www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

من قصص الأديب عبد القادر كعبان

0

انتابني شعور غريب بالخوف منذ اللحظة الاولى التي وطئت فيها قدماي مبنى الشركة. لقد تلقيت استدعاء لاجراء مقابلة من أجل الوظيفة التي باتت حلما يراودني منذ حصولي على الشهادة الجامعية. فجأة خطر لي أن أتوقف.. فتوقفت.. دار في رأسي سؤال واستقر:

جدار الصمت
بقلم عبد القادر كعبان
انتابني شعور غريب بالخوف منذ اللحظة الاولى التي وطئت فيها قدماي مبنى الشركة. لقد تلقيت استدعاء لاجراء مقابلة من أجل الوظيفة التي باتت حلما يراودني منذ حصولي على الشهادة الجامعية. فجأة خطر لي أن أتوقف.. فتوقفت.. دار في رأسي سؤال واستقر:
-هل ستكون الوظيفة من نصيبي، أيمكن..؟
بسملت ثم دخلت. فجأة وجدت نفسي أمامه بمكتبه الفخم المكيف. رسم ابتسامة عريضة على شفتيه ثم سألني:
-ما هو تخصصك يا بني؟
اجبته بكل ثقة:
-متحصل على شهادة ليسانس في الحقوق.
بقي ساكنا صامتا فأتممت قائلا:
-و ما مجيئي لمقابلة سيادتكم الا لاستعدادي القوي على العمل و افادة الشركة.
قاطعني بسؤاله:
-هل تملك الخبرة الكافية لذلك.
بصدق قلت:
-لا يا سيدي..
فأطلق ضحكة جعلتني أجفل و أرتعش.. و بجدية قال لي و الابتسامة التي توجت شفتيه منذ رأيته اختفت.. زالت.. بل اندثرت و حل مكانها الجدب و البوار:
– بني.. يبدو أنك شاب طيب همه الخبزة أليس كذلك؟

لحظتها لم أجد غير جدار الصمت أضعه بيني وبينه.
ثم أضاف مبتسما:
-أتفهم وضعك، لذلك ستجد مني ومن كل عمال الشركة كل الود و المساعدة.. انما بقيت لى كلمة أريدك أن تنتبه اليها.
بارتعاش قلت:
-ماهي يا سيدي؟
فأجاب و كله ثقة بنفسه:
-كل الخبز يابني وكفى..
ثم هم بفتح علبة السجائر. سلمني سيجارة فامتنعت قائلا:
-لا أدخن ياسيدي.
فجأة دخلت السكريتيرة الشقراء تخطو نحوي بكعبها العالي ثم وقفت.. التفت اليها المدير العام بنظرة تحمل معاني خفية و كأنه يطلب موافقتها.. أمعنت النظر بوجهي ثم أجابت بابتسامة حمل وديع:
-سيماهم في وجوههم ياسيدي، و أظنه المناسب لتسلم الوظيفة.
أحسست لحظتها أنني آلة تخلو من أي احساس تتحرك كما يريدها الآخرون.
 
 *******

حافة الصمت
بقلم عبد القادر كعبان
استيقظت على صياح سائق الحافلة و هو يوقظني من نومي قائلا:
-قم يا رجل أنت في العاصمة..
فتحت عيني و نظرت إلى وجهه بصمت. نزلت وفعلا هي العاصمة بنفسها.. تملأها وجوه مبهمة الملامح تموج في فضاء معبأ بوقع الأحذية المسرعة على الإسفلت و رائحة وقود الحافلات.
 واصلت السير بخطوات متثاقلة و ما شد انتباهي بشر ٌ  نيام هنا و هناك، وسط حركة الناس و الحافلات. للحظة فقط .. فاجأتني يد تمسك بي  بقوة، و صوت يكاد يختنق من شدة البرد يرن في أذني بحرقة :
-لله يا محسنين أنا بحاجة إلى ثمن  رغيف خبز..
آخ، أية طعنة سكين رهيبة في القلب هذه التي أسمع !. لا أدري لم َ  شعرت بألم شديد يباغتني. أحسست أنني كمن يتهاوى في عمق سحيق.. بنيانه الجسمي  الذي يوهمك انه متين ٌ ، وقلت :
-أنا أيضا غدوت متسولا مثلك لكن بشكل آخر ،  لا أريد الخبز وحده أريد أكثر من هذا بكثير…
تأملني كأنني إنسان معتوه أو من كوكب آخر ثم مضى غير عابئ بي . حينها تذكرت كلماتها التي انهالت علي كالسياط:
-افعل شيئا حيال عيالك الجوعى.. تحرك.. ألست رب العائلة!؟
نعم كان المتسول محقا، فقد غدوت معتوها أتسول نفسي بلا هدف!، و إلا لما ركبت الحافلة و قدمت إلى العاصمة ملتمسا الإحسان من العابرين. ترى ما الذي أصابني!؟ حتى الوقوف ما عدت أقوى عليه. هويت على الاسمنت البارد كخرقة بالية في محطة الحافلات وسط الزحام و الدخان وهدير المحركات.
راحت عيناي تستصرخان في هذه الأثناء الوجوه العابرة وسط ذلك الجو الضبابي.
لمحت وجها مقبلا علي فاستبشرت. رأيته يهبط علي باهتمام قائلا:
-لا تخف، لربما هي مجرد وخزة برد ليس إلا، فجسمك يلتصق بالاسمنت البارد.
هم بنزع معطفه المهترئ ليلفني به. شعرت بيديه تتحسسان صدري. لمحت وجهه فأدركت أنه.. حينها أحسست بقلبي يهمس بصوت واهن، يداخله شيء من الارتياح اذ تلمسه يد بشرية عطوفة.

  **********

 التوغل صمتا
بقلم عبد القادر كعبان
كل من يراني يظنني باردة لا أبالي بما يدور حولي. لكنني غير ذلك تماما. أخرج يوميا في صمت باتجاه مدرسة ”الحياة“ الابتدائية أين أعمل كمدرسة لغة فرنسية.
كعادتي اعود الى ذلك المنزل الذي بات يسوده السكون.. منزل كان يعج بضجة الداخلين اليه و الخارجين منه قبل وفاة والدي.
كنت في الثامنة و الثلاثين من عمري و مازلت عازبة. وصلت عند عتبة منزلنا يوما.. فجأة خطر لي أن أتوقف..فتوقفت.. دار في رأسي سؤال و استقر:
-أيمكن أن يطرق باب بيتنا، ماذا لو..؟
دخلت.. وجدت نفسي أمامها وجها لوجه كمن تواجه مرآتها ثم سألتني:
-يا بنيتي بتت أخاف عليك غدر الزمان..
اجبتها بكل ثقة:
-لا زلت أجهل سبب خوفك يا أماه..
قاطعتني قائلة:
-وضعك يقلقني يا عزيزتي، فالايام و السنين تجري ومن يدري..
بقيت على صمتي فأتمت قائلة:
-الزواج سترة من غدر الأيام..
واصلت متوغلة في صمتي و توغلت أمي في مواعظها عن غدر الحياة و عن خطر العنوسة وعن..
اندفعت مسرعة في سكون رهيب نحو غرفتي و أنا أفكر في غد قريب..

**********

صراخ الصمت
بقلم عبد القادر كعبان
نفس المشاهد الروتينية.. صراخ صغاري السبعة.. أنين زوجتي الحامل و طلباتها التي لا تنتهي.. أصداء أصوات تتزاحم في رأسي.. شعرت كمن يدور في دوامة يتغلغل صفيرها في مسام جلدي.
تذكرت اصداء كلماتها المتلاحقة  التي انهالت علي كالسياط صباح اليوم:
-صغارك بحاجة الى الحليب و الخبز.. تحرك.. ألست رب العائلة!؟
فجأة ضاع صوتها وسط صراخ الباعة المتجولين و صخب الشاحنات. بمرورها دخلت من جديد في دوامة صمت رهيب. اسئلة تدافعت في رأسي كتدافع قطيع الأغنام.. توقفت فجأة متسائلا:
-الى أين أتجه؟
تنازعتني رغبة الفرار بعيدا. لكن.. ماذا لو تصرخ زوجتي معلنة أن مغصا حادا يقطع أمعائها الآن؟.. الطبيب.. أجرة المعاينة.. لكن رغبة الأبوة منعتني..
احسست لحظتها انني أختنق. كنت أخرج فجرا للعمل لأعود ليلا الى البيت الذي تأكل أجرته نصف مرتبي.  كعادتي اعود الى ذلك الحي الشعبي الفقير منهكا، متناسيا صغاري لأرتمي في فراشي كالميت الذي فارقت روحه جسده.  
ليست هناك وسيلة ركوب توصلني بشكل مباشر الى البيت، و لهذا كنت أرجع يوميا سيرا على الأقدام.. حتى حذائي القديم صار يضرب الاسفلت بعدم مبالاة متناهية.
عجزت تماما عن قلب مفهوم ”لعبة الحياة“ في مدينة تتقاذفني شوارعها الصاخبة و بناياتها العالية و أناسها الذين يبدون ككائنات تتحرك تسير باتجاه واحد.. بطريقة متشابهة..
وعند عتبة الباب تلقيت الخبر كصفعة تهوي على خدي لتذكرني بأفواه جائعة تنتظر أرغفة الخبز..

 ********

وجه امرأة
بقلم عبد القادر كعبان
نفس صور الماضي.. أحداث ضبابية المعالم.. أرق وخوف.. شعرت كأنني أدور في دوامة النسيان.. و بطريقة فجائية نسيت من أكون؟
فجأة لمحت وجها مقبلا.. زادت دقات قلبي خفقانا.. نظرت نحوه متسائلة:
-أين نحن؟
تأثرت ملامحه بسؤالي، ثم قال:
-شيء عجيب، ما بالك؟!
فتمتمت:
-أين أنا؟
ثم قال عابسا:
-مالك؟ ماذا جرى؟
فابتسمت ابتسامة باردة متسائلة:
-أفقدت ذاكرتي؟
فرمقني بنظرة حزينة ثم قال:
-نحن في الشارع الرئيسي بوسط المدينة.
تساءلت برعب:
-وبيتنا؟!
فتمتمت الملامح في تأثر:
-ما أشد ألم مفارقة الذاكرة..
انصرف وتركني وسط الطريق.. لحظتها انتابني شعور بالضياع.. تملكني الاستسلام لما يجري وسط مدينة تتقاذفني شوارعها الصاخبة محاولة استعادة ملامحي من الوجوه المحيطة بي.

 

 

 

 

 محاكمة
بقلم عبد القادر كعبان
أيقظني صراخ أمي من حلم طفولي:
– تأخرت عن المدرسة يا كسول..
قفزت من مكاني كفأر باغتثه مخالب قطة سوداء.. غسلت وجهي.. ارتديت ثيابي على عجل.. زررت مئزري، و اختطفت كتبي و دفاتري كيفما كان و هرعت مسرعا متناسيا شرب قهوتي الباردة.
وصلت متأخرا كعادتي. في مدخل الصف توقفت.. انتابني شعور بالخوف.. تساءلت:
– كيف ستكون المحاكمة اليوم، أيمكن..؟
استغفرت ثم دخلت. فجأة تحول الصف الى قاعة محكمة. تخيلت نفسي متهما وسط رفاقي الشهود و معلمي الجالس على مكتبه كالقاضي.
دعاني باسمي فاقتربت..
– تأخرت عن الجلسة كعادتك..
هززت رأسي من دون أن انطق بكلمة.
قاطع صمتي بسؤاله:
– ماذا عن الواجبات المنزلية؟
تخاذل صوتي عن اجابته.. بل فر الى أمعائي باحثا عن قبس حرارة يعينه عن النطق و الافصاح.
فأطلق ضحكة كعاصفة هوجاء تنذر بالخراب، ثم واصل:
– لنر ان كنت حفظت آخر درس رأيناه..
انطلق في استجوابي كمفتعل لجريمة لا تغتفر.. خانتني ذاكرتي لانني استظهرت الدرس في عجالة خوفا من ان يطوق الظلام كعادته حجرتي آمرا بالنوم.. لحظتها وددت لو أصرخ وسط القاعة لطلب مهلة..

 ***********

مرارة الواقع

بقلم عبد القادر كعبان

يتنازعني شعور بالبؤس كلما فكرت بتلك المنازل الجميلة الواعدة.. سيارات من الطراز الرفيع.. أبواب ونوافذ تلفها ألوان محببة للنفوس..

استوقفني سؤال هز كياني:

– من أين لهؤلاء كل هذه الأموال يا ترى؟

فكرت مليا، ثم قلت:

– أتراهم من تجار..؟!

قاطعتني أختي وهي تحمل فنجانا من القهوة:

– كعادتك تقرأ يوميتك المفضلة ..

سؤلتها بنبرة غضب:

– أيمكن أن امتلك سيارة فخمة من خلال مبلغ الوظيفة الزهيد؟

رددت:

– المسألة بسيطة..

وطفقت هذه الجملة الصغيرة (بسيطة) تترجع في دماغي الموجع، وتترجع، وكأنها لا تريد أن تغيب..

تابعت وكلها ثقة:

– لماذا لا تتمرد كأمثالك؟ لماذا لا تثور؟ أأنت خائف؟

                                                                       استغربت لما تقوله الجامعية، ثم أتممت:

– ما بك اليوم؟ ما بالك؟!

رسمت ابتسامة متفائلة على شفتيها المصبوغة بأحمر شفاه وسألتني:

– هل يكفي الأجر الذي نتقاضاه معا لمدة شهر كامل؟

أجبت:

-للأسف لا يكفي لتوفير أرغفة الخبز اليومية..

صاحت:

-فكيف ستأكل الحساء إذن؟

سرحت:

– حساء بلا خبز؟!

تركتني قائلة بنبرة تحسر:

– هي مرارة الواقع تدفع بأمثالك إلى مد أيديهم إلى قطع خبز يابسة انغمست في طبق حساء بات يسلق أفواههم بمرقه الساخن.

 

 ***********

إحساس
بقلم عبد القادر كعبان –الجزائر-
-1-
أخيرا وصلت الطابق الأخير.. طرقت الباب.. أسمع وقع خطوات تقترب.. وقع إمرأة تنتعل الكعب العالي.. تخيلت كيف يمكن أن تكون.. شقراء طويلة و سوف تبتسم لي لمجرد أن تفتح.. لكن لبرهة.. من وراء الباب سمعت صوتا بنبرة ترجل:
– من يطرق بابي في هذه الساعة؟
تغيرت ملامح وجهي و كأنني في مركز للشرطة كمفتعل لجريمة قتل..
– ساعي البريد.. أحمل لك..
ثم غيرت من لهجتها و قالت:
– ماذا تريد مني؟!
تنهدت قائلا:
– أحمل لك رسالة..
فأجابت مسرعة:
– و كيف أثق بأنك فعلا ساعي البريد؟
– انك لست ذكية يا سيدتي.. أو.. أو آنستي..
صرخت:
– إنك تستفزني يا سيدي.
(عدت أقول لنفسي: هل قلت شيئا مستفزا؟)
– أعتذر منك يا..
أحسست كأنها تبتسم ابتسامة “مارلين مونرو”.. تلك الأسطورة.. و هي تقول:
– آنسة لو سمحت..
– بحث عن صندوق البريد ولكن..
– غير موجود نحن نسكن عمارة “الأشباح” يا سيدي..
– أفهمتي لما طرقت بابك..
وبعد مضي لحظة قالت لي:
– حسنا إرمي بالظرف من تحت الباب..
– لا يمكنني..
صاحت في عصبية:
– أعد.. أعد ماقلته..
أدهشني ذلك:
– عليك الإمضاء على ورقة الإستلام فهل سمحت..
وفي تلك اللحظة فتح الباب و قبل أن أسلمها.. إمرأة شقراء في حوالي الأربعين.. و كنت ظننت أنني سأرى أسطورة السينما الأمريكية (نورما جين بيكر) لأنني من صنف الرجال الذين يفضلون الشقراوات.. لكن.. انتابني تغيير مفاجئ أذهلني حين سمعتها تقول:
– آسفة سيدي.. نحن بعمارة “الأشباح”..
استوقفتني تلك الكلمة التي ذكرتها مرتين (الأشباح)، فتمتمت:
– من تقصد بالأشباح يا ترى؟
انتابني شعور بعدم الإطمئنان أمام التغيير الذي لف ملامح وجهها و هي تقول لي:
– تفضل لندخل فأنا أخشى عليك منهم..
ترددت في بداية الأمر .. ساد الموقف كله شيء من القلق.. جو العمارة حار وخانق كما لو كان الهواء الذي فيه راكدا و فاسدا.. و عندما أردت أن أقول أنني على عجلة.. وقع أقدام على السلم.. إلتفت.. كانت بعد النسوة قد ظهرن في المكان و كأنهن أشباح.. شعرت بجلدي يقشعر عندما وقعت عيني على واحدة منهن يلفها ثوب شديد السواد كأنها نمر أسود.. فاستبد بي إحساس رهيب.. دخلت مسرعا و أغلقت الشقراء الباب..
-2-
كان ذلك المسكن يلفه صمت رهيب.. دخلنا الصالون.. جلست بأحدى الكراسي.. كانت هناك طاولة كبيرة تتوسطها مزهرية فارغة مهملة.. لوحات لشخصيات عالمية معلقة على الجدران.. مكتبة صغيرة تزينها روايات وكتب قديمة.. ظهرت في مواجهتي غرفة الطعام و لها شرفة مفتوحة للشمس..
أدارت الشقراء رأسها و فاجأتني إبتسامتها و كأنها هي.. من كنت أبحث عنها (مارلين مونرو)، و قالت:
– سأحظر لك عصيرا فالجو حار..
– أريد أن..
أسرعت نحو المطبخ دون أن تعرف أنني كنت أشعر بالجوع من كثرة الدوران بين العمارات لتأدية عملي.. عدت أتأمل تلك اللوحات العديدة التي تملأ الجدران.. وقفت و اقتربت قليلا من تلك الروايات.. أخذت واحدة.. “الحب في زمن الكوليرا” لماركيز..
فاجأتني:
– لك عصير البرتقال..
أعدت الرواية وبإرتباك:
– أأ.. أشكرك لكن يجب أن أنصرف لأنه..
– نعم، نعم و لكن بعد شرب العصير..
جلست من جديد.. هممت بشرب العصير متناسيا الرسالة.. نظرت إلي و سألتني:
– أين هي تلك الرسالة؟
– تفضلي.. إمضي من فضلك يا آنسة..
و قبل أن تمضي على ورقة الإستلام:
– كنت أتوقع ذلك..
تمتمت:
– ربما هو أمر مهم للتتوقع حدوثه..
قاطعتها:
– أشكرك.. علي بالإنصراف الآن..
ضحكت وهي تقول:
– كانت مغرورة بشكل جنوني ساذج و لكن أخيرا قررت العودة.. ما رأيك؟
– في ماذا؟!
كان رد الفعل غير متوقع.. ضربت على الطاولة بقبضة اليد.. وهي تقول:
– إنه فعلا حقير.. أجل حقير لقد غدر بها لذلك قررت العودة..
وشعرت بانقباض كالذي يحدث عندما يكون الجو ثقيلا و عاصفا لأنني لم أفهم من تكون هي التي قررت فجأة أن تعود؟!.. و لما عاملها هو باحتقار؟!..
صاحت بعصبية:
– كان عليها قتله..
ارعبتني تلك الكلمة (قتله) فتمتمت بارتعاش:
– قتل.. تقول قتل.. أيمكن أن تفكر الآن بذلك..
نظرت إلى ساعة يدي.. كانت عقاربها توشك أن تقف على تمام الواحدة.. نهضت وقلت:
– حسنا.. فرصة سعيدة..
بابتسامة مرتعشة:
– آسفة.. حقا آسفة..
كانت عيونها تنظر إلي نظرة قلقة و فيها كثير من التوسل و كأنها تقول:
– أرجوك لا تذهب..
حينئذ بدأت تتمتم وهي مرتبكة:
– كيف يمكن؟!.. ستعود إلى هنا.. تريد أن تكون ضحية مثلي.. في عمارة الأشباح..
قاطعتها:
– الوقت يمضي..
– أتريد أن تعلم مضمون الرسالة..
أحسست لحظتها بفضول جعلني أندفع في الإجابة قائلا:
– من قصدت بقولك (كان عليها قتله) ؟!.. متناسيا أنني كنت أود الإنصراف للحظات..
فعلت وجهها نصف إبتسامة و ارتبكت:
– زوج شقيقتي.. التي فضلت الهروب يوما وراء البحار خوفا من عالم مخيف..
– عالم مخيف؟!
و بعد فترة صمت قالت:
– أجل عالم الأشباح..
قلت لها بسرعة:
– عن أي أشباح تتحدثين؟
– لا ترفع صوتك.. فقد يسمعك أحدهم..
شعرت بتوتر شديد و قلت:
– أظن أنها مريضة..
و مكثنا صامتين. ثم اقتربت مني بهدوء وهمست:
– كل من يسكن هذه العمارة مع عائلته ينتهي به الأمر أن يبقى وحيدا حتى يصبح عجوزا ثم يموت..
– و ما دخل ذلك بالأشباح؟!
– ألم تلاحظ تلك النسوة عند دخولك..
– أجل..
– كلهن أرامل..
و لأول مرة أحسست بأنني بعالم آخر.. غير عالمنا..
و انخفض صوتها و هي تقول:
– هذا هو سبب هروب أختي إلى مرسيليا مع إحدى زملائها بالجامعة بحجة متابعة الدراسة و لم تعد.. تزوجته هناك.. لم يستطع تحمل المسؤولية.. فر هاربا و تركها.. هاهي تبعث برسالة تقرر فيها العودة..
ضحكت ضحكة هستيرية:
– العودة إلى عمارة الأشباح..
أسرعت نحو الباب.. فتحته و غادرت.. و قبل وصولي إلى باب العمارة.. خطوات تقترب.. لقد كنت فعلا متعبا بعد ما حدث.. كنت أشعر في تلك اللحظة بحرارة جعلتني أتعرق.. تقترب مني.. تصعد السلم.. صدمتني.. شقراء أيضا.. لكنها صغيرة السن.. عرفت لحظتها أنها هي.. كانت تنظر إلي و هي تبتسم، و كانت تنظر أيضا إلى حقيبتي بنفس الإبتسامة.. لحظتها أحسست برغبة جامحة تدفعني نحو باب العمارة مسرعا لإستنشاق نسمة من الهواء النقي..

انتهت..

حرمان عاطفي

بقلم عبد القادر كعبان

-1-

عندما إستيقظت أحسست بأنني كنت تائهة وسط صور دموية.. نزيف حاد.. ممرضات تحوم حولي تحمل حقنا.. أطباء يوشوشون.. أرقد وسط السرير.. شعرت بأن هناك شيئا سيئا يجري من حولي.. كان الشعور الذي أحس به مثل شعوري لو قال لي أحدهم أنك مصابة بداء خبيث.. فتحت زجاج النافذة.. وقفت لأتنشق الهواء الرطب.. بدت شوارع مدينتنا كأم حزينة لألم ابنتها.. عدت لأقف أمام المرآة على غير العادة وجدتني أتأمل وجهي.. باهت لونه.. دفعتني الشهوة لأمرر إصبع أحمر شفاه على شفتيه.. إستعدت تلك الصورة.. الصورة الحلم.. ممرضة تمسك بيدي و هي تحمل تلك الحقنة.. حقنة للتخدير.. حينها تخيلت جموعا من النسوة مخدرات و ممدات على الأسرة بنفس غرفتي.. استوقفتني كلماتها وهي تضغط على يدي بشدة:

– كفى حراكا.. لا تدفعيني إلى منعك من الحركة..

انتهكتني حركتها المباغتة بشدة.. أحسست بوخز الإبرة.. بدأ قلبي يخفق بالخيبة و الهزيمة.. شعرت بالشفقة على روحي وجسدي.. أفقت على أمواج الكآبة تتلاطمني..  أنهيت رحلتي التي كانت أشبه بحلم.. أخذت نفسا عميقا وتوجهت إلى المطبخ لأرى من تظل كل ليلة ساهرة دون أن يغمض لها جفن.. دخلت.. و سارعت  هي تقول:

– صباح الخير يا وردتي..

بغير مبالاة جلست على احدى الكراسي.. قهوة ساخنة بالإبريق.. قطع من الحلوة مطلية بالشوكولا السوداء.. فنجانين.. سحبت إحداهما ببرود.. سكبت قهوتي و عدت لأرتشفها على عجلة.. تأملتني مليا ثم ابتسمت قائلة:

– أنصحك أن تأخذي دشا قبل أن تذهبي إلى كلية الحقوق..

قاطعتها:

– لقد تأخرت.. علي الذهاب..

قالت في صوت خافت مرتعش:

– أتملكين نقوذا..

استدرت اليها وقلت:

– لا تهتمي..

كان يخيل الي أحيانا أنها معذبة بسببي.. لطالما كنت أشعر بالخجل من نفسي حين أعاملها بتلك البرودة.. و إذا حدث ولففتها بثوب من العاطفة فإن ذلك لم يكن ليدوم سوى بضعة دقائق.. هممت لأخرج من المطبخ متجاهلة نظراتها المحبة التي تعمل على رفع معنوياتي.. دخلت غرفتي.. نظرت إلى ساعتي.. فكرت في محاضرات اليوم.. مدرجات تسكنها البرودة.. أساتذة و طلبة بين كفتي الميزان.. ميزان يدعي العدالة.. سمعت صوتها و هي تستعجلني:

– الوقت يمضي.. عليك بالإسراع..

هززت كتفي بلا مبالاة.. عدت لإرتداء ملابسي.. استوقفني ذلك الكعب العالي بلونه الأحمر القاتم الذي ألقيته منذ مدة في ركن من أركان الغرفة.. أسرعت و انتعلته.. انتابتني نشوة لذيذة.. عدت لأضع عطري المفضل “رائحة الأنثى”.. حملت حقيبة يدي و انصرفت..

-2-

فوضى من الحواس متفتحة على تلك الحياة الصاخبة وسط شوارع تلك المدينة.. مدينة تملأها التناقضات.. أمشي بين وجوه حزينة و أخرى سعيدة.. إستوقفتني تلك المرأة تمسك بإبنتيها التوأم.. خيلي إلي أنني أرى وردة حمراء تحوم بها فراشتين جميلتين.. لكن ما شد إنتباهي هو بكاء إحداهما بينما الأخرى تضحك و هي تمسك بقطعة شكولا.. تأملت حركات و تقاطيع وجه تلك الباكية، تنبهت كم كانت تشبهني عندما كنت صغيرة.. أعطاني هذا الشبه إحساسا بالحرمان، و لا أعرف لماذا دفع بي للغطس ببحر ذاكرتي.. صورة أمي تمسك بقطعة الحلوة و هي توبخني بشدة لأنني إنتزعتها من يدي أختي.. غشيت وجهي سحابة حزن.. نظرت إليها نظرة كلها عاطفة وحنان..

أصوات عالية للباعة المتجولين قطعت شريط ذكرياتي.. وددت لو أصرخ بهم قائلة:

– أخفضوا أصواتكم.. فلا أحد يبالي بكم.. لكن صوتي صدمني بخيانته.. أحسست بعطش شديد و كنت بحاجة لأشرب.. إنتبهت لوجود بيتزيريا قريبة مني.. أسرعت و لكن إستوقفتني تلك اللافتة بيتزيريا ” البيت السعيد”.. تساءلت بيني و بين نفسي:

– من بات يعرف معنى السعادة اليوم؟

قاطعني أحد العمال قائلا:

– ما طلبك؟

تمتمت:

– طلبي بسيط.. أن يشعر بوجودي الآخرون..

كرر:

– ماذا تطلبين؟

وبصعوبة لفظتها.. تلك الكلمة:

  الماء..

ناولني قارورة و كأسا فارغا.. هممت بفتح القاررة.. فجأة إنزلق من يدي.. كان كأسا من زجاج تناثر على الأرضية دون أن أعرف لذلك سببا.. و فجأة إلتفت إلي الجميع يتمتمون، ثم ساد سكون قطعه صوت العامل وهو يبخني:

– ماذا فعلتي؟

– لا شيء، لا أعلم، كل ما في الأمر أنني..

– ليس ذلك صحيحا..

– كأس من زجاج..

– كسرته..

أحسست بأن وجهي قد إحمر وشعرت كما لو كان قد وجه الي احدهم تهمة، كما شعرت بموجهة من الحرارة و بالدم يغلي في وجنتي.. و قبل أن أعتذر.. تدخلت تلك السيدة و أخذت تحاول السيطرة على أعصاب العامل قائلة:

– ابنتي لم تقصد ذلك..

– لا عليك سيدتي.. لا بأس..

فقلت لها وأنا أغالب دقات قلبي:

– سيدتي.. كيف يمكن..؟

قاطعتني ابتسامتها و هي تقول:

– عليك بالحذر مرة أخرى يا ابنتي، فلكل شيء قيمته..

انتبهت لتلك الكلمة المتكررة (ابنتي)، ثم عدت غارقة بين صور الذاكرة.. توقفت عند تلك اللقطة الحلم.. ممددة على سرير المستشفى ألمم ذاتي المبعثرة في المكان.. لا يمكنني وصف تأثير تلك الحقنة.. حقنة التخدير الرهيبة.. أرهقتني تلك الحالة.. لسيت هناك حالة أصعب من يحرم الإنسان من العاطفة.. فما إن إستيقظت وجدتها قد تركت الحرية لدموعها بالانهمار.. مددة على السرير بجانبي و هي تحمل صورة بين يديها.. ثم أشارت لي بحركة من رأسها كما لو كانت تريد أن تقول شيئا مهما.. رفعت الصورة.. طفلة صغيرة.. تبادلنا النظرات في صمت.. فجأة بدأ الخوف يداخلني و شعرت كأن شيئا لمس جلدي.. قالت وهي تكفكف دموعها:

– لقد حرمتني الحياة منها.. لقد رحلت بعيدا دون رجعة.. أنا أيضا سأرحل، فلا حياة لي من بعدها..

وكانت هذه اللحظة هي التي شعرت فيها بأن شعاعا رقيقا من العواطف كالشعرة قد مزق حياتي و كسرها كآنية زجاجية..

ضحكات ودردشة بعض الشباب أخرجتني من تلك الصفحة.. صفحة من فوضى العواطف.. نظرت إلى الساعة.. تأخرت كثيرا حتى أنني نسيت محاضرة قانون الأسرة..

خرجت من البيتزيريا و كانت الحرارة و الانفعال ينبعثان من جسمي بطريقة جعلتني لا أشعر بقوة الجاذبية و بحركة الكعب العالي الأحمر الذي انتعلته..

-3-

صدمتني أشعة الشمس بالخارج كما لو أنني قضيت سنوات في العتمة.. بدا كل شيء جديدا في عيني.. و قد ابتسمت عندما فكرت في أن خيالي قد خدعني في انطباعاتي الأولى عن العالم بأسره.. “العالم فوضى من الحواس.. أجل فوضى من حواس الناس”، هذا ما كان يردده قلبي قبل عقلي.. لم أشعر بقيمة الحياة يوما كما شعرت بها في تلك اللحظة.. صدمني صوت داخلي يردد منفعلا بدأت أمواجه تثور كبحر قضى سنوات طويلة في الصمت:

– هو الحرمان العاطفي..

أسرعت أوافقه.. لم تكن بي رغبة في أن أستفهم حول أي شيء.. لقد بهرتني تلك العبارة التي بدت كلغز يصعب فهمه (الحرمان العاطفي)..  تذكرت وجه أمي الحزين.. احتشدت في رأسي جمهرة من صور الحرمان تلك التي باتت تعيشها.. شعرت بأن يدا قوية تعصر قلبي لتخرج منه تلك العاطفة المخزونة التي حرمتها منها.. فكرت بالعودة إلى البيت الذي بات خاليا من الأمان لمواجهتها..

وصلت وقبل أن أقوم بفتح الباب.. بدأ قلبي يخفق بشدة.. امتدت يدي إلى حقيبتي للبحث عن المفاتيح.. أخرجتها وفتحت.. دخلت و لأول مرة أحسست بأنني أتوق لرؤيتها.. لكن شعرت للحظة بكثير من الخجل من نفسي و كدت أبكي.. وقفت أمام باب غرفتها وكان شبه مفتوح.. سمعت صوتا خفيفا ينبعث من الداخل.. لم يكن من مجال للهروب من المواجهة.. طرقت ودخلت.. تجلس على حافة السرير وسط مجموعة من الصور.. كانت تبكي بحرارة.. أما أنا فقد أحسست أنني شبه منهارة لما رأيته.. شعرت أن الوقت لم يكن مناسبا.. بقينا نحن الإثنتين ننظر إلى بعضنا البعض برهة ثم قامت وعانقتني بقوة و هي تحمل تلك الصورة.. صورة أختي التوأم التي تركتنا و رحلت بعد المعاناة من مرض خبيث بذلك المستشفى.. قبلتني في وجنتي على غير عادتها ثم تركتني  و خرجت في عجلة شديدة  تائهة وسط تلك الصور..

انتهت.. 

 **********

المنسية

بقلم عبد القادر كعبان

-1-

دخلت إلى منزلي بعد وجع روتيني قاتل بتلك المؤسسة.. عقارب الساعة الجدارية تقف على تمام التاسعة.. عواء بطني دفعني للتسلل إلى المطبخ كهرة جائعة.. فتحت الثلاجة.. شبه فارغة.. حبات بيض وجبنة و عصير للفواكه.. فجأة شعرت بعطش شديد.. أخرجت مشروب الفاكهة وعدت لأبحث عن كأس زجاجي.. دون انتباه وقع الكأس مني متناثرا على أرضية المطبخ.. فزع شديد أنساني شبح الجوع.. شعرت بحرارة شديدة بالمكان.. خطوت نحو النافذة لأفتح الزجاج.. نسمات من الهواء العليل تداعب خصلات من شعري دفعتني لأرى ذلك السكون المخيم على ذلك الحي.. وقفت لدقائق.. سمعت صوتا منبعثا من قريب.. كأنه صوت امرأة تستغيث.. تساءلت بيني وبين نفسي:

– من تراها صاحبة ذلك الصوت؟!

للحظات.. إختفى ذلك الأنين الأنثوي.. عدت و أغلقت النافذة متناسية الزجاج المكسور على الأرضية.. تواصلت درجات الحرارة بالارتفاع.. أسرعت للاستحمام متناسية همومي اليومية..

-2-

أيقظني رنين المنبه كعادته.. تمام السادسة و النصف.. يوم جديد ينتظرني بالمؤسسة.. أسرعت بالدخول إلى الحمام.. أقبلت على حمل فرشاة الأسنان بداخل ذلك الكأس الزجاجي.. فاجأتني المرآة لتذكرني بتلك الصورة الواقعية.. كأس من زجاج مكسور على الأرضية وذلك الأنين المنبعث من وسط الحي.. أسرعت إلى المطبخ متناسية الفرشاة.. الزجاج لا يزال موجودا بمكانه.. استوقفتني الذاكرة للحظات تذكرني بذلك الصوت.. فتحت النافذة.. وقفت من جديد متسائلة:

– من تكون صاحبة ذلك الصوت؟!.. من تراها تلك المنسية؟!

فاجأني صوت داخلي يستهتر بي قائلا:

– أظنك أنك أنت هي المنسية وسط حي يتخبط سكانه في انشغالاتهم الروتينية.. بل بات يطاردهم شبح الرغيف اليومي.. وجدتني أعمل على جمع زجاج الكأس المكسور دون مبالاة متناهية.. للحظة تذكرت أنه علي الإسراع إلى مقر العمل فاليوم سيعقد اجتماع مهم.. أسرعت إلى غرفتي.. لبست ثيابي و إنتعلت الكعب العالي.. حملت حقيبة يدي.. قبل مغادرتي تذكرته.. عطري المفضل “ورود حمراء”.. عدت لأضعه ثم خرجت أعدو مسرعة..

-3-

وجوه و أجساد متعبة متناثرة هنا و هناك بحي يلبس ثوب النسيان.. أسرعت الخطى على أمل أن أجد تاكسي.. أوقفت أحدهم بصعوبة.. استوقفتني تلك العجوز الشقراء تبتسم لي بشفتيها المغلفة بالاحمرار..

جلست بجانبها.. نظرت من خلف زجاج السيارة و أحسست بشعور غريب.. عدت و استدرت نحوها مبتسمة.. بدت لي الصور الواقعية غير مفهومة.. كأس زجاجي مكسور.. أنين امرأة منسية.. عجوز شقراء مبتسمة.. بدت تلك الأحداث غير مفهومة لي.. كما لو أنني كنت أحلم.. عدت لأنظر إلى ساعة يدي.. تنهدت فور انتباهي أن الوقت لا يزال مبكرا على انعقاد الاجتماع.. استعرضت بخيالي وجوه ذلك الحي المنسية.. لكن سرعان ما تراجعت خوفا من أن أسمع ذلك الأنين مجددا.. قاطعت شرودي تلك العجوز و هي تقول:

– باتت الحياة كجسد يحمل ذاكرة موجوعة.. روح تعيش وسط فوضى من الحواس.. بل الكل صار يعبر جسر الحياة كجسد و روح ممد على السرير كفنه النسيان..

دون شعور مني قلت:

– آه! إنك على صواب..

وقبل أن أضيف كلمة توقف التاكسي فجأة.. نزلت وهي تبتسم برقة متناهية.. لم تدعني أقول شيئا.. غادرت و تركتني متقلبة الأحاسيس.. واصل التاكسي طريقه متناسيا تلك العجوز المبتسمة..

وقفت لأفكر في تلك الجملة الغامضة (باتت الحياة كجسد يحمل ذاكرة موجوعة..).. موجة من الأحاسيس الغريبة عصفت بروحي.. ذكرتني بذلك الأنين الذي سمعته البارحة.. تساؤل عجيب انفلت من أعماقي:

أيعقل أن يكون ذلك الأنين مصدر جسد يحمل ذاكرة موجوعة؟.. أيمكن أن تكون تلك المرأة (صاحبة الأنين) تحتضر كفراشة منسية وسط ذلك الحي؟.. تذبذبت مشاعري لعدم وصولي إلى جواب عن تلك الأسئلة..

وصلت أخيرا إلى نفس المكان الذي أرتاده يوميا.. سلمت الأجرة لصاحب التاكسي.. نزلت مسرعة تقودني خطواتي..

-4-

دخلت مسرعة إلى مكتبي.. نسيت إلقاء التحية على الجميع.. نظرات غريبة ترمقني من بعيد.. جلست لأفكر فيما يحدث من حولي.. كنت بحاجة لشرب القهوة.. رفعت السماعة لأطلب فنجانا.. قاطعتني السيكريتيرة:

– هاي.. رئيس القسم ينتظر الأوراق قبل البدء بالإجماع..

تنشقت بعمق رائحة عطرها الأجنبي.. غادرت مكتبي وهي تخطو بكعبها كالمتحررة.. أسرعت لفتح حقيبتي متناسية طلب فنجان القهوة.. انتفضت فجأة عن الكرسي.. تمتمت:

– الأوراق باتت هي الأخرى منسية..

لم تبق لدي أي رغبة في العمل.. تساءلت بيني و بين نفسي:

– ماذا سأقول لرئيس القسم؟!

للحظات أوقفتني الذاكرة أمام صورة تلك العجوز المبتسمة و هي تقول:

 ( باتت الحياة.. روح تعيش وسط فوضى من الحواس..)

أيقنت في أعماقي أنها محقة.. كنت فعلا أعيش حالة فوضى من الحواس.. بل تائهة المشاعر بين تلك الصور الواقعية..

عاد الصوت  الداخلي مستهترا من جديد:

– تناسيت طلب فنجان القهوة هذه المرة أيضا..

تأوهت دون أن أشعر:

– آآآه..

فاجأني رئيس القسم يقف أمامي غاضبا:

– لا زلت أنتظر حضرتك..

أجبته بكلام غير مفهوم:

– الكل صار يعبر جسر الحياة كجسد وروح ممد على السرير كفنه النسيان..

كانت هي آخر ما ختمت به تلك العجوز التي جمعتني بها الصدفة اليوم.. ولكن ما أثار انتباهي هو ما حدث للرئيس.. أحسست بتغير نظراته الغاضبة.. خيل إلي أنه يرى فيها تلك العجوز الشقراء المبتسمة.. وددت لو أسأله عن السبب الذي دفعني لأتفوه بتلك الكلمات.. استأنف كلامه بعد برهة صمت:

– سيلغى الاجتماع إلى حين عودتك بالأوراق المنسية..

هوى قلبي من إثارة تلك الكلمات.. حملت حقيبة يدي مسرعة.. خرجت مندفعة متناسية من جديد تقديم الاعتذار.. علا صوتي:

– سأرجع بعد إحضار تلك المنسية..

صوت أشبه بأنين انبعث من حنجرته استوقفني للحظة:

– كنت محقة.. ما قلته عن حياتنا اليوم بات صحيحا..

عدت و ابتسمت  في وجهه ابتسامة بارقة كتلك العجوز، ثم غادرت و تركته متقلب الأحاسيس مثلي..

انتهت..

 

 

 

*************

بين طريقين

بقلم عبد القادر كعبان

أول مرة أحتسي القهوة بمفردي.. احساس رهيب يلف المكان.. كنت بحاجة لأن أسمع وقع خطواته من وراء الباب و هو يفتحه.. لم أره منذ آخر مرة تشاجرنا.. أوقع المزهرية التي تحتضن وروده الحمراء..

تركني وحيدة.. غادر بيده  تلك الحقيبة السوداء.. دخلت غرفتي.. أغلقت على نفسي.. وقفت أمام مرآتي.. وجهي لمح نظراته الخفية وهي تسألني بنبرة عتاب:

– صرنا نتشاجر على أتفه الأسباب؟

قلت:

– بل نحن لا نتفق على رأي واحد..

فتساءل ضاحكا:

– إذن هي مجرد حتمية صراع بين خطين..

سألته بدوري ساخرة:

– أتقصد بكلامك..

قاطعني:

– طريقين، إما هزيمة أو انتصار..

شعرت بقلبي يخفق بشدة.. تساءلت بيني و بين نفسي:

– أيهما سأختار؟

فاجأني صوت منبعث من الخارج.. ركضت باتجاهه.. كان هو يحمل بين يده وردة حمراء..

اقترب مني.. قدم لي تلك الوردة.. همس في أذني قائلا:

– لا زلت أقف بين طريقين..

تنهدت بهدوء، ثم سألته:

– أترغب..

– فنجانين من القهوة كالعادة..

رمقته بابتسامة بارقة، ثم تركته مسرعة باتجاه المطبخ..

 

 *********

رائحة الرذيلة
بقلم عبد القادر كعبان
 
في بداية الأمر لم أفهم أنها تؤشر لي.. لم أعرها أدنى إنتباه.. عادت و لوحت لي بمنديلها الوردي.. صراحة لا أفهم لغة المناديل الملونة.. قررت الإبتعاد عن تلك الزاوية.. فجأة.. رأيته يلوح لها بيده.. عادت تضحك في وجهه.. كان شابا وسيما.. إشتممت لتوي رائحة تفوح.. كانت رائحة الرذيلة.. عرفت أنها مجرد عاهرة تتناثر الرغبة من عينيها البراقتين.. رأيته يمضي راكضا.. أسرعت باتجاهي.. صرخت.. هاي.. وقوفك هنا منع الزبون من القدوم إلي.. سألتها.. ما الذي فعلته ؟.. أجابتني بوقاحة.. أنت كغيرك من الخبثاء الذين يزعمون العفة.. رددت.. ما عاذ الله.. إني أخاف الله يا إمرأة.. حينها إنصرفت و تركتني متجهة نحو وكرها و نيران الخيبة تتناثر من عينيها

 

 

 

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.