دعونا نحاول الآن تلخيص ما توصلنا إليه من أسس وضوابط لنظرية التوزيع، في عدد من القواعد العامة التي يجب أن تتمحور العملية التوزيعية حولها، عندما يكون الحديث عن التوزيع في الإطار المذهبي للعدل الاجتماعي كما يقرره العقل الذي اتفقنا على مرجعيته وعلى مصدريته العليا في التشريع الإسلامي، عندما يكون الموضوع مَحَلَّ البحث التشريعي، مذهبيا وليس مرحليا.. 1 – توزيع الناتج على أساس الجهد المبذول من قبل قوة العمل معياراً لذلك، غير صحيح من وجهتي النظر التاليتين.. – الكَمِّيَّة، لاستحالة استيفاء مساهمة عنصر الجهد ككل في عملية الإنتاج فضلا عن مساهمة العنصرين الآخرين وهما الأرض ورأس المال. ولاستحالة استيفائه على الصعيد الجزئي بمعرفة كَمِّ الجهد المبذول من قبل العامل الواحد ونسبة مساهمته في
البديل الاقتصادي لإنقاذ الشعوب من تغوُّل الرأسمالية
“رؤية إسلامية”
حلقة (4)
خلاصة الاستراتيجية الإسلامية في تحقيق العدل الاقتصادي
أسامة عكنان
عمان – الأردن
دعونا نحاول الآن تلخيص ما توصلنا إليه من أسس وضوابط لنظرية التوزيع، في عدد من القواعد العامة التي يجب أن تتمحور العملية التوزيعية حولها، عندما يكون الحديث عن التوزيع في الإطار المذهبي للعدل الاجتماعي كما يقرره العقل الذي اتفقنا على مرجعيته وعلى مصدريته العليا في التشريع الإسلامي، عندما يكون الموضوع مَحَلَّ البحث التشريعي، مذهبيا وليس مرحليا..
1 – توزيع الناتج على أساس الجهد المبذول من قبل قوة العمل معياراً لذلك، غير صحيح من وجهتي النظر التاليتين..
– الكَمِّيَّة، لاستحالة استيفاء مساهمة عنصر الجهد ككل في عملية الإنتاج فضلا عن مساهمة العنصرين الآخرين وهما الأرض ورأس المال. ولاستحالة استيفائه على الصعيد الجزئي بمعرفة كَمِّ الجهد المبذول من قبل العامل الواحد ونسبة مساهمته في تكوين الناتج.
– العَدْلِيَّة، لتعارض ذلك مع معايير العدل النظرية التي يقررها العقل، وذلك عندما تكون الفروق في الجهود المبذولة من قبل عناصر قوة العمل راجعة إلى أسباب طبيعية قسرية، وليس إلى أسباب شخصية ذاتية.
2 – إذن ومن حيث المبدأ، وبسبب عدم موضوعية توزيع الناتج على أساس الجهد، فلابد من توزيعه على أساس الحاجة التي تتحدد وفق معايير ومقاييس يُتَّفَق عليها بين أفراد المجتمع وبإشراف أهل الخبرة والاختصاص والمشورة الأكفاء.
3 – ولكن ونظرا لوجود حالات من تدني الإنتاجية الفردية غير ناجمة عن ظروف طبيعية وقسرية، بل عن ظروف شخصية وذاتية تتمثل في التقصير والإهمال وفي عدم الولاء والانتماء أو في عدم الإخلاص في العمل، أو في الرغبة في التطفل على جهود الآخرين، فإن العقل يفرض أن تكون هناك فروقات في التوزيع بين أفراد هذه الفئة وغيرهم، على أساس الحوافز والمكافآت التي تعتبر أحد المتطلبات الفطرية للإنسان، وباعتبارها أكثرَ الصِّيَغ التنظيمية قربا من العدل المذهبي في ضوء الإمكانات البشرية العاجزة عن التقدير الكمي الدقيق لنسبة مشاركة هذا النوع من التقصير في تدني الإنتاجية.
4 – لأسباب جوهرية مُنْطَواة في الفرق بين الخدمة والسلعة، وبناءً على الطبيعة الوظيفية للنقد، فإن العمل على تحويل الخدمات إلى مُنتجات اجتماعية غير مُعَبَّر عنها بنقد وكيل مباشر وخاصة في المراحل الأولى، الخدمات ذات الطابع الإنساني، كالعلاج والتعليم، وهو ما يتم التعبير عنه عادة بِمَجاَّنِيَّة العلاج والتعليم، يُعد من الصيغ الأقرب إلى النماذج المذهبية للعدل.
5 – إعادة صياغة قوانين الملكية، وقوانين تقسيم العمل، وقوانين توزيع الناتج الإجمالي، وقوانين التسعير على الصعيد التفصيلي والجزئي، بما يخدم بشكل فعاَّل الأُسُسَ المذهبية التي توصلنا إليها عند عَرْضِنا لفضاءات نظرية الملكية في الإسلام، والتي أوردناها في حديثنا هذا عن نظرية التوزيع، تحقيقا لمعادلاتِ عدلٍ مذهبية أسهبنا في ذكرها وفي شرحها، وأجملها القرآن الكريم في نصوصٍ ذات طبيعة مذهبية جوهرية وعميقة ذات فضاءات ومضامين تطبيقية لا محدودة من حيث أساليب التَّحَقٌّق والتنفيذ على أرض الواقع، يمكننا إيرادها فيما يلي..
– قوله تعالى في الآيتين 34، 35 من سورة التوبة.. “يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذابٍ أليم. يوم يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون”.
– قوله تعالى في الآية الخامسة من سورة النساء.. “ولا تؤتوا السفهاء أموالكَم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفاً”.
– قوله تعالى في الآية السابعة من سورة الحشر.. “ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كي لا يكون دُولَةً بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب”.
– قوله تعالى في الآية رقم 219 من سورة البقرة.. “يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما، ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون”.
إن الآيات القرآنية الأربع السابقات حددت للمسلمين قواعد الاستراتيجية العامة للحراك المالي والاقتصادي في المجتمع، لينطوي تحديدها ذاك على مُطاَلَبَةٍ ضمنية بضرورة العمل على تنفيذها، مادامت مطلبا إلهيا أولاً، ومادامت ارتبطت بمواقف توبيخية شديدة أو تأمُّلِيَّة ذات دلالة، تَلَتْ إعلانهَا مباشرة ثانيا، تمثلت في ربط عدم تنفيذها مرَّة بالعذاب الأليم عند الله يوم القيامة كما أشار إلى ذلك نص سورة التوبة. ومرَّة بالتحذير من عقاب الله في حال المخالفة كما أشار إلى ذلك نص سورة الحشر. ومرة بالدعوة إلى التَّفَّكر بعد أن أوضح الله الآيات، لما في هذا التفكر من حتمية الوصول إلى الحقيقة، وإلى الحكمة الكامنة وراء المطلب الإلهي، كما ورد في نص سورة البقرة.. أما عناصر هذه الإستراتيجية فهي..
* الحيلولة دون “كنز” الثروة، أي دون إبقائها خاملةً في الخزائن وبيوتات المال والبنوك، من غير تحريك وفاعلية في خدمة المجتمع. إماَّ عبر التوظيف والاستثمار الخالق لفرص العمل المؤدية إلى إنتاج السلع والخدمات الضرورية للاستهلاك، أو عبر الضرائب والزَّكَواَت متنوعة الأغراض والقِيَم، أو عبر الصدقات والنفقات الاختيارية المختلفة التي يُقبل عليها الأفراد إرضاءً لله وطمعا في رحمته وجنته يوم القيامة.
ومن المنطقي أن يكتسي بند التوظيف والاستثمار الخالِق لفرص العمل المُنْتِجَة، الأولوية في بنود التحريك الموجب لإسقاط صفة الكنز عن الثروات، مادام هو البند الأكثر جدوى وفاعلية في نتائجه الاقتصادية، لأنه يخلق القيمَ المضافة ويحافظ على القيمِ الأصلية للثروات، ليستمر توظيفها واستثمارها في المجتمع تلبيةً لاحتياجاته المتوالدة والمتكاثرة على الدوام. ومن الواضح أن هذا البند في ذاته لا يَمَسُّ موقعَ الثروات من حيث ملكيتها، بل هو يمس دورها في المجتمع، وهو الدور الذي يجب أن تؤديه تلك الثروات إلزاما ورغم أنوف أصحابها ومالكيها نيابة عن الله بسلطة مباشرة من الإدارة القائمة على الدولة، وبقوة القانون إذا لزم الأمر وفق الخُطَطِ الموضوعة للتنمية في مرحلة بعينها.
فأن يستثمر صاحب المال أو ألا يستثمر، ليس خيارا يملك أن يقرر بشأنه ما يريده، بل هو فريضة عليه، تستوفي الدولة منه تنفيذها قسرا، وتضع لذلك التشريعات والقوانين. وتعد هذه القاعدة هي أولى قواعد المذهب الاقتصادي الإسلامي، إنها انتفاء حرية الفرد في الكنز ووجوب تدوير المال بالاستثمار أو الاستحواذ عليه منه بالضريبة والزكاة.
أماَّ بند الضرائب والزَّكَواَت متنوعة الأغراض والقِيَم والتي تفرضها الدولة، فهي تأتي بكل تأكيد في المرتبة الثانية من حيث الأولوية في التعامل مع الثروات أثناء وضع السياسات التحريكية لها في عجلة الاقتصاد، كي نُجَنِّبَها الوقوع في دائرة وصفها بالكنز. ويقوم التكييف الإجرائي لهذا البند التحريكي للثروة، في وضع الصِّيغ المناسبة التي تتطلبها حالة الدولة والمجتمع محليا وإقليميا ودوليا، لاستفياء الضرائب على الدخل.
ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام استوفى هذا البند من صيغة الزكاة بكل تفاصيلها المحددة في سنته الشريفة، خاصة على المال المجمد الذي كان يَحول عليه الحول دون توظيفٍ استثماري، بحكم أن الرؤية التوظيفية الاستثمارية في ذلك الزمن لم تكن بأهمية ووضوح وعِلمية نظيرتها في زماننا هذا، حتى يتم الاندفاع نحو إلزام أصحاب الثروات بها. ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أدرك – بوصفه نموذجا مميزا في تاريخ ذهنية التطور الإسلامية – دوره التشريعي في هذا الميدان، ففرض بموجبه أنواعا جديدة من الضرائب المتصاعدة على الدخل.
ولأننا نستطيع الآن أن نُخرجَ أي ثروة من دائرة التجميد الموجبة لزكاة ربع العشر السنوية، فإن هذه الضريبة تغدو لاغيةً وغير مجدية بعد عدم تَحقق شروط تطبيقها في الواقع. لأن الثروة الاجتماعية عندما تتحرك كلها فذلك أجدى للمجتمع ولأصحابها من أن تُجَمَّد وتُسْتَوفى عليها زكاةُ ربع العشر التي ستستنزفها مع مرور الوقت. وهو الأمر الذي يثبت أنها – أي الثروة – مجرد دَيْنٍ للمجتمع في ذمة مالك حق الانتفاع بها، ما جعل هذا المجتمع يستعيدها منه بالتقسيط، مادام غير قادر على توظيفها التوظيف الاستثماري المجدي والمفيد للمجتمع.
مع تأكيدنا على أن الله سبحانه وتعالى عندما لم يُشِرْ في كتابه الكريم لا من قريب ولا من بعيد إلى أي تفاصيل تخص الزكاة التي فرضها على المسلمين فرضا عاليَ المرتبة مُقْرِناً إياَّها بالصلاة دائما.. “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة”.. أو “والذين آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة”.. فهو إنما ترك مجالاتهِا مفتوحةً تَمْلأُها المصلحة، التي رأى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، أنها يجب في حينه أن تُمْلأَ بالشكل الذي وردنا عبر سنته، بوصفه ممثلَ السلطة الدنيوية المرحلية في هذا الجانب.
ويأتي في المرتبة الأخيرة من بنود آليات تحريك الثروة في المجتمع لإبعاد صفة الكنز عنها، بند الصدقات والنفقات الاختيارية. والسبب في جعل هذا البند الاختياري آخر البنود وعدم الاعتماد عليه وحده في تحقيق هدف الآية الاستراتيجي القائم على تحريك الثروات، هو أنه ذو طبيعة فردية شخصية مُفْعَمَة بمضامين الاختيار والحَثِّ غير الملزم. ولا يجوز إبقاءُ مهمةٍ جماعيةٍ اُنيطت بالأمة مُمثلةً في الدولة، وهي مهمة عدم الكنز التي ستنعكس على المجتمع ككل بالرفاهية وبالثراء أو بعكسهما من جهة، وعلى دور الدولة الإقليمي والعالمي من جهة أخرى، تحت رحمة قرارات أخلاقية لأفراد قد لا يرقون إلى المستوى الأخلاقي، وقد لا يتمتعون بالقدر من الشفافية، المطلوبين لتحقق قرارتهم تلك المقادير الواجبة والمفترضَة من الإنفاق والتمويل اللازمين لتمرير الغاية المُسْتَهْدَفَة من روح آية تحريم الكنز.
فسواء تصدق الأخيار من أبناء الأمة بعد تحريك ثرواتهم بالبندين الإجرائيين السابقين أو لم يتصدقوا، فإن الفكرة المُنْطَواَة في محاربة الكنز تكون قد تحققت عبر مظهرين، أحدهما تشغيلي يُخَلِّقُ الثروة بتخليق فرص العمل المُنْتِجَة، والثاني إنفاقي يُمَوِّلُ الدولة باستيفاء حشد من الضرائب على الدخل، لتفي تلك الدولة بالتزاماتها تجاه شعبها وتجاه المُجْتَمَعَيْن الإقليمي والدولي. لتبقى الصدقات بنداً إضافيا يحافظُ على حالة التَّعَبُّد وفضاءاتها متواصلة بين المسلم وربه عبر العمل الاختياري المُسَمَّى في المصطلح الإسلامي بـ “النوافل”.
مع لفت الانتباه إلى أن مصطلح “ضريبة” ينطوى على نوع من علاقة التنافر والتَّشاحن والاستعلاء، بين الداَّفِعِ والمدفوعِ له، بينما مصطلح “زكاة” ينطوي على المعاني المضادة، بسبب فضاءات التنقية والتطهير والسمو التي يتيحها وصف دفع الأموال به، الأمر الذي نعتقد معه أن من الأَوْجَه إطلاق مصطلح “زكاة” على كل أنواع الضرائب التي سيتم استيفاؤها من الأفراد على دخولهم، فذلك أدعى لتكريس عناصر الثقافة الذاتية للأمة بين أفرادها حتى في أكثر العناصر ارتباطا بالعصر، وهو عنصر المال والاستثمار والتنمية.. إلخ، وللاستفادة من حالة التواصل النفسي التاربخي التي يخلقها هذا المصطلح في واقع الحياة، لجعل المواطنين يستشعرون أن الأموال التي يدفعونها هي في النهاية نوع من التنقية الحقيقية لأرواحهم ولأموالهم.
* الحيلولة دون الإبقاء على الثروات في أيدي السفهاء يتصرفون بها على غير الأوجه المشروعة والخادمة لمصلحتهم الحقيقية ولمصلحة الأمة على حدٍّ سواء. فالسَّفَهُ لغة واصطلاحا كما قال معظم المفسرين هو سوء التصرف وعدم إدراك عواقب الجَهاَلة في الحياة على النَّفْس وعلى الآخرين، سواء في إدارة المال أو في غير إدارة المال، إنه بمعنىً آخر، الخروج عن حدود الحكمة في التَّصَرُّف أياًّ كان. ففي المعتقد مَثَّل الله له بقوله في الآية 155 من سورة الأعراف حين أورد على لسان موسى.. “واختار موسى قومَه سبعين رجلا لميقاتنا، فلما أخذتهم الرجفة قال ربِّ لو شئت لأهلكتهم من قبل، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا”.. وهو في قضايا المال، سوء التَّصَرُّف والجهالَة في مواضع النفقة وتنمية الثروات، كما أوضحت الآية التي أوردناها كواحدة من آيات الاسترايجية الاقتصادية في الإسلام.
وعندما يُلْزِمُنا القرآن الكريم بضرورة إبعاد السفهاء حتى عن إدارة أموالهم التي امتلكوا حق الانتفاع بها في المجتمع بموجب القوانين والشرائع المعمول بها، فلأن السَّفَهَ يقوم على تصرفاتٍ تؤدي إلى ثلاث نتائج كارثية تعود بالضرر الفادح على ذات السفيه وعلى المجتمع ككل هي..
أولا.. تبديد الثروة.. وهو منهجٌ إنفاقي يتعارض أشد ما يكون التعارض مع فلسفة الإسلام في الإنفاق وفي الاستثمار على حد سواء، حتى لو كان الإنفاق في الحلال.. “والذين إذا أنفقوا لم يُسْرفوا ولم يُقْتِروا وكان بين ذلك قواما”(الفرقان، 67). وهذا يقضي بـأن تكون للإنفاق نفسه في الدولة التي ينظمها الإسلام قواعد تحقق روح هذه الآية. وبالتالي ومع أن التفاوت في الإنفاق بين المواطنين والأفراد سيكون حتما حالةً واقعةً بمقتضى التفاوت من فردٍ لآخر فيما يملكون حق الانتفاع به من ثروات وأموال حسب نظام تقسيم العمل السائد. إلاَّ أن هذا التفاوت يجب أن يبقى محكوما بروح الآية السابقة. فمن غير المعقول أن تكون الفروقُ في مستويات الإنفاق بين المواطنين فروقا مهولة إلى حد البذخ والإسراف الباديين، كأن يسكن مواطن في قصرٍ يكلف ملايين الدنانير، لمجرد أن هذا المواطن يمتلك تكلفة هذا القصر شراءً أو بناءً(!!).
إن حالة المجتمع العامة في ضوء الظروف الداخلية والإقليمية والدولية. هي التي ستحدد إن كان من المناسب أن يُسمحَ لمواطن فيه ببناء قصر بهذا القدر من البذخ والترف أم لا. كما أن المفهوم الحقيقي لحق التمتع بالثروة بالشكل الذي لا إسراف فيه ولا تقتير بمقاييس الحقبة الزمنية، وإمكانات الناتج الإجمالي للمجتمع، والتزامات الدولة المحلية والخارجية، هي كلها مُجْتَمِعة التي ستقرر ما إذا كان من المناسب والمسموح به هذا القدر من الإنفاق في مجال الإقامة والسكن أم لا. ولأن هذه المسألة دقيقة وحساسة وتتطلب قدرا من الموضوعية والواقعية لتحديد أبعادها، فإنها تعود إلى أهل الخبرة والاختصاص الذين سيتولَّون تحديد السقوف العليا لكل مجال من مجالات الإنفاق والتي يعتبر تجاوزها تَعَدِّياً على حدود تلك الآية، ودخولا بالتالي في دائرة السَّفَه في الإنفاق الموجب لحجر الدولة على السفيه المُنْفِق.
أماَّ في مجال الاستثمار فإن السَّفَه يتحقق عندما لا يكون مالك حق الانتفاع بالثروة قادرا على توظيف ماله في الاستثمار المناسب المفيد له وللمجتمع. لذلك فإذا كانت السقوف التي سيضعها أهل الخبرة والاختصاص لتحديد مَدَيات الإنفاق السلعي والخدماتي المُعَبِّر عن إشباع الحاجات، هي الجانب المحقق لروح آية “تجنب الإسراف والتقتير” السابقة، فإن التدخل في الموافقة أو في عدم الموافقة على الاستثمار المعين الذي يرغب فيه المالك، من قبل الدولة، وفق قواعد السوق وأسس التنمية المتبعة، هو الجانب الآخر من جوانب تطبيق روح هذه الآية العظيمة.
ثانيا.. وضع الثروة في مواضعها غير المشروعة.. والمعنى هنا غير المعنى في التبديد، إذ أن الأول قد يتحقق حتى والإنفاق يتَّصِف بأنه حلال كما بَيَّنا. بينما الوضع في غير الموضع المشروع فهو الإنفاق في حرام في ذاته، كالإنفاق على عديد العشيقات، أو على القمار، أو على السكر، أو على الأعداء المحاربين للأمة، أو على أي مظهر من مظاهر الفساد والإفساد في المجتمع.. إلخ. فعلاوة على كون تبديدَ الثروة في هذه المجالات مندرجاً حسب قوانين العقوبات المعمول بها تحت بند ضرورة نيل الجزاء على الفعل ذاته، إلاَّ أنه يدخل أيضا ضمن السَّفه من حيث أنه يوجب التدخل لإيقاف النزيف عند حدِّه وإعادة الأمور إلى نصابها.
ثالثا.. حرمان ذوي الاستحقاق في الثروة من حقوقهم.. وهذا البند من بنود السَّفَه يقوم على عدم أداء السَّفيه لحق المجتمع أفرادا أو جماعةً في الثروة التي يملك حق الانتفاع بها، كامتناعه عن الإنفاق على من يجب الإنفاق عليهم، أو كامتناعه عن الاستثمار المحرك للثروة في الأوجه المحددة من قبل الدولة، أو كامتناعه عن أداء الضرائب والزكوات المفروضة للخزينة.. إلخ.. وهكذا فحيثما انطبقت على ثروة معينة في المجتمع هذه الصفات الثلاث أو واحدة منها، فالقائم عليها سفيه يجب أن يُحالَ بينه وبين تَصَرُّفِه بأمواله وإشرافه عليها بقوة القانون، لتتولى الدولة مهمة إعادة دمجها في المجتمع بشكل يُخلصها من تلك النقائص الثلاث.
مع التأكيد على أن الهدف من الحجر على السفهاء ومنعهم من الإشراف على ثرواتهم وإدارتهم لها ليس هو نزع ملكيتهم لها، أو نقل التصرف بها وإدارتها إلى أشخاصٍ آخرين لهم مصلحة فيها بموجب علاقات القرابة أو قواعد الإرث، بل هو دمجها في حركة الاقتصاد بالشكل المشروع من قبل الدولة نفسها. أي أن مهمة الدولة في سياق الحجر على أموال السفهاء وثرواتهم هي مهمة إجرائية وليست مهمة نقل ملكية. وهو ما يعني أن الدولة عندما تُحرك ثروة السفيه بما يتناسب مع الخطط التنموية الموضوعة وعندما تستوفي منها كافة الضرائب والزكوات المطلوبة، وعندما تقدر على ضبط إنفاق السفيه بحيث لا يندرج تحت بند الإنفاق التبديدي الموصوف بالسَّفَه، فإن الثروة في النهاية هي لصاحبها من هذا الباب. وإن كان خروجها من ملكيته أو دخولها أو بعضها إلى دائرة ملكية مالكين آخرين، يستند إلى العنصر الثالث من عناصر الإستراتيجية الاقتصادية في المجتمع الإسلامي، ألا وهو عنصر تداول الثروة.
لكننا وقبل أن نختتم الحديث عن ضرورة الحجر على سفهاءِ أثرياءِ المجتمع والأمة كي لا يتصرفوا في ثرواتها التي جعلتها قوانين الملكية والاستخلاف ثرواتهم شكلا، وأبقتها ثرواتها مضموناً، بعد أن اسْتُخْلِفُوا على إدارتها نيابة عن الله وعن الأمة بالتالي، بأي تَصَرُّفٍ يوقعهم في دائرة السَّفَه، ويعود على الأمة بالضرر جراء ذلك. نود أن نلفت الانتباه إلى أن السَّفَه بصفاته المذكورة سابقا إذا انطبق على مواطن في الدولة فإنه يُفْقِدُه مشروعية سلطته على إدارة ماله، ويحيل تلك المشروعية إلى الدولة المعنية بذلك، بصفتها القَيِّمَة على حماية الثروات من الضياع والتبدُّد بما لا ينعكس على الأمة وأبنائها بالرفاهية والحياة الرغيدة، بوصف هذا الهدف هو الاستراتيجية الأساس من وراء تقعيد كل قواعد تنظيم الحياة الاقتصادية في المجتمع، وعلى رأسها قواعد الملكية والإنتاج والتوزيع.
ولكن ماذا لو حدث الخلل على مستوى القمة، فأصبحت السلطة مُمَثلة في النظام السياسي الحاكم، هي الطرف السَّفِيه الذي يبدد الثروات بالشكل الموجب للوصف بالسَّفَه؟! المسألة في هذه الحالة غاية في البساطة والوضوح. إن السلطة تفقد شرعيتها وتغدو خارجة على عقد البيعة والاستخلاف والنيابة، وبغدو الخروج على طاعتها بالسبل المتاَحة والممكنة لإعادتها إلى جادة الصواب أو لإبعادها عن سِدَّة السلطة التي أساءت استخدامها، أمورا مطلوبة من الشعب عبر قواه الحية الفاعلة، مع ضرورة محاكمة تلك السلطة كناهبة لثروة الشعب والأمة، وكمبددةٍ لها عند التمكن منها حسب الأصول وحسب ما تتطلبه القوانين وقواعد القضاء الشرعي.
* الحيلولة دون إبقاء الثروة متداولة بين أفرادِ فئةٍ محددة من أغنياء الأمة، وذلك عبر إعادة ضخها بشكل أو بآخر إلى قنوات المجتمع الأوسع من الفقراء والمحتاجين والمساكين ومن كان على شاكلتهم.. أي أن الآليات الاقتصادية سواءً على صعيد الملكية أو على صعيد تقسيم العمل أو على صعيد توزيع الناتج الإجمالي أو على صعيد أنظمة التَّسعير، يجب أن توضع لتحقيق هذا التصور الاستراتيجي.
فالثروة الاجتماعية وهي تنمو وتتوالد وتخدم الأمةَ ورفاهيتَها بقيادة فئة من أفراد المجتمع بعضها يتولى السلطة السياسية والبعض الآخر يتولى السلطة الاقتصادية، يجب أن يتم تداولها باستمرار، ولا يجوز أن تبقى في أيدي فئة محددة تتولى هذه المهمة، أي مهمة الإدارة والتوظيف والتشغيل. وإن على النظام الاستثماري والتنموي في المجتمع أن يخدم هذه الفكرة الرئيسة في الفكر الاستراتيجي للاقتصاد الإسلامي.
فكما أن هناك دعوة لتداول السلطة، فإن هناك أيضا دعوة لتداول الثروة. وبالقدر نفسه الذي يتضرر فيه المجتمع على المدى البعيد عندما يُحرم أبناؤٌه من تداول السلطة عبر ضخ الدماء الجديدة إلى الحكم باستمرار، فإن اقتصاده سيتضرر، ومفاهيم العدالة فيه ستُشْرَخ، والأفكار التنموية الخلاقة فيه قد تتجمد، إذا حِيلَ بينه وبين أن يُقَنِّنَ الحراك الاقتصادي بما من شأنه أن يَخلق آلياتٍ مُتجددة لتداول الثروة.
ولكن ما هو المعنى الحقيقي لتداول الثروة؟!
في واقع الأمر إنه من الصَّعْب تَفَهُّم هذا المعنى الخطير والغريب في الحراك الاقتصادي في المجتمع إذا لم نتحرر من تصوُّرِنا التقليدي الرأسمالي العقيم أو الاشتراكي القاصر للثروة، والذي يجعل منها في أذهاننا شيئا آخر يختلف في صيرورته وفي تأثره بالواقع الموضوعي وفي تأثيره فيه، عن السلطة السياسية ومفاعيلها المختلفة.
إن التَّحَكُّم في مفاتيح القرار السياسي للمجتمع هو قوة وسلطة ونفوذ. وبالمثل تماماً، فإن التحكم في مفاتيح الثروة هو قوة وسلطة ونفوذ. وكلما كان تداول الثروة في المجتمع معدوما كلما كان تداول السلطة معدوما أيضا، وكلما كان هذا التداول شكليا كلما كان الآخر شكليا أيضا. وللتداول في هذا السياق معنىً أعمق بكثير من الظاهرة الشكلية الني نراها في مفاعيل تداول السلطة السياسية الغربية عموما والأميركية منها خصوصا.
إن كلاًّ من السلطة السياسية وتَمركز الثروة مؤشرٌ على الآخر ودالة له. فعندما نلاحظ أيَّ تداول ظاهري للسلطة غير مرفق بتداول حقيقي للثروة ناقلا تَمركزَها إلى جانب آخر وإلى فئات أخرى من المجمتع، علينا أن نجزم على الفور بأن هذا التداول الحاصل في السلطة السياسية ليس أكثر من خدعة جعلت الانتقال فيها يحدث على مستوى القشور، ليستلم السلطة في البلد التي من هذا القبيل، فريق آخر من فرقاء تَمركز الثروة أنفسِهم بدل الفريق الأول. وبالتالي فلن نتوقع تغييرات تُذْكَر على مستوى السياسات في كافة اتجاهاتها أو في أهم اتجاهاتها على الأقل، لأنها في الواقع هي ذات السياسات التي كفلت وضمنت تَمركزَ الثروة. فلن يتنازل عن الثروة من امتلك مفاتيحها قبل السلطة عندما يصبح في السلطة، أي عندما يكون أكثر قدرة على التحكم في تلك المفاتيح.
إن تداولَ السلطة يكتسب معنى حقيقياً عندما يكون ناتجا (عن) أو مؤديا (إلى) انتقالٍ حقيقي وإزاحة فعلية في تَمركز ثروة المجتمع، نراها بموجبهما تقفز – وإن يكن تدريجيا وبعقلانية مدروسة – من مكان إلى آخرٍ متباينين تباينا لا شك فيه، سواء على صعيد الطبقات والفئات التي تنتمي إليهما، إذا كان المجتمع في حالة صيرورة طبقية لم تُحسم بعد، أو على صعيد الأفراد والمجاميع الاستثمارية المجردة عن الطبقية، إذا كانت الصيرورة التي تحكم المجتمع هي بالأساس صيرورة تداول ثروات من حيث المبدأ. وبالتالي فلا وجودَ لتداولٍ حقيقي وصادق ومُعَبِّر للسلطة، في مجتمع لا توجد فيه آلياَّتٍ حقيقية وصادقة ومُعَبِّرَة لتداول الثروة ابتداءً. إن العلاقة بين هذين النوعين من التداول، هي علاقة عضوية حميمة، تجعل من أحدهما رحما حقيقياً للآخر لا ينفك عن الاغتذاء منه لتشكيل مُكَوِّنات صيرورته في الواقع المجتمعي.
أي أن مظاهر تداول السلطة التي نراها ونشاهدها في الولايات المتحدة وفي العالم الغربي عموما، هي مظاهر كاذبة وخادعة لهذا التداول، لأنها في الواقع لم تُرْفَق لحد الآن بمعادلاتِ تداولٍ فعليةٍ للثروة، ولا هي نتجت عنها. إنها نتجت وتنتج (عن)، وأدّت وتؤدي (إلى) معادلات تَمركز الثروة ذاتها وإن يكن بتغييرات طرفية تُخومية أحياناً بسبب محاولاتٍ من هنا ومن هناك لدخول لاعبين جدد في ساحة تَمركز الثروة، يبحثون في ظل المعادلات السائدة عن مواقع لهم بين الكبار المهيمنين، عبر تغييرٍ في الأشخاص المُعَبِّرين عن نفس المعادلات والمُمَرِّرين لنفس التمركزات، اقتضت تَباَدُلَهم للمواقع هذه الاختلافاتٌ القِشْرِيَّة الطابع في بعض مفاعيل الحياة الاجتماعية التي لا تُعتبر ذات دلالات جوهرية على صعيد مواقع الثروة المجتمعية وتَمركزها.
في ضوء ما سبق، نستطيع أن نجزم وبدون أي تحفظات أن الإسلام – ديناً وفكراً ونظام حياةٍ – هو الوحيد وبلا منازع على الإطلاق من بين كل الأديان أو النظم البشرية التي عرفها الإنسان على مدار التاريخ، من وضع الأسس الحقيقية لتداول سلطة حقيقية، عبر بَثِّ أسبابها الحقيقية ذات التأثير الحتمي الذي لا مفر منه في الصيرورة التاريخية، في قلب الحياة المجتمعية عامة والاقتصادية منها خاصة، بقواعده الاقتصادية الاستراتيجة سالفة الذكر، وعلى رأسها قاعدة تداول الثروة التي أَصَّلَتْها سورة الحشر العظيمة.
ولن نكون مبالغين ولا مجانبين للحقيقة الدامغة في تأكيد تَوَجُّه الإسلام نحو تحقيق هذه الاستراتيجية الاقتصادية، عندما نُذَكِّر مجرد تذكير بأن نظام الإرث كما شرحته سورة النساء وكما استكمله الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في ضوء صلاحياته التشريعية، وكما يشرح فضاءاتِه المستقبلية العقلُ المذهبي، يُعْتَبَر واحدا من أكبر عناصر تفتيت الثروة، وأكبر معيدٍ لتداولها من جديد في فئاتٍ ووسط شرائح اجتماعية، من شأنها أن تخلق قوى تَمركزِ ثروةٍ جديدة قد تضخ إلى السلطة السياسية بدماءٍ جديدة، تعيد إحياء المجتمع وتجديد كل مفاصله الحيوية، لتستمر هذه المعادلة على الدوام، دون أن تَمَسَّ بقواعد العدالة التي تتحقق برفقة القواعد الأخرى المذكورة.
كما أننا لا نضيف جديداً عندما نؤكد على أن قولَه تعالى في الآية السابعة من سورة الحشر..”ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل..”، ينسحب قياسا على كل الثروات التي تجود بها الأرض بحيث يغدو تمليكها لله ولرسوله، هو معنى معاصرا من معاني تمليكها للأمة بأكملها، بحيث تضيق دوائر الثراء المحتملة الموجبة لتطبيق قواعد الاستراتيجية السابقة. لأن تمليك وسائل الإنتاج – التي تُعَدُّ الثروات القومية عادة أحد أبرز مُكَوِّناتها – للأفراد، هو أكبر مظهر من مظاهر الفرز الطبقي الاقتصادي بأبشع صوره المتمثلة في تَمركز الثروة، الذي يؤدي إلى انعدام الفرص الحقيقية والمُعَبِّرَة لتداول السلطة.
هذا ونود أن نوضح في هذا السياق، أن إعادة صياغة قواعد تَمركز الثروة في المجتمع، تتأتَّى نتيجةً لاستلام السلطة، إذا جاءت هذه الأخيرة عبر التَّمّرُّدِ الثوري على الفرز الطبقي في المجتمعات التي تعاني من رفضِ ساستها التجاوبَ مع متطلبات الخروج من عنق زجاجة اقتصاد السوق الرأسمالي بصُوَرِه البشعة، بسبب رفض هؤلاء الساسة لفكرة التداول الحقيقي للثروة. لكنه – أي مبدأ تداول الثروة – إذا أصبح هو الركيزة الأساس في النظام الاقتصادي السائد، فإنه سيغدو سببا لكل أشكال تداول السلطة اللاحقة، والتي لن يعيقها عائق بعد ذلك، بسبب أن مُكَوِّنَها الموضوعي ومُخلِّقَها الحقيقي قد وُجِد، ألا وهو مبدأ تداول الثروة.
أما إذا عاد المتحكِّمون الجدد في مفاتيح السلطة السياسية، ليفرضوا نظاما اقتصاديا لا يقوم على مبدأ تداول الثروة، بعد أن امتلكوا مفاتيح هذه الثروة بامتلاكهم لمفاتيح السياسة التي كانت قبل ذلك في أيدي غيرهم، وأصَروُّا من ثم على رؤيتهم الاقتصادية المتحررة من اعتماد مبدأ تداول الثروة أساسا لصيرورة الحراك الاقتصادي في المجتمع، من منطلق اعتقادهم بأنَّ مَنْ آلت إليهم مفاتيح الثروة هم أصحاب الحق الأزليين في إدارتها والتحكم فيها، وهم قد حصلوا على هذا الحق المسلوب وانتهى الأمر، فإن المعضلة ستعود لتتكرر من جديد عبر حالةِ تناقضٍ جديدةٍ ومن نوعٍ مختلفٍ، بين سلطةٍ تبحث عن أَجِنَّة تداولها وبناءٍ اقتصادي يرفض أن يَسْمَح بذلك عبر رفضه السماح بتداول الثروة ابتداءً.
ولعل فشل الاقتصاديات الاشتراكية في معظم دول العالم في الاستمرار في إدارة الثروات التي كانت تديرها، يرجع إلى شيء من هذا القبيل. كما أن نجاح الرأسمالية في تجديد نفسها من حين لآخر، وإن يكن بشكل قِشري، إنما يعود إلى هذا النَّوع من الوعي بضرورة عدم خلق حالة صارخة من التناقض بين الطبقات الاجتماعية وهي تتصارع على الثروة والسلطة.
فمادامت الثروة هي التي ستتكَثَّف لتُعَبَّر عن نفسها في السلطة السياسية في نهاية المطاف. فهذا يعني قطعا أن السلطة السياسية هذه، ستتحرك وتدور يمينا أو يسارا، صعودا أو هبوطا، تمركزاً أو انتشاراً، انحصارا أو تداولاً، تَغَيُّراً أو ثباتاً، مع الثروة حيثما تحركت وكيفما دارت. وإذن فإن أهم طموح بشري ناضل من أجله الإنسان، والذي تفتخر الحضارة الأوربية بأنها توصلت إليه وأنجزته بعشرات الملايين من الضحايا، والذي هو تداول السلطة – رغم أنه في شكله الغربي مخادع إلى أبعد الحدود كما مر معنا – هو نتيجة مُحَتَّمَة لمنطق تداول الثروة الذي دعا إليه القرآن الكريم منذ 14 قرنا من الزمان، رغم أن المسلمين مع الأسف كانوا أكثر الناس جهلا به ومحاربة له وبعداً عنه لأسباب تاريخية ليست هذه الدراسة هي مكان الحديث عنه.
إنه مبدأ لو تحققت مفاعيله الموضوعية في الواقع بشكلها الصحيح والمعبِّر في كل مرحلة من مراحل الصيرورة التاريخية للمجتمع الإسلامي عن متطلبات التداول التي تحتاجها تلك المرحلة، لكان للعالم شكل آخر، ولكان تداول السلطة قد غدا واقعا إنسانيا منذ زمن، ولكان قد تطور ليتخذ أشكالاً ما كنا لنتوقعها، قد يحتاج الإنسان إلى عقود طويلة قادمة من الزمن وإلى مديات هائلة من التطور كي يصل إليها. وعلينا أن لا ننسى أن واضع النُّطَف القادرة على تخليق هذا الجنين الجبار، المُمَهِّد لأرقى نماذج العدل والحرية في الحياة المجتمعية، لو أنها لم تقض في الطريق المؤدي إلى بويضات الصيرورة التاريخية، هو الله سبحانه وتعالى الذي قدَّر كلَّ شيء خَلَقَه.
من هنا فإن المعيار الحقيقي على قرب دولة معينة أو مجتمع معين من روح الإسلام ومن تعاليمه، أو على بعدهما عنه، هو تيرموميتر مبدأ “تداول السلطة”، لأنه الدالة الحقيقية على مبدأ تداول الثروة الذي هو أهم هدف من الأهداف الاستراتيجية التي أراد الله تحقيقها في حياة مخلوقاته البشرية، بعد هدف تخليص الإنسان من خرافات الشرك وسلبيات القدرية المرافقة له. لأن هذا التداول هو أرقى قنوات الحياة تعبيرا عن العدل وعن الحرية. والعدل والحرية هما خلاصة المقصد الإلهي وغايته في رحلة تطور الإنسان الأبدية التي بدأها الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، والتي سيواصلها العقل البشري مستنيرا بهديهم إلى يوم القيامة.
في ضوء هذه المعادلة فإن نظرة سريعة نلقيها على سطح هذا الكوكب المأزوم لنستقرئ بها الحضور أو الغياب الإلهي عن واقع البشر، تطلعنا على مأساة عَزَّ نظيرها، عندما نكتشف أن أبعدَ الشعوب عن استحضار الله وبالتالي عن استحضار الإسلام بالمعنى السابق في حياتها، هي الشعوب العربية التي تُعَدُّ بفخرٍ شديد أَبعد الأمم عن فكرة تداول السلطة وتداول الثروة، على الإطلاق. ونخص بالذكر هنا جزيرة العرب التي شاءت المفارقات أن تكون هي موطن الإسلام الأول، ومنطلق نوره إلى كل العالم.
* إنفاق العفو من المال، أي الزيادة منه، ولا يمكن تَكْميِم الزيادة – أي تحويلها إلى كمياتٍ قابلة لأن يُصارَ إلى تحديدها بأنها زيادة لإنفاقها من ثم – إلاَّ إذا فُهِمَت على أنها زيادة عن الحاجة، وليست زيادة عما يرغب الشخص بإنفاقه مطلقا عن منطق التكميم المرتبط بفكرة محددة هي فكرة الحاجة. وإلاَّ فما هو المقصود بفكرة “ما زاد عن”، إذا لم يكن هو “مازاد عن الحاجة”؟!. لا يمكن لفكرة أن تُكَمَّم في هذا السياق إلاَّ إذا كانت هي الحاجة الإنسانية بالمعنى الواسع للحاجة. وبالتالي فيجب أن تصاغَ مجموعة من الآليات الاقتصادية في المجتمع بشكل يحقق مضامين مبدأ إنفاق الزيادة عن الحاجة.
وعندما يكون الإنفاق في المصطلح القرآني هو توجيه الثروة والمال إلى الأوجه التي تُحَقِّق كلا من، مبدأ تداول الثروة، وعدم الإكناز المانع للاستثمار والتشغيل والتنمية، وتَجَنُّب إدارة المال بالسَّفه وبالسفهاء من الناس، فإن المعنى يغدو واضحا في أن كل ما زاد عن الحاجة الاستهلاكية بالمعايير المنطقية التي يضعها أهل الخبرة والاختصاص في المجتمع، يجب أن يُوَّجه إلى الإنفاق لتحقيق تلك المعادلات، وكفى باستراتيجةٍ اقتصادية، ثوريةً وقدرةً على التغيير وعلى القضاء على كل المفاسد والاختلالات، أن تكون بهذ العمق وبهذا التصور الناضج في ربط السياسة بالاقتصاد في أرقى ما يُمكن أن نتصوره من رؤى في هذا الشأن.
من كل ما سبق نستطيع أن نستخلص أن كافةَ السياسات والبرامج الاقتصادية في مجالات الملكية، والإنتاج، والتوزيع، والتسعير، والتنمية، والتشغيل، والضرائب “الزَّكَواَت”، والاستثمار، والأنظمة النقدية، والأجور.. إلخ، والتي ستوضع في الدولة التي يفترض أنها تتحاكم إلى آليات اقتصاد إسلامي بالشكل المشروح والمؤصَّل في هذه الدراسة، يجب أن تُحَقِّقَ الأهداف المحددة التالية، بصرف النظر بعد ذلك عن التفاصيل الإجرائية، وعن الصيغ المباشرة، وعن البُنى العملية والمؤسسية التي تتطلبها تلك الأهداف المحددة كي تَتَحَقَّق..
1 – تثبيت حدود دنيا للدخول لا يجوز الهبوط عنها تحت أي ظرف، إلاَّ إذا كان إجمالي الناتج المحلي أو الظروف الجيوسياسية للدولة، وليس أي عامل اقتصادي آخر، هي التي تعجز عجزاً فعلياً عن تلبيتها. على أن تكون هذه الدخولُ مُقَرَّرَة على أساس قدرتها الفعلية على تحقيق كرامة الإنسان، وعلى إشباع حاجاته كاملة، وعلى تحريره من الفقر ومن البطالة ومن كل أشكال الحرمان، وفق معايير العصر وظروف الجغرافيا ومتطلبات المهام السياسية للدولة والمتفق عليها من قبل أغلبية أفراد المجتمع. مع ضرورة وضع قواعد لتنظيم مسألة الحوافز والمكافآت كآلية متبعة للتفريق بين جهود الأفراد وفق ما تم تثبيته فيما مضى من أسس وقواعد تحكم هذه المسألة.
2 – تثبيت سقوف عليا للإنفاق لا يجوز تجاوزُها تحت أي ظرف، تأخذ في الاعتبار التَّصَوُّرات القرآنية للتقتير وللتبذير، واحتياجات الدولة السياسية المتفق عليها من قبل غالبية أفراد الشعب. على أن يكون مفهوما أن وجودَ سقوف إنفاقية أعلى من حدود الدخل الدنيا المقررة بناء على فحوى البند السابق، يعني قطعا أن تلك الحدود الدنيا قد أمكن تحقيقها في الواقع للجميع، وإلاَّ فإن السماح بسقوفٍ أعلى منها في ظل وجود مواطنين لا يحصلون عليها هو أمر يتعارض مع استراتيجية العدل الاقتصادي الإسلامي الذي نتبناها هنا. وفي هذا السياق يجب وضع منظومات وافية من التشريعات التي تُنَظِّم مسألةَ الإنفاق السَّفيه الذي يَحرم المنفق من حق إدارة ثروته ومُمتلكاته بِما يتناسب مع مضامين السَّفَه التي شرحناها سابقا، وبما ينسجم مع الأهداف الاستراتيجية للعدل الاقتصادي في المذهبية الإسلامية.
3 – وضع نظام ثابت وصارم لتسعير السلع والخدمات يتيح للحدود الدنيا للدخول أن تُعَبِّرَ تعبيراً حقيقياً عن قدرتها على تلبية الحاجات الأساسية للأفراد بالشكل المقرر والمرتكز إلى معايير كرامة الإنسان ومستويات وظروف المكان والزمان. وعدم ترك نظام التسعير عُرْضَةً لتقلبات السوق.
4 – وضعُ حُزَمٍ من الضرائب “الزكوات” على الدخول، تُسْتَثْنَي من الخضوع لها استثناءً كاملا كافة الدخول التي تُمثل الحدود الدنيا. وتتصاعد بعد ذلك وفق أنظمةٍ تُحَقِّقُ مشاركةً أكبر في موازنة الدولة للدخول المرتفعة.
5 – وضعُ مجموعةٍ من (أنظمة وحُزَم وقواعد ومجالات) الاستثمار، تَفْرِضُ على كافة الدخول الزائدة عن المستويات الإنفاقية المقررة في سقوفها العليا، أن تندمج اندماجا كاملا في التنمية، تحقيقا لمبدأ عدم الكنز وإنفاق العفو، أي ما زاد عن الحاجة كما قررتْها سقوف الإنفاق العليا.
6 – تفعيل كافة الإجراءات التي من شأنها المساعدة على الوصول إلى جعل الخدمات مُقَدَّمَةً للمواطنين بدون وكالة النقد، أي بالمجان. وفقَ سياسة ترتيب حسب الأولوية والأهمية الحيوية للخدمات مُقَرَّرَة على النحو التالي.. (الأمن، العلاج، التعليم، السكن، النظافة، التنقل، التسلية).
7 – العمل على تطوير نظام الإرث بتوسيع دائرة الوارثين بالتدريج من فترة لأخرى، وبتثبيت الوصية وتطويرها لتتحول من مسألةٍ اختيارية ومُحَدَّدَة بالثلث كحدٍّ أقصى، إلى مسألة إجبارية، تبدأ بالثلث كحدٍّ أدنى، مع إمكان فرض دوائر معينة من المستفيدين منها، دفعا بمبدأي تداول الثروة وعدم اكنازها إلى مستوياتٍ متقدمة من تَحَقُّقِهِما في الواقع. على أن يكون التَّوَسُّع في آفاق تطوير نظام الإرث الإسلامي مدروسا على الدوام بعناية فائقة، لعدم إخراجه في كل أشكاله المرتقبة عن خدمة الهدف المتمثل في تداول الثروة.
8 – العمل على توسيع دائرة العناصر الإنتاجية التي يمكن تحويلها إلى ملكية عامة كلما أمكن ذلك، بِما لا يتعارض مع أيٍّ من الأهداف السابقة، وبِما يُبقي على مبدأ الملكية الخاصة قائما وفق القواعد المرعية في الاستراتيجية الاقتصادية الإسلامية ككل.
9 – يجب أن تكونَ كافة الخطط التنموية في الدولة وعبر كافة تفاصيلها متناسبةً مع الأهداف الثمانية السابقة ومُساعِدَةً على تحقيقها في أرض الواقع، وغيرَ متعارضة معها بأي شكلٍ من أشكال التعارض.
10 – يَجب أن تكون الإرتباطات الإقليمية والعالمية للاقتصاد الوطني بكل أشكالها (استيراد، تصدير، استثمار مُسْتَقْدَم أو مُسَفَّر إلى الخارج، اقتراض أو إقراض خارجيين، سياحة قادمة أو مُساَفِرَة، تعاون اقتصادي إقليمي أو دولي، سياسات نقدية خارجية، اتفاقيات اقتصادية وتجارية خارجية من أي نوع.. إلخ)، مُصاغَةً ومُعَدَّةً على نَحْوٍ لا يتعارض مع الأهداف التسعة السابقة، بل بشكلٍ يَخدِمُها ويُفَعِلُّها ويدفعها إلى الأمام.
وإذن فلا توجد على وجه الأرض قاعدة اقتصادية مُقدسة، أياًّ كان نوعها، وأياَّ كان تكييفها المذهبي، إشتراكية كانت أو رأسمالية، خادمة لفكرة اقتصاد السوق أو لغيره، ما لم يكن الهدف من ورائها تحقيق العدل بشكله المُقَرَّر مذهبياً، بوصفه النموذجَ العدلي الأكثر انسجاما مع العقل. إن الأهداف العشرة السابقة هي التي تحظى بالقداسة بوصفها أهدافاً قائمة على الرؤية المذهبية للاقتصاد الإسلامي ومُحَقِّقَةً لها.
أي أنَّ كافةُ الهيكليات والبُنى والتَّشريعات والقواعد والإجراءات والأنظمة الكلِّيَّة والجزئيَّة لاقتصاد الدولة التي تريد أن تحتكم إلى المذهبية الاقتصادية الإسلامية بشكلها الموضَّح سابقاً، يجب أن تدور مع الأهداف العشرة السابقة حيثما دارت، وأن تستجيب لمتطلبات تَحَقٌّقِها في أرض الواقع أياًّ كانت هذه المتطلبات. القداسة للهدف المذهبي وليست للقواعد والأنظمة. وأيُّماَ قواعد أو أنظمة تعارضت مع الهدف المذهبي أو لم تقدر على تَمريره وخدمته، فهي قواعد وأنظمة مرفوضة ويجب أن تُنْبَذَ على الفور. وأَيُّ قواعد وأنظمة رُؤُيَ أنها تخدم المذهب وتُمررُه أكثر من غيرها في مرحلة معينة، فهي مطلوبة على الفور أياًّ كانت نتائجها على صعيد تأثيرها على البُنى الاقتصادية السائدة، حتى لو حطَّمَتْها كلَّها وأعادت بناءَها من جديد.
ولقد قارب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين هذه الاسترايجية القرآنية المشروحة آنفا،ً وبين الواقع الذي قادَه وعايَشَة بقوله.. “كاد الفقر أن يكون كفراً”. وبقوله.. “يدخل أغنياء أمتي الجنة حبواً”. كأنه أراد أن يقول إن طرفي معادلة الفرز الطبقي الاقتصادي (الفقر والغنى) تلامسان ما جاء عليه الصلاة والسلام ليُحَرِّرَ البشرية منه وهو “الكفر”. ولما كان وصفُه للفقر في هذه الملامسة أكثرَ وضوحا وجلاءً من وصفِه للغِنى، فكأنه يريد أن يقول أيضا، إن الثورةَ على “الفقر” هي شكل من أشكال الثورة على “الكفر”. أما “الغِنَى” فإنه يكاد يكون أيضاً بهذا المستوى – أي بمستوى الكفر، مادام دخول الأغنياء إلى الجنة يعاني من الصعوبة بدخولهم إليها حبواً – إذا كان في المجتمع فقراء، يَجعلون غِنىَ الأغنياء مدعاةً للتشكيك في مشروعيته.
أما كبار الصحابة وعظماء ثُواَّرِهم، فقد أسقطوها تطبيقا عمليا في نضالهم وجهادهم الدائمين، حين قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.. “لو كان الفقر رجلا لقتلته”.. كأنه يريد أن يقول إن أبشع الجرائم على الإطلاق، وهي جريمة “القتل”، مباحة وشرعية عندما يكون المقتول هو “الفقر”. تُرَى هل كانت بعيدةً عن ذهن عليٍّ كرم الله وجهَه، فكرةُ أنَّ قتلَ “الفقر” لا يتأتى إلاَّ بقتل كلِّ أسبابه ومبرراته في المجتمع؟!
وحين قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه.. “عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه”، ألم يكن يعني أن السكوت على “الفقر” في المجتمع حتى لو تطلب ذلك حمل السلاح لتصحيح الاعوجاج الذي سَبَّبَ الفقرَ والذي سَبَّبَه الفقرُ، هو مدعاة لاستهجان هذا الصحابي الأُمَّةِ وَحْدَه؟!
أما صرخة عمر بن الخطاب، التي دعا فيها إلى تحرير كل البشر من كل مظاهر العبودية، والتي يقف الاستعباد الاقتصادي على رأسها كلها.. “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”، فنتركها مدوية في جنبات التاريخ برجعِ صداها الذي لا ينقطع، عساها تُعَلِّمُ رعاةَ البقر كيف يكون المسلمون عندما يقررون صنع تاريخ البشر.