نظام الحكم البديل والحريات العامة الحقيقيةالحلقة (2)التصور المذهبي الإسلامي للحرية السياسية أسامة عكنانعمان – الأردن أولا.. مفهوم وفضاء الحرية والتعددية السياسية..من الضروري أن نعكف قليلا على توضيح فكرة هامة تتعلق بالتعددية وبالحرية السياسية التي أسهبنا في الحديث عنها في الحلقة الأولى من هذه الدراسة. فعلى الرغم من أن الفكر الإنساني الحديث والمعاصر قد جعل من التعددية السياسية مُمَثَّلَةً في التعددية الحزبية، أهم مظهر من مظاهر الحرية الاجتماعية وأهم مظهر من مظاهر الديمقراطية. وعلى الرغم من أنها بالفعل كذلك، في ضوء الفلسفات المتاحة والسائدة لتأطير الحرية، فليس في
نظام الحكم البديل والحريات العامة الحقيقيةالحلقة (2)التصور المذهبي الإسلامي للحرية السياسية أسامة عكنانعمان – الأردن أولا.. مفهوم وفضاء الحرية والتعددية السياسية..من الضروري أن نعكف قليلا على توضيح فكرة هامة تتعلق بالتعددية وبالحرية السياسية التي أسهبنا في الحديث عنها في الحلقة الأولى من هذه الدراسة. فعلى الرغم من أن الفكر الإنساني الحديث والمعاصر قد جعل من التعددية السياسية مُمَثَّلَةً في التعددية الحزبية، أهم مظهر من مظاهر الحرية الاجتماعية وأهم مظهر من مظاهر الديمقراطية. وعلى الرغم من أنها بالفعل كذلك، في ضوء الفلسفات المتاحة والسائدة لتأطير الحرية، فليس في هذا ما يَمنعنا من القول بأن تركيز الحرية في قضية التعددية الحزبية ينطوي على تضليل ومغالطة.إن الحرية الاجتماعية قيمة عظيمة تطال كل مرافق الحياة في المجتمع، وليست التعددية سوى مظهرٍ من مظاهر الحرية. إن آلية الحكم في المجتمع يُفْتَرَض فيها أن تكون تَجميعا مكثفا على مستوى القمة لكل مظاهر الحرية الاجتماعية، الأمر الذي لا يصح معه أن تُهيمن على هذه الآلية فكرةٌ واحدة هي فكرة الحزبية. إن الأحزاب هي تعبيرات حديثة عن تركيز الآراء والمواقف السياسية المتوافقة كي تكون فاعلة وكي لا تذهب هدرا بسبب تَشَتُّتِها. وليس في هذا ما يعطي التواجدَ الحزبي – رغم ضرورته ديمقراطيا – حق التحكم في آلية الحكم. ومع أن التعددية الحزبية تعكس نموذجا متقدما من نماذج تطبيق الحريات الديمقراطية. ومع أن إخضاع آلية تنظيم الحكم للمحتوى الحزبي للمجتمع – كما هو واقع أرقى نماذج الديمقراطية المعاصرة – فيه تجاوز لكل المعاني القديمة للحكم، جاعلة منه قضية مستقلة عن البرنامج الاجتماعي للحاكم، فإن هذا لا يعني أنها النموذج المثالي والأسمى لاستيفاء المواطنين حُرِّيَّتَهم الكاملة ومشاركَتَهم الفعلية في قيادة المجتمع. إنَّها مرحلة عليا من الحرية والديمقراطية، لكنها مع ذلك ماتزال قاصرةً عن تحقيق وتجسيد آلية حكمٍ تكفل الحرية والديمقراطية والمشاركة الشعبية الحقيقية والدقيقة وعلى أوسع نطاق.إن تأكيدنا على أن الآلية القانونية لتنظيم الحكم في المجتمع يجب أن تستند إلى صيغٍ جديدةٍ تكفل تكثيف كل علاقات الحرية من أدنى المستويات إلى أعلى المستويات في المجتمع، يجعل من المنظومة الحزبية في النموذج الديمقراطي أو (الشوري) الذي يسعى الإسلام إلى تجسيده مُجرد مظهر واحد من مظاهر الحرية والمشاركة الشعبية في الحكم. إن مجموعةً من الملاحظات الموضوعية حول واقع مُمارسة المجتمعات لحريتها من خلال آلية التعددية الحزبية تَتَكَشَّف لنا، دافعة بنا قسرا إلى التأكيد على أن قصورا ذاتيا يقوم في جوهر هذه الآلية، يُفْقِدها بعضاً من زخمها الديمقراطي، بحيث يجب تفعيلها كآلية، برفدها بِما من شأنه أن يُعَوِّض هذا الهدر المتحقق بسبب تلك الملاحظات التي يمكننا الإشارة إليها فيما يلي..1 – ما من مجتمع تُمارَسُ فيه التعددية الحزبية كآلية للوصول إلى السلطة، إلاَّ وتكشف لنا خبرةُ مراقبته ومتابعته، عن تدنٍ ملحوظ في نسبة المشاركة الشعبية في ممارسة الحرية من خلال هذه الآلية. سواء كان هذا المجتمع متقدما أو متخلفا، عريقا في تقاليده الديمقراطية والحزبية أو غير عريق، إلاَّ باستثناءات قليلة، يمكن عَدُّها على الأصابع لتأكيد القاعدة. وتتفشى هذه الظاهرة أكثر ما تتفشى في الدول النامية عموما. فلا يوجد شعب تزيد نسبة مشاركته في الانتخابات عادة عن (60% – 80%)، في الحالات المتقدمة جدا، أما في الغالبية العظمى من المجتمعات فإن المشاركة لا تصل حتى إلى نسبة (50%) كما هو حال الشعب الأميركي نفسه. أما بالنسبة للشعوب العربية، فإن لنا في الشعب المصري الذي لم تتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات فيه الـ (25%) عبر تاريخ الانتخابات التي خاضها في حياته الانتخابية المعاصرة، نموذجاً صارخاً على ما نود قولَه في هذا السياق.فإذا كان معظم البشر يتصرفون بلامبالاة مريبة حتى في لحظات التعبير عن حريتهم، التي تمثل الانتخابات السياسية أرقى نماذجها المعاصرة، متنازلين عن حق ممارسة هذه الحرية، مع أنهم يعلمون علم اليقين أن أولئك الأشخاص الذين سيصلون إلى السلطة إنَّما سيتحكمون في مصائرهم، وكأنهم بالعزوف عن مشاركتهم يستسلمون لما سيُفْعَل بِهم دون مقاومة أو اعتراض. فهل يَكْمُنُ الخلل في فكرة مُمارسة الحرية من خلال التعددية ذاتِها، بحيث يُمكننا القول بأنها فكرة قاصرة عن إقناع كل الناس بجدواها وبكفاءتها في التعبير عن إرادتهم؟! أم هو كامن في طبيعة البشر أنفسِهم، بحيث يُمكننا القول بأن تفاعلَهم مع النظام السياسي بوصفه بوابةً لتحديد المستقبل والمصير يحظى بالفتور الفطري والطبيعي، لأن الطبيعة البشرية هي على هذا النحو، وهو ما يعني أننا لو تصورنا آليات أخرى أكثر قدرة على إقناع الناس بجدواها، فإنهم سيبقون مع ذلك سلبيين إزاءها وكأن شيئا لم يحدث؟!في واقع الأمر، فإن ظاهرة العزوف عن المشاركة في ممارسة الحرية من خلال الانتخابات السياسية بكل أشكالها، تتجلى أكثر ما تتجلى في الدول التي تتصف بواحدة من الصفتين التاليتين..- الاستعصاء على التنوع السياسي الحقيقي، وعلى التَّداول الموضوعي ذي الدلالة للسلطة، حتى لو كانت تلك الدول متقدمة ومتحضرة وتحظى الديمقراطية والتعددية فيها باحترام وقداسة. عندئذٍ يشعر المواطن بأن مشاركته في الانتخابات للاختيار من بين البدائل المتاحة، ليس من شأنه أن يُحدث تغييرا جوهريا يستحق في نظره الذهاب إلى صندوق الإقتراع. ومثال ذلك، الولايات المتحدة الأميركية. فسواء اختار المواطن الأميركي مرشحَ الحزب الجمهوري أو مرشح الحزب الديموقراطي، فإن هامش الفروقات بين برنامجي الحزبين ضيِّقٌ للغاية. كما أن فكرة تداول السلطة بمعناها الواسع بالانتقال من حزب إلى آخر من هذين الحزبين تبدو فضفاضة وضبابية وغير ملموسة وفاقدةً للدلالة التأثيرية التي يستتبعها التدَّاول الحقيقي للسلطة عادة. خاصة وأن الحزبين لا يختلفان كثيرا في ما يتصورانه حقوقا يجب أن تُعْطى للمواطن الأميركي بوجه عام، كما أن إطلاق أوصاف اليمين واليسار المتعارف عليها في التقاليد الديمقراطية على الحزبين الأميركيين الديمقراطي والجمهوري، هو شكل من أشكال الخداع والتضليل، فكلاهما يمين من حيث المبدأ، لكن يمينية الحزب الجمهوري الممعنة في تطرفها، جعلت يمينية الحزب الديمقراطي الأخف منها تبدو وكأنها شكل من أشكال اليسار. وإذن فلماذا يقحم المواطن الأميركي نفسه في عملية مرهقة، ولماذا يُشغل نفسه بها مادامت النتائج متقاربة إلى درجة تبدو بالنسبة إليه وكأنها متشابهة؟! ولهذا السبب فإن نصف الشعب الأميركي على الأقل لا يشارك في اختيار رئيسه، فيما تعتبر الفئة الأكبر من المشاركين في الاختبار، من أولئك التابعين سياسيا بشكل أو بآخر إلى واحدٍ من الخندقين.- عدم الثقة في النظام ككل. وهذا يحدث عادة في الدول المتخلفة التي دخلت متاهة الانتخابات السياسية كديكور سياسي تتزين به في عالمٍ يضفي نوعاً من الاحترام على الدول التي تسمح بهوامش حرية من هذا القبيل. وعندئذ فلماذا يذهب المواطن لإعطاء صوته لمن لا يستحقه، أو لمن لن يفيدَه في شيء. بل لماذا يفكر مجرد تفكير في إعطاء صوته لمن يعرف جيدا أنه يستغل هذا الصوت ليصل إلى كرسي حكمٍ سيجلده وسيسرقه وينهبه من فوقه، معطيا لسرقته ونهبه وجلده نوعا من المشروعية بإخفائها وراء لافتات المشاركة الشعبية في الانتخابات. أي أن المواطن يحمي نفسه بهذه السلبية بحسب ما يدفعه إليه لاوعيه السياسي. وقد تُسهم التجربة المريرة في تعميق هذه السلبية لديه. إنها التجربة التي جعلت ثلاثة أرباع شعب مثل الشعب المصري يعزفون عن مجرد الحديث عن موضوع الانتخابات في بلدهم، ناهيك عن مبدأ المشاركة فيها أصلا.2 – نلاحظ في الدول التي تمارس العملية الانتخابية بكل مستوياتها الرئاسية والبرلمانية والمحلية، تفاوتا إيجابيا في نسبة المشاركة كلما تم الهبوط نحو الأسفل في سلم الشكل الانتخابي. فمبدأ العزوف عن المشاركة يتجلى أكثر ما يتجلى في الانتخابات الرئاسية، ليتقلص في الإنتخابات التشريعية (البرلمانية)، ليزداد تقلصا في الانتخابات المحلية (مجالس البلديات). أي أن المواطنين يشتركون أكثر ويعبرون عن حريتهم بإقبال أَشَد، كلما تدنى المستوى الذي يُطرحُ عليهم للتعبير من خلاله عن تلك الحرية ومُمارستها. ما معنى هذه الظاهرة الغريبة التي يُفْتَرض ألاَّ نقفَ عندها دون استنباط دلالاتِها؟!من الواضح أن (السياسة) التي تعَوَّد معظمُ الناس على مَقْتِها والعزوف عنها والهروب منها، إما خوفا وإما بُغْضًّا، وعلى اعتبارها لعبةَ الكذب والدجل، ومهنة الأفاَّقين والوصوليين وأكثر الناس انتهازية، حتى في الدول المتقدمة والمتحضرة، تتجلى أكثر ما تتجلى في فكرة (الرئاسة)، ثم يقل تَجَلِّيها في فكرة (النيابة)، ليكاد يختفى في فكرة (المجلس المحلي أو البلدي). أي أن المواطن يعتبر أنه حيثما وُجِدَت السياسة فعليه أن يغيب ويَمتنع عن المشاركة، لأن مشاركته ستكون إسهاما منه في شرعنة الكذابين والوصوليين. ولأن العنصر السياسي بمعناه الفج والواضح والصارخ يكاد يختفى من برامج المرشحين للمجالس البلدية، باعتبارها برامج خدمات مباشرة، هي كل ما يهم المواطن المقموع والمحروم في واقع الحال، فإننا نرى إقبالا أشد عليها. وإذن فليس تقلص المشاركة في الانتخابات الرئاسية وبشكل أقل البرلمانية، راجعا إلى كونها أمراً لا يحظى بالحماس الفطري لدى البشر من حيث المبدأ، بل إلى كونها لا تمس مساسا حقيقيا – وفق رؤية المواطن – بحياته اليومية وباحتياجاته واحتياجات أسرته الحياتية. فمادام هناك بشر يشاركون في الانتخابات، فلا شك إذن في أن هناك أسبابا موضوعية أدت إلى إحداثِ شرخٍ جعل الغالبية لا تشارك فيها. ومادام هناك إقبال على المشاركة في المستويات الأدنى منها حتى من قِبَلِ من يعزفون عن مثل تلك المشاركة في المستويات الأعلى، فلا شك إذن في أن هناك أسبابا موضوعية تجعل المشاركة في العملية الانتخابية عندما تطبعها السياسة بطابعها الخاص متدنيةَ المستوى. ولأن المواطن يرى السياسيين وهم يتبارون في قضايا يَنظر إليها باعتبارها تَرفا ولا يفهم كيف يُمكنها أن تحقق مصالِحَه، ويستذكر بشأنها خبراتٍ مريرةً تؤكد له أن كل هؤلاء السياسيين أدعياء وكذابون، فإنه يزداد نفورا من المشاركة في الانتخابات عندما تكون سياسية الطابع. هذا يعني أيضا أن المواطن بسبب أن السياسيين يُمارسون عملهم السياسي باستعلاءٍ في العادة، فينفصلون عنه ويتكبرون أو يتحاشون التعرف على مشكلاته الحقيقية المتعلقة بأخص خصوصيات حياته، فإنه يبقى غير واعٍ بأن المجلس البلدي نفسه يُمارس السياسة، وبأن كل قضاياه هي في نهاية الأمر قضايا ذات طابع سياسي، لمجرد أن هذا المجلس تعامل معه عن قرب وبتواضع. وكأن السياسة ترسخت في لاوعيه بوصفها دائرةً للعمل المعقد والاستعلائي الذي لا يلتفت إلى مشكلاته الحقيقية، خلافا لدائرة الخدمات التي تطغى على لعبة المجالس البلدية. وهذا سبب آخر للمشكلة، يعمقها ويوسعها ويُصَعِّب حلَّها ويفسر في الوقت ذاته جذورها العميقة.3 – من الملاحظات الهامة التي تحضرنا حول مبدأ التعددية الحزبية والمشاركة في مُمارسة الحرية السياسية على أساسها، هي رؤيتنا – خاصة في الدول المتخلفة، دون أن تنجو منه أحيانا كثيرة حتى أكثر الدول تقدما ورقيا وعراقة في التقاليد الديموقراطية – لظاهرة الانقطاع بين الناخب والمُنْتَخَب، ليس من الناحية الشكلية فقط، بل من الناحية الموضوعية أيضا، وهذا هو الأهم. والمضمون الذي تنطوي عليه هذه الملاحظة من الناحية الجوهرية، يرتكز إلى واقع موضوعي فعلي لا يُمكننا التغاضي عنه أو تَجاوزُه، نلمس أنه كامن في بُنْيَة الفكرة الانتخابية ذاتها.إن هناك افتراضا طوباوياً مفادُه أن المرشحَ المُنْتَخَبَ يمثل منتخبيه وإراداتِهم، ويعبر عن مواقفهم ورغباتِهم على وجه الحقيقة، ماداموا قد اختاروه لينوب عنهم في المؤسسات النيابية أو الرئاسية. وهذا افتراض فيه قدر لا يستهان به من المغالاة. فالأصح أن نقول أن على الناخبين أن يرضوا بِمن اختاروه وبِما يقوله أو يفعله ماداموا قد اختاروه، لا أنه يُمثلهم ويُمثل مواقفهم وأفعالهم وإراداتِهم تَمثيلا حقيقيا. ولكن ما معنى هذا الكلام وما الدليل عليه؟!في الواقع لا يوجد إنسان على وجه الأرض يستطيع أن ينوبَ نيابة حقيقية ومطلقة عن شخص آخر، ويُمثل إرادتَه الفعلية كما تَتَكَوَّن وتتشكل هذه الإرادة المتقلبة والمتغيرة في كل لحظة ومرحلة ووقت. فهذا أمر مستحيل. ناهيك عن أن يُمثلَ شخص واحد آلاف أو عشرات الآلاف أو الملايين من الأشخاص على هذا النحو. وليست هذه هي الفكرة القائمة في مبدأ الإنابة بالانتخاب، ولا حتى في مبدأ الإنابة والتوكيل في القضايا المدنية كما تتيح ذلك القوانين المعمول بها عادةً. فحشدُ الأحداث التفصيلية التي تحدث خارج إطار العقد المتفق عليه والمبرم بين المُنْتَخِب والمُنْتَخَب أكثر بكثير من أن يشملَها تَصَوُّرٌ مسبق، وهي على قدر من التنوع بحيث يستحيل تطابق رؤية الناخب والمنتخَب فيها على الدوام. ولأن السلطة الحقيقية هي للمُنْتَخِب وليست للمُنْتَخَب، فهذا يعني أن الموقف الحقيقي الذي يجب أن يُعتمد في الحالات التفصيلية والطارئة التي نتحدث عنها كي يكون موقفا قانونيا ومشروعا من الناحية التأصيلية، إنما هو موقف الناخب. ولكن كيف يتسنى ذلك في ظل واقعٍ يكشف عن حالة إنابةٍ بعقدِ انتخابٍ وتوكيلٍ لا ضمانة على أن تتطابق بموجبه مواقف المنتخَب مع مواقف الناخِب؟!إن الفكرة في مبدأ الإنابة بالانتخاب تتجلى في أن عدداً من الأشخاص ارتأوا أن شخصا معينا يستطيع أن يُمثلهم في البرلمان أو في سِدَّة الرئاسة، بناءً على ما سمعوه وما فهموه من أقواله وتصريحاته. لذلك فهم قد قرروا انتخابه ليمثلهم على هذا الأساس، رغم إدراكهم لحقيقة أن التفاصيل الدقيقة لمجريات الأحداث في الواقع السياسي ليست واضحة بالقدر الذي يضمن أن يكون رأيه وموقفه فيها مطابقا تماما لما سيكون عليه رأيهم هم حين تَجَلِّيها في الواقع. وإذن فانتخابهم له ينطوي علاوة على التطابق بين ما أعلنه وبين ما يريدونه مِما هو معلن ومصرَّحٌ به أمامهم وعلى مسامعهم، على عنصر الثقة في أنَّ تَصَرُّفَه إزاء المواقف التي ستطرأ بالضرورة بحكم طبائع الأمور، ستتطابق مع ما يتوقعونه، وإن لم يحصل ذلك التطابق فهم معنيون وملزمون بِتَحَمُّلِ النتيجة، لأنهم هم من اختاره. هذه هي الفكرة القائمة في مبدأ القبول بالانتخاب والتوكيل. ولكن من الواضح أنها فكرة لا تحقق الغايةَ القصوى التي قام عليها مبدأ التوكيل والإنابة بالانتخاب في العملية السياسية. إلاَّ أن الحل ممكن من الناحية النظرية التي يجب أن تتجسد في أشكالٍ عملية تتجاوب مع إمكانات كل مرحلة من مراحل صيرورة المجتمعات. على آلية الحكم أن تتيح فرصة حقيقية للتواصل بين المشرع الحقيقي الذي هو الناخب، والوكيل عنه الذي هو النائب أو الرئيس، كي يتمكن الأول من توجيه الثاني لما يريده على وجه الحقيقة في الحالات المتغيرة والتفصيلية، خاصة وأن المُوَكِّل يحق له تغيير إرادته جذريا، فهو صاحب الحق الأساسي الذي بناءً عليه أَعْطَى التوكيل، والذي له حق تغيير فحواه ومضمونه دون مراجعةٍ من أحد، بينما الوكيل أو النائب لا يملك سوى التنفيذ، وإن لم يعجبه الأمر فليتخلَّ عن دور الوكيل وليتنحَّ، كل ذلك لأجل أن يكون التعبير عن الحرية عبر التمثيل تعبيرا حقيقيا يَتَّسِمُ بالموضوعية، ولأجل أن تُتاح الفرصة للناخب في إلغاء عقد التوكيل إذا أخل النائب بمضمونه أو إذا رأى هو أن أمرا مستجدا تطلب تغيير إرادته التي عليه بطبيعة الحال أن يبلغَها إلى وكيله كي ينفذها هذا الأخير فورا وبلا إبطاء.4 – من الطبيعي أن الشخص الذي تم انتخابه نيابة عن موكليه حتى لو كان رئيسا للسلطة التنفيذية، ليس بالضرورة أن يكون قاموسا ومعجما وموسوعة معرفية تَملك خريطة تفصيلية وحلولا وتصورات لكل صغيرة وكبيرة في المجتمع. بل إن طبائع الأمور في زمن كالذي نحن فيه، حيث شاع منطق التخصص، أن تغيب عن ذهن الكثيرين تفاصيل بل وأحيانا عمومياتٌ تتعلق بتخصصات لم يُلِمُّوا بها. والسياسيون عادة شأنهم شأن غيرهم، على قدر من التعليم والثقافة يُمَكِّنُهم من التحكم في زمام تَخصصاتِهم إذا كانوا فيها من المتفوقين، فيما يحتاجون إلى آراء المتخصصين فيما لا يَمتلكون حوله معلومات تفصيلية، حتى لو كانت لهم رؤيتهم السياسية العامة في كيفية التعامل معه. ولأن أكثر الناس علما باحتياجات وتطلعات شريحة معينة من المجتمع وبطريقة التعامل مع قضاياها بالشكل الأنسب، هم أهل الخبرة من أبناء تلك الشريحة، فقد كان من الطبيعي ألا يُحْرَم هؤلاء من حق وضع خبراتهم بين أيدي السياسيين المنتخَبين، ليُزَوِّدوهم أَوَّلاً بأول وحسب المستجدات بِما يلزم للتعامل مع مشكلاتهم وقضاياهم، وكي لا يضطروا إلى التعامل معها بمستوى معلوماتهم ومعارفهم القاصرة، خاصة عندما يتم الدخول إلى الجانب التقني من البرامج المطروحة، والذي يتطلب قرارا تكنوقراطيا هو في جوهره أكثر بكثير من مجرد اعتباره قرارا سياسيا. فالموقف السياسي قد يتعطل أحيانا بسبب صعوبات فنية، لذلك فإذا حُرِم السياسيون من رؤى الفنيين وأصحاب الاختصاص، وأصروا على مواقفهم السياسية رغم الصعوبات الفنية، فإن المسألة قد تصبح مدعاةً للسخرية ومثيرةً للشفقة. هذا يقتضي أن تتولد في المجتمع مجموعة آليات رسمية وقانونية تتيح الفرصة لجعلِ خبرات أهل الاختصاص في المجتمع من جميع الشرائح الاجتماعية تدلي بدلوها في العملية السياسية، بشكلٍ يوسع دائرة الحريات المُماَرَسَة، ولا يتعارض مع حق السياسيين في تطبيق برامجهم في الوقت ذاته.ثانيا.. خلاصة التصور المذهبي للحرية السياسية..إن الملاحظات الجوهرية الأربع السابقة وانعكاساتها المختلفة في الواقع المجتمعي السياسي المُعَبِّر عن حقوق الإنسان وعن الحريات العامة والسياسية وعن آليات نظام الحكم في المجتمع، تدفعنا إلى التأكيد على أن التصور المذهبي المرتكز إلى الأسس والأصول العقلية والمرجعية النصية التي أوضحناها سابقا (الحلقة الأولى من هذه الدراسة)، يقوم في هذه الناحية المجتمعية على الإقرار بالحقائق التالية..1 – من المؤكد أن الشعبَ هو مصدر السلطات. لكنَّ العبرةَ ليست في مجرد ادِّعاء ذلك، بل في توصيفه وتكييفه، وفي تحديد معانيه ومضامينه الموضوعية. تُرى هل هناك صيغةٌ تنظيمية تُعَدُّ أقدر على تَحقيق صورةٍ من صور تطبيق مقولة أن “الشعب هو مصدر السلطات”، أعلى وأرقى مماَّ هو سائد من صور وصيغٍ فرضتها علينا الثقافة الغربية التي نشأت الديمقراطيات فيها لتأصيل الرأسمالية والبرجوازية، ولشرعنة وتبرير الاستعمار؟! إن أي قارئ نزيه للتاريخ لا يَملكُ إلاَّ أن يستهجنَ هذا التناقض العجيب بين مقولات الديمقراطية المختلفة القائمة كلها على الدعوة إلى احترام الإنسان وحقوقه الطبيعية، وبين قيام الديمقراطياتِ نفسِها بِممارسة أبشع أنواع الظلم والقهر والاستغلال التي لم تعهدها البشرية من قبل في حق الشعوب التي تقع خارج حدود الجغرافيا المشمولة بِحقها في الدَّمَقْرَطَة وفي التَّأَنْسُن وفي التَّحَرُّر. وإذن فكيف يُمكننا أن نحقنَ فكرة “الشعب هو مصدر السلطات” بآفاقِ تَحَقُقٍ في الواقع تَتَفَوَّق على أرقى النماذج الغربية العقيمة، الغارقة في الشكلانية والمظهرية المفَرَّغة من الدلالة غالبا؟!لنفترض من باب التَّمثيل وتقريب الصورة، أن صاحبَ مالٍ أراد أن يُنيبَ عنه من يتولى إدارةَ ماله والإشرافَ عليه وفق شروطٍ أساسية عامة ومُحددة لا يتم الخروج عليها، وتحدث كافة اجتهادات الإدارة والإشراف في ضوء دلالاتها وإشعاعاتها وفضاءاتها. ماذا عليه أن يفعلَ، وما هي الآليات التي يجب أن يعتمدَها، والإجراءات التي يُفترض أن يَتَّخِذَها، كي يتحققَ له ذلك بأفضل صورة مُمكنة ومتَصَوَّرَة؟! نستطيع تَخَيُّلَ أنَّ عليه القيام بالتالي كحالةٍ إجرائيةٍ تنظيميةٍ وإداريةٍ مُثْلى..- سَيُعَيِّنُ شخصا يتولَّى المهامَ التنفيذية المباشرة التي تتطلبها الإدارة ويقتضيها الإشراف. وهذا الشَّخص سيمتلك زمام الرؤية التنفيذية نفسِها. أي يُفترض أن يكون صاحب خبرة ومن أهل الاختصاص كي يعرف كيف يقوم بهذه المهمة، وكي يَخلق بخصوصها رؤاه الفاعلة والمُنْتِجَة.- ولكي يضمن أن يضبطَ رؤى هذا الشخص التنفيذي، ويحول دون خروجِها عن إرادته وعن قواعده وتعليماته الأساس، ودون انسياقها وراء مصالحه الخاصة ونزواته، بشكل ينعكس على المال نفسه بالضرر وبالهدر الناتج عن سوء الإدارة بأيٍّ من أشكالها، فإنه سيُعَيِّن شخصاً آخر يُعتبر أكثر تعبيراً عن إرادته الضابطة هذه، ويُمثِّل مرجعا يعود إليه المدير التنفيذي قبل التَّحَرُّك في الواقع كي تكون خطواتِه مشروعةً ومُبَرَّرَةً.- لكن الشَّخْصِيَّة التنفيذية قد لا تكون نزيهة بالقدر الكافي واللازم للقيام بالمهمة بالشكل المطلوب أخلاقيا وقانونيا وإداريا، وقد تُمارس أعمالاً تُحاول إخفاءَها عن صاحب المال أو عن مُمَثِّله المرجعي الذي عَيَّنَه لضبط وتأطير دورها التنفيذيٍ. ولأن نَجاحَ هذه الشخصية في الإساءة إن هي قرَّرَت التلاعبَ بالمال وبإدارته على هذا النحو أمرٌ ممكن، فلا شك في أن الحاجةَ إلى شخصية ثالثةٍ تَمتلك حَقَّ المراقبة والمتابعة وكشفِ الأسرار والمعلومات ذات العلاقة بدون منع أو حجر على نشاطها وحركتها لتبليغ المعنيين بِها، واتخاذ اللازم في الوقت المناسب، يغدو أمرا مطلوبا وحيوياٍ.- ومع ذلك فإن خلافاتٍ قد تَدُبُّ بين هذا الطرف أو ذاك من أطراف معادلة الإدارة الأربعة المعنيين، والذين هم حتى الآن كلٌّ من “الشخصية التنفيذية”، و”الشخصية المرجعية الضابطة”، و”الشخصية المعلوماتية المراقبة والمتابعة”، و”صاحبُ المال نفسُه”. فضلا عن أن مهامَّ كلِّ واحد من هؤلاء قد تكشف في سياق الأداء، عن أمور تتطلب الحساب والعقاب والجزاء، وهو الأمر الذي يقتضي وجودَ شخصية رابعة محايدة لا تُحْسَبُ على هذه الشخصية أو على تلك، تتولى القيام بِهذه المهمة ذات الطبيعة القانونية.من السَّهل علينا ملاحظةُ أن كلَّ واحدٍ من الأشخاص الخمسة الواردين في مثالنا السابق تقابله مؤسسةٌ من المؤسسات العاملة في المجتمع للإشراف على أدائه وصيرورةِ إدارته. فالشخصية الإدارية التنفيذية تقابلُها في الواقع “الحكومة”، بكل مؤسساتها وبُناها الهيكلية. أما الشخصية المرجعية الضابطة فتقابلُها “المجالس التشريعية”. فيما تقابلٌ كلٌّ من “المؤسسات الإعلامية” بكل أنواعها، شخصيتَنا المراقبةَ الكاشفةَ، و”مؤسسات القضاء” المختلفة، شخصيَّتَنا القانونية التي عُيِّنَت لحسم الخلافات المتوقعة بين كافة الأفراد الذين تَمَّ ذكرُهم في المثال. أماَّ الشخصُ الأساس صاحبُ المال الذي تولى تعيين الأشخاص الأربعة أنفسِهم، فيقابله الشعب نفسه بوصفه صاحبَ الدولة وصاحبَ الحق المفترض في تعيين تلك المؤسسات والقائمين عليها كسلطات تنوب عنه في إدارة دولته من خلالها.إذن فنحن أمام شعب يُعْتَبَرُ صاحبَ الدَّوْلَة ككيانٍ قانوني، وصاحبَ الحق في تشكيل النظام ككيان سياسي، يجب أن تَصْدُرَ عنه صدورا حقيقيا أربعُ سُلُطاتٍ مستقلةٍ بعضِها عن البعض الآخر استقلالاً فعليا، بِحيث لا يتم تداخلُها أو أيٌّ من أفرادِها أو مؤسساتِها بأي شكلٍ من الأشكال التي قد تَمَسُّ جوهرَ استقلالِها ذاك. ولكي يتم هذا الأمر ويتَحَقَقَّ على أرض الواقع، يجب أن تكون قياداتُ تلك السلطات مُنتخبةً ومُختارةً من قِبَلِ الشَّعب انتخابا يعبِّر عن إرادته تعبيراً لا يرقى إليه الشك، في الحدود المادية المقدور عليها في الاختيار بمعايير العصر وفي ضوء ظروف الجغرافيا، وليس في أي حدودٍ أقلَّ منها.الحقيقة الأولى التي يقوم عليها التَّصَوُّر المذهبي الإسلامي الذي نعلنه هنا لنظام الحكم إذن، تتمثل في ضرورة وجود أربع سلطات مستقلة بعضِها عن البعض الآخر في المجتمع، هي “السلطة التنفيذية”، و”السلطة التشريعية”، و”السلطة القضائية”، و”السلطة الإعلامية”، وأن استقلاَلها ذاك يقتضي أن ينتخبَها الشعب أو أن ينتخبَ هيآتِها العليا التي تتولى استكمال باقي هيآتِها الدنيا بعد ذلك وفق منظومات قوانين وتشريعات خاصة بها تصدرها الجهة ذات العلاقة بإصدار التشريعات.. ولكن هناك مجموعةً من المسائل التفصيلية ذات الصفة الجوهرية والتأصيلية تنبثق عن هذه الحقيقة، لابد من ذكرها في هذا السياق كي تكتملَ الصورة، نستعرضها فيما يلي..* إن انتخابَ السلطة التنفيذية يتم بانتخاب رئيسها فقط، وليست هناك حاجة إلى انتخاب كافة أفرادها الآخرين “الوزراء”، وإن كان لابد من أن يخضع تعيينهم فرداً فرداً من قِبَلِ رئيس السلطة التنفيذية لشروطٍ فَنِّيَّة وأخلاقية وإدارية يُحَدِّدُها الشعب، من بينها وعلى رأسها حصول تعيينهم على موافقةِ السلطة التشريعية.* لا يمكن أن يَمتلك حقاَّ في رئاسة السلطة التنفيذية شخصٌ غير منتخبٍ من قبل الشعب، كأن يكون ملكا يرث المُلْكَ عن آبائه وأجداده. لكن هذا لا يعنى رفضَ وجود الملوك على رؤوس الدول من حيث المبدأ. إذ أن هناك أموراً مهمة يجب التَّطُرُّق لها في هذا الصَّدد. فرغم أن الإسلام لا يُحَبِّذُ فكرة المَلَكِيَّة من حيث المبدأ، ويرفضها عندما تتمسَّك بأهم نقطة تقوم عليها عادةً وهي عدم سماحها لمبدأ تداول السلطة بأن يسود الواقع السياسي في المجتمع، بسبب أن الملكَ سيبقى ملكاً منذ اعتلائه عرش المُلْك إلى أن يموت. فإنه مع ذلك – أي الإسلام – لا يعير اهتماماً كبيراً لفكرة المَلَكِيَّة إذا تم الاتفاَّق على أن المَلِكَ الذي يرثُ المُلْكَ يسودُ ولا يحكم، أي إذا جُرِّد من الصلاحيات السلطوية التي تنتج عن الانتخاب في العادة وتحوَّل إلى رمزٍ معنوي لا إلى مصدرِ سلطة سياسية فعلية. وبكلمة أخرى فإن نظام الحكم الإسلامي الذي نتحدَّث عنه، إذا أريد التَّحاكُم إليه في دولة جديدة تبحث لها عن نظام، فمن المؤكد أنه لن يتم اللُّجوء إلى فكرة الملكية على الإطلاق، لأن مثل هذا اللجوء ليس له من معنى مشروعٍ مادمت فرصة تجنُّبِه بوصفه أسوأ المتاح ممكنةً. أماَّ إذا تقرر التَّحاكُم إلى مثل هذا النظام الإسلامي في دولة مَلَكِيَّةٍ في الأساس، فإن عدم رغبة الشعب في تلك الدولة في تغيير النظام المَلَكي يُمكن احترامُه إذا تم إحداث تغيير في منظومة الصلاحيات السياسية الممنوحة للملوك في تلك الدولة. ليتم اللجوء إلى تقنين انتخاب الشخصية السياسية التالية للملك باعتبارها هي صاحبة الصلاحيات السياسية التنفيذية الفعلية، فيما ينزوي المَلِكُ ليتحولَ إلى رمز من رموز الثقافة والتاريخ في الدولة ليس إلاَّ. وإذا كان بالإمكان الاستغناء حتى عن هذا التقليد، فإن المسألة تكون أفضل، مع أنها ليست ضرورية، فالرموز أحيانا قد تكون ذات قيمة، على أن تكون رموزاً حقيقية تبعث على الفخار وعلى الإحساس بالمجد، وليس على الإحساس بالمذلة والعار، أو بالهوان والمهانة كما هو الحال فيما يتعلق بهؤلاء الذين يفرضون علينا في الوطن العربي.* إن انتخابَ السلطة التشريعية يقتضي انتخابَ كافةِ أفرادِها فرداً فرداً، ولا يجوز أن يكون أيُّ عضوٍ في أيٍّ من الهيئات التشريعية مُعَيَّناً من قِبَلِ أي سلطة أخرى، كالسلطة التنفيذية مثلا، كما يحدث في الكثير من الدول التي تَلْتَفُّ على فكرة “الشعب مصدر السلطات” وتتحايل عليها، بتعيين أعضاءٍ في السلطة التشريعية يُفْقِدُ تلك الفكرة معناها ومضمونها الحقيقيين. فإذا كان مبدأ “الفصل بين السلطات” القائم على مبدأ “الشعب مصدر السلطات”، هو المبدأ الأكثر أهمية في مسألة انبثاق تلك السلطات إلى حيِّز الوجود في الحياة السياسية في المجتمع، كي يكون لوجودها – أي تلك السلطات – معنى ودلالة على الصعيد السياسي، وعلى صعيد كون الشعب مصدراً حقيقيا لها، فإن الخروج عليه – أي مبدأ الفصل بين السلطات – بأيَّ صيغة التفافية هو خروج من شُباَّكِ الحرية بعد أن تم الدخول من بابها. وإذا تم الالتزام بمسألة عدم التعيين فلا مانع من وجود أكثر من قناة للسلطة التشريعية، لكل منها دورها الخاص في مسألة التشريع، كأن توجد قناة تشريعية تضم ذوي الخبرة الأكفاء، وقناة أخرى تضم المتنافسين سياسيا وبرامجيا في المجتمع. على أن تكون مهام كل القنوات مُحددة وواضحة. وعلى أن تكون الفروق بين أعضاء كل قناة وأخرى فروقا موضوعية تتطلب وجود أكثر من قناة. وعلى أن يكون واضحا أن الاختلاف بين وصول الأفراد إلى شغل عضوية قناة أو أخرى، هو اختلاف في شروط الانتخاب وشروط التَّرَشُّح، وليس في كون إحدى القناتين منتخبة والأخرى معينة، فهذا أمر غير جائز على الإطلاق ومخالفته تعد شكلا صارخا من أشكال التعدِّي على حقوق الشعب بوصفه مصدرا للسلطات.* إن انتخاب السلطتين القضائية والإعلامية، يقتضي انتخابَ أعضاءِ الهيئتين العُليَيَن لهما، على اعتبار أن السلطة القضائية ستتمثل بدايةً في الهيئة العليا للقضاء، وأن السلطة الإعلامية، ستتمثل في الهيئة العليا للإعلام. ولا يجوز أن يُعَيَّنَ أيٌّ من أعضاء هاتين الهيئتين للأسباب نفسها التي امتنعَ معها جوازُ تعيين أيِّ عضو من أعضاء الهيئات التشريعية قبل ذلك. على أن يكون الانتخاب وفق قوانين انتخابية خاصة تُقَرِّرُها السلطة التشريعية، وتكون موضوعيةً وذات دلالة في التعبير عن استقلالية الهيئتين، وعن انطباق الصفات القضائية والإعلامية في أعضائهما المنتخبين. على أن يَتِمَّ استكمال ما تفرضُ القوانين استكمالَه من الأعضاء خارج هاتين الهيئتين، إماَّ تعيينا أو بإجراءاتٍ انتخابية داخلية، ولكن بِموافقة ضرورية من السلطة التشريعية، سواء على القوانين الانتخابية الداخلية، أو على الأفراد المعينين، كما تم قبل ذلك تحصيل موافقة هذه السلطة على تعيين باقي أعضاء السلطة التنفيذية “الوزراء”، أو على تعيين بعض الشخصيات القيادية الهامة في الدولة، مثل قادة الجيش والأمن العام والمخابرات وغيرها من الأجهزة التي يقرر الشعب عبر مُمَثِّليِه التشريعيين أنَّها تتطلب موافقتَه المسبقة على الأشخاص الذين سيتولون قيادتَها.* إن الانفصال التام بين السلطات الأربع يقتضي حتما أن لا تَملك أي سلطة منها حق التَّدَخَّل في كيفية إدارة السلطات الأخرى لشؤونِها. فالسلطة التنفيذية مثلاً لا تَحُلُّ السلطة التشريعية ولا تصدر أوامِرَها بانعقادها، لأن لا سلطة لها عليها. فكل سلطة منعقدة انعقادا دائما ومستمرا في ضوء القوانين واللوائح التي تَحكم عملَها ونظامَ العطل والإجازات عندها بمقتضى التَّفويض الشعبي المتحقِّق بالانتخابات. وبالتالي فعملية التشريع مستمرة، ولا حاجة فِعْلِيَّة لمنح السلطة التنفيذية حق إصدار القوانين المؤقتة، لأن عملية التشريع برمتها ليست من اختصاصها، ولأنَها لا تَملك سلطةً على الجهاز التشريعي بشكل يُعَطِّلُه ويضطرها معه إلى إصدار القوانين المؤقتة، وعليها على الدوام أن تتقدم بِما تريده من مشاريع قوانين أو موافقات على سياساتِها إلى السلطة التشريعية. أما حالات الطوارئ والكوارث الكبرى فمن المؤكد أن لها قوانينَها التي تنظمُها، والتي لن تكون مُعَطِّلَةً لسلطةٍ لحساب سلطة أخرى تَحت أي ظرف. فالظرف الذي سيسمح للسلطة التنفيذية بالعمل، هو ذاته الظرف الذي لن يَمنع السلطة التشريعية أو أي سلطة أخرى من القدرة على مزاولة أعمالِها السلطوية كاملة في مَجال اختصاصها.* إن السلطة التشريعية هي السلطة التي توافق على التشريعات وتعتمدها وتُصْدِرُها ليتحاكم إليها المجتمع في مُختلف شؤونه. لكن هذه الصفة في هذه السلطة لا تنطوي على معنى منعِ السلطات الأخرى من حق التقدم بِمشاريع القوانين إلى السلطة التشريعية كي تأخذ موافقتَها عليها، إذا كان لديها ما ترى من الضروري التقدم به إلى تلك السلطة. فالقوانين التي تُعْرَض على السلطة التشريعية للبَتِّ فيها يُفْتَرض أنها مُقَدَّمة إليها ومقترحة عليها كمشاريع قوانين من أكثر من جهة مُحتملة تَملك حق التقدم بالمشاريع واقتراحها هي.. “عدد معين من أعضاء السلطة التشريعية يكون منصوصا عليه في الدستور، و”السلطة التنفيذية”، و”السلطة القضائية”، و”السلطة الإعلامية”، و”عدد معين من المواطنين يكون منصوصا عليه في الدستور”.إن أياًّ من الجهات الخمس السابقة يستطيع التقدم إلى السلطة التشريعية بِمشاريع القوانين بِمختلف أشكالها، إلاَّ أن موافقة تلك السلطة عليها، مرهون بِمرور تلك المشاريع في قنوات الإقرار والاعتماد التي سيكون منصوصا عليها في الوثيقة الدستورية، والتي هي صلاحيات خالصة بِهذه السلطة دون غيرها. مع ضرورة الإقرار بِحقِّ كل الجهات التي تقدمت بِمشاريع القوانين أو بالمطالبات للموافقة عليها من السلطة التشريعية، في الرجوع إلى الشعب عبر الاستفتاءات العامة في حالة رفض السلطة التشريعية لمطالبها أو في حالة عدم اعتمادها لمشاريع قوانينها المقترحة، إذا استطاعت توفير الشروط اللازمة للعودة إلى الشعب بالاستفتاءات كما ستنص على ذلك الوثيقة الدستورية.* إذا تم إقرار السلطات داخل الدولة بالشكل السابق، وإذا تم تحديد العلاقات بين أجنحتها وأذرعها السلطوية المختلفة على الأسس الموضحة أنفاً، فإن التسميات والمصطلحات تفقد أهميتها عندئذ، بحيث لا مُشاَحَة في تسمية رئيس السلطة التنفيذية بالخليفة أو بالأمير، إذا كان هناك من يرغب في هذا التقرُّب من دلالات المخزون التاريخي الثقافي للأمة، كما أنه لا مانع من تسمية السلطة التشريعية بمجلس الشوري، أو بأهل الحل والعقد. ولا مانع من ثم من استخدام أي تسمية تراثية مُعَبِّرَة ما لم يتم القفز من خلالها على المضامين الحقيقية لمبدأ الفصل بين السلطات القائم على فكرة أن الشعب هو مصدر السلطات. 2 – إن مُمَثِّلي كل السلطات التي ينتخبها الشعب تنطبق عليهم من حيث المبدأ المواصفات التالية..- إمكانية أن لا تتطابق أداءاتُهم المعالِجَةُ أولاً بأول، لمستجدات الواقع المتولِّدَة باستمرار، مع الإرادة الشعبية المستجَدَّة تِجاهها أولاً بأول، على النحو الذي ترغب تلك الإرادة في أن تستجيب به معها – أي مع تلك المستجدات – حين ظهورها إلى حَيِّزِ الوجود. ِما يعني احتمالَ وقوعِ تلك الإرادة على اتجاهٍ معين من اتجاهات التعامل مع الواقع المستجد دون الاتجاهات الأخرى الممكنة والمتاحة، وقوعا يتطلب التدخل لدي المُخَوَّلين نيابة عنها – أي عن الإرادة الشعبية – خشيةَ أن لا يُمارسوا أداءً مطابقا لوجهة تلك الإرادة. وعلى هذا الصعيد فقد تتجاوز المستجدات حدود كونها مستجداتٍ ذات طابع تشريعي أو سياسي محدود التأثير، إلى كونها ظروفاً محلية أو إقليمية أو دولية، تتطلَّب قدرا جذريا ومفاجئا من الاجتهادات السياسية، لا يُمكن قبول تَحميلها لأولئك النواب المنتخبين بِمفردهم في أيِّ سلطةٍ كانوا، دون العودة إلى الشعب مُجَدَّداً للإدلاء برأيه فيها، من باب المسؤولية الضخمة المترتبة على هكذا ظروف. فعقدُ الاتفاقيات المصيرية ثنائية كانت أو جماعية، اقتصادية أو سياسية أو أمنية أو ثقافية، وخوض حربٍ ضد دولة أو أكثر، أو الدخول في حلف عسكري إلى جانب مجموعة من الدول أو الخروج من حلف، أو إبرام صلحٍ مع دولة أو دول تكون في حالة صراع وجودي مع الشعب، أو إعادة النظر في حدود الدولة بتقسيمها إلى أجزاء أو بتوحيدها مع الغير، أو إعادة إنتاج وبناء المواقف الاستراتيجية مع الجيران، أو مع شعوبٍ تُمثل امتداداتٍ للهوية القومية أو الدينية، أو إعادة النظر في فهم المرتكزات الوطنية الأساسية بشكل قد يعيد إنتاجَ هذا الفهم من جديد، سواء كانت هذه المرتكزات سياسية أو اقتصادية أو دينية أو ثقافية.. إلخ. نقول.. إن إمكانية تعرض القيادات السياسية المنتخبة للدولة إلى ظروفٍ جذرية من هذا القبيل، يقضي بأن تتوفر في المجتمع الآليات المناسبة والفعالة للعودة إلى الشعب بأسرع ما يُمكن ليتحملَّ مسؤوليته الكاملة تجاه تلك المستجدات المصيرية التي تخصه وتتعلق به أولا وآخرا.- إمكانية أن يَخرجوا بشكلٍ أو بآخر، في القليل أو في الكثير، عن عَقْدِ النيابة الذي انتُخِبُوا بِموجبه مُمَثِّلين للشعب في مواقعهم السلطوية. ما يعني ضرورة أن يَمتلك الشعب مجموعةً من الآليات التي تتيح له سحب نلك السلطات من أيديهم عندما يرى ذلك ضروريا ومناسبا.- إمكانية أن تقصر إمكاناتهم الثقافية أو الفكرية أو المعلوماتية، أو إمكانات بعضهم، عن الإلمام بالتفاصيل التقنية اللازمة لتكوين رؤى سياسية معينة ضرورية تسبق اتخاذ قرارات بعينها حول مسائل تتعلق بشرائح وبفئات محددة من المجتمع هي الأكثر دراية بظروفها الخاصة من جميع جوانبها، لضمان أن تكون تلك القرارات صائبة ومناسبة وفعالة، ما يقضي بأن تتوفر مجموعة من الآليات التي تُمَكِّن من استحلاب الخبرات والتجارب والمعلومات والأفكار والرؤى الوطنية الكاملة بهذا الخصوص، وجعلها تصب في مطبخ القرار السياسي قبل اتخاذ قراراته.إذن فنحن من جديد أمام شعبٍ يجب أن يكون حاضرا وباستمرار إلى جانب السلطات الأربع التي انتخبها وأنابَها عنه في كلٍّ من “التنفيذ” و”التشريع” و”الإعلام” و”القضاء”، كي تُدركَ تلك السلطات ويدرِكَ القائمون عليها، أن السلطةَ ليست تشريفا بل هي تكليفٌ، وأن الهيئات السلطوية الأربع لن تُتْرَكَ وشأنَها بعد أن انتُخِبَت، لتفعلَ بِهذا الشعب وبِحقوقه ومقدراته ومصيره التي امتلكت ناصيتَها بإرادته الحُرَّة ما تشاء، بل إنَّها ستُراقَب وستُتابَع، وإنَّها قد تُحال إلى التقاعد أو إلى قنوات المحاسبة من قبلِ الشعب نفسه إذا قصرت وتواكلت، كما أنَّها لن تَملك الحق في توريط الشعب في أيَّ مغامرات تَتَفَتَّقُ عنها نزوة مغامر هنا أو متواطئ هناك، قد تدمره أو قد تَمَس بِحقوقه التاريخية وتَمتهِن كرامتَه الوطنية.الحقيقة الثانية التي يقوم عليها التَّصَوُّر المذهبي الإسلامي لنظام الحكم، تتمثل في ضرورة وجود آليات تتيح للشعب أن يكون متواجدا باستمرار إلى جانب كل السلطات التي انتخبها لتنوب عنه في إدارة الدولة. إن أيَّ مواطن في دولة ماَّ، له هوية تُمثل “أناهُ” المجتمعية الخاصة التي تُنْتِجُ مُكَوِّناتُها في وعيه وفي لاوعيه، مجموعةَ رغبات ومطالب، والتي يستشعر لنفسه أو يستشعر له الآخرون من خلال مكوناتِها تلك، مجموعةَ حقوق، أو يرتب على نفسه أو يرتِّب عليه الآخرون بِموجبها، مجموعةَ واجبات. هذا ويُمكننا حصر عشرة مكوِّنات تُسهِم كلُّها في تشكيل هوية المواطن “أناه”، في كل مرحلة من مراحل حياته داخل المجتمع الذي يعيش فيه، هي.. الدين “مسلم، مسيحي، يهودي.. إلخ”، والعرق”عربي، كردي، أمازيغي، زنجي.. إلخ”، والجنس “ذكر، أنثى”، والمهنة “طبيب، مهندس، محامي، صحفي، معلم، عامل مياومة.. إلخ”، والعمر “طفل، مراهق، شاب، كهل، عجوز.. إلخ”، والحالة الإجتماعية “متزوج، أعزب، مطلق، أرمل.. إلخ”، والحالة الصحية “مريض سكري، معاق ذهنيا، أعمى، سليم، مريض سرطان.. إلخ”، والحالة الاقتصادية “فقير، غني، ذو دخل محدود، عاجز عن العمل.. إلخ”، والحالة التعليمية “أمي، متعلم تعليما إبتدائيأ، يحمل شهادة ثانوية عامة، مؤهل جامعي.. إلخ”، والحالة الثقافية “كاتب، فنان، شاعر، راقص، رسام، مغني، موسيقي.. إلخ”.إن ما يشكل مكوِّناً من مُكَوِّنات هَوِيَّتِنا، من حقنا التعبير عنه بكامل حرِّيَّتِنا التي لا تتعارض حيثياتُها بطبيعة الحال مع حُرِّيات الآخرين، ولا تصطدم بالبناء المجتمعي الذي يعيش في كنفه الجميع مواطنين شركاء في الوطن. وإذا تَطَّلَب هذا المُكَوِّن حقاًّ معينا يقتضيه اقتضاءَ لزوم، فإن إعطاءَنا هذا الحق أو تيسيرَ سبلِ حصولِنا عليه، يغدو واجبا وطنيا على القوانين والقواعد والبُنَى والمؤسسات المجتمعية السائدة أن تدفعَ باتجاه تَمريره وتَحصيله.. إلى أين يُمكن لهذا الحديث أن يسوقَنا؟!مادام كلٌّ من ديننا وعِرْقِنا وجنسنا ومهنتنا وعمرنا وحالتنا الإجتماعية وحالتنا الصِّحِّيَّة وحالتنا الاقتصادية وحالتنا التعليمية وحالتنا الثقافية، هي مُكَوِّناتُ هويتنا و”أنانا” داخل بوتقة النظام والدولة والوطن. ومادام كلُّ واحد من تلك المكونات يُشْعِرُنا بِمجموعةٍ من الحقوق المتعلِّقَة بكرامتنا وبِحريتنا وبإنسانيتنا، بل وبِحاجاتنا الأساسية أيضا، فلا شك إذن في أن حقوقَنا تلك واجبةُ التأمين وتيسيرِ السُّبل داخل قنوات الحياة المجتمعية، ومن حقنا استيفاءَها من المجتمع بلا أدنى مساومة على هذا الحق. وبِما أن أيَّ حقٍّ إنَّما يبدأ أصحابُه مسيرةَ تَحصيلِه بإتاحة الفرصة لهم كي يعبِّروا عن أنفسهم من خلاله، فهذا يعني أن كلَّ مكوَّن من مكونات هويتنا العشرة سالفة الذكر يَجب أن تُتاحَ له فرصة التعبير عن نفسه عبر البُنى والتَّكَتُّلات والمنظمات التي تناسبه شكلا ومضمونا. إن هذا ما عَبَّرَت عنه الحضارة المعاصرة بِمنظمات ومؤسسات المجتمع المدني. وهو ما يمكن القول بأنه يُمثل بالمصطلحات العينية المباشرة، “النقابات المهنية والعمالية بمختلف أشكالها”، و”الاتحادات الطلابية والشبابية والنسائية”، و”المساجد والكنائس ودور العبادة والجمعيات الدينية”، و”الروابط والدواوين الأسرية والعائلية والقبلية وما شابَهها”، و”جمعيات العمل الخيري والتطوعي بمختلف أشكالها وأنواعها وبمختلف المجالات الإنسانية التي تغطيها”، و”الاتحادات الثقافية والفنية المختلفة”. وإننا كي نتمكن من تحويل هذا الكم الهائل من أنْماط وألوان العمل المدني، إلى معادلات سياسية تستطيع أن تُقَدِّمَ فِعْلاً سياسيا ذا قيمةٍ في المجتمع، يُحقق فكرة استمرار الشعب في التواجد الفعال إلى جانب السلطات الأربع التي أنابها عنه لقيادة الدولة، فإننا سوف نقوم بعملية تصنيف نوعي يَختصر تلك المنظمات تحت العناوين الأساسية التالية..* النقابات المهنية.* الاتحادات الطلابية.* اتحادات الشباب أو الكهول أو الشيوخ “كبار السن”.* اتحادات النساء أو الذكور.* الروابط العرقية أو العائلية أو العشائرية.* الروابط الثقافية أو الفنية.* الجمعيات الخيرية.* الروابط التعليمية.* الروابط الاقتصادية.* دور العبادة.والآن كيف يُمكننا تحويل المجتمع من خلال تلك العناوين المؤسسية المدنية الرئيسة إلى هيئة حَيَّة تراقِبُ أعمالَ السلطات الأربع وتتابِعُها ولا تغفل عنها وتبقيها في حالةِ يقظةٍ وحذرٍ وحرص على عدم الغفلة أو الانحراف أو التواكل، في عملية إشراكٍ حقيقية وشاملة لكل شرائح الشعب في إدارة دولته ومتابعة شؤونها، كنموذج أرقى ما يكون لمعنى سلطة الشعب، ولفكرة أن “الشعب هو مصدر كلِّ السلطات”.إن كلَّ مواطن سيجد له حتما مكانا في أكثرَ منِ واحد من العناوين العشرة السابقة المُعَبِّرَة عن هويته. أي أن الشعبَ يجب أن يعادَ إنتاجُه تنظيميا بحيث يصبحُ مجموعةً من الأشخاص والأفراد تتحرك إراداتُهم الرقابية في أروقة البُنَى المؤسسية التي تُعَبِّر عن مُكَوِّناتِ هوياتِهم سالفة الذكر. لا يوجد من حيث المبدأ مواطن راشد ومكلف قانونا ليس له مكان في واحدة من تلك البُنى على الأقل، وإن كان بالإمكان أن لا يتواجد فيها جميعِها. كما أن من الممكن أن لا تنبثق إلى حيِّز الوجود بُنْيَة من البُنى المعبرة عن بعض جوانب الهوية المشار إليها. فالظروف الموضوعية التاريخية التي استدعت ظهور الاتحادات النسائية، ليس بالضرورة أن تقابلها ظروف تستدعي ظهور الاتحادات الذكورية. وتلك التي تَطَلَّبَت ظهور الاتحادات الشبابية، قد لا يقابلها ما يتطلب ظهور اتحاداتٍ للكهول أو لكبار السن.يَجب أن تَتَشَكَّلَ في المجتمع بُنيَة هَرَمِيَّة عملاقة لكل عنوانٍ من عناوين الهوية الاجتماعية للمواطنين، تضُمُّ في صفوفها في قالبٍ تصاعدي متسلسل، كافة المواطنين المسؤولين اجتماعيا، وهم يُعَبِّرون عن أنفسهم تنظيميا من خلال ذلك العنوان، على أن تَحْكُمَ هذه البُنْيَة التنظيمية الهرمية قواعدُ ولوائحُ وأنظمةٌ داخلية تفصيلية شاملة وعادلة، تعكسُ التعبيرَ الموضوعي والحقيقي والحر، عن التَّمثيل التَّصاعُدي للمواطنين من خلال عنوان هويتهم ذاك. أي وبكلمة أخرى، يجب أن تَصُبَّ كافة البُنَى التنظيمية الصغيرة والمتناثرة والمُبَعْثَرَة في صفوف المجتمع، والمعبِّرَة لدى كل مجموعة من المواطنين عن موقعها في تشكيلة البُنى المُجَلِّيَة لمُكَوِّن من مكونات الهوية الاجتماعية، في مَجْرَى نِهرٍ تنظيمي كبير، يؤدي في النهاية إلى “دلتا” تنظيمي ضخم، يُعَبِّرُ المواطنون من خلاله عن تكثيفٍ فعالٍ لعنوان هَوِيَّتِم الاجتماعية ذي العلاقة، بِهدف خلقِ سياقٍ جمعي تكَتُّلي له، أكثر قدرةً من التَّبعثر والتَّشتُّت، على التعبير وعلى تَحقيق الذات وعلى التواجد المستمر وعلى اتخاذ القرارات المتعلقة بالمصير من جهة، وتلك المتعلِّقَة بِمُكَوِّن الهوية ذي العلاقة ذاك، من جهة أخرى.وعندما تَتَخَلَّق لكل عنوان من عناوين الهوية الاجتماعية للمواطنين، بُنْيَتُها الهرمية المتصاعدة، المعبِّرة كما تفترضُ ذلك طبائع الأمور عن كلِّ الشعب أو عن معظمه على أقل تقدير، وبأكثر من طريقة، وفي ضوء أكثر من صورة. سنكون في واقع الأمر أمام شعبٍ أتيحت له فرصة التًّكتُّل الفاعل بأشكالٍ متعددةٍ تَعَدُّدَ جوانبِ هوية مواطنيه الاجتماعية، ما يَجعله قادرا على إبداء رأيه بكفاءة منقطعة النظير في كل تفاصيل حياته ودقائقها، وعلى التواجد التَّعْبَوي الدائم، ليكون شعباً في حالة تفكير وتعبئة وعمل متواصلة لا تنقطع، استطاع أن يَسْتَحْلِبَ من أبنائه كافة طاقاتهم وجهودهم وإيجابياتهم وفاعلياتهم.دعونا الآن نُلْقي نظرة فاحصة على هذا المجتمع المُعَبَّأ المنظم الفاعل اليقظ المتحَفِّز. سنشاهد أنه ينطوي على عشرة أهرامات راسخة تَمتدُ بِجذورها إلى الأعماق. كل هرم من الأهرامات ليس سوى إعادةٍ لترتيبِ شكلِ ونوعِ وهدفِ تواجد أفراد هذا المجتمع بِما يتناسب مع طبيعة مُكَوِّن الهوية الذي يُمَثِّلُه، حقوقا وواجبات ومتطلبات. أي وكأننا أمام لعبة لوجو تتكون من عدد كبير من القطع المتباينة التي رُكِّبت بعشر طرق مُختلفة، أظهرت كلُّ طريقة منها في نهاية مطاف التركيب نَموذجا لماردٍ عملاقٍ قويٍّ. إن قِمَمَ هذه الأهرامات وهي تتفاعل وتلتقي وتتجمع، تعكس تلاقي القيادات الحقيقية للمجتمع. القيادات التي ترتبط بالمجتمع كلِّه ارتباطا دائما عبر حبلٍ سِرِّيٍّ حقيقي تغتذي منه.تُثْمر فكرة التَّكثيف الهرمي للمجتمع بالشكل الذي شرحناه سابقا عن قِمَّةِ الفاعلية والتَّعْبَوِيَّة والجاهزية، إذا انبثقت هذه السلاسل الهرمية المتصاعدة والمتوازية عن برلمانٍ شعبي يتكون من مَجاميعِ القيادة المتواجدة على رأسِ كل هرم من تلك الأهرامات. أليست هذه صورة حقيقية من صور الشعب الذي يشكل بِمجموعه برلمانا واحدا في حالة انعقاد دائم؟! برلمان يتكون من عشرة برلمانات أصغر، يُمثل كلُّ واحدٍ منها الشعبَ نفسَه كاملا، عندما يعبر هذا الشعب عن نفسه بوصفه في كل برلمان منها شعبا له حقوق ومتطلبات وآراء، وعليه التزاماتٍ وواجباتٍ، غير تلك التي ترتبت له أو عليه من خلال تعبيره عن نفسه في برلمان آخر منها.البرلمان الأول يُمثل الشعبَ وهو يُصَعِّد نفسَه من خلال مِهنِ ووظائف أبنائه وأعمالهم. البرلمان الثاني يُمثِّلُه وهو يصعِّد نفسَه من خلال مساجده وكنائسه ومعابده أياًّ كانت. البرلمان الثالث يُمثِّله وهو يتصعَّد من خلال فئة منه هي فئة الطلاب. البرلمان الرابع يُمثله وهو يصعِّد نفسَه من خلال فئة أخرى منه هي فئة النساء. أما البرلمان الخامس فمن خلال فئة ثالثة هي فئة الشباب. ليأتي البرلمان السادس مُمثلا له وهو يصعِّد نفسَه من خلال العائلات والعشائر والقبائل وتَجمعات الأقليات العرقية والقومية إن وُجِدَت. أما تصعيد الشعب لنفسه من خلال مستويات أبنائه التعليمية ومستوياتهم الاقتصادية وأوضاعهم الثقافية، فإنه سوف يؤدي إلى تَمثيله عبر البرلمانات السابع والثامن والتاسع. ليأتي البرلمان العاشر خاتِماً سلسلةَ التمثيل الشعبي عبر إتاحة الفرصة له كي يتصعَّد من خلال أعمال أبنائه الخيرية والتطوعية والاجتماعية المختلفة. أما برلمان البرلمانات الشعبية فهو ذلك المُتَكَوِّن من أعضاء البرلمانات العشرة المتصعِّدَة. لكن ما هو دور هذا البناء الشعبي الهرمي الضخم المتَصَعِّد عبر تسلسلٍ متجذر، من أدنى القواعد الشعبية إلى أعلى قمم التمثيل الشعبي، وما هي صلاحياته؟! وما هو شكل علاقاته المفترضة بالسلطات الأربع التي سبق وأن انتخبها الشعب ذاته كي تنوبَ عنه في إدارة الدولة وشؤونِها على جميع الصُّعُد؟!يُمكننا توضيح هذه الصلاحيات وهذا الدور وهذه العلاقة، على النحو التالي..* لا يُمكن أن تتولى هذه البرلمانات أيَّ دور من تلك الأدوار التي تتولاها السلطات الأربع المنتَخَبَة، نظرا لتعارض ذلك مع فكرة السلطة، ونظرا لإمكان الدخول في متاهات الازدواجية السلطوية التي من شأنها أن تثيرَ القلاقل والمشكلات السياسية والقانونية، فضلا عن تعارض ذلك مع الغاية من وجود السلطة في المجتمع من حيث المبدأ. وبالنظر لضرورة أن يكون لها دورٌ انتفت عنه صفة السلطة، فلا شك في أنه دور إستشاري، تضع بِموجبه هذه البرلمانات رؤاها ومواقفها ونصائحها وما تَملكه من معلومات ذات صلة، سواء بِمبادرة منها أو بطلب من الجهات المختصة، أمام السلطات، كي تتولى هذه السلطات الاستفادة منها أثناء إدارتها لشؤون الدولة، إن هي شاءت.* تتولى هذه البرلمانات الشعبية متابعة إجراءات المطالبة بِمحاسبة أو عزلِ من يقرر الشعب مُحاسبَتَهم أو عزلَهم عبرَها، إذا توفرت الشروط الموجبة لكلٍّ من المحاسبة والعزل، كما ستنص على ذلك الوثيقة الدستورية أو القوانين الخاصة ذات العلاقة. على أن يكون مفهوما أن لكلِ حالةِ عزلٍ أو مُحاسبة شروطَها الخاصة بِها التي يَجب أن تتوفر في من سيُحاسَب أو سيُعزَل، فضلا عن توافر الأعداد الكافية من المواطنين الذين يَحق لهم أن يَتَّخِذوا إجراء المطالبة بالمحاسبة أو بالعزل، ليتقدموا به إلى الجهات المختصة التي هي قطعا السلطة القضائية.* تتولى هذه البرلمانات تذكير المقصرين أو المتهاونين والمتواكلين من أعضاء الهيئات والسلطات المنتَخَبَة، كي يعودوا إلى التزاماتهم ونشاطاتهم، خشية أن يتعرضوا للمطالبة بِمحاسبتهم وعزلهم وتوجيههم إلى القضاء.* يَحق لهذه البرلمانات ضمن شروطٍ معينة تُحَدِّدُها الوثيقة الدستوريةٍ أن تتقدم للسلطة التشريعية بِمشاريع القوانين أو باقتراحات التعديل على مشاريع القوانين وعلى القوانين ذاتِها. على أن يكون مفهوما أن أيَّ حق من هذا القبيل، يجب أن يكون مربوطا بتوفر أعداد كافية وكبيرة من المواطنين المطالبين بذلك، يحددها الدستور، للسماح بمجرد التقدم للسلطة التشريعية بشيء من هذا القبيل، كي لا تتعرض العملية التشريعية إلى أي نوع من الامتهان أو التقليل من هيبتها، مع المحافظة بهذه الفكرة على حق الشعب في أن يبقى سيد العملية التشريعية عبر إعطائه حق مُمارستِها وفق آليات معينة. مع ضرورة التأكيد على أن إعطاءَ الشعب هذا الحق، لا يُلزم السلطة التشريعية في اعتماد تلك المشاريع قوانين معمولاً بها، بل هي ستتعامل معها كأي مشاريع تتقدم بها الجهات التي يحق لها التقدم بِمشاريع القوانين أو تعديل القوانين وفق أنظمتها ولوائحها الداخلية، مادامت هي الجهة المختصة التي أنابَها الشعب عنه لتتولى عملية التشريع.* تتولى هذه البرلمانات وضع اللوائح والأنظمة التي تُدار بها هي نفسُها أو التي ستنطبق داخل البُنى التنظيمية التي تصًعَّدت عنها، مادامت السلطة التشريعية لم تُصْدِر قوانين خاصة لإدارة هذه البُنى التنظيمية.*
* يَحق للبرلمانات الشعبية المطالبة بإجراء الاستفتاءات الشعبية على القضايا التي ترى أنَها تستحق ذلك في مجال السياسات، أو إذا لم توافق السلطة التشريعية على ما تكون قد تقدمت به من مشاريع قوانين أو تعديلات للقوانين. على أن يكون واضحا أن شروطَ المطالبة بإجراء استفتاء شعبي عام، أشدُّ صعوبة وقسوة من شروط التقدم بِمشروع قانون إلى السلطة التشريعية، مادامت هذه البرلمانات ستقوم عبر الرجوع إلى الشعب من خلال الاستفتاء، بتحييد كافة السلطات التي انتخبها، ليتولى مهمة التشريع واتخاذ القرارات بنفسه مباشرة وبدون وكلاء أو نواب. هذا ويجب أن تنصَّ الوثيقة الدستورية بوضوح تام على هذه الشروط، فضلا عن النص على القضايا التي لا يجوز إقرارها إلاَّ عبر الاستفتاءات بصرف النظر عن توفر شروط من عدمه.3 – بالقدر نفسه الذي اكتشفنا فيه عندما تحدثنا عن الأهداف الاستراتيجية للمذهب الاقتصادي في الإسلام، أن أهم تلك الأهداف كان مبدأ “تداول الثروة”، فإن الهدف الأهم والأكثر إستراتيجية في حيثيات المذهب الإسلامي في مسألة الحكم القائمة على تكريس وتفعيل فكرة الحرية المُقْتَضِيَة حتما لفكرة المشاركة، هو مبدأ “تداول السلطة”. وأوضحنا حين الحديث عن تداول الثروة، أن هذين المبدأين مرتبطان ارتباطا وجوديا وعضويا لا تنفصم عُراه. فتداولُ الثروة وتداولُ السلطة، هما في علاقتِهما أحدِهما بالآخر، كعلاقة الصحة بالقوة، أو كعلاقة المرض بالضعف في الجسم الواحد.لم يكن الإسلام في حاجة إلى أن يتحدثَ عن مسألتي “تداول السلطة” و”تداول الثروة” معا كي نفهمَ أنه يرمي إليهما، ويهدف فيما يهدف إليه، إلى تَحقيقِهما في واقع الحياة الإنسانية. فمادامت كلُّ مسألةٍ منهما مرتبطةً إرتباط وجود بالأخرى، فالإشارة إلى استهدافِ إحداهما كانت كافية لفهم استهدافه الضمني للأخرى. وهو قد أوضح صراحة فَرَضِيَّة تداول الثروة، وبالتالي فكأنه أوضح ضمنا فرضية تداول السلطة. فأيُّما فعلٍ اقتضى فعلاً آخر، فإن وقوعَ الأمر على الفعل الأول يوقِعُه على الآخر بالتَّبَعِيَّة حتما.لكن علاقة الترابط الوجودي بين هذين التداولين، لا تقف عن حدِّ القول بأن تَحَقُّقَ أحدهماَ يؤدي إلى تَحَقُّقِ الآخر، بل إن هناك نوعاً خاصاً من العلاقة التداولية بين كلٍّ من الثروة والسلطة تَجعل من الثروة بناءً تَحتيا لفلسفة التداول، فيما تَجعل من السلطة بناءً فوقيا لها. ومعنى هذا القول أن من أراد التَّعَرُّفَ على موقف الإسلام من مبدإ تداول السلطة، إن لم يَجِدْه واضحا وصريحا في نصوصٍ ذات علاقة، أن يبحثَ عنه في موقفه من تداول الثروة. أماَّ من أراد التَّعَرُّف على موقف الإسلام من مبدإ تداول الثروة، فإن عليه البحث عنه في ما ورد من إشارات مختلفة حول مبدإ تداول الثروة ذاته، ولا يُكْتَفى بأن تُلاحَظَ إشاراتٌ هنا أو هناك تتعلق بمبدإ تداول السلطة لاستنتاج الاتجاه الإسلامي نحو مبدإ تداول الثروة، رغم كل هذا الترابط الوجودي بين المبدأين.. ما معنى هذا الكلام؟!إن تداولَ الثروة يقتضي في الواقع أن تُتَداَوَلَ السلطة، فهذه الأخيرة نتيجة حتمية للأولى لا يُمكن الفكاك منها، لأن السلطة في جوهرها ثروة مكثفة، ولأن السياسة في نهاية المطاف اقتصاد مُركز. فحيثما تم تداول الثروة فإن السلطة قطعا ستدور معها حيث دارت. وقد شرحنا ذلك عندما تحدثنا عن تداول الثروة في المذهب الاقتصادي الإسلامي. لكن الفكرة المقابلة ليست حتمية، فإذا تم تداول السلطة كمنطلق لفلسفة التداول في المجتمع، فليس بالضرورة أن يؤدي ذلك إلى تداول الثروة. لأنه إذا كان بالإمكان أن يُصار إلى تَحقيق تداول للسلطة غير ناتج عن تداولٍ أسبقَ للثروة، فإن هذا يعني قطعا أن بالإمكان أن لا يؤدي هذا التداول في السلطة إلى تداول حتمي في الثروة. في الحقيقة فإن هذه معادلة مُمكنة، وهي على وجه التَّحديد ما يحدث في قلب البناء المجتمعي الرأسمالي العالمي بزعامة الغرب الأوربي والأميركي.إن تداول السلطة أمر أيسر بكثير من تداول الثروة، وتاريخُ البشرية يروي لنا القصة بوضوح لمن أراد أن يعرف. فمعظم أوجه الصراع السياسي على كراسي السلطة، والتي رأيناها ونراها تَحدث في الغالب داخل المنظومات الاقتصادية الواحدة، لم تكن تنتجُ عن تداولٍ حقيقي للثروة، ولا كانت تؤدي إليها في الغالب. بل إن من السهل علينا ملاحظة أن الزعامات السياسية الزائلة والتي جاءت على أنقاضها في تلك الصراعات، كانت تنتمي إلى معسكر الثروة ذاته، مع هوامش فروقٍ ضئيلة لا تكاد تُذكر أو تُؤَثِّر في مُحصلة المسار المتعلق بِمواقع الثروة، يُمكن إدراج معظمها بكل يسرٍ وسهولةٍ تَحت بند الصراع على النفوذ والوجاهة البعيدة عن التنافس الاقتصادي بمعناه الواسع. فما يَحدث في الغرب الرأسمالي من تداولٍ مُخادع للسلطة، وما يَحدث في الكثير من الدول الهامشية الواقعة على تُخوم العالم الرأسمالي المركزي من أشياء تبدو قريبة من ذلك، أو ما نسمع عنه من انقلابات هنا أو هناك بقيادة الزُّمَر العسكرية في هذا البلد أو في ذاك، إنَّما يصب كُلُّهُ في خانة التغييرات القشرية المُسْتَحْلِبَةِ للاحتقانات المجتمعية مع إبقاء معادلات الثروة قائمة كما هي دون تغيير، وهو ما نطلق عليه.. “تداول البناء الفوقي الذي هو السلطة دون المساس بالبناء التَّحتي الذي هو الثروة”.إن التداول في البناء الفوقي الذي هو السلطة، يأخذ طبيعة شكلية قِشْرِية عديمة الدلالة وفاقدة المضمون، عندما لا يكون ناتجا عن تداولٍ في البناء التحتي الذي هو الثروة، أو عندما لا يكون مؤديا إليه. ولأن تنظيمَ آلياتٍ تكفلُ هذا التداول القِشِري المظهري للسلطة أمر سهل يُحَقِّقُ هدفين أساسيين في المجتمعات التي تلجأ إليه هما، الحفاظ على الثروة مَحْمِيَّةً من احتمالات التداول المُغَيِّرَة لموازين القوة الداخلية التي تُعَبِّرُ عنها تَمركزات الثروة، وتنفيس الاحتقانات المجتمعية المرافقة لهذا التَّمَرْكُز، بتفريغها على مستوى قمة الهرم السلطوي، عبر تلك المظاهر التداوُلِيَّة المخادعة التي تظهر وكأنها قد تحققت بإرادةٍ القواعد المجتمعية المخدوعة بما تعتقد أنه مُمارسة للحرية وللحقوق على وجه الحقيقة. نقول.. نظرا لكون تنظيم مثل هذه الآليات أمر سهل، فإن الرأسمالية العالمية استطاعت أن تكفل لنفسها التَّجَدُّدَ عبر هذا الشكل من أشكال التداول القشري للسلطة دون أن تُعَرِّضَ أفكارَها ومبادِئَها الأساسية للخطر، مُحافظة بواسطة ذلك على تَمركزٍ خطير للثروة يتفاقم يوما بعد يوم.تتبدَّى عظمة الإسلام ودقَّته وحكمة الله في أسلوبِ عرضِه على البشر وتكليفهم به، عند النظر إلى معالجته للتداولين السابقين، السلطة والثروة. فهو لم يقدم أي تَصَوُّرٍ نَصِّيٍّ حول تداول السلطة. لكنه كان واضحا وصارما ومُحَدَّداً في تثبيته لفكرة تداول الثروة، وفي أمره بكل ما يرفدُها في الواقع بِمقومات التَّحَقُّق والنماء والتطور والاتِّساع. إنه بدأ من النقطة السليمة. النقطة التي يؤدي تَحَقُّقُها في الواقع المجتمعي إلى تداول السلطة. إنَّها تداول الثروة. وهو بِهذا يكون قد حسم الموضوع بشكل لا يفرض إملاءاتٍ فوقيةً قد لا تَحتملها الطبيعة القَبَلية والطبقية للبناء المجتمعي العربي، بل والبشري آنذاك. فمادام البناء الفوقي الذي هو السلطة لا تُمكن زحزحَتُه عن الأسس التي تَحكمه إلاَّ بزحزحة أسس البناء التحتي الذي هو الثروة، ومادامت زحزحتُه الشكلية غير مُسْتَهْدَفَة إسلاميا من حيث المبدأ، لأن تداول السلطة في ذاته إذا لم يكن تعبيرا عن تَغَيُّرٍ حقيقي في مواقع الثروات في المجتمع، إماَّ بأن يُسَبِّبَه وإماَّ بأن يَنْتُجَ عنه، فهو ليس بذي قيمة من حيث المبدأ، فإن الحاجة إلى صدور أحكامٍ مباشرة تتعلق بِهذا البناء الفوقي تفقد قيمتَها، في ظل بناءٍ تَحتي يَحتاج إلى قدرٍ عالٍ وكبيرٍ وطويلٍ من التطور كي يتَحَقَّق على أرض الواقع، ما جعله يكتسب في خطة الله الأولوية القصوى بوصفه البُنْيَة المجتمعية التي لا مفر من تغييرها وإعطائها صورَتَها الجديدة كي تلحق بِها حتما وضرورةً، البُنْيَة الأخرى وهي السلطة. لقد أراد الله سبحانه أن يتحققَ تداولُ السلطة بشكل تلقائي وانسيابي كنتيجة طبيعية لتحققِ تداولٍ أسبق يؤدي إليه قطعا، هو تداول الثروة، لأن العكس لا يُمكنه أن يَحصل بالضرورة، بسبب طبيعة العلاقة بين التداولين كما أوضحنا ذلك سابقا، ولأن العملَ على تكريس قنوات التطور التي ستُحْدِث تداولَ الثروة أمر كاف في ذاته لتحقيق الهدف على صعيد تداول السلطة. فإذا كان البشر يقتتلون من أجل السلطة في الغالب دون المساس بالبناء التًّحتي المُكَوِّن لها وهو تَمركز الثروة، فلتتغير البُنى التحتية وليكن تَغَيُّرُها هو سبب التداول الحقيقي لسلطةٍ سيفقد المتنافسون عليها عندئذٍ فاعلية السيف لأجل الحظوة بِها. ولأن تداولَ الثروة لم يتحقَّق في معظم مراحل التاريخ الإسلامي، فإن تداولَ السلطة لم يكن ليَحصلَ بالشكل المستهدَف، الأمر الذي جعل تداوُلَها يَحدث بشكله الدموي الذي يَحدث في كل مكان على وجه الأرض ليس فيه تداولٌ للثروة ابتداءً. إن أي محاولة صَبَّت أو تصب في خانة تقريب المذهب الاقتصادي الإسلامي من المذهب الرأسمالي، أو تبرير المصالحة المذهبية بينهما، هي في واقع الأمر محاولاتٌ خدمت على مدار التاريخ وستستمر في خدمة فكرة انعدام تداول الثروة. ما حال بالتالي دون المسلمين ودون تَوَصُّلِهم منذ وقت مبكر إلى آليات ناجعةٍ لتداول السلطة بشكل جوهري. إن ما نراه في الوطن العربي تحديدا من أشكالٍ فَجَّةٍ وبشعة من التَّمركز في السلطة هو ناتج ابتداءً عن أشكالٍ أبشع وأكثر فجاجةً من الانعدام في آليات تداول الثروة، في حالةٍ أكثر ما تكون بعداً عن الإسلام وعداءً له ومحاربةً لمبادئه وأسسه وأصوله العظيمة.ومع ذلك فإن الإسلامَ قد أكد على مجموعة من القيم الأخلاقية والتنظيمية التي لا تستطيع في ذاتها وإذا تم التعامل معها معزولة عن علاقة السلطة بالثروة، أن تُحقق شيئا يذكر على صعيد تداول السلطة، وإن كانت تستطيع إذا تَمَثَّلَها المسلمون كرديفٍ فكري وأخلاقي للعنصر الأساسي المكوِّن لمبدأ تداول السُّلْطَة، ألا وهو مبدأ تداول الثروة، أن تكون بِمثابة مُحفِّز على تعجيل وعلى تدعيم عناصر التفاعل الوجودي بين المبدأين. ومن هذه القيم، التأكيد مثلا عن أن الطاعة واجبة للأمير حتى لو كان رأسه “زبيبة”، أي حتى لو كان أسودً. والسواد عند العرب كان يشير إلى علامة الرَّق في العادة، في تكريسٍ واضح لفكرة أن السلطة تتأتى من قيم الكفاءة، وليس من قيم العائلة والقبيلة وشرف النسب بالمقاييس السائدة. ومنها مثلا، التأكيد على ضرورة لزوم الجماعة وعدم الخروج عليها، وهو ما يبعث على التخفيف من حِدَّة النزعة الفردية التي تشكل الدافع الأكبر لدى المتنافسين على كراسي الحكم والسلطة خارج أطر تداول الثروة. ومنها أيضا التأكيد على ضرورة أن لا يَموت المسلم إلاَّ وفي عنقه بيعة، وهو ما يدل على فكرة الالتزام والانضباط وعدم الانزواء عن العمل العام، بل الاندماج فيه اندماجا كاملا، بسبب ما تعنيه البيعة عادةً من ارتباطٍ للعُرَى لا ينفصم بين المبايِع والمبايَع، مع ما يستتبع البيعة عادة من نكرانٍ للذات وذوبانٍ في الجماعة ومصالحها. فضلا عن التأكيد على مبدأ الشورى المنصوص عليه في القرآن الكريم، والذي مارسه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة عندما لا يكون الأمر من مقتضيات الرسالة بل من مقتضيات العمل الدنيوي، وهو الأمر الذي يدل على ضرورة المشاركة في السلطة وفي اتخاذ القرارات. ناهيك عن عشرات النصوص التي كانت تُوَجِّهُ الأمراءَ إلى كيفية التعامل مع جُندهم أو مع رعاياهم الذين يسوسونهم، داعين إياهم إلى العدل وإحقاق الحق والرحمة وتَجنب الظلم والطغيان. علاوة على ما تم ذكره من فضل للحاكم العادل، ومن ضرورة قول الحق في مواجهة الحاكم الظالم دون خوف منه أو وجل، لما في ذلك من استحقاقٍ للدرجات العليا عند الله.. إلخ.ومادام تداول السلطة هدفا استراتيجيا يَجِبُ أن نسعى إلى تَحقيقه في الواقع بسبب ارتباطه ارتباطَ وجودٍ بِهدفٍ آخر واضحٍ في فرضيته وضوحا لا لبس فيه، ألا وهو تداول الثروة. فإننا لن نقف عند حدود ما سيفعله البعد التاريخي لتداول الثروة على صعيد تفعيل مبدأ تداول السلطة وتكريسه في الواقع دون أن نُسْهِمَ بِما نستطيع الإسهام به في رفد هذا المبدأ. بل إننا سنقوم برفد مبدأ تداول الثروة وهو يفعل فِعْله التاريخي الحافر في هذا الواقع دفعا به إلى استحضار مبدأ تداول السلطة، بكل ما يُمكنه أن يساعدَ على تسريع هذا الأخير وتفعيله. وإذا كان مبدأ الفصل بين السلطات المرتكز إلى كون الشعب هو مصدر هذه السلطات، ومبدأ تعبئة الشعب تنظيميا للإبقاء عليه مراقبا ومُمارسا للسلطة إلى جانب السلطات الأربع التي انتخبها، وفق أعلى درجات الجاهزية، من خلال تعبيره عن مُختلف جوانب هويته الاجتماعية بالشكل المناسب..نقول.. إذا كان هذان المبدءان هما ما كشفت لنا عنهما آلياتِ تَحقيق المشاركة في السلطة بشكلها الصحيح، فإننا نرى أن تحديد المدة الزمنية التي يحق لأي مواطن في الدولة أن يُمارسَ خلالَها السلطة في إحدى السلطات الأربع التي ينتخبها الشعب، يجب أن تكون مبدءاً معتمدا لرفد مسألة تداول السلطة بعناصر التَّكَوُّن والديْمومة. ولعل أفضل طريقة لذلك هي وضع سن تقاعدي لكل منصب سياسي أو عام، يكون مدروسا في ضوء المدة الزمنية القصوى التي يُفترض أن لا يشغلَ المواطنُ أيَّ موقع سياسي بعدها، على أن تتيح الآليات المعتمدة، الاستفادة من خبراته السياسية، دون أن يكون ذلك بإشراكه في السلطة التي يُفترض أنه خرج منها بعد أن استنزف المدة الزمنية المُقَرَّرَة له لممارستها.وبعد فإننا نستطيع تلخيص القواعد الأساسية التي يقوم عليها المذهب الإسلامي في مسألة الحكم والحرية بناء على ما مرَّ معنا من تحليل وشرح وتوضيح، في ما يلي..1 – يعترف الإسلام للإنسان بِحريتين، إحداهما تقتضي الأخرى، فهو حر في الاختيار الجوهري لأفعاله وخالقٌ فِعْلِي لها، بِموجب الجوهر الإلهي لإرادته التي هي مناط تكليفه واختياره واستخلافه في هذا الكون، وهو ما يقتضي أن يكون حُراَّ في المجتمع كي يُمارِسَ هذه الحرية بدون حجر عليه.2 – يُعَبِّرُ الإنسان في المجتمع عن حريته عبر مُمارسته لها في المجالات كافة، وعلى رأس كل ذلك حرية المعتقد، وحرية الدعوة إليه وتغييره في أَيِّ وقت، وحرية المشاركة في تشكيل البُنَى والتنظيمات والتَّجَمُّعات السياسية وغير السياسية في المجتمع للدعوة إلى أفكاره ومعتقداته، أو للوصول إلى السلطة والمشاركة في قيادة الدولة عبر أَيٍّ من مؤسساتِها.3 – الشعب هو مصدر السلطات، فهي تنشأ منه وبإرادته التي يعبر عنها عبر الانتخابات وعبر كل أدوات التعبير عن الرأي الممكن إنبثاقُها إلى حيِّز الوجود. وهو الأمر الذي يستتبع الاعتراف للشعب بحق مراقبة هذه السلطات ومتابعتها ومحاسبتها وعزلها، بإتاحة الفرصة له كي ينشئ الآليات التي تُمَكِّنه من مُمارسة حقوقه تلك.4 – يشكل الشعب أربع سلطات منتخبة مفصولة بعضها عن البعض الآخر فصلا كاملا وكُلِّياً بِحيث لا تتدخل أيٌّ منها في عمل السلطات الأخرى تَحقيقا لمبدأ الفصل التام بين السلطات. وهذه السلطات الأربع هي “التنفيذية”، و”التشريعية”، و”القضائية”، و”الإعلامية”.5 – يُعَبِّرُ الشعب عن كافة جوانب هويته الاجتماعية التي يُمكن حصرُها في عشرة جوانب، عبر مجموعة من البُنى التنظيمية التي يُمارس من خلالها دورَه في الرقابة والمتابعة والمحاسبة والمشاركة في إدارة شؤون دولته.6 – مبدأ تداول السلطة هدف استراتيجي يقوم عليه المذهب الإسلامي في الحكم. وإذا كان مبدأ تداول الثروة هو الذي سيساعد السلطة على أن تُتَداَوَلَ في المنظور التراكمي التاريخي، فإن الالتزام بسقفٍ زمني أعلى لممارسة السلطة لا يجوز تجاوزه يعتبر من المبادئ الأساسية التي تساعد على رفد مهمة مبدأ تداول الثروة في تَحقيق مبدأ تداول السلطة واقعياً.