أولا.. الحريات المعطاة للإنسان.. أعطى الله للإنسان حريتين، الأولى هي تلك التي تخوِّله القدرة على الاختيار المتحرر من كل الضغوطات بين البدائل المتاحة أمامه كتحقيقٍ لأمر التكليف الرباني الذي يُعْتَبَر في جوهره اختيارا حرا بين بدائل ممكنةٍ ومتاحة. والثانية هي تلك التي تتيح له فرصة تنفيذ اختياره الحر بين البدائل التي اختار من بينها. وإذا كانت الحرية الأولى صفةً جوهرية في الإنسان بحكم إنسانيته كما نفهمها، والقائمة على انطوائه على عنصر الإرادة الإلهية ذاتها. فإن الحرية الثانية تُعْتَبَر حقا من حقوقه الدنيوية، يستشعر
نظام الحكم البديل والحريات العامة الحقيقية
“رؤية إسلامية”
الحلقة (1)
مفاهيم أساسية.. “الحرية، المواطنة، القومية، الأقلية الإثنية، العلمانية”
أسامة عكنان
عمان – الأردن
أولا.. الحريات المعطاة للإنسان..
أعطى الله للإنسان حريتين، الأولى هي تلك التي تخوِّله القدرة على الاختيار المتحرر من كل الضغوطات بين البدائل المتاحة أمامه كتحقيقٍ لأمر التكليف الرباني الذي يُعْتَبَر في جوهره اختيارا حرا بين بدائل ممكنةٍ ومتاحة. والثانية هي تلك التي تتيح له فرصة تنفيذ اختياره الحر بين البدائل التي اختار من بينها. وإذا كانت الحرية الأولى صفةً جوهرية في الإنسان بحكم إنسانيته كما نفهمها، والقائمة على انطوائه على عنصر الإرادة الإلهية ذاتها. فإن الحرية الثانية تُعْتَبَر حقا من حقوقه الدنيوية، يستشعر الإنسان بفطرته استحقاقَه لها بسبب انطوائه على الحرية بمعناها الأول.
إنها بمعنىً آخر شكل من أشكال التنظيم المجتمعي الذي يمنعُ أيَّ إنسانٍ من أن يحجر على حرية إنسان آخر في الاختيار. وإذا كانت الحرية بمفهومها الأول تشير إلى العلاقة بين الإنسان وربه وإلى طبيعة الإنسان من حيث المبدأ، لأنها عماد تكليفه وجوهره الإنساني، فإنها بمفهومها الثاني تهم الإنسان في واقعه الاجتماعي، فتفتح أمامه سُبُلَ الإبداع والترقي بنفسه، من خلال رفع كل مُعَوِّقات حركته وتفكيره وتعبيره عن رأيه. إنها باختصار الحرية الاجتماعية متمثلة بادئ ذي بدء في حرية المعتقد والدعوة إليه، وفي حرية إبداء الرأي والدعوة إليه، وفي حرية وحق المشاركة في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية بوجه عام.
ولقد اتضح من بعض المرويات أن النخبة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، كانوا مدركين للأبعاد الحقيقية لهذه الحرية داخل المجتمع، إلى درجة وضوح الفروقات في أذهانهم بين الرغبات السياسية الشخصية للرسول، والتي تعتبر عند صدورها عنه مجرد مواقف فردية لمُواطِنٍ يختلف فيها عن مواقف غيره من مواطني الدولة، ولا تتضمن أي معنى من معاني الإلزام، وبين الأوامر الإلهية التي لا تجوز مخالفتها، باعتبارها صادرة عنه بصفته رسولا.
فقد روى ابن عباس رواية صريحة قاطعة في دلالتها على ما نقوله، قال.. “خرجت مع عمر إلى الشام (يقصد عمر بن الخطاب) في إحدى خرجاته، فانفرد يوما يسير على بعير فاتبعته. فقال.. يا ابن عباس، أشكو إليك ابن عمك – يقصد علي ابن أبي طالب – سألته أن يخرج معي فلم يقبل، ولم أزل أراه واجدا، فيم تظن موجدتَه؟ فقلت.. يا أمير المؤمنين إنك لتعلم. فقال.. أظنه لايزال كئيبا لفوت الخلافة. قلت.. هو ذاك، إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له. فقال.. يا ابن عباس، وأراد رسول الله الأمر له، فكان ماذا لو لم يرد الله تعالى ذلك. إن رسول الله أراد ذلك وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسول الله. أوكل ما أراد رسول الله كان؟ إنه أراد إسلام عمه ولم يرد الله فلم يسلم”. (عن شرح نهج البلاغة، لابن أبي حديد، الجزء الثالث، ص 114).
من المؤكد أن معنى إرادة رسول الله الواردة في هذه الرواية بصرف النظر عن صحتها، لأن يكون علي خليفة وأميرا للمؤمنين من بعده، لا يمكنها أن تنصرف إلى معنى الإرادة الملزمة الصادرة عنه بصفته رسولا. لأن عمر بن الخطاب لا يمكنه التحدث عن إرادة النبي عليه الصلاة والسلام بهذا القدر من مساواتها بإرادة البشر العاديين، إلا إذا كان يتحدث عما يدرك جيدا أنه إرادته عليه الصلاة والسلام في أمر يقع خارج نطاق النبوة والرسالة الملزمتين. وإذن فهو كان يعي جيدا أن المسألة – مسألة الخلافة والإمامة والحكم – ليست مسألة توقيفية من الله، الأمر الذي جعله يرد على ما يقوله ابن عباس بشأن رغبة رسول الله بما رد به عليه، معتبرا أن المسألة شخصية.
فالرسول الكريم كان ميالا إلى علي على ما تظهره هذه الرواية لأسباب تخصه، لكن المسلمين في غالبيتهم كانوا ميالين إلى غير علي لأسباب تخصهم، فكان أن وقعت إرادة الله – بسبب أن الأمر في شؤون الحكم شورى بين المسلمين – على ما أرادته الغالبية، لا على ما أراده رسول الله منفردا. ولم يكن جائزا في حق الله وهو الذي يريد الأمر في هذا الشأن شورى بين المسلمين، أن تقع إرادته إلا على إرادة الغالبية ورغبتها، لا على إرادة الأقلية ورغبتها، مادامت الشورة نافذة ولم يحل بين الصحابة وتطبيقها حائل مانع قد يظهر إرادة الله على عكس إرادة غالبية المسلمين. لا بل إن رسول الله بموجب هذه الرواية لم يتعد في تعامله مع أمر رغبته حدود إظهارها كرغبة شخصية لم يحاول حتى أن يؤثر فيها على أي من المسلمين، حتى لا يتم تنازل المسلم عن رغبته وإرادته الحرة في هذا الشأن إكراما لما يراه من رغبة الرسول الكريم عليه السلام.
ولعل هذا ما يؤكد أن الرسول الكريم وإدراكا منه لعدم ارتقاء رغبته في استخلاف علي، إن صحت الروايات التي تقول بذلك كما يزعم الشيعة، إلى مستوى الإلزام، تجنب تجنبا كاملا إيراد هذه الرغبة على شكل أمر منه عليه الصلاة والسلام، لأن هذا ليس من حقه أولا، ولأنه خشي من أن تكون رغبته إن طرحها حتى كمجرد رغبة، مخالفة لرغبات غالبية المسلمين، فيختارون ما رغب فيه الرسول على غير رضى منهم، في أمرٍ هم وحدهم أصحاب الحق في تقرير كل حيثياته من ألفه إلى يائه.
لكن، وفضلا عن هذا الإدراك العميق من نخبة الصحابة الكرام، للبعد البشري المحض في مسألة الحكم، ولحق الأمة في الاختيار الحر لحكامها وخلفائها وأمرائها، حتى لو خالفت اختياراتها الرغبات الشخصية للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، فإن هناك وجها آخر لطيفا يخفى على الكثيرين في سيرة الرسول، تتجلى فيه الآفاق الرحبة للحرية الاجتماعية التي منحها عليه الصلاة والسلام وبالتالي التي منحها الإسلام لأفراد المجتمع المسلم.
“إن المتتبع لقصة الإفك تتضح أمامه صورة كاملة للحرية التامة التي كان المسلمون يتمتعون بها في التفكير والتعبير والكلام. فكل من يطلع على تاريخ تلك الحقبة يعلم أن إشاعة الإفك عندما انتشرت في المدينة وأصبحت حديث الناس في مجالسهم ونواديهم، لم يكن يصدر عن الرسول – رغم أنه كان يحزنه ما يسمعه – ما يشير إلى غضبه من أصحابه أو من أهل المدينة عموما. ومع أن المرجح أن الرسول كان يعرف زيف التهمة الموجهة إلى أم المؤمنين عائشة لأنه كان يرى إصرارها على براءتها من التهمة، فإنه ما لجأ إلى استخدام وسائل القمع والمنع، ولا صلاحيات الرسول الملزمة، ولا هو منع أحدا من حقه في التعبير عما هو مقتنع به، مع أن المسألة كلها لم تكن قد قامت إلا على الظنون والشكوك والتخرصات التي أشاعها وروجها المنافقون ليس إلا..
.. إن تاريخ تلك الحقبة لا يشير قط إلى أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام طلب من أصحابه ولو على سبيل التمني أو الرجاء أن يكفوا عن الحديث في هذا الموضوع، ولا ثبت أنه استجوب أحدا أو فتح تحقيقا مع أحد بهذا الشأن، ولا اتخذ من وجود الأعداء والمتآمرين والمرجفين في المدينة منافقين ويهودا ذريعة للكف عن مثل هذه الأحاديث التي قد تشق الصف في مواجهة أولئك الأعداء، كما يفعل الكثيرون من قادة وزعماء الأمة في هذه الأزمنة البائسة من تاريخنا، عندما يجعلون من كل قضية مصيرية أو ساخنة أو حتى تافهة أحيانا، قميص عثمان معاصرا يعلقون عليه كل أنواع القمع والظلم وتكميم الأفواه. بل هو – أي الرسول الكريم عليه السلام – قد اكتفى بأن عالج الموضوع بالصبر وبمشاورة المقربين منه، مثل علي وابن حارثة وغيرهما..
.. ورغم أن وقع حادثة الإفك وما كان يدور في المدينة من حديث حولها، كان شديدا على أم المؤمنين وعلى والدها الصديق، إلا أن الرسول بقي على حاله من الامتناع عن التدخل في حق الناس في التعبير عن مواقفهم وآرائهم في قضية فرضت نفسها عليهم في واقع الحياة. واستمر الأمر على ما هو عليه، إلى أن نزلت الإرادة الألهية في توضيح كيفية التعامل مع هذا النوع من الأقاويل والإشاعات، واضعة الحدود الفاصلة بين ما يسمح الحديث فيه بحرية وبين ما لا يجوز المساس به بحجة حرية الرأي والتعبير..
.. إن المجتمع الذي يصل فيه التعبير عن الرأي إلى هذا المستوى من الحرية ومن احترام وجهات النظر رغم قسوتها الشديدة، وسواء كان المعَبَّر عنه صحيحا أو خطأً، يقينا أو ظنا، حتى لو مس ذلك حرمة وعرض الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، لا يمكن الحديث فيه عن أكراه على أي أمر من الأمور التي يفترض أنها من أمور المصلحة التي يجب أن يتوافق عليها معظم المسلمين بشكل أو بآخر من أشكال استيفاء تحقق التوافق، بحسب ما تتيحه المرحلة، وما تنبثق عنه من إمكانات ووسائل للتعبير عن الرأي.. (مقتبس بتصرف عن كتاب، الشيعة والتصحيح، الصراع بين الشيعة والتشيع، الدكتور موسى الموسوي، طبعة عام 1988، ص 25 و26).
وإذا كان الله قد حرص في المجتمع الذي تحكمه تعاليم الإسلام، على رفعِ كل مُعوقات الالتزام بالطاعة الجارحية (التي تمارسها الجوارح، أَيْ الأعضاء) من خلال إشاعة مظاهر النقاء الأخلاقي والقضاء على كل مُسَوِّغات السلوك الإجرامي في المجتمع عبر اجتثاثها من الواقع، تربويا وماديا وقانونيا وإجرائيا. فإنه قد حرص من بابٍ آخرَ على رفع كل مُعَوِّقات تكوين الصورة العَقَدْية والفكرية والسياسية السليمة لدى الإنسان، في المجتمع الذي تحكمه تلك التعاليم. ولا يمكن لذلك أن يتحقق إلاَّ بالسماح لكل الأفكار والمعتقدات والتصورات كي تتنافس في المجتمع، وتعرضَ نفسَها على موائد الحوار، ليتبين الأفراد صحتَها من خطئِها، ويختاروا أفكارَهم ومعتقداتِهم من ثَمَّ بكامل حريتهم وفقا لهذا التَّبيُّن الذي أتاحه التنافس الحر فيما بينها.
ولا فرق في الإسلام بين إعطاء هذه الحرية بكل دلالاتها لإنسانٍ مسلم أو لآخر غير مسلم. إذ أن الإسلام لا يستند في الاعتراف بهذا الحق لمواطني الدولة التي يكون هو سيِّدُها إلى مفهومٍ طائفي عنصري، بل إلى مفهوم إنساني سامٍ يعلو على منطق التفريق بين الناس على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو اللون أو غير ذلك من أنواع الفروق غير القائمة على أساسِ العمل الذي فيه وحده يتباين الناس تباينا جَدِّياً.. مصداقا لقوله تعالى.. “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، ولقوله.. “إن الله لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى”، ولقوله.. “إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربِّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.
إن هذا الموقف الإسلامي بخصوص الحرية التي يعترف بها كحق طبيعي ومقدس لكل الناس، ينسجم مع إرادة الله في عدم مُحاسبة أحدٍ يوم القيامة بدون برهان ودليل، وبدون إعطاء كامل الفرصة للإنسان في مُمارسة اختياره الحر المنعتق من كل الضغوطات التي ينتفي معها مبرر وجوهر التكليف، وبالتالي مبرر وجوهر المحاسبة. بل إن الإسلامَ مادام يرى أن من حق معتنقيه أن يَحصلوا في أيِّ مجتمع يعيشون فيه، قلُّوا أو كثروا، على حقهم في مُمارسة دعوتهم إلى قناعاتِهم وإلى دينهم بدون منع أو إرهاب، فإن مقتضى العدل الذي تنطوي عليه دعوات الإسلام ومبادئه وتصوراتِه يستلزم أن يعترفَ هو بِهذا الحق لغير المسلمين قلوا أو كثروا، حين يعيشون في واقعٍ يسوده الإسلام، بحيث لا يجوز لهذه السيادة أن تقفز على هذا الحق وعلى هذا المعنى للحرية، وبحيث يتأكد أن كل صيغة إسلامية يطرحها أصحابها للسيادة، وتكون متعارضة مع مبدإ كفالة هذه الحقوق وتلك الحريات، هي قطعا صيغة لا علاقة لها بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد، وإن بحت الحناجر في ادعاء غير ذلك ليل نهار.
إن التَّصَوُّرَ الإسلامي الموضوعي لدلالة إسقاط مفهوم الحرية العقدية والفكرية والاجتماعية على أرض الواقع بمضامينها المعاصرة، ينطوي على ضرورة الاعتراف لكل الأفراد في المجتمع، سواء كان الإسلام سيده أو لم يكن، بحقهم في التعبير عن قناعاتهم في تكتلاتٍ وتنظيمات وتجمعات وأحزابٍ سياسية، تتنافس في المجتمع لقيادته عبر برامجها في حال حصولها على القبول العام من قِبَلِ غالبية أفراد المجتمع الذين يعيشون فيه ويمارسون فيه وظائفهم الحياتية.
يَعتبر الإسلام أن أسمى وأعظم مظاهر الاعتراف بحرية المواطنين في المجتمع وبحقهم في ممارسة هذه الحرية، هو الاعتراف لهم بحق المشاركة الفعلية في قيادة وحكم مجتمعهم “وأمرهم شورى بينهم”. وأنه إذا كان أفراد المجتمع يحتاجون إلى برنامج يحققون من خلاله مسيرتهم، وإلى قيادةٍ تنفذ فيهم هذا البرنامج، فهم وحدهم أصحاب الحق في تحديد أيِّ برنامج وأي قيادة يريدون، ما يستلزم الاعتراف بضرورة أن تكون السلطات ناشئة عن الشعب وبقرارٍ منه، بصرف النظر عن الشكل الذي يتطلبه الواقع الاجتماعي في مرحلة معينة لتحقيق الاختيار الشعبي للبرنامج وللقيادة. ويُعْتَبر حق المشاركة في اختيار كلٍّ من البرنامج والقيادة، حقا مكفولا لكل أفراد المجتمع بصرف النظر عن أي بعدٍ آخر ذي صفةٍ عرقية أو دينية أو جنسية أو لونية أو مهنية. وهذا ما سوف يثبت لنا خلال هذه الدراسة.
ثانيا.. فكرة الوطن واختلافها عن الدولة والنظام..
مادام أفراد المجتمع لا يُمكنهم أن يتعايشوا في مجتمعهم بسلام إلاَّ بوجود قاسمٍ مشترك يخلق مبررات التعايش للجميع. ومادام هذا القاسم المشترك لا يمكنه أن يكون بحكم طبائع الأمور إلاَّ برنامجا لنظام الحكم، يُعْطِيِ الحرية الاجتماعية والسياسية للجميع. فهذا يعني أن المواقف من الآخر – أيا كان هذا الآخر – في المجتمع الذي يرجع في إدارة حياته إلى نظام الحكم ذاك، ستتحدد بالاستناد بالدرجة الأولى إلى مواقفهم من برنامج نظام الحكم المذكور، مهما كانت طروحاتهم على الصعيد الاجتماعي. لأن هذا البرنامج هو الذي يعطي القدرة على الحياة للجميع مهما اختلفت بعد ذلك مشاربهم المذهبية. ولا فرق حين الاستناد إلى هذه المرجعية في تحديد المواقف، بين فئة تطرح نفسها بوصفها فئة إسلامية، وأخرى لا تطرح نفسها كذلك.
إذ أن منطق التعامل مع الواقع ومع الآخرين، هو منطق المصير المشترك والحياة المشتركة، ما يلزم أن يُصار إلى بلورة صياغةٍ جديدة لأسس الولاءات المشتركة في المجتمع، بصرف النظر عن الولاءات الخاصة التي يؤمن بها كل طرف، مادامت لا تتعارض مع الولاء المشترك الذي لا يمكنه أن يخرج عن حدود الولاء للوطن وللبناء الدستوري الذي من شأنه أن يكفل بقاء واستمرار الجميع في جوٍّ من الأمان والسلام والطمأنينة. هذا يتطلب إعادةَ إنتاجِ فكرةِ الوطن بالشكل الذي ينسجم مع مبدأ الولاء المشترك في حَدِّه الأدنى. خاصة وأن هذة الفكرة تعرضت لعملية مسخ خلال العقود الماضية أفقدتها معناها الحقيقي، وخلطت بينها وبين مفاهيم أخرى، كمفهوم النظام ومفهوم الدولة. إلى أن ضاعت في بعض البلدان العربية المسافات بين رأس الدولة ملكا كان أو أميرا أو رئيسا من جهة، والوطن والنظام والحكومة والدولة من جهة أخرى، لا بل حتى بينها وبين الدين والإله ذاتهما كما في الدول التي يحكمها ملوك ينسبون أنفسهم إلى آل بيت الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.
إن الفروق بين فكرة الوطن وفكرة الدولة وفكرة النظام ليست بالفروق الهينة التي يُمكن السكوت عن تزويرها أو التغاضي عن تلفيقها وخلطها بعضها بالبعض الآخر، لأن من شأن ذلك أن يقلبَ منظومة القيم واستحقاقات الولاء عند الإنسان دون أن يُحِسَّ بذلك. إن النظامَ كيانٌ سياسي يتشكَّل بقرار، والدولة كيان قانوني يتشكل بقرارٍ أيضا، أما الوطن فهو حالة وجدانية تغلِّفنا بفرضِها نفسها علينا تاريخيا وثقافيا، وبإحساسنا بالانتماء إليها بعيدا عن القرارات سياسية الطابع، والتي تجعلنا أحيانا نَحمل تابِعِيَّة دولة دون أن نُحس بالولاء الوجداني لها، وإن كنا نحترم انتماءَنا التابِعي لها كـ “جنتلمانات” لا يجوز أن يتَنَكَّروا لولي النِّعم أو أن يخرجزا على قوانينه وتعليماته وتقاليد حياته.
إن السياسيين عندما يتنافسون في ظل الديمقراطية فإنما يفعلون ذلك، ليحكموا الدولة بنظامٍ سياسي ُيفترض أن يُحافظَ على الوطن ويَحميه كقاسم مشترك يسمو على الخلافات والنزعات الذاتية التي نفرِّغها كلَّها في دهاليز السياسة “النظام”، والقانون “الدولة”، كي نحافظ على الوطن. الوطن هو الكيان الوحيد الذي يَجب أن يحظى بالقداسة في منظومة العناصر المكَوِّنَة لـ “الهوية”، ولـ “للأنا”، لأنه العنصر الوحيد الذي لا يجوز أن نفكر في تغييره والتنافس على معناه والاختلاف في مفهومه، ونحن نتعارك في ساحة العمل السياسي والقانوني، وإلاَّ انهارت كل مُكَوِّنات الهوية.
أما ما بعد الوطن من عناصر الهوية الأخرى فهي عناصر ديناميكية قابلة لأن تتغير وتنمو وتتطور بحسب الحاجة والظروف والعلاقات التي تحكم واقع الحياة في الوطن. الدولة ليست مقدسة، وهي قابلة لأن تتغير بأن تتجزأ أو بأن تتحد مع دولة أو دولٍ أخرى، أو بأن تتغير حدودها لسبب أو لآخر، بل بأن يتغير دينُها بالكامل أحيانا، كما حدث للكثير من الأمم في التاريخ.. النظام السياسي ليس مقدسا وهو قابل أيضا لأن يتغير، بل يجب أن يكون عرضة للتغيير ولتداول السلطة عبر مُؤَسَّساَتِه وبُناه وهياكلِه الإدارية المختلفة. أما الوطن فلا. نحن جميعا نتحرك داخل الوطن، ونعمل لأجل الوطن، ولا نساوم على الوطن، ونسعى للنهوض بالوطن من خلال أشكالٍ مختلفة ومتباينة نتصورها لشكل الدولة ولشكل النظام السياسي.. إلخ.
إذن فنحن شيء آخر غير الوطن، ونحن أصغر منه بكل تأكيد. إن الوطن هو خيمة أكبر من كل مواطنيه، ومن كل معتقداتهم وأفكارهم بالتالي، وهو عنصر من عناصر الهوية أكبر من كل عناصرها الأخرى. والكِبَرُ والصِّغَر في هذا المقام لا ينسبغان بفكرة الصح والخطأ، أو بصرامَةِ منطق الحق والباطل، وإنَّما بفكرة الهوية التي تَتَكَوَّن في معظم جوانبها بعيدا عن انسباغها بهذه المعاني أو عن خضوعها لهذه الأنساق التقييمية الصارمة. وحيث قد وصلنا إلى الحديث عن الوطن بهذا المعنى، فقد غدا من الضروري التطرق لفكرة القومية باعتبارها الوعاء الذي تتخلَّق فيه وتتكون ثم تنمو وتتطور فكرة الوطن، كي نرى من ثَمَّ كيف يتعامل معها الإسلام في الإطار المذهبي. فإنه على ضوء هذا التعامل ستتحدد الكثير من المسائل ذات الطابع السياسي داخل الوطن مما له علاقة بالحريات وبنظام الحكم.
ثالثا.. الانتماء القومي والانتماء الإسلامي..
إن الانتماء القومي لأي أمة وانتماءها الإسلامي، يُعبر كلٌّ منهما عن شكل مختلفٍ من أشكال الانتماءات لا تصح مقارنته بالشكل الآخر أساسا، الأمر الذي يدفعنا إلى التأكيد على حقيقة جوهرية تتعلق بالقومية وبموقف الإسلام منها، مفادها أن المقارنة بينهما مرفوضة على الصعيد الأيديولوجي والفكري، لأنها بمثابة مقارنة بين شيئين لا يتفقان في المبرر المرجعي للمقارنة. فإذا كانت المقارنة صحيحة وجائزة ومقبولة في أهدافها المُتَوَخَّاة منها، بين فكرتين انطلاقا من طريقة معالجة كلٍّ منهما للمشكلة المشتركة التي تثيرانها والتي اقتضت تلك المقارنة. كإجراء مقارنة بين الإسلام والمسيحية في تصور كل منهما لمعنى التوحيد. أو كإجراء مقارنة بين الإسلام والرأسمالية، أو بينه وبين الاشتراكية في الفكر الاقتصادي وفي المواقف من الملكيتين الخاصة والعامة. أو كالمقارنة بين القومية العربية والقومية الفرنسية في مدى تَحَقُّق مقومات القومية في كلٍّ منهما..
نقول.. إذا كانت المقارنة جائزة وصحيحة ومقبولة في كل هذه الحالات، فإنها غير جائزة ولا صحيحة ولا مقبولة مبدئيا، حين يَحدث الاختلاف بين الشيئين اللَّذين تتم المقارنة بينهما، في الأساس المرجعي لفكرة المقارنة، كأن تتم المقارنة مثلا بين مبدأ الشعور بالانتماء القومي ومبدأ الشعور بالانتماء الديني، من حيث تطابقُهما وقبولُ أحدِهما أو رفضِه بناءً على هذا التطابق. إذ لا يوجد في البُنْيَة المرجعية لكلٍّ من الدين، بسبب بوصفه اختياريا قناعاتيا لعقيدة وفكرة ونظام حياة، وبين القومية بوصفها شعورا بتواصل تاريخي ولغوي وعرقي وثقافي، وبوصفها إحساسا بالارتباط بِمصالح مشتركة تربط مجموعةً من البشر اتفقت على أنها تشترك في الهوية بالدرجة الأولى، أيُّ عامل مشترك تتم المقارنة على أساسه. وإن كان من الممكن أن تتم المقارنة لا على أساس المرجعية المتميزة لكل منهما بصفتها تلك، بل على أساس إضافة شيء ما إلى القومية يخلق لديها وفيها شيئا من المرجعية المشتركة مع مرجعية الدين كعقيدة وكنظام وكفكرة. بحيث تتم المقارنة عندئذٍ على أساس هذا الشيء المرجعي الجديد.
كأن تتم المقارنة بين الفكر الاقتصادي الذي يدعو إليه ويتبناه قوميون معينون، وبين نظيره الإسلامي الذي يتبناه ويدعو إليه إسلاميون معينون. ومن الواضح في مثل هذه الحالة أن المقارنة مُمكنة وجائزة. ولكن من الواضح أيضا أنها ليست قائمة بين الفكرة القومية بما هي فكرة قومية، وبين الإسلام بما هو دين ونظام وفكر، قابل لأن يعتنق. بل هي قائمة بين جانب اجتماعي محدد يتبناه القوميون، وبين نظيره مِماَّ يتبناه الإسلاميون. والفرق بين الحالتين بَيِّنٌ وواضح.
إن الانتماء القومي هو انتماءٌ قسري وليس اختياريا. وهو يختلف في هذا المجال عن الانتماء الإسلامي والديني عموما. ففي الوقت الذي لا يمكن للإنسان العربي مثلاً ألاَّ يكون عربيا – بالمعنى القومي وليس القانوني – إذا هو شاء أو قرر ذلك، فمن الواضح أن من الممكن له تغيير دينه الإسلامي في لحظة واحدة يتخذ فيها قرارا بذلك، نافيا بموجبه عن نفسه كل مقومات اعتباره مسلما، إذا تولدت لدية القناعة بذلك.
فأن يكون إنسان معين مسلما هي مسألة اختيارية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، لأن الانتماء الإسلامي انتماء عَقَدي تَصَوُّري قناعي، وليس انتماءً شعوريا يستشعر الإنسان بموجبه شكل تواجده الاجتماعي البُنْيَوي، فيتعامل مع الواقع وفيه على أساسه. ولعل التاريخ يُنْبِئُنا عن العديد من الأمم التي غيرت دياناتها أكثر من مرة في أقل من ألف عام، بينما بقيت في كل حالاتها تلك، هي الأمة الفلانية بالدلالة القومية لكلمة أمة، وإن اختلفت مستويات استشعارها من حين لآخر لهذا البعد القومي لها.
إن الشعور بالأنا القومية بوجه عام، هو نتاج عملية تاريخية تطورية حتَّمت الوصول إليه عبر تراكم تغيُّراتٍ جوهرية في بُنْيَة الناس، وهم يتحولون ويتطورون من أدنى أشكال التَّكَتُّل المجتمعي وأقله تعقيدا، وهو الأسرة، إلى أكثره رقيا وتعقيدا وهو الأمة. وهو أيضا نتاج حركة ديناميكية مستمرة لم ولن تتوقف، في مستويات وعي التجمعات البشرية بذاتها، وفي فضاءات إدراكها للأمور من حولها، وفي طرائق تعاملها مع الواقع المحيط بها. بحيث أن التواجد القومي لا يصح ولا يجوز أن يكون للإسلام منه موقف محدد يخضع لمعاني الجواز وعدم الجواز، أو لدلالات الحرام والحلال، أو لمضامين الحق والباطل، بِما هو مجرد تواجد قومي.
أي وبكلمة أخرى، لا نجد أيَّ معنىً لمحاربة أو لمعاداة أو رفض الوجود القومي للأمم بهذا المقياس للتحليل والتحريم، لأن الوصول إلى مرحلة التواجد الجماعي بهذه الصورة ليس عملية اختيارية، ولا هو جاء نتيجة قرارات اتخذها الناس في لحظة معينة في عزلٍ لتلك القرارات عن الواقع الموضوعي الذي حتَّمها وأدى إليها. بل هو عملية حتمية تخضع للقانون التاريخي وللتطور. إن التواجد القومي بهذا المعنى يربط بين أبناء الأمة القومية الواحدة نتيجة التطور الحاصل في تاريخ الأفراد والفئات الذين يُكَوِّنون هذه الأمة، بصورة تُعَمِّق التلاحم والحاجة إلى التآلف والشعور الذاتي بالأنا الجماعية. فكما أن الناس قديما كانوا أُسَراً ثم صاروا عشائر وقبائل، فقد صاروا شعوبا وأمما بالمعنى القومي، لأن مراحل تاريخية محددة حتَّمت هذا الشكل من أشكال التواجد، بوصفه أكثر الأشكال مُلاَءَمَةً للظروف التاريخية التي فرضها تطور الإنسان موجباً بمقتضاها ظهور هذا النوع الراقي من الإحساس الجمعي.
إذا كنا سنرفض مفهوم التواجد القومي كصيغةِ تكتلٍ مُجتمعي متاحةٍ في الوقت الراهن، تحت لافتةٍ إسلامية، نظرا لما يمكنه أن يندرج تحت هذه الصيغة من معاني التشرذم الإنساني والتجمع على أساسٍ غير فكري ومعتقدي يُعتبر أكثر رقيا من التجمع على أساس عِرقي يستند إلى رابطة الدم واللغة، فإن مدعاة الرفض ستكون أكثر عمقا وبروزا ووضوحا في حالة رؤيتنا للواقع الإنساني وهو يعكس حالات الأسر والقبائل الأقل تعبيرا عن التوحد والأكثر دلالة على التشرذم من الشعوب والأمم التي تُكَوِّن القوميات. وهو الأمر الذي يَجعل رفض ومعارضة التجمع على أساس تلك الصور المتخلفة من أشكال التواجد الإنساني الجمعي أكثر تبريرا، مع أن الإسلام لم يفعل ذلك. بل نحن نراه يَحُثُّ على التلاحم الأسري والعائلي، فضلا عن اعترافه الضمني بقداسة أي صيغةٍ من صِيَغِ التجمع الإنساني، مادام هذا التجمع قائما على المحبة وعمل الخير والإحسان وخدمة عموم الناس.
إن عصر القوميات هو العصر الذي فرضَ ذوبان تَجَمُّعاتٍ مثل القبائل والعشائر والبُنى الاجتماعية الصغيرة في بنىً أكبر، تستطيع مواجهة متطلبات الحياة الجديدة، ألا وهي البُنى الأممية. وإذا كان تعاملنا مع واقعٍ يتجمع فيه الناس على أساس الأسر والعشائر والقبائل، يَتَّسِم بقبولِ تلك الأشكال من التجمعات بدون أيَّ تحفظات بخصوص شكلها الجمعي، فمن باب أولى أن يكون تعاملنا مع القوميات المُكَوَّنَة من الأمم والشعوب مرتكزا إلى المنطق ذاته، بوصف تلك الأشكال من التَّجَمُّع تُعَبِّرُ على هذا الصعيد عن مرحلةٍ متقدمةٍ ومتطورة بالقياس إلى الهدف النهائي لرسالة الإسلام. إننا نجد أنفسنا في كل مرحلة من مراحل التاريخ مضطرين إلى قبول الواقع الاجتماعي في شكل بُنْيَته المُعَبَّرِ عنها بالصورة التي يُظْهِر فيها ذلك الواقع نفسَه، مادامت هذه الصورة هي التعبير الموضوعي عن متطلبات المرحلة التاريخية ذات العلاقة.
إذا كنا سنتعامل مع شكل التَّجَمُّع الإنساني القومي أو غير القومي من منطلقات التحليل والتحريم. فكيف سيكون موقفنا عندما نقرأ قوله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.. “إناَّ خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”؟ من الواضح أن الآية الكريمة تؤكد على أن مسألة التجَمُّع الشعوبي والقومي، أو القَبَلي والعشائري قبلهما، أو غيرهما بعدهما، هي من حيث المبدأ مسألة جُعْلِيَّة. أي أنها مسألة تتحقق في الواقع من خارج إرادة الإنسان المباشرة. بل هي حالة وجودية جماعية اقتضتها طبيعة تفاعل هذا الإنسان مع القانون الطبيعي والتاريخي، من خلال تضافر العديد من العناصر المتشابكة والمعقدة، التي تجد حلولها التاريخي في صورةٍ معينة من صُوَرِ التجمع الإنساني، اتَّخذت في مرحلة سابقة هيئة الشعوب والقوميات، وستتخذ في المستقبل هيئة العالمية والأمة الإنسانية الواحدة، التي تعتبر هدفا إسلاميا يسعى الإسلام بكل أطروحاته ذات البعد التاريخي، إلى دفع الواقع البشري باتجاه الإسراع في تحقيقه.
إن مسألة التواجد المجتمعي (أسرة، عشيرة، قبيلة، شعب، أمة.. إلخ)، هي بالنسبة لكل جيل يقيم في جغرافيا معينة، تركةً خلَّفتها له الأجيال التي سبقته، وسيسهم هو بتفاعلاته المختلفة، في توريثها بشكلٍ ماَّ إلى الأجيال اللاحقة. وهي بالنسبة لكل أُمَّةٍ تركة من المعتقدات والمفاهيم والعادات والتقاليد والموروثات وسلاسل التناسل والتوالد والأنساب الطويلة، تحققت بالتواصل والتراكم والتفاعل الداخلي والخارجي، عبر مئات وربَّما آلاف السنين.
إن أشكال التجمع والتواجد القومي في زماننا المعاصر، والقَبَلي والعشائري فيما مضى، والأممي مستقبلا، هي الأشكال التي تتمحور وتدور حولها فكرة الوطن بفضاءاتها الوجدانية متجاوزة كل أشكال التواجد القانوني والسياسي التي تُتَّخَذُ بقرارات تمليها ظروف الواقع، التي قد تتطابق بموجبها فضاءات أشكال التواجد السياسي والقانوني تلك، مع الفضاءات الوجدانية للوطن، وقد لا تتطابق.
ولا نجد مثالا أكثر وضوحا في دلالته على ما نقوله في هذا السياق من حالة “العرب” وهم يخضعون في حياتهم لتلك التجاذبات المريرة التي أفرزها فصام نَكِدٌ بين أوضاعهم القانونية والسياسية من جهة وطموحاتهم الوجدانية من جهة أخرى. فعلى الرغم من أن العرب ينقسمون بقوة القانون وبموجب المصالح التي فرضتها السياسة ومخلفات الاستعمار إلى اثنتين وعشرين دولة، فضلا عن بعض الأقاليم العربية المحتلة في هذه الدولة أو في تلك، فإنهم جميعا يستشعرون تلك الحالة الوجدانية التي يندبون حظهم القانوني والسياسي العاثر الذي حرمهم منها، ألا وهي الوطن العربي الواحد الذي يضمهم جميعا كأمة واحدة بمعناها القومي.
وعلى الرغم من العبارة غير البريئة التي يحاول الكثيرون تكريسها عند الحديث عن الحالة العربية المتناثرة هذه، وهي العبارة التي تصف الدول العربية بـ “العالم العربي”، في محاولة لتمرير فكرة اللاتشابه والتنوع الأصيل المفضي إلى التباين الحقيقي والشامل القاضي بانتفاء الفكرة القومية بفضاءاتها الوجدانية، فإن الإنسان العربي لا يحلو له الحديث عند الحديث عن هذه الرقعة الجغرافية الممتدة من المحيط إلى الخليج، وعن هذه الشعوب التي تقيم عليها، إلا بتلك العبارة الدافئة المليئة بالمشاعر والأحاسيس الوجدانية ألا وهي “الوطن العربي”.
إن الآية القرآنية التي أوردناها في هذا السياق تُصَوِّر بوضوح شكلا من أشكال الإقرار بعمق هذا الواقع التَّكْويني الجمعي في حياة الإنسان، بحيث يغدو المطلوب إسلاميا مصادقة هذا الواقع والتكيُّف معه، وليس محاربته ومعاندته مادام واقعا جُعْلِياًّ، لأن في هذه المحاربة والمعاداة والمعاندة، قفزٌ على القانون الطبيعي واستهانةٌ بالحتميات التاريخية التي يعنيها وينطوي عليها المفهوم “جُعْليِ”. بل إن التفاعل العميق مع هذه الظواهر التَّجْميعية أياًّ كان شكلها، عندما تكون تعبيرا عن نتائج التراكم التاريخي للبُنَى المجتمعية البشرية في الجغرافيا، إنَّما هو تفاعلٌ اختياري إيجابي مع ناموس تاريخي قسري يندرج تحت عنوان السنن الإلهية التي تحكم الوجود، يخدم الإنسانية في كل مرحلة من تاريخها وفق أكثر صُوَرِ الخدمة رقيا وتطورا وإيجابيةً. فكان قول الله تعالى.. “..لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، هو مقياس التعامل بين تلك الشعوب والقبائل المتعارِفة والمُعْتَرَفِ لها بموضوعية وواقعية الوجود والتَّكَتُّل بشكلها ذاك. إنه مقياس التلاحم لا التنافر، والتلاقي لا التدابر، سيرا نحو خدمة الإنسان وفق تَصوُّرٍ متناغم مع قانون الطبيعة وحتمية التاريخ وهما يفرضان نفسيهما على هذا المخلوق في سياق صيرورته المجتمعية في بعدها التاريخي.
يتضح لنا مِماَّ سبق، أن الإسلام بوصفه عقيدة وفكرة ونظاما ومنهجَ حياة، لم يكن من شأنه ماضيا، وليس من شأنه حاضرا، ولن يكون من شأنه مستقبلا، أن يُحَدِّدَ موقفا قُبوليا أو غير قبوليٍّ من أشكال التَّجمع الإنساني اللاإرادية (الحتمية)، قَبَلِيَّةً كانت هذه الأشكال أو أسرية أو قومية أو عالمية، أو غير ذلك إن وُجِدَت وفرضها التطور التاريخي للبشر، بقدر ما كان ويكون من شأنه تنظيم تلك الأشكال وفق رؤاه الخاصة.
وهكذا فالإسلام معنيٌّ إذن بتنظيم حياة الناس وهم يتجمعون في أسرٍ متحررة من أي صيغة من صيغ التجمع والتواجد الأكبر والأوسع من الأُسَر. وهو معني أيضا بتنظيم حياتهم وهم قبائل وعشائر أو قرى ومدن مستقلة عن بعضها البعض. وهو معني بتنظيم حياتهم وهم شعوب وأمم ذات مواصفات قومية. كما أنه معني أخيرا بتنظيم حياة البشر كُلِّهِم إذا تمكنوا من تجميع أنفسهم في كيان مُجْتَمَعي واحد مُتَّحِد، وهو قادر على ذلك.
هذه هي طبيعة العلاقة بين الجوهر المرجعي للإسلام وبين الجوهر المرجعي لأشكال وهيئات التجمع الإنساني المختلفة، منذ وُجِدَ الإنسان الاجتماعي على سطح هذا الكوكب. الأمر الذي نستطيع معه أن نَتَفَهَّم وبكل وضوح سِرَّ قدرة الإسلام على مرافقة الإنسانية كهادٍ ودليلٍ منذ أقدم العصور وحتى الآن، وإلى أبعد أفقٍ يُمكن للإنسان أن يصل إليه في شكل تَجَمُّعِه مستقبلاً.
رابعا.. القومية والأقليات والمواطنة..
يجب النظر إلى الواقع القومي، وإلى جوهر الفكرة القومية إذن باعتبارهما أمرا واقعاً، ليس هناك من معنىً لاستصدار الأحكام الشرعية بشأنهما وفق منطق التحليل والتحريم، أو الجواز وعدم الجواز. وبناءً على ذلك فالإسلاميون معنيون بطرح برامجهم لحل مشكلات الأمة التي يُعتبرون مواطنين فيها من الناحية القومية بكل ما لهذه الكلمة من معانٍ في أرض الواقع، مادامت هذة الأمة قد وصلت إلى مرحلة الشعور بعمق هذا البعد في تركيبتها وفي شخصيتها.
والخلاصة أننا وبناءً على تصورنا السابق لجوهر العلاقة المُفْتَرَضَة بين الفكرة القومية والإسلام، وبين القوميين والإسلاميين بالتالي، نرى ضرورة التحام الإسلام بفكرة القومية، وبالتالي بفكرة الوطن والمواطنة التحاما عضويا شاملا، مع الالتزام الكامل بكل ما يستتبع هذا الالتحام من متطلبات تفرضها فكرة الوطن والمواطنة التي تغدو ضمن هكذا توصيف وعاءً أكبر من فكرة الانتماء إلى الإسلام، مادام الإسلام يتجاوب مع فكرة الوطن الذي ينطوي على مواطنين وليس بالضرورة على مسلمين فقط.
لكن الظاهرة القومية المعاصرة لا تخلو من بعض مظاهر الارتباك والتوتر التي من شأنها أن تثير القلاقل والمنَغِّصاَت الاجتماعية والسياسية، إذا لم توضع في سياقها الصحيح، وإذا لم تُعالَج وتُطْرَح لها الحلول المناسبة التي تأخذ في الاعتبار منطقَ الحق القومي لكل حالةٍ قومية تتقاطع مع القومية الأم داخل الوطن، دون القفز المشبوه والمريب على ضرورات ومتطلبات المصلحة العامة للأمة.
فما من أمة من الأمم في عالمنا المعاصر، إلاَّ وتضم عددا من الأقليات العرقية التي تعتقد أن لها صفاتِها القومية الخاصة والمتميزة والمختلفة عن صفات الأغلبية. وإذا كان منطق الفكر القومي يعطي للقومية الأم التي تُمثل الأغلبية حقوقا قومية محددة، فإن هذا المنطق نفسه هو الذي يَعْتَمِد عليه نُخْبَوِيُّو الأقليات للمطالبة بحقوقهم القومية، التي ليس بالضرورة أن تكون متناغمةً ومتماهيةً مع مصالح القومية الأم التي تُمثل الأغلبية في ضوء منظورٍ محددٍ للمصلحة قد يكون عادلا وليس بالضرورة أن يكون كذلك دائما. إن هذا يفرض علينا صياغة تَصَوُّر إسلامي متقدم حول حقوق هذه الأقليات القومية آخذين في الاعتبار منطقَ الحقوق القومية من حيث المبدأ، بِما لا يتعارض مع المصالح العليا للقومية الأم.
بداية، يجب التأكيد على أن أي حقوق سياسية لأي أقلية إثنية، بعد حقوق المواطنة الطبيعية التي يتمتع بها كل المواطنين بتساوٍ تام أمام القانون، لن تترتب إلاَّ إذا تحققت الشروط التالية..
1 – أن تكون الأقلية الإثنية مَحَلَّ الحديث عن حقوقها السياسية تعيش فوق إقليم جغرافي مُتَّصِلٍ لا انقطاع فيه ضمن الدولة الأم، يصلح أن يُكَوِّن كيانا إداريا متكاملا ومستقلا بصورة منطقية لا تَكَلُّفَ فيها ولا مُبالغة ولا تَزَيُّد. وألا يكون أبناؤها منتشرين بشكل عشوائي وغير منظم أو على شكل جزرٍ متناثرة في مختلف أقاليم الدولة، أياًّ كان تعدادهم. فانعدام التواصل الجغرافي في المكان الذي يعيش فيه من يَعْتَبِرون أنفسهم أقلية إثنبة، يُفْقِد هويتهم الإثنية مُقَوِّماً أساسيا من مُقَوِّماتِها، ويَحرمهم بالتالي بصورة منطقية من حق المطالبة بحقوق سياسية إثنية، نظرا لاستحالة منحها لهم، ولإضرار ذلك بوضوح بالحقوق الطبيعية لأبناء القومية الأم، ولاحتوائه على تُكَلُّف مربك إداريا للدولة بِمجموعها.
2 – أن يَثْبُت أنَّ الأقلية الإثنية محل الحديث عن حقوقها السياسية، لم تقف في تاريخها وفي تاريخ البلد الذي تعيش فيه على مستوى المجموع أو على مستوى القيادات الاجتماعية والسياسية والثقافية لها، إلى جانب أي فئة أجنبية صُنِّفَت وطنيا على أنها فئة معادية وعدوانية ومتناقضة مع المصالح القومية للقومية الأم. فلا يستحق الحقوق السياسية من لم يكن لديه انتماء للوطن الكبير من حيث المبدأ، لأن مستقبله السياسي يبقى غير مضمون العواقب. ولابد أن تكون الحقوق السياسية المبحوثة في مثل هذه الحالة قاسية الشروط.
3 – أن يَثْبُت أن الأقلية الإثنية مَحَلَّ الحديث عن حقوقها السياسية تَمتلك من المُسَوِّغات والبراهين التاريخية والموضوعية، ما يشير إلى أنها تنطبق عليها قواعد ومواصفات الأقلية الإثنية وفق الأسس والمبادئ المتعارف عليها والمعمول بها عند البشر المتحضرين والعقلاء، وأن لا تكون صفة الإثنية مجرد ادعاء لم يقم عليه دليل ولم تشر إليه موروثات الأقلية وتقاليدها وأدبياتها وثقافتها بالقدر الذي تستحق بموجبه صفة الأقلية الإثنية المستحقة للحقوق السياسية، وأن لا يكون مجرد مناكفة سياسية هدفها الإرباك وخدمة الأجندات الأجنبية المعادية. ومن أهم أدلة وبراهين استحقاق صفة أقلية إثنية، وجود لغة مشتركة واحدة غير لغة القومية الأم، لأن من يتحدث لغة القومية الأم، ولا توجد له مع ذلك لغة أخرى غيرها فهو جزء من تلك القومية، حتى لو اختلف مع تلك القومية في بعض عناصر الهوية الأخرى.
4 – أَلاَّ تَتَّبِع الأقلية الإثنية مَحل الحديث عن حقوقها السياسية أي وسيلة غير سلمية للمطالبة بحقوقها الإثنية، وألاَّ يثبت أنَّها اتبعت ذلك في مراحل سابقة من تاريخ الدولة الأم. والتأكد من أنها لا تلجأ إلاَّ إلى الأساليب المدنية السلمية والمتحضرة في المطالبة بتلك الحقوق، وفي حال ثبوت عكس ذلك، فلابد من انقضاء مدة زمنية كافية من تجنب الأعمال العدائية والعنيفة كوسيلة للمطالبة بالحقوق السياسية قبل منحها إياها، تكون قادرة على إقناع المجتمع كله بأن خبرة العنف المريرة قد اندثرت، وبأن التسامح قد آن أوانه.
5 – أن تكون الدولة الأم التي تسعى الأقلية الإثنية فيها إلى الحصول على حقوقها السياسية، في وضعٍ سياسي داخلي وإقليمي ودولي مستقر بالقدر الكافي لبحث مثل هذه المسائل الحساسة، وألاَّ تكون في حالة حرب أو صراع مع عدو خارجي، أو تعاني من قلاقل داخلية بسبب تدخلات أعداءٍ يُفترض أن تؤجل القضايا الشبيهة إلى حين حسم الصراع معهم. على أن يثبت أن تلك الفئة الإثنية شاركت في المعركة الوطنية ضد هؤلاء الأعداء كما هو حال أبناء القومية الأم ولا فرق.
فالوقوف على الحياد، ناهيك عن الوقوف إلى جانب الأعداء يُعاَمَل على الفور باعتباره خيانة تَحرِم صاحبها من حقوقه السياسة، إلى أن يَحين وقت التسامح، بعد مرور مُدَدٍ زمنية كافية لإثبات أن جيل الخيانة لم يعد له وجود. والحديث يدور هنا عن السلوك الجماعي الذي تتبناه وتُمارسُه المجموعة ككل أو قياداتها التاريخية التي تدين لها تلك المجموعة الإثنية بالولاء، والتي تتولى مهمة تَمثيلها سياسيا، وليس عن السلوك الفردي الذي يُعاَمَل بصورة فردية، سواء بَدَرَ عن مواطنٍ من أبناء الأقلية الإثنية أو عن آخر من أبناء القومية الأم.
6 – ألاَّ ترتبط المطالبة بالحقوق السياسية الإثنية، بأي مطالبات بحقوق طائفية مذهبية أو دينية. فليست للتصنيفات التي من هذا النوع حقوق سياسية خاصة بِها خارج نطاق الحقوق الدينية والمعتقدية المكفولة لجميع المواطنين بالتساوي المطلق. فالحقوق السياسية هي على نوعين من حيث المبدأ. نوع يُمثل حقا لكل مواطن بصفته مواطنا في الدولة، بصرف النظر عن لون أو جنس أو عرق أو دين أو معتقد، وهي حقوق لا يُفَرَّق في استحقاقها بين مواطن وآخر، بل توضع كل القوانين بالشكل الذي يؤكد ويضمن التساوي التام فيها بين المواطنين بدون تلاعب أو تَحايل أو تدليس أو تزوير. ونوع يُمثل حقوقا سياسية خاصة بالأقليات الإثنية ذات الطابع القومي أو العرقي، وهي الحقوق المرتبطة بالشروط الستة المذكورة سابقا.
فإذا تحققت الشروط السابقة مجتمعة في أقلية إثنية، فإن لها حق الحصول على واحد من الحقوق السياسية التالية، حسب ما تقتضيه ظروف الدولة الداخلية والخارجية والإدارية..
1 – حق إدارة الإقليم الخاص بها ذاتيا وفق ما تتيحه الأعراف والقوانين من صلاحياتٍ للإدارة الذاتية، دون أن يكون لها جيش مستقل، أو علاقات خارجية مستقلة، أو عُمْلَة محلية مختلفة عن عملة الدولة، أو بنك مركزي خاص بها كإدارة ذاتية. مع حق أن يكون لها برلمانها وعلمها الخاصان. وبرلمانها هو الذي يتولى إصدار القوانين الداخلية التي تنطبق على الإقليم. ويحق لها أن تُدَرِّسَ لغتَها في مدارس وجامعات الإقليم.
2 – إذا كانت الدولة التي حصلت فيها الأقلية الإثنية على حقوقها السياسية تخضع لنظام الإدارة الفدرالي، فإن الأقلية الإثنية قد يكون من حقها أن تُكَوِّنَ إدارةً فدرالية إذا انطبقت عليها شروط استحقاق الإدارة الفدرالية، فضلا عن توَفُّرِ كافة الشروط السابقة.
وبالتالي فإن أي دعوة إثنية إلى الانفصال عن الدولة الأم، تُصَنَّف على الفور بوصفها بأنها دعوة باطلة تُمثل في عصر التكتلات، شكلا صارخا من أشكال الخيانة العظمي التي يجب أن تواجه بكل صرامة، تَماما كما تُواجه كل مظاهر الخيانة في الوطن، حتى عندما تَبْدُر هذه الخيانة عن أبناء القومية الأم. إن الحد الأدنى من الإحساس بالمسؤولية تجاه الوطن الأم هو أن تتجنب الأقليات الإثنية فيه التورطَ في مطالبات سياسية، في الظروف التي يكون فيها الوطن منشغلا بمهامٍ يمكن لتلك المطالبات أن تشكل خلال انشغاله بها، ضغطا عليه أو مدخلا لإضعاف مواقفه. فكيف الحال عندما تستغل تلك الأقليات أو إحداها مثل ظروف الانشغال الصعبة هذه لاقتناص بعضٍ من حقوقها المُدَّعاةِ، على جسورْ من الضغوطات وإضعاف المواقف الوطنية؟!!
خامسا.. العلمانية والمذهب الإسلامي في الحرية المعتقدية..
يُعتبر الإسلام أكثر الأديان والمناهج والنظم التي تراهن على قوة حجتها وعلى قوة الحق في أطروحاتها على جميع الصُّعُد. من هنا فإنه يحرص على أن تكون مواجهته الفكرية والسياسية للآخرين قائمة على أساس سَماَحِهِ لهم بعرض ما لديهم على المجتمع بكل حرية ونزاهة. إن العقيدة أو الفكرة التي تضرب على وتر صلاحيتها الحقيقية للإنسان في كل زمان ومكان، لا يمكنها أن تكون منسجمة مع نفسها إذا ما قامت بِمنع الآخرين من مُمارسة حقهم في محاولة كسب هذه الصلاحية.
ولكن أليس في جعل الإسلام شريكا متساويا في الحقوق والواجبات مع باقي الأفكار والمعتقدات في المجتمع، ضمن ولاء الجميع للوطن الواحد بصورة أساسية. نقول.. أليس في ذلك ما يشير بشكل أو بآخر إلى قبول مبدأ العلمانية المنادي بفصل الدين عن السياسة؟! إن الإجابة على هذا التساؤل الذي يبدو مشروعا، تتطلب إجراء عملية تشريحٍ لفكرة العلمانية كي نَتَفَهَّمَ معانيها الحقيقية. فهي فكرة قد عانت الكثير بسبب الخلط الذي اكتنف دلالاتها جراء بروزها وعرضها على الدوام في سياق تناحري بين الأطراف التي كانت العلمانية تطرح كصيغة لحل خلافاتهم وتناقضاتهم، ما جعلها لا تُفهم في الغالب إلا باعتبارها خادمة لطرف ددون آخر، ومبقية على جانب على حساب نحر الجانب المقابل له.
في هذا السياق يجب أن نفرق بخصوص فصل الدين عن السياسة أو عن الدولة بين حالتين. الأولى، وهي التي تؤدي إلى حرمان الدين من أن يُسهم ببرامجه في العملية السياسة، من خلال حرمانه من التنافس الحر مع البرامج الأخرى المطروحة من حيث المبدأ، ليخرج من اللعبة السياسية نهائيا، بحيث لا مكان في صيغة كهذه لأي رؤية دينية في العمل السياسي. والثانية، وهي التي تؤدي إلى قبوله بهذه الصورة – أي صورة المنافِس المشارك مع الآخرين في اللُّعبة السياسية – لكن مع رفضٍ قاطع لأن تكون المنافسة في ظل هيمنته وهيمنة رؤاه ومبادئه الشُّموليَّة على قواعد اللعبة.
وبكلمة أخرى فإن هناك فرقا بين أن تكون الحرية سببا لخوض الإسلام غمارَ العملية السياسية في ظل واقعٍ يشترك فيه الجميع في المنافسة على قدم المساواة التامة، دون أن يكون هذا الإسلام صاحبَ الهيمنة على قواعد اللعبة الأساسية التي يتحرك داخلها الجميع، وبين أن تكون الحرية التي تنبثق عنها قواعد الشراكة في اللعبة السياسية مؤطرة بمفهوم إسلامي معين لا يجوز لها أن تتعدى حدوده، بوصف ذلك المفهوم هو السقف الذي على الجميع أن يتحركوا داخله قسرا وقهرا.
والنتيجة، أن فصلَ الدين عن السياسة إذا كان يعني رفضَ أن يُصارَ إلى تأطيرِ الديمقراطية والحرية والعمل السياسي التعددي وفق معطياتِ وحيثياتِ مفهومٍ مُحددٍ للإسلام، ولا مانع بعد ذلك من طرحه لبرامجه وممارسته لدوره السياسي إن وُجِد، في ظل خضوعه لتأطيرٍ أوسع منه هو التأطير الديمقراطي التعددي القائم على مبدأ الشراكة التامة للجميع في الوطن الواحد بالاستناد إلى فكرة القومية والمواطنة، بصرف النظر عن لون أو جنس أو دين أو عرق أو مهنة، فإننا نكون في هذه الحالة أمام وضعٍ هو الأصل والأساس حتى من وجهة النظر الإسلامية التي نتبناها في هذه الدراسة كما سيتبين.
فالرسول عليه الصلاة والسلام، نَظَّمَ العلاقات السياسية في المدينة المنورة بين المسلمين وغير المسلمين في وثيقةٍ دستورية تكشف كلُّ بنودِها وفقراتِها عن حالةٍ شبيهة بِهذا الذي نقوله هنا. ولأن المسلمين كانوا هم الأغلبية وأصحاب القرار في يثرب وكانوا بطبيعتهم مؤمنين بالتعددية بالشكل الذي نتحدث عنه هنا، فقد كان من الطبيعي أن لا تُتاَحَ لنا فرصة رؤية الحالة المقابلة التي شهدناها في مكة قبل الهجرة. حيث أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وبناء على تعليمات ربه، كان يتعامل مع أهل مكة من منطلق المطالبة بالشراكة القائمة على مبدأ حرية المعتقد وحرية الدعوة إليه، وهو ما كانت ترفضه مكة بشدة لعلمها بمخاطرِهِ الاستراتيجية على منظومة المصالح القبلية والطبقية والاقتصادية السائدة. فمكة بديمقراطيتها المعروفة قبل ظهور الإسلام والتي كانت تشرك حتى النساء في الرأي والمشورة في بيت الندوة، انقلبت على عقبيها ورفضت أن تكون ديمقراطية أمام ظهور دين يهدد مصالح الصفوة والنخبة فيها، فعادت هذا الدين ودعاته ومعتنقيه عبر معاداة حقهم في الاستفادة من تلك الأجواء المنفتحة التي كانت تعرف بها بين سائر العرب.
فكل ما كان يطلبه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، هو أن يُحالَ بينه وبين أن يُمارِسَ دعوته بحرية تامة، لتكون النتيجة أن “لكم دينكم ولي ديني”، و”فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، قد تبين الرشد من الغي”. فإذا علمنا أن هذه الآية الكريمة ساطعة الدلالة قد نزلت في المدينة وليس في مكة، أي في مرحلة التمكين وليس الاستضعاف، تبين لنا أن معادلة المطالبة بالحرية، غير مربوطة بحالة الضعف كما يحلو للبعض أن يتصور، بل هي عامة، وكانت أوضح ما تكون تأصيلا ربانيا في مرحلة التمكين. وكأن الله أكد عليها هنا في الدولة، كي لا يُصاب المسلمون بالغرور الناجم عن السلطة، فيحرموا الآخرين من الحق الذي كانوا يطالبون به كفار قريش عندما كانوا قلة مستضعفين يتخطفهم الناس.
أما في مكة فعندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطالب بذلك النوع من الحرية المعتقدية، فقد كان يطالب به، تاركا المستقبل للمعادلات التي يمكن لهذا المستوى من الحرية المطلوب أن يُنْجِزَه. وهذا يعني واقعيا إن تم تنفيذه والقبول به، أن تبقى مكة محكومة للقواعد التي تعارف عليها أهلها، إلاَّ إذا تغير الحال وأسلمت الأكثرية، لتُطالب عندئذٍ بتغيير هذه المنظومة العرفية بمنظومةٍ جديدة قائمة بطبيعة الحال على حقها المشروع الذي تقضي به قواعد الأغلبية في الحكم واتخاذ القرارات، دون المساس بقواعد اللعبة التي أتاحت للرسول وصحبه أن يحققوا الأكثرية، وهي الحرية في المعتقد والحرية في الدعوة إليه. وهما الحريتان اللتان تفقد أي منهما معناها وقيمتها الموضوعية بعدم ارتباطها بالأخرى ارتباطا وجوديا دائما ومستمراً.
فلا قيمة فعلية لحرية الاعتقاد، إذا لم تُرْفَق بحريةٍ رديفةٍ، هي حرية الدعوة إلى ما تم الاعتقاد به بِحرية. إذ ما لا شك فيه أن من أُعْطِيَ الحرية في أن يعتقِدَ ما يشاء بغير ضغطٍ أو إكراه، كانت قد أُتيحت له فرصةُ الحياة في واقع أَعْطَى الحرية لآخرين في الدعوة إلى معتقداتهم، فتمكنوا بِممارستهم لهذه الحرية، من الوصول إليه من ثم، وإقناعه بما اعتنقه بعد ذلك بكامل حريته. الحريتان متكاملتان إذن ولا تصح إحداهما بدون الأخرى. ولا قيمة لإدعاءِ منحِ أفراد المجتمع حرية الاعتقاد دون منحهم حرية الدعوة إلى ما يعتقدونه.
إذ ليس من أصول الإسلام في شيء أن يدعو إلى حرية المعتقد وإلى حرية الدعوة إلى المعتقد عندما يكون في حاجة إلى ذلك، لينقلب على من منحوه هذا الحق عندما يتمكن ويسود. إن تصورَ هذا النهج في الإسلام، يعني أنه قائم على منطق رجال العصابات وقطاع الطرق، وعلى أسلوب الخديعة والاستدراج. والإسلام أبعد ما يكون عن ذلك. لأنه إذا كان يراهن على الحرية في انتشاره وحظوته بالقبول لدى الناس، فلأنه يراهن عليها أيضا في الاستمرار بينهم، موقنا أن عدم قدرته في الاستمرار إن حصلت انتكاسة في سيادته للواقع، إنِّما تعود إلى معتنقيه وإلى الداعين إليه، بسبب عجزهم عن الارتقاء به في كل مرحلة من مراحل الصيرورة التاريخية للمسلمين، إلى المستوى الذي يبقى بموجبه سيداً للواقع بلا منازع. ومن كان هذا أصلٌ لديه ومرتكز، لا يُمكنه أن يقبل بالقضاء على الحرية التي كانت الطريق إلى وصوله، وبالتفاصيل والحيثيات نفسها التي كانت تتضمنها عندما أوصلته إلى سِدَّة السلطة وموقع اتخاذ القرارات.
إن حرية المعتقد والدعوة إليه، وحرية الوصول إلى السلطة وقيادة المجتمع وفق ما يتيحه ذلك المعتقد من برامج ورؤى سياسية، هي أصول إسلامية لا شك فيها، قام عليها الدليل العقلي والمسلكي والتاريخي. إننا نتبنى اجتهاداً إسلاميا يرى في الحرية بمفاهيمها الموضحة سابقا قيمة إسلامية أصيلة وعميقة، وجزءاً لا يتجزأ من رؤية الإسلام للتعامل الموضوعي مع الواقع الإنساني. هذا يعني أن الحرية حتى بِمفاهيمها المعلنَة هنا تعتبر مؤطرة إسلاميا من حيث المبدأ، ولكن من خلال مفهوم إسلامي يتسم بالتقدمية المتميزة القادرة على احتضان كل البشر في بوتقة السلم المدني على المستوى العالمي، وكل المواطنين في البوتقة نفسها على المستوى الوطني.
يحضرنا في هذا السياق نص قرآني أثار جدلا وبلبلة في المفاهيم لدى المسلمين، فلم يعودوا – بموجب تصورٍ محددٍ سائدٍ وشديدِ الرواج لمعناه – يفرقون بين الحالات التي تبيح للمسلمين قتال الآخرين تحت عنوان الجهاد للقضاء على ما يسمى فتنة، وليكون الدين كله لله، وتلك التي لا تبيح لهم ذلك.. يقول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194).
لا نعرف أحدا من المسلمين – ونتمنى أن نكون مخطئين في ذلك – شذ في فهمه لمعنى الفتنة ولمعنى أن يكون الدين كله لله الواردين في هذه الآيات، عن اعتبار أن المطلوب تحقيقه هو إخضاع الجميع لهيمنة الإسلام، وفرض العيش عليهم تحت عباءته، وعدم السماح لغيره من الأديان أو النظم أو المعتقدات أو الأفكار، بأن تكون لها إسهاماتها في تسيير شؤون الدولة والأمة على قاعدة الشراكة والمساواة في المواطنة وفي الحياة وفي المصير، انطلاقا من الدلالة المتصورة لقوله تعالى “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله”.. وهنا مكمن الخطأ الفادح، القائم في الأساس على مبدأ الاجتزاء والقراءة المنتقاة، دون اتباع منهج موضوعي في ذلك.
الغريب في أمر أهل العلم من المسلمين وهم يؤصلون بهذه الآيات الخمس لمنهج خطير في القمع ومصادرة الحريات في المجتمع، ولسياسة لا ترحم في التعامل مع الآخر، أنهم نظروا إليها – أي الآيات – بعين واحدة، واغمضوا عنها العين الأخرى. فهم لم يقرأوا في هذا النص سوى كلمات “قاتلوهم”، لكنهم لم يقرأوا أبدا كلمات “ولا تقاتلوهم”، وانتبهوا لكلمة “وأخرجوهم”، وغضوا الطرف عن كلمة “ولا تعتدوا”. علما بأن سياق النص القرآني سالف الذكر لمن يقرأه بحياد وبعيدا عن أي موقف مسبق يبحث له عن تأصيل في ثنايا المرجعية النصية، هو سياق يؤصل لأمر آخر مختلف تماما عن ذلك الذي لٌوِيَ عنق النص كي يؤديَ إليه.
الآيات واضحات جدا في أن القتال الذي أُمِرَ به المسلمون بمقتضاهن هو قتال مشروط، والتأكيد على الشرطية فيه، كان هاجسا جليا سيطر على صياغة هذا النص من بدايته إلى نهايته. فمنذ البداية هناك لفت نظر لا يحتمل التأويل إلى ألا قتال إلا لمن يقاتلنا، “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم”. ثم وفي الآية نفسها تأكيد على ألا نكون البادئين بالقتال، في وصف لهكذا حالة بإنها اعتداء لا يحبه الله، “ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”. ثم وبعد شرحٍ وتفصيلٍ للأسباب الموجبة للقتال، وهي “وأخرجوهم من حيث أخرجوكم”، واصفة هذا الفعل التهجيري القسري بأنه فتنة أشد من القتل، و”الفتنة أشد من القتل”، تعود الآيات للتذكير بما سبق وأن لفتت الانتباه إليه قائلة: “ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه”، لترسخ مبدأ عدم البدء بالقتال، وهو عدم البدء الذي يتخذ لنفسه مسارا مختلفا عندما يكون الحديث عن المسجد الحرام، حتى لو كان القتال خارجه دائرا وقائما، لتقرر في السطر التالي مباشرة حقيقة غاية في الأهمية غفل عنها كل قراء هذا النص القرآني العظيم، ألا وهي “فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم”..
ترى لمن وجه الله تعقيبه بالغفران والرحمة إذا انتهى المشركون عن الاعتداء، أإليهم أم إلى المسلمين؟ هل يوجَّه التعقيب بهذه الصفات المغعمة بمعاني التجاوز عن الأخطاء، لمن كان معتديا مخطئا متجاوزا وكف عن الاعتداء والخطأ والتجاوز، أم لمن كان معتدىً عليه من الأساس، وأبعد ما يكون عن الوقوع تحت طائلة خطأ التعدي على الآخرين؟ أيهما الذي يحتاج إلى تذكيره بأن فعله سيكون محل اعتبار بالتجاوز عن السوء فيه إذا تم الكفُّ عن الاعتداءِ في حالةٍ فيها معتدٍ ومعتدىً عليه، أهو المعتدي الظالم، أم المعتدىَ عليه المظلوم؟
المغفرة والرحمة لم يُعْرَضا في هذه الآية مكافأةً للصابرين على الاعتداء الذي تعرضوا له، أو على مقاومتهم لهذا الاعتداء، حتى يقال أنه موجه للمسلمين بوصفهم أولئك الصابرين وأولئك المقاومين. إن الله تحدث عن المغفرة والرحمة مباشرة عقب حديثه عن انتهاء المعتدين عن اعتدائهم، وهذا يعني أنه كان يتحدث عن المشركين وليس عن المسلمين. لأن المسلمين في هذا الظرف لم يكونوا محل وقوع في ذنب الاعتداء الذي يتطلب المغفرة والرحمة اللتين أشير إليهما في سياقٍ لا معنى له سوى المكافأة على كف العدوان والانتهاء عنه. لكن المسألة لا تقف عند هذا الحد. فالآية التالية: “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ”، تأتي لتستكملَ الصياغةَ التأصيليةَ للموقف الإسلامي الذي أراد الله تأكيده وترسيخه في معرض تشخيصه لملابسات هذا الحدث.
فإذا كان المشركون في حالة اعتداء على المسلمين تصب في خانة العمل على منعهم من مزاولة حقهم في العيش بأمان، وفي الدعوة إلى دينهم بحرية، وفي الاحتكام إلى شرائعهم بسلام. وإذا كان هذا الاعتداء هو الذي منح المسلمين الحق في الرد، للحيلولة دونه ودون تحقيقه لغاياته المتعارضة مع حقهم في الحرية والأمان والسلام، وهو ما تؤكده الآيات الثلاث الأولى من النص القرآني السابق. وإذا كانت الغاية من القتال المأذون به لهم من الله ردا على الاعتداء، إنما هي في معنى من معانيه، كي لا تكونَ فتنة وكي يكونَ الدين لله. وإذا كانت الغاية من الرد الذي أُذِنَ لهم به، هو أن يُجْبِروا المشركين على كف الاعتداء الذي أَلْزَمَ الله المسلمين بعده بالكف عن الحرب، واصفا استمرارهم فيها بأنه هو الاعتداء الذي لا يحبه..
.. نقول.. إذا كان كل ذلك واضحا وجليا بنص الآيات. ألا يعني أن الحالة التي سماها الله بـ ” كي لا تكون فتنة ويكون الدين لله”، هي ذاتها الحالة التي يمتنع فيها المشركون عن الوقوف في وجه حرية المسلمين في الدعوة إلى دينهم ونشر رسالتهم؟ فمادام الاعتداء من قبل المشركين، والإذن برد الاعتداء من الله، والكف عن الحرب من قبل المسلمين إذا كف المشركون عن عدوانهم، يصب كله في خانة غاية واحدة لها صفة واقعية يقتضيها الحال، ألا وهي “الانتهاء عن العدوان والاقتتال”، ولها وصفا اصطلاحيا قرآنيا نصت عليه الآيات هو “كي لا تكون فتنة ويكون الدين لله”، فهذا يعني قطعا أن الحالة الواقعية المتمثلة بانتهاء حالة العدوان وبالكف عن الاقتتال المانع للحرية، هي ذاتها الحالة الموصوفة قرآنيا بحالة “انعدام الفتنة وكينونة الدين لله”.
أي أن الفتنة تنعدم والدين يكون لله بمعناه الذي أراده الله، بمجرد أن تتفشى حالة الحرية، التي تقتضي بموجب طبيعة الحدث الذي غطته الآيات السابقات، أن يكون الإسلام وبالتالي المسلمون جزءا من واقع تظلله الحرية السياسية والاجتماعية والعقدية الأشمل، باعتبارها الوعاء الأوسع والإطار الذي يحوي جميع من يشتركون في الجغرافيا والتاريخ على قدم المساواة، ليكون ذلك المقدمة الحقيقية لبدايات فلسفة المواطنة في التاريخ…
… يتبع