنتين هما..
أولا.. فكرة التحرر والانعتاق بكل أشكالهما الداخلية والخارجية، وهي الفكرة التي نادت بها وانطلقت لأجل تحقيقها الثورة العربية، عندما أطلق الشريف “الحسين بن علي” الرصاصةَ الشرارةَ من شرفة قصره في مكة المكرمة. وهو ما يعني أن أي توجه سياسي للنظام الأردني يتعارض داخليا أو خارجيا مع مضامين فكرة تحرر وانعتاق الشعب الأردني بكل الفضاءات المتصورة لتلك الفكرة، هو توجه مرفوض، لأنه يكرس الفساد الأيديولوجي في بنية الدولة، بتعارضه ابتداء مع الجوهر الفكري لرسالة الثورة التي أنشأت ذلك النظام، والتي أقامت تلك الدولة. وهو مع الأسف ما مارسه النظام الأردني بكل أدواته وأجهزته ومؤسساته وما يزال يمارسه حتى الآن. لذلك فإن أول مظهر من مظاهر تصحيح الخلل في البناء الأيديولوجي الفاسد للدولة الأردنية يجب أن ينصب باتجاه تحرير الشعب الأردني من كل أشكال القمع والتغييب والظلم والحرمان.
ثانيا.. فكرة الوحدة العربية المنطواة في الأهداف المُعلنة للثورة العربية، على الرغم من عدم ممارسة قادة هذه الثورة أو ورثتها، أي سياسة تؤشر على ذلك منذ عقود مضت، بل قد بدا منهم ما يؤشر على عكس ذلك تماما، وفي أكثر من منعطف تاريخي. ولأن الدولة الأردنية هي كل ما تبقى من إرثٍ سياسي عربي يعلن تَمَسُّكَه بمرجعية الثورة العربية، فإنه لا يصح للنظام الأردني التمسك بهذا الادعاء ومخالفة مضمونه في جانبه القومي. إن النظام الأردني الذي يعتبر تلك الثورة مرجعيةَ مشروعيته، مُلْزَمٌ بأن يكون قوميا ووحدويا على الصعيدين النظري والعملي على حد سواء، كي يعود الانسجام إلى البناء الأيديولوجي للدولة الأردنية، أما أن يقود النظامُ الدولةَ الأردنية وفق سياسات تعزلها عن فضائها القومي، وتفصل أداءها السياسي عن متطلبات حراكها الوحدوي العربي، فهو نظام مُكَرِّسٌ للفساد الأيديولوجي ومدافعٌ عنه، ومتناقضٌ مع نفسه إن هو أعلن تمسكه بتلك الثورة كمرجعية لمشروعية الدولة الأردنية. 
إن ما مارسته تلك الثورة من أخطاء، وما وقعت فيه من انحرافات، حادت بتاريخها كلِّه عن فكرتها التي انطلقت لأجل تحقيقها، لا يمكنها أن تكون مرجعياتٍ للأردنيين ولا بأي شكل من الأشكال، مادامت تلك الأخطاء والانحرافات، هي التي حرمت الشعب الأردني بل والشعوب العربية الأخرى، التي كان تحريرها وانعتاقها، والتي كانت وحدتها القومية أهدافا، من هذا التحرر والانعتاق ومن تلك الوحدة.  
2 – الهوية الأردنية بصفتها نقيضا للهوية السورية..
إن الشعب الذي لا يعي هويتَه، ولا يعرف أبعادَها ومكوناتِها، ولا كيف تكونت أو تشكلت في الصيرورة التاريخية، هو شعب لم تتكامل فيه بعدُ صفة “الشعب”، لأنه بافتقاره إلى ذلك الوعي وإلى تلك المعرفة، لا تكون هويته قد تكاملت في الواقع الموضوعي. إن هناك قواعدَ وأصولاً يصنعها الحراك التاريخي للشعوب والمجتمعات وهي تحفر في أخاديد الزمن مُكَوِّنات هوياتها التي ستغدو عند استشعارها والإحساس بها جزءا لا يتجزأ من “أناها” الجمعي، ومن “الأنا” الفردي لكل فرد من أفرادها. الهوية الوطنية لأي شعب تتشكل – في الوضع الطبيعي – من الأسفل إلى الأعلى، عبر تطور مديد للبُنى المجتمعية التي تكتشف نفسَها ووحدتَها وتجانسَها مع مرور الزمن، فتستشعر ضرورة التعبير عن نفسها في إقليم جغرافي لإقامة الدولة والنظام داخل حدوده، والتي هي – أي الإقليم والدولة والنظام – المُكَوِّنات الحديثة للهوية الوطنية.
الهوية الوطنية الأردنية لم تتكون ولا تشكلت على هذا النحو التراكمي الطبيعي، بل هي تشكلت على نحو معكوس، فجاء ظهورها في الواقع من الأعلى إلى الأسفل. أي أن هناك فئة اعتبرت نفسها “النظام” المُفترض الذي أفرزته تداعيات “الثورة العربية” بكل الأخطاء التي تلت انطلاقتها والتي أشرنا إليها سابقا. وراحت هذه الفئة “النظام” – بعد فشل مشروعها الذي تزعم أنها انطلقت لأجله، وهو المشروع العربي الوحدوي في إقليمي الجزيرة والهلال الخصيب – تبحث لنفسها عن إقليم تقيم عليه “دولة” أو بتعبير أدق “بقية دولة”، وعن “شعب” أو بتعبير أدق عن “مشروع شعب” تقيم به تلك الدولة. فظهرت الدولة وظهر شعبها داخل الإقليم المختار بمساعدة الحليف الاستعماري المهيمن آنذاك، ألا وهو “بريطانيا”، وكأنها كلها إنجاز لذلك “النظام” الذي افترض من هذا المنطلق وعلى أساسه، أنه المالك الحقيقي لهذه “الهوية” لأنه صانعها، وبالتالي فهو صاحب الحق في تحديد مُكَوِّناتها وتغييرها وتطويرها وإضافة مُكَوِّن لها هنا وإسقاط مُكَوِّن من مكوناتها هناك، وذلك بحسب ما ينسجم مع مصالحه التي راحت تتكون بعيدا عن مصالح هذه الدولة المفاجئة.
ولأن “الهوية الأردنية” نشأت على ذلك النحو وبتلك الطريقة، بعيدا عن وجود وعي حقيقي بها وعن تبلور ضمير جمعي يستشعرها، فلم يكن من الصعب التلاعب بها، لأن هذا الشعب كان في الواقع ينتظر من نظامه الذي صنعه، أن يشرح له مُكَوِّنات هذه الهوية، وكيف يريدها أن تكون ليكونَها، فأصبح من السهل أن يتلون الأردنيون بالألوان التي راح يفيض بها من وقت لآخر نظامُ دولةٍ أُنْشِئَت ليؤدي بها ذلك النظام الدور الوظيفي المنوط به.
كان ذلك هو بداية الفجوة في طبيعة الهوية الأردنية، وفي طبيعة علاقتها مع عناصر الدولة الأخرى. وراحت هذه الهوية ومكوناتِها تتغير، بناء على دورٍ وظيفي محددٍّ أُنْشِئَت هذه الدولة لأجله. فلم يعد “الأردنيون” بعد سلسلة الشروخ والإضافات والإنقاصات التي اعترت هويتَهم لأسباب غير منطقية ولا طبيعيةِ التراكم، يعرفون جوهر تلك الهوية ولا حقيقتها، فراح كل فريق منهم يبحث عن مخرج لأزمة الهوية لديه في اختلاق “هويات” فرعية وقاصرة وبدائية وضعيفة، ساعد النظام على دعمها وإبرازها، لأنه رأى فيها عبر حقبةٍ دامت خمسين عاما أنها أضمن لاستمرار هيمنته على هذا الشعب الذي اعتبر نفسَه مالكَه بعد أن اعتبر نفسَه أولا وقبل كل شيء صانعَه، بعد إذ لم يكن موجودا من قبل بشكله ذاك وبطبيعته تلك.
فالإقليم الجغرافي المسمى “الأردن” والتجمع البشري المسمى “الشعب الأردني”، لم يكونا موجودين على أرض الواقع ولا بأي مستوى من مستويات التَّكَوُّن قبل عام 1917، وهو عام الاحتلالين البريطاني والفرنسي لبلاد الشام. وعندما قرر البريطانيون أن تكون هناك دولة يسكنها “شعب” ذو مواصفات محددة ليحكمهم “النظام” الذي جاء مرافقا لهم من الحجاز باحثا عن بقية دولة وعن مشروع شعب لأداء دور وظيفي محدد فرضته طبيعة المنطقة في ضوء كل من “اتفاقية سايكس بيكو” التي رسمتها نهاية معارك الحرب، و”إعلان بلفور” مرتقب التنفيذ، بدأت تتبلور شيئا فشيئا عناصر “الهوية” التي يجب أن تتكوَّن مرافقة لظهور “الدولة” و”الشعب” المستهدفين.
وهكذا ظهرت “الهوية الأردنية” لتكون هويةَ تَجَمُّعٍ بشري من أبناء بلاد “الشام”، لم تكن لهم فيما مضى أي خصوصية داخل هذا الإقليم، فهم شاميون، أو سوريون، فيما كانت قبائل البدو المنتشرة في المنطقة تتنقل بحرية، عابرة كل المساحات الممتدة من بادية الشام إلى العراق إلى شمال نجد إلى صحراء النقب دونما أدنى شعور بالانتقال من دولة إلى دولة، أو من أقليم إلى إقليم، أو حتى بتصور الانتقال إلى ربوع قوم يختلفون في هويتهم وطبيعتهم وأصولهم وانتمائهم عنهم!!
ولقد كانوا جميعا يُنسبون – شأنهم في ذلك شأن كل أبناء إقليم بلاد الشام – إلى مدنهم إن كانوا أهل حضر، وإلى قراهم إن كانوا فلاحين، وإلى مضاربهم إن كانوا بدوا، ولا يعرفون لأنفسهم تقسيمات إدارية غير تلك التي حكمتهم قرونا طويلة إبان الحكم العثماني، والتي كانت تتداخل فيها المناطق في إقليم الشام تداخلا يجعل “إربد” و”صفد” منطقة إدارية واحدة، و”نابلس” و”السلط” منطقة واحدة، و”الكرك” و”الخليل” منطقة واحدة.. إلخ.
وجد هولاء الشاميون – الذين حاصرتهم حدود الإقليم “الأردني” المرسوم حديثا – أنفسَهم فجأة “أردنيين” داخل إقليم لم تكن تظهر لحدوده التي رُسِمت بعد عام 1917، أي ملامح قبل ذلك التاريخ. كان هذا الشعب هو “الشعب الأردني”، وكان هذا الإقليم هو حدود “الدولة الأردنية”، وكانت الهوية من ثم هي “الهوية الأردنية” التي لم يجد “الأردنيون” في ظهورها المفاجئ على هذا النحو، ومنحها هذا الاسم، وإلباسهم إياها بتلك الطريقة، ومحاصرتهم بها داخل هذا الإقليم، أي مُسوِّغ لحرمانهم من حق اعتبار أنفسهم أولئك الجمع من الناس بانتماءاتهم وقضاياهم التي كانت لهم قبل أن يكتشفوا فجأة أنهم “الأردنيون”.
إن الواقع والتاريخ ينبئانا عن الكثير من الأمم والشعوب بل والهويات التي نشأت وتكونت بطريقة غير منسجمة مع المنطق وبقوة خارجية قاهرة، ومتعارضة كل التعارض أحيانا مع حيثيات العدالة الإنسانية. فالأمتين الأميركية والأسترالية – مثالا لا حصرا – قامتا على إبادة شعوب وحضارات بأكملها. ومع ذلك فلا أحد يعتبر أن إعادة الأمور إلى نصابها، وإقامة العدل التاريخي، وإحقاق الحق في تلك السياقات، إنما يكون بالعودة إلى الوراء، وبإسقاط ما بُني على الباطل، لأن ذلك في مستويات التغير والتطور الحاصلة انبناءً على تلك الأحداث التاريخية الدرامية، وصل إلى ما يستحيل معه أي شكل من أشكال التراجع إلى الوراء، لا عمليا ولا منطقيا.
فالخطأ عندما ينتقل به الزمن إلى مستوى من التكرُّس المؤثر على مجموعة من العناصر والبيئات تأثيرا وجوديا عضويا، وعندما ترتبط به حياة ملايين البشر الذين لا ذنب لهم في مستويات الظلم التي رافقت الحدث التاريخي التراجيدي، يغدو الصواب أن نتعامل معه كما هو، مع محاولة ما في وسعنا لتحريره من مخلفات ذلك الخطأ بما يخدم البيئة والمحيط والعدالة والمنطق. ماذا يعني هذا على صعيد ما نحن بصدده من حديث عن الهوية الوطنية الأردنية؟
من الناحية التاريخية فإن “الهوية الوطنية الأردنية” ومثلها “الهوية الوطنية الفلسطينية” على سبيل المثال لا الحصر، نشأت وتكونت وتطورت في سياقات غير منطقية وغير معبرة عن صيرورة تاريخية طبيعية كما مر معنا. كما أنها أدت في ضوء الظروف التي نشأت فيها وتطورت من خلالها إلى إنتاج معادلات سياسية غير وطنية وضارة بأهل الجغرافيا المسماة “الأردن” وبالإقليم “الشامي” كاملا، متيحة الفرصة لقيام “النظام” الذي أنشأ تلك الهوية ورعاها، بأداء دوره الوظيفي المنوط به، وهي من هنا، أي الهوية الأردنية، كانت ضحيةً استخدمت استخداما لا أخلاقيا ولا وطنيا لخدمة مصالح فئة محددة، مصالح لا تمت لا من قريب ولا من بعيد لمصالح المادة البشرية لتلك الهوية، ألا وهم من أصبحوا بموجبها يسمون “الأردنيين”.
لكن هذه الهوية الوطنية رغم كل الاختلالات التي رافقت ظهورَها وتَشَكُّلَها، ومع كل الاستخدامات والتوظيفات غير الوطنية لها من قبل “النظام” الذي أنشأها، أصبحت حقيقة واقعة لا يمكن المطالبة بالتراجع عنها لتصحيح الأساس الذي قامت عليه، فهذا أمر يتعارض مع المنطق ومع طبيعة الأشياء، ومع مقتضيات العدالة والتطور بكل معانيها. فلقد أصبحت هناك حقيقة مُكَرَّسَة لا مجال للتراجع عنها هي “الهوية الوطنية الأردنية”، تعاني من كل القروح والجروح التي سببها لها “نظام” عرف كيف يستغلها ويستخدمها استخداما ما يزال مردوده السلبي ظاهرا للعيان. وأمام هذه الحقيقة فليس أمامنا بصفتنا “وطنيين أردنيين” سوى أن نعمل على إعادة وضع هذه الهوية في سياقها المنطقي والموضوعي، عبر تحريرها من كل الاختلالات والإساءات والتوظيفات غير الوطنية التي عانت منها منذ نشأتها وبدء تكوُّنها في مطلع القرن الماضي.
وإذن فكيف يمكننا أن نتعاطى مع هذه “الهوية” على النحو الذي يقويها ويفعلها ويطورها وطنيا وقوميا، ويُمَكِّنُنا من تحريرها من أن تكون أداة في أيدي من يريدون للأردن أن يبقى بحدوده وشعبه، كما كان منذ نشأ وتأـسس “دولة وظيفية” بكل ما لكلمة “دولة وظيفية” من معاني ودلالات، بعد أن أصبحت هذه الهوية أمرا واقعا وحقيقة من حقائق التاريخ المعاصر التي لا يمكن التراجع عنها أو مناكفتها أو مقاومتها؟ في الواقع فإن “الهوية الوطنية الأردنية” تعرضت لعملية تشويه جعلت الأردنيين يحتارون في طبيعة دورهم الوطني والقومي المنسجم مع جوهر هويتهم تلك. ولقد انصب هذا التشويه نحو نقطتين أساسيتين كلاهما مدمر للهوية الوطنية الأردنية ومغَيِّب لها عن ساحة الفعل حتى لأجل نفسها ومصيرها ومستقبلها وحقوق أبنائها.
تمثلت النقطة الأولى في ذلك الفصل الفاجع الذي تم تكريسه بين من أريد له أن يكون “فلسطينيا” مستضافا على أرض “الأردن” بصورة مؤقتة قد تصل إلى ألف عام، ومن الأفضل له أن يحترم أصول الضيافة ويتجنب التدخل في أمور هذه الدولة، مع أنه أريد له أن يكون شريكا كاملا في كل ما عدا إدارتها والمشاركة في حراكها السياسي. ومن أريد له أن يكون هو وحده “الأردني” المضيف الذي عليه أن يعرف أن علاقته بفلسطين التي نشأت مثل الأردن بشكل نشاز ومقلوب، وبالفلسطيني الضيف الذي نشأ مثل الأردني بالنشازية واللامنطقية نفسيهما، ليست أكثر من التعاطف والدعم المعنوي.
لقد تم خلق ثقافة “التوجس” و”الحياد” بين من أريد له أن  يكون “فلسطينيا” وفقط، ومن أريد له أن يكون “أردنيا” وفقط أيضا، الأول يتوجس خيفة من الثاني على هويته التي راح يخاف عليها من هبة الهواء، في تعبير لاواعٍ عن كل معاني انعدام الثقة في هويةٍ يعلم لا وعيه ظروفَ نشأتها غير الطبيعية، والثاني محايد إلى حد سلبي إزاء ما يحدث في الأردن، بعد أن اقتنع هو الآخر بأن هذه ليست أرضه ولا هذا الوطن هو وطنه، وأنه بالفعل مجرد ضيف قد يكون ثقيلا إذا تجاوز حدود اللياقة وتدخل فيما لا يعنيه، بعد أن أُفْهِم أن هويته إنما هي تلك الهوية المقدسة الشهيدة “الهوية الفلسطينية”.
ولأن هذه الثقافة – في ظل الحقيقة التي تؤكد على أن كل أكاذيب التاريخ لا يمكنها أن تُشْعِرَ الفلسطيني أو الأردني بأن هناك فوارقَ حقيقيةً بين هويتيهما وقضاياهما وحقوقهما وواجباتهما تجاه الأردن وفلسطين، بل وتجاه الأمة العربية كلها، يمكنها أن تبرر وقوف أيٍّ منهما على الحياد في قضايا الآخر ونضالاته من أجل حقوقه التحررية في فلسطين والمطلبية في الأردن – لم تكن قادرة على تحقيق الغاية منها أو النجاح في إحداث الشرخ المطلوب بين مُكَوِّنَي الهوية الواحدة في الأردن وفلسطين تمريرا للدور الوظيفي للنظام عبر الدولة التي أنشأها وباستخدام الشعب الذي كونه، لمجرد أن تم إلقاء طعم “الهوية الجديدة” أمام من أريد لهم أن يكونوا “أردنيين” وفقط، فقد تدخل النظام بأجهزته الأمنية وأجهزة تنشئته الاجتماعية عبر نصف قرن من الزمن، وفعل كل ما يستطيعه ليُجَذِّرَ هذه الثقافة، إلى أن غدت هذه الثقافة على الصعيد الاجتماعي الشامل ثقافة تكاد تكون مهيمنة. إنها مرة أخرى ثقافة “حياد الأردني الفلسطيني” و”توجس الأردني غير الفلسطيني”، لتصبح قضايا الأردنيين غير موحدة ولا متجانسة ولا متحالفة، وليصبح الشعب شعبين، ولتصبح الوحدة الوطنية لغة غريبة لا تُقْرَأ إلا تحت عنوانِ تناحرِ هويتين كلاهما نشأ جراء كذبة تاريخية ومؤامرة استعمارية، في مواجهة من استغل الطرفين معا خدمة لمصالحه وتمريرا للعلاقات الوظيفية التي يمثلها في المنطقة.
ولأن النقطة الأولى ما كان لها أن تتحقق، ولا أن ينجح النظام في تكييف الواقع الأردني ليتعاطى معها بعد أن تتجسَّد فيه باعتبارها مُكَوِّنا من مكونات بنية المجتمع الأردني، إلا بإحداث شرخ آخر أشد ضررا وأكثر بدائية وتراجعا من شرخ “الأردني – الفلسطيني”، ألا وهو الشرخ “العشائري” المقيت داخل المكون “الشرق أردني” لهذه الهوية، فما كان منه إلا أن راح يُعَمِّق هذه النزعة العشائرية. لقد أدرك النظام في سياق إثبات جدارته في أداء الدور الوظيفي المنوط به، أن نجاح خطتِه في إحداث الشرخ الكبير الأول، يحتاج إلى تغذيتها بإحداث ذلك الشرخ على صعيد المُكَوِّن الشرق أردني للهوية الوطنية الأردنية، وهكذا كان. وراحت تتعمق شيئا فشيئا النزعة العشائرية بأكثر أشكالها عنصرية وشوفينية وفراغا في الدلالة والمضمون، بعيدا عن إحساس الجميع بأنهم في خندق معاناة وألم واحد، تحت رحمة نظام عرف كيف يستخدم الجميع ويستغل الجميع ويغيِّب الجميع ويجر الجميع إلى الهاوية.
ولكن، غاب عن بال النظام أن النزعة العشائرية، هي في ذاتها شكل من أشكال التعبير عن “هوية ضيقة فرعية شوفينية عنصرية استعلائية، ممعنة في ضيقها وفرعيتها وشوفينيتها واستعلائها”، وهو ما يبدو أن النظام لم ينتبه إليه وهو يعمل على مدى نصف قرن من الزمن على تكريسها – أي العشائرية – كوسيلة لإنجاح خطته في تقسيم الشعب الواحد إلى شعبين، وفي فصل قضية الشعب الأول عن قضية الشعب الثاني.
إن عدم انتباه النظام إلى المردود السلبي لتكريس النزعة العشائرية بشكلها ذاك، جعله يقع تحت وطأة تداعياتها ومضاعفاتها، عنفا دمويا يتفاقم في المجتمع الأردني منذرا بخطرٍ محدقِ لا تبدو لنهاياته آفاقٌ مطمئنةٌ في ظل عدم الرغبة في وضع اليد على أسبابه الحقيقية التي أدت إليه، لأنها أسباب ستُذَكِّرُ النظام بالجريمة التي ارتكبها في حق شعبه، عندما طعنه بكل معاول التقسيم والتجزيء، فقط ليقوم بأداء دوره الوظيفي على أكمل وجه، خدمةً لمنظومة المصالح الكومبرادورية والإمبريالية في المنطقة، عبر الحالة الأردنية التي تم تشويهها لتستسلم وهي تؤدي هذا الدور النشاز غير المتناسب لا مع جوهر الشعب الأردني ولا مع طبيعة وحقيقة الهوية الأردنية، بعد أن أصبحت هذه الهوية إنجازا تاريخيا يجب الحفاظ عليه وتفعيله لخدمة قضايا الأردنيين وقضايا الأمة العربية.
وإذا أضفنا إلى سياسة تكريس النزعة العشائرية الشوفينية الضيقة تلك على مدى عقود من عمر الأردن، حالة الفساد والاستلاب والتغييب والتهميش التي عانى منها الأردنيون عموما، ومن كُذِبَ عليهم بإقناعهم بأنهم وحدهم أصحاب هذا الوطن، وبأنهم وحدهم مادة هذه الهوية خصوصا، لَفَهِمْنا على الفور أن الأردني الذي أُتْخِمَت روحُه وأتخم ذهنه بفضاءات العشائرية الضيقة، لم يجد غيرها مُعَبِّرا عن ذاته وعن قضاياه، ولا ملجئا سواها يدافع عن أمنه المفقود وعن حقوقه المهدورة من قبل من شوهوه أنفسِهم، بعد أن نظر حوله ليجد نفسه معلقا في فراغٍ سرقه فيه كل هؤلاء الذين كذبوا عليه لمدة خمسين عاما بأنه صاحب الوطن.
لقد اكتشف من أريد له أن يكون أردنيا وفقط، أن المسألةَ لم تكن أكثر من لعبة قذرة وخدعة مريرة حيكت ضده، ليساعد من خدعوه وضللوه من حيث يدري أو لا يدري على سرقته ونهبه بمشروعية حمايته والدفاع عن هويته التي يتهددها خطر الاندثار، بعد أن ساهم بتوجسه الدائم الذي تشربه ثقافة واعتنقه عقيدة، من شقيقه الأردني الآخر، على تعبيد الطريق أمامهم، لتمرير كل السياسات الرعناء ذات الأبعاد الوظيفية التي استخدمته أسوأ استخدام.
ولو أنه ألقى نظرة إلى الأعلى قليلا لوجد أن هؤلاء الذين صنعوا منه تلك الحالة النشاز ليقوم بذلك الدور النشاز الحامي لمصالحهم، لم يعيشوا حالته ولا آمنوا بها ولا صدقوها، لأنهم كانوا هناك حلفاء متوحدي المصالح، التي جعلت البيروقراطية الوظيفية ذات الثقل “الشرق أردني””، تتحالف دونما أدنى تعارض في تلك المصالح مع الكومبرادورية الرأسمالية والتجارية ذات الثقل “الفلسطيني”. بينما الأردني والفلسطيني في القاعدة المسحوقة كانا وقودا حيا للمحرقة التي زُجّ فيها بجميع الكادحين من الطبقة الدنيا بعد أن غابت الطبقة الوسطى التي كانت فيما مضى صمام أمان واستقرار في هذا المجتمع.
انطلاقا من كل ما سبق يجب التأكيد على أن الهوية الوطنية الأردنية هي هوية حية وديناميكية، وهي الرداء الذي يتدثر به كل مواطني هذه الدولة من “شرق أردنيين” و”فلسطينيين” على قدم المساواة، وأن هذا الوطن هو وطن الجميع بلا أدنى اعتبار لتلك التفريقات التي كرسها النظام الوظيفي عبر عقود مضت من الزمن. وأن على كافة الهويات الفرعية الضيقة أن تختفي من حياة الأردنيين، وذلك عبر العمل الجاد على إعادة المواطن الأردني إلى هويته الأم، بجعله يعيشها قضية أساسية يعمل من خلالها على التحرر والانعتاق وعلى استعادة كافة حقوقه المسلوبة، سواء كان السالب احتلالا اغتصب الأرض، أو نظاما اغتصبت الحرية والحق والحياة الكريمة.
وإنه على هذا الأساس من الفهم العميق لنشأة وتطور وحقيقة ومكانة ودور ورسالة “الهوية الوطنية الأردنية”، يجب أن تقوم فلسفةٌ جديدة لمعنى “وحدة الصف الوطني”، تستند إلى رفض أي محاولات لفرض معاني ضيقة للهوية الوطنية، تفصل بين مُكَوِّنات هذا الشعب بأي شكل من أشكال الفصل التي تحول بين تلك المكونات وبين النضال المشترك على قاعدة المواطنة، في مواجهة خصم مشترك استلب وانتهك حق الجميع، ألا وهو التحالف “الكومبرادوري البيروقراطي” الذي تمثله دائما تلك الحكومات التي ما فتئت تُنَفِّذ عبر قيادتها لهذا البلد أرضا ومواردا وشعبا، الدور الوظيفي نفسَه الذي تأسس ونشأ لأجله منذ مطلع القرن الماضي.
3 – مؤسسة العرش بصفتها حاكمة لا سيدة..
لا خلاف بين الأردنيين على “مؤسسة العرش” من حيث كون هذه المؤسسة تمثل قمة الهرم السيادي في البلاد. ولا خلاف على أن المرجعية المستندة إلى “آلـ بيت” الرسول صلى الله عليه وسلم، تمنح الأردن من بين كل الدول العربية، ميزةً رمزيةً، وصمامَ أمانٍ جامعٍ لا مشتِّتٍ، وموَحِّدٍ لا مفرقٍ. إلا أن الأمانة التاريخية والالتزام الأيديولوجي يحتمان أن تعلن بوضوح أن هذه المرجعية قد اسْتُغِلَّت أبشع استغلال من قبل التحالف الكومبرادوري البيروقراطي العامل على الحفاظ على مصالحه، عبر تمرير العلاقات الإمبريالية في المنطقة من خلال الحالة الأردنية والدور الوظيفي المناط بها، إلى الحد الذي تورَطت فيه “مؤسسة العرش” نفسُها في تبني مصالح ذلك التحالف الطبقي والدفاع عنها، لتبدو كل مظاهر مواجهة الحكومات الأردنية والنضال المطلبي في مواجهتها، وكأنها مواجهةٌ لمؤسسة العرش ونضالٌ ضدها، لم تتمكن هذه المؤسسة عبر عقود طويلة من وجودها وتطور خبراتها، من تحرير نفسها من تبعاته أو من النأي بنفسها عن تداعياته، لتكون – مع الأسف – جزءا لا يتجزأ من لعبةٍ سياسيةٍ لم تستطع أن تكون في ضوئها سيدةَ كلِّ الأردنيين، بل بقيت على الدوام مانحةَ المشروعية لبعضهم، هو مع الأسف ذلك البعض القليل المتغوِّل على المعظم الكثير والراهن لمستقبله والسالب لحريته والسارق لحاضره.
إن هذا التحالف الذي توارث السلطتين التنفيذية والتشريعية في الأردن على مدى الخمسين سنة الماضية، يدرك جيدا أن تركيز السلطات كافة، وخاصة التنفيذية منها في يد شخص “الملك” الذي يقف على رأس قمة الهرم السلطوي في البلاد بموجب الدستور، هو الضمانة الحقيقية لاستمرار ذلك التحالف في تمرير مصالحه وأداء دوره في تسخير الأردن أرضا وشعبا وموارد لحماية العلاقات الإمبريالية في المنطقة عبر الحالة الأردنية.
ولكي لا يفهم البعض هذه العلاقة بين المسألتين – تركيز السلطات في يد الملك، وضمان تمرير المصالح الكومبرادورية البيروقراطية الخادمة للعلاقات الإمبريالية في المنطقة – بشكل خاطئ، يجدر بنا أن نوضح الأمر على النحو التالي..
إن تلك الفئات أدركت جيدا ومنذ وقت مبكر، وما كان لها إلا أن تدرك حتى قبل استكمال تأسيس الدولة وإعلان استقلالها، أن الشعب الأردني بسبب العديد من المُكَوِّنات والعناصر الديموغرافية والجيوسياسية السابقة منها والمرتقبة، امتاز وسيمتاز بحيوية ثقافية واجتماعية، وبديناميكية سياسية، تجعلانه قادرا على توليد معارضات فعالة على كل الصعد، لسياسات تلك الفئات وهي في السلطة، عندما يرى أنها سياسات تضر بمصالحه، وتحيِّده عن قضاياه الوطنية والقومية، وتُقْحِمُه في دوامات الولاء للسياسات الإمبريالية، وترهن مقدراته ومصيرة لأعداء الأمة.
ولأن هذا الفعل مشروع في كل الدول المعاصرة التي تحرص على أن تظهر بالمظهر الديمقراطي، حيث تعتبر التجاذبات السياسية والبرامجية السلمية للحكومات وللمعارضين لها، بمثابة الحاضنة الفعلية للفُرَص الحقيقية لتداول السلطة في البلاد، فقد كان لابد من أن يفكر التحالف الكومبرادوري البيروقراطي ومنذ وقت مبكر في خلق آلية دستورية صارمة تضمن له تفريغ الفعل الشعبي المعارض من مضمونه وتأثيره على المدى الإستراتيجي. فماذا فعل؟
أن تُهَدِّدَ المعارضةُ السياسيةُ السلمية الدستورية مستقبلَ ومصيرَ فئة تكون على رأس السلطة التنفيذية في مرحلة معينة، من خلال ظهور إرهاصات إسقاطها كحكومة، لكي تحل هذه المعارضة محلها، تكريسا لمفهوم تداولِ السلطة بالوسائل الديمقراطبة، هو أمر لا يُهَدِّد أي أساس أيديلوجي أو دستوري لبنية الدولة، ولا يمس باستقرار النظام، ولا ينطوى على أي معنى من معانى الانقلاب عليه وعلى مشروعيته. وهو في دولة ناشئة مثل الأردن، لا ينطوي على مساسٍ بمشروعية المرجعية الملكية للدولة ولا بأي معنى من المعاني. ففي كل الدول الديمقراطية التي بدأ الأردن تاريخه المعاصر بأن كان نموذجا معقولا وغير سيئ من نماذجها، تتغير الحكومات وتتبدل، وتحل محلها حكومات أخرى ببرامج مختلفة كانت قبل ذلك في المعارضة.. إلخ.
ولأن طبيعة الحراك الحاصل والمرتقب في المنطقة كان منذ نشأت الدولة بطابعها الوظيفي ينبئ بآفاق معارضة أردنية للسياسات الرسمية غير مأمونة العواقب إذا ما قيس الأمر بمصالح التحالف المذكور وطبيعة دوره المرتقب في ظل وجود كيان استيطاني محتل مثل إسرائيل. فقد كان من المحتم على هذا التحالف أن يفعل المستحيل لضمان ما لا تضمنه لحاضره ولمستقبله، الحالة الديمقراطية الناشئة، وإن كانت قاصرة ونسبية. فكيف يتأتى لهذا التحالف أن يحافظ دستوريا على أكبر قدر من الضمانات لمنظومة المصالح التي يمثلها، والتي خُلِقَ الأردن أرضا وشعبا وهوية ليحافظ له عليها؟
كان يجب أن تظهر المعارضة التي قد يبديها الشعب وقواه الوطنية الحية في أي وقت وفي أي مرحلة على أنها معارضة للمشروعية الدستورية، وللمرجعية الملكية للنظام الأردني، كي يُصار إلى اعتبارها خروجا على الشرعية وتهديدا للأمن والاستقرار ومعاداة للدستور، فيتم قمعها واضطهادها وتحجيمها بشكل يبدو دستوريا. ولكي يتحقق ذلك يجب أن يكون “الملك” وأن تكون “مؤسسة العرش” طرفا متورطا بشكل مباشر في اللعبة السياسية، لا طرفا سياديا محايدا، لا يتهدده ولا يشكك في مشروعيته أي موقف سياسي من أيٍّ كان.
ولا يمكن لهذه المؤسسة التي لا يختلف على مرجعيتها ومشروعيتها السيادية أردنيان، أن تكون على هذا القدر من اللاحيادية ومن التورط في معافسة السياسة وشؤون الحكم، إلا إذا تمركزت في يد شخص “الملك” كافة السلطات، وبالتحديد السلطة التنفيذية. أي وبمعنى آخر، كان يجب أن تظهر الحكومات التي يتجسَّد عبرها ذلك التحالف البغيض، وكأنها حكومات تنفذ إرادة الملك، وتمرر سياساته ورؤيته ووجهة نظره الخاصة، في توجيه دفة الأمور الأردنية محليا وخارجيا. وذلك كي تظهر أي معارضة لها بوصفها معارضة لإرادة الملك ولسياساته، فيتم التعامل معها من ثم بوصفها متطاولة على “مؤسسة العرش” ومهددة لها ومختلفة وغير قادرة على التعايش معها.
ومن هنا تبدأ مسيرة القمع والاستلاب، وتبدأ السياسة الأمنية الشرسة التي تحت عنوان حماية “الملك” و”مؤسسة العرش” ممن يهددونهما ويحاولون الانقلاب عليهما، تقمع المعارضة وتغيبها وتضطهدها وتخيف مؤسسة العرش منها باستمرار، لأن القراءة التي أصبحت دارجة وسائدة لبرامج تلك المعارضة، هو أنها تريد الحلول محل الملك وإسقاط مؤسسة العرش، فيستمر الحال على ما هو عليه، ويأمن التحالف الكومبرادوري البيروقراطي من غوائل المعارضة السياسية الشعبية، بعدما استتر وراء “مؤسسة العرش” بتحميلها وزر الشراكة السياسية الكاملة لتطلعاتها، وبإلباسها لكل آثامها وجرائمها. بينما كان بإمكانها أن تكون من كل ذلك براء إن هي آثرت الانزواء في سماوات السيادة وابتعدت عن مستنقعات السياسة.
وكل ما في الأمر هو أن حلفاء المال والوظيفة عرفوا كيف يحتمون وراء مؤسسة العرش من شعبٍ يطالب عبر قواه الوطنية الحية بحقوقه من هؤلاء المتغولين. ولعله لهذا السبب بقيت الحياة الديمقراطية في الأردن غير مُفَعَّلَة حتى والأحزاب تنتشر في طول البلاد وعرضها، مادامت هذه الأحزاب بناء على ما سبق وبناء على أشياء أخرى، لا يمكنها أن تطرح برنامجا تصل من خلاله إلى سدة الحكومة، لأن ذلك لن يعني لمؤسسة العرش بناء على التقارير الأمنية ونصائح رموز الفساد من أعضاء التحالف المذكور، سوى تهديد العرش، الذي فُرِضَ عليه أن يكون دائما هو راعي السلطة التنفيذية ومُشِكِّلَها ومُقيلَها ومُعَدِّلَها ومُغَيِّرَها!! أليس غريبا أنه رغم كل التاريخ الطويل للمعارضة في الأردن، ولاختلافها المستمر والعميق مع الحكومات المتعاقبة، وانتقادها لبرامجها ولسياساتها على مدى الخمسين سنة الماضية، فإن حكومة واحدة لم تشكلها المعارضة لتمرير ولو جزء ضئيل من برامجها التي كانت قطعا لصالح الشعب وضد مصالح تلك الفئات المتحالفة ضد مصالحه؟!
من هنا فإننا وكي نخرجَ من هذه الحلقة المفرغة من ادعاء الديمقراطية في بلدٍ يعارضُ فيه معظم الشعب كل الحكومات، ولا يحظى مع ذلك بأيٍّ من حقوقه، عندما يصطدم واقع هذه المعارضة باتهام الشعب بأنه يتطاول على مؤسسة عرشٍ يحبها ويريد بقاءها واستمراها صماما لأمنه وأمانه، لكنه لا يعرف كيف يتعامل مع مفارقةِ أنه يريدها ولا يريد سياسات الحكومات التي اختبأت وراءها، فأوقعته في حرج اتهامه بالتطاول عليها إن هو أصر على معارضته لبرامج الحكومات التي شكلها “الملك” ومنحها ثقته..
نقول.. إننا كي نخرجَ من هذه الحلقة المفرغة، يجب بادئ ذي بدءٍ، أن تخرجَ “مؤسسة العرش” من اللعبة السياسة التي يجب أن تُتْرَك بالكامل وبكل تفاصيلها ساحةً للتنافس بين مختلف قوى الشعب. يجب ألا يقبل أحد في الأردن بما في ذلك شخص “الملك” نفسه أن تكون “مؤسسة العرش” طرفا سياسيا يحسب على جهة من الشعب دون الجهات الأخرى، كما تم إظهاره على مدى الخمسين سنة الماضية. لأنه في هذا الحالة يجب أن يقبل بأن يعارضه الشعب عندما لا يرضى عن سياسات حكوماتٍ شكلها هو، وإلا فإن اللعبة الديمقراطية لن تكون متحققة، ولن تكون أكثر من خدعة.
أما إذا كان “الملك” سيقبل بإرادة الشعب وخياره المعارض له في نهاية المطاف استنادا إلى كوننا في دولة ديمقراطية، فلماذا يُقْحِمُ شخص “الملك” نفسَه من الأساس في لعبةٍ تقلل من سياديته ومن مكانته الرمزية ومن هيبته، وتحوله بالتالي إلى طرف سياسي من الصعب أن ندعي عندئذ أنه يمثل كل الشعب. إن “مؤسسة العرش” وكي تحافظ على مشروعيتها ومرجعيتها ورمزيتها وسياديتها وتمثيلها لكل الأردنيين، يجب أن تتعفف عن ممارسة السياسة وعن التدخل فيها، وأن تبقى مؤسسة سيادية بروتوكولية فوق كل الفئات والخلافات والمنافسات السياسية. وهو ما يعني أن تُعاد صياغة القوانين الأردنية وعلى رأسها الدستور بما يتيح الفرصة لتحويل هذه المؤسسة إلى مؤسسة بهذه المواصفات الفوقية السامية، وإلا فإن المعضلة ستبقى قائمة، كما أن التناقضات المتولدة عنها ستتفاقم إلى أن تؤدي بنا إلى ما لا تحمد عقباه في بلد نريده آمنا وواحة للديمقراطية بسمو مؤسسة العرش فيه عن كل الخلافات التي كان تورطها فيها واحدا من أهم عناصر الفساد الأيديولوجي في بنية هذه الدولة التي نشأت منذ البدء بطابع وظيفي، لن تتحرر منه إلا بتحرير مؤسسة العرش من التبعية للتحالف الطبقي الكومبرادوري البيروقراطي الذي دمر الأردن على مدى الخمسين عاما الماضية. 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.