www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

سفهاء العصر رواد الصهيونية العربية/أسامة عكنان

0

التنمية في الوطن العربي ليست مشروعا للنهضة بل هي مشروع للتبعية والارتهان.. ليست التنمية أمرا مفصولا عن الواقع ولا هي فعل مُعَلَّقٌ في فراغ، بل هي فعل موضوعي يمثل جزءا من الواقع. جزءٌ يتفاعل مع باقي أجزائه بصورة يُسهِم الإنسان – بطرائق تمريره للعلاقات الاجتماعية عادلةً كانت أم جائرة – في جعلها تقدمية أو متراجعة بالقياس بمصلحة المجتمع.

سفهاء العصر رواد الصهيونية العربية

أسامة عكنان
عمان – الأردن
التنمية في الوطن العربي ليست مشروعا للنهضة بل هي مشروع للتبعية والارتهان..
ليست التنمية أمرا مفصولا عن الواقع ولا هي فعل مُعَلَّقٌ في فراغ، بل هي فعل موضوعي يمثل جزءا من الواقع. جزءٌ يتفاعل مع باقي أجزائه بصورة يُسهِم الإنسان – بطرائق تمريره للعلاقات الاجتماعية عادلةً كانت أم جائرة – في جعلها تقدمية أو متراجعة بالقياس بمصلحة المجتمع.
وعندما نأتي إلى سبر أغوار مسألة التنمية في الوطن العربي للتعرف على واقعها واستشراف آفاقها المستقبلية، فإننا لا نستطيع نسيان أن هذا الوطن هو جزء من العالم الثالث، تربطه بمعظم دوله وشعوبه قواسمُ مشتركة من التخلف، ومن الفساد المالي والإداري الداخليين، ومن السيطرة الاحتكارية الدولية التي تمعن في تنميته إلى جانب ذلك الفساد تشويها وتدميرا.
هذا الأمر يتطلب منا إذا أردنا وضع أسسٍ موضوعية لفلسفةٍ تنموية شاملة وبديلة لتنمية السَّفَه والدمار والارتهان التي تهيمن على الوطن العربي، أن نتعرف على الخطوط العريضة لواقع التنمية في العالم الثالث، هذه الخطوط التي تمتد بالضرورة وواقع الحال لتطال هذا الوطن في مختلف جوانبه الحياتية، دون نسيان الخصوصية الجغرافية والثقافية والجيوسياسية للوطن العربي في هذا السياق.
إن التحرر الوطني السياسي الذي شهدته شعوب العالم الثالث، مُحَصِّلَة من خلاله على سيادتها وعلى استقلالها القانونيين، كان فاتحةً لمشكلات من نوع جديد وخطير يتمحور حول موضوع النهضة والتطور والتنمية بكل أشكالها الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، خاصة وأن معظم هذه المشكلات لم يطفُ على السطح بصورة بارزة في أوقات سابقة، تركزت فيها الجهود حول الحصول على الاستقلال السياسي الوطني.
فعندما تحقق هذا الأخير الذي كان الهدف الجوهري منه هو الحصول على الحرية بكل أشكالها، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والانضمام إلى ركب الأمم المتطورة والناهضة، فقد كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار في هذا الاتجاه، لتبدأ المشكلات الكبرى في قضية التنمية بالبروز والتَّبَلْوُر والتفاعل مع مختلف عناصر الحراك التاريخي الأخرى، خالقة عناصر الاحتكاك الداخلي، بظهور الدعوة إلى الديمقراطيات المحلية كمخرجٍ من براثن الفساد والانفلات بكل أبعادهما وتداعياتهما، وعناصر الاحتكاك الخارجي، بظهور الصراعات الإقليمية كتنفيس عن حالة الاحتقان التي أفرزتها موروثات الاستعمار، وهي تتفاعل مع منطق الحرب الباردة في صياغة خرائط العالم.
فإذا كانت التنمية – الحقيقية والصحيحة والفعالة والإيجابية – نقيضا للتخلف، ولا يمكنها أن تعني سوى الخروج من دوائره. فليس التخلف في جوهره وبصورةٍ دائمة هو انخفاض في مستويات المعيشة عن تلك المستويات التي توصف بالمعايير العلمية والاقتصادية الرأسمالية المرتكزة إلى مبادئ الاقتصاد السياسي الرأسمالي بأنها مرتفعة. أي أنه ليس كل ارتفاع في مستويات المعيشة بالمعيار الرأسمالي خروجا من دائرة التخلف وتحقيقا للتنمية المطلوبة. بل قد يكون هذا الارتفاع مؤشرا فعليا على مستوى تخلفٍ خطير مُغَلَّف ببريقٍ زائف من رفاهية الوهم.
فالتنمية التي لا تقوم على مقومات حراكٍ ذاتية، والتي تتجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا، محاولةً تكرار نتائج لا يمكنها أن تتكرر لأنها صُنِعَت في ظروفٍ لن تعود مرة أخرى لا زمانا ولا مكانا، هي تنمية من ورق سرعان ما تتكشف عن إضاعة الجهد في غير موضعه. فالتخلُّف في حقيقته وفي جوهره، عبارة عن تنمية مشوَّهة، مرتبطة بالخارج وبظروفه ومتطلباته، وغير مرتكزة إلى مكونات ثقافية واجتماعية ومصلحية ذاتية داخلية، بوصف تلك المكونات وعاءً تحدث في إطاره التنمية الفعالة والإيجابية التي تحرص في أول ما تحرص عليه، على تجنب توريث التبعيَّة الاقتصادية بكل أشكالها. وبالتالي فالتخلف هو أيضا تنمية، ولكنها تنمية صنعها التطور التاريخي للرأسمالية العالمية من خلال السيطرة على الاقتصاد العالمي. ومن هنا فلنَحْذَر ونحن ندرس التنمية في الوطن العربي من شَرَك الوقوع في حبائل تلك المؤشرات الرقمية والتحليلات الشكلية التي يسوقها ببغاوات الاقتصاد من سفهاء العصر في هذا الوطن للتدليل على مسألة هنا أو على قضية هناك.
إن مستويات التطور المعاصرة للدول الرأسمالية وللمنظومة الإمبريالية العالمية، تحققت بفعل خلل تاريخي في ميزان العدالة كان عاليا وشاملا، خلافا لكل الاختلالات في هذا الميزان في الفترات التاريخية التي سبقت نشأة الرأسمالية وموجات الاستعمار، بحيث يمكننا التأكيد على أن هذا الميزان لو لم يختل تاريخيا، أو لو أن اختلاله كان أقل من مستويات الاختلال التي رافقت الرأسمالية والاستعمار، لكانت نتائج التطور الحالية أقل مما هي عليه الآن في المنظومة الرأسمالية، ولكن مقابل توزيع عادل لمنجزات الحضارة الإنسانية، ومقابل حفاظٍ على اتزان الطبيعة والبيئة والإنسان، وهو الإتزان الذي نفتقده في ظل الحضارة التي وَرَّثها لنا الاستعمار والتي نؤثر أن نطلق عليها اسم “حضارة الغرائز”.
الأمر الذي يدفعنا إلى إعادة التأكيد على أن السعي إلى تحقيق تنميةٍ من النوع الذي حققه الغرب الرأسمالي، وبالشكل ووفق الأسس والمبادئ التي أقام عليها رأسماليته ونهضته وحضارته قاطبة، هو سعي يرمي إلى تكريس الخلل في ميزان العدالة على المستوى العالمي، لا بل إلى الاعتراف بمشروعيته. هذا اذا قفزنا عن حقيقة أن العوامل المادية التي أتاحت الفرصة التاريخية لتَحَقُّق النمو الرأسمالي العالمي – والتي هي موجات الاستعمار الشامل والإبادة البشرية الجماعية وسياسة الإحلال العرقي التي انتهجتها الرأسمالية الأوربية على الصعيد العالمي – مفقودة اليوم، كما ستبقى مفقودة إلى الأبد، بحيث يغدو العمل على تنميةٍ شبيهةٍ هو عملٌ يفتقر حتى إلى المقومات المادية القادرة على تحقيقه.
إن العالم الثالث الذي خرج من براثن التخلف الذي فرضه عليه الاستعمار المباشر بحصوله على التحرر الوطني وعلى السيادة الوطنية، عاد ليواقع تخلفا من نوع آخر هو التخلف المرتكز إلى التنمية المشوَّهة، فقد سادت العالم الثالث بعد الحرب الثانية نظريات التنمية التي صاغها الفكر الغربي. وكان جوهر تلك النظريات هو التأكيد على أن السبيل لنمو الأمم المتخلفة ليس إلاَّ اتباع الطريق نفسه الذي اتبعته الأمم الرأسمالية المتقدمة في مراحل سابقة.
وكان التحليل الذي تقدمه تلك النظريات مبنيا على ملاحظة أن ضَعف مستوى الدخول في البلدان النامية، بسبب فقرها عموما، وهو الفقر القائم على واقعة أنها نالت تحررها السياسي وهي على حافة الإفلاس الاقتصادي والتخلف الشامل في مكونات النهوض القادرة وحدها على مواكبة نظيراتها في العالم المتقدم الذي هو بطبيعة الحال ودائما العالم الغربي.. نقول.. كان التحليل الذي تقدمه تلك النظريات يعتبر أن ما ذكرناه يجعل حجم الادخار المحلي صغيرا. وبالتالي يكون الاستثمار الجديد محدودا لا تحقق معدلاته معدلات النمو المطلوبة، والنمو المقصود هو دائما ذلك النمو التي تحدده مؤشرات الاقتصاد السياسي الرأسمالي. ولا يمكن في نظر أصحاب تلك النظريات كسر هذه الحلقة المفرغة للتخلف إلا بأمرين. الأول.. داخلي بتشجيع تزايد الدخول الكبيرة على حساب العدالة الاجتماعية، لأن أصحابها وحدهم بوسعهم أن يدخروا وبالتالي أن يستثمروا ليوفروا فرصا للعمالة. والثاني.. خارجي قائم على الاستعانة برأس المال الأجنبي في زيادة حجم الاستثمار على حساب الاستقلال الاقتصادي.
لقد أدى انتهاج دول العالم الثالث لهذا النهج وتبنيها لتلك الفلسفة التنموية إلى نتائج وخيمة وضارة أثبتت جميعها فشل أي محاولة لإسقاط قواعد التنمية بمفاهيمها الرأسمالية التاريخية على واقع بلدان العالم الجنوبي. فعلاوة على مستويات الفقر والتفاوت الطبقي ونزيف الثروات الوطنية التي خَلَّفها الاستعمار، فإن تشجيع تزايد الدخول الكبيرة على حساب العدالة الاجتماعية زاد من حدة الفوارق الطبقية. كما أن الاستعانة برأس المال الأجنبي خلق لدول العالم الثالث أزمة المديونية التي أصبحت من أكثر المشكلات الاقتصادية إمعانا في تشويه أي تنمية حقيقية فيها.
هذا فضلا عن أن ميزان القوى المختل في قلب معاقل الرأسمالية العالمية، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، والذي جعل من الولايات المتحدة القوة العسكرية والاقتصادية الأولى في العالم لأسباب ليس هنا مجال ذكرها.. إن هذا الميزان المختل عندما تقاطع مع واقعة وقوع أهم منابع النفط الذي هو شريان الحياة والحضارة في مرحلة ما بعد الحرب، في منطقة جغرافية كانت وما تزال تحت الهيمنة والسيطرة التامتين لطليعة الرأسمالية المتغولة التي هي الولايات المتحدة، أتاح الفرصة الكاملة لتلك الدولة كي تتحكم في الكثير من مفاعيل ومفاتيح الحراك الاقتصادي العالمي بالشكل الذي فاقم من النزعة التنموية السفيهة التي أشرنا إليها، وخاصة في منظومة الدول العربية، وعلى رأسها كلها دول الخليج مالكة زمام الثروة النفطية – في بعدها الكمي المنفعل وليس في بعدها السياسي الفاعل – ليس على الصعيد العربي فقط بل على صعيد العالم النامي كله.
لقد كان من نتيجة ذلك، وبعد ملاحظة الاختلالات العميقة في هياكل وبُنى اقتصاديات دول الجنوب، وإثر التأكُّد من فشل معظم الخطط التنموية المُتَّبَعَة عن أن تُحقق أي بناء اقتصادي مستقل وناهض قادر على التخفيف من وقع البطالة والفقر، وعلى وقف نزيف الثروة وتقليص حدة التبعية لمراكز رأس المال العالمي في الغرب.. نقول.. كان من نتيجة ذلك أن ظهر في العالم الثالث اتجاه يؤكد خطأ مقولة النقل الحرفي في مجال التنمية.
فقد أبرز اقتصاديو هذا الاتجاه استحالة تكرار الظروف التاريخية التي نمت وتطورت في إطارها الرأسمالية في غرب أوربا وأميركا واليابان. وأوضحوا أن النظم الرأسمالية السائدة في التخوم تختلف من عدة زوايا عن النظم السائدة أو التي سادت سابقاً في بلاد المركز، وأن رأسمالية التخوم تلك أعجز من أن تقود تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية تؤدي إلى التحرر الاقتصادي من السيطرة الاستعمارية، وإلى إشباع حاجات الغالبية العظمى من السكان، إذا بقيت مصرة على انتهاج رأسمالية المركز طريقا للخلاص، وعلى اعتماد رؤيتها للأمور مؤشرا على التنمية. وأنه على الرغم من أن ظروفا معينة قد تهيئ لبعض البلدان في التخوم نُموا اقتصاديا سريعا، إلا أن هذا يظل مُشَوَّها وتابعا. وقد أثبتت دراسات جادة، استمرار الفاقة بل وأحيانا تزايدَها، وتضخم مشكلة البطالة، بين كثير من الدول النامية حتى بين تلك التي حققت معدلا مرتفعا نسبيا في النمو الاقتصادي بالمعايير المعتمدة في الفكر الرأسمالي الذي ينتهجه المركز.
 ومع ذلك فقد راحت دول العالم الثالث تعمق من تبعيتها للمعسكر الإمبريالي بإغراق نفسها في ديون خارجية مرهقة، كانت تُفْرَض عليها طرائق إنفاقها واستثمارها وتوزيعها على مرافق التنمية المختلفة، ليس فقط لتأكيد مقولة ضرورة انتهاج النهج الغربي الرأسمالي في إحداث التنمية، بل لفرض الحيثيات التفصيلية لهذه التنمية بصورة توصل تلك البلدان المدينة إلى درجة الإفلاس وفقدان الاستقلالية الحقيقية التي تحققت على الصعيد الوطني السياسي بملايين الضحايا. ولقد وصل الحال ببعض اقتصاديي العالم الثالث من تيار التبعية والتقليد إلى مستوى الإيمان بأن المصاعب التي تواجهها الدول النامية لا تنتج من عدم قدرةِ أو رغبةِ تلك الدول في الادخار، وإنما من عدم مقدرتها على الحصول على العملات الأجنبية المتأتية من الصادرات.
وهنا بَيَّن هؤلاء الاقتصاديون أهمية الحصول على المساعدات الخارجية ليس فقط من أجل تعزيز المدخرات المحلية، بل أيضا من أجل تعزيز رصيد العملات الأجنبية لتلك الدول. فإذا حصل أن زاد الطلب على العملات الأجنبية اللازمة لتمويل المستوردات عن عرض العملات الأجنبية المتأتي من الصادرات، يكون قد تَكَوَّن ما يُعرف بفجوة العملات الأجنبية التي تعمل على تخفيض معدلات النمو، إلا إذا تم ملء تلك الفجوة عن طريق الديون الخارجية من جديد، أو عن طريق الصناعة التصديرية التي راحت تحل محل الصناعة الإشباعية للشعوب وتدمرها تدميرا ممنهجا عمق من تبعية تلك الشعوب لمراكز الاحتكارات العالمية.
إن عديد الدول من العالم الثالث وقعت في فخ الديون الخارجية وقوعا من الصعب الخروج منه إلا بقرارات وسياسات راديكالية جماعية في مواجهة الرأسمالية العالمية. فمهما صَدَّرَت تلك الدول من سلعٍ وخدماتٍ وموارد إلى الدول المتقدمة من خلال صناعتها التصديرية الإحلالية، فإن قسما كبيرا من إيرادات تلك الصادرات سيتجه نحو خدمة الديون التي ساهمت في إنتاج هذه السلع والخدمات والموارد. وبالتالي فإنه سيعود إلى سلَّة الدول الرأسمالية المُقْرِضَة نفسِها. والمعنى العملي لهذه الظاهرة هو أن الدول الدائنة تكون انطلاقا من مقتضيات منطق الإقراض قد حصلت على سلعِ وخدماتِ ومواردِ الدول الجنوبية بأثمانٍ زهيدة للغاية لا تعكس حجم ما أُنْفِقَ من جهود ورؤوس أموال لإنتاجها، مادام جزء من أثمانها المدفوعة سيعود على شكل خدمة ديون ثابتة الأصول.
وبمعنىً آخر فإن الدول الرأسمالية تلك استغلت الديون التي قدمتها لدول العالم الثالث، والتي هي جزء لا يتجزأ من فائض القيمة التاريخي، لاستنزاف الجنوب من جديد. وهذه العملية أشبه يمن يسرق شخصا ثم يقرضه ماله المسروق بفائدةٍ مرهقة تدفعه إلى أن يعود للأخذ من جديد بالصورة نفسها وعلى الأساس نفسه كي يسدد تلك الفائدة.
لكن الحقيقة التي غفل عنها أصحاب القرار التنموي في العالم الثالث هي أن التنمية تُعْتَبَر جزءا لا يتجزأ من ثقافة كل أمة وكل شعب، وجانبا واحدا فقط وإن يكن مهما من جوانب نهضتها الحضارية الشاملة. وإنه على الرغم من وجود عوامل مشتركة بين كل نماذج التنمية في العالم، تتمثل في العمل على تأمين المستقبل وضمان وعاءِ حياةٍ أفضل للأجيال المقبلة باستمرار، فإن العناصر المختلفة بين تلك النماذج هي الأمر الأساسي الذي يجعلنا نؤكد وبدون تحفظات على أنه لا توجد أمة من الأمم يمكنها أن تنمو بنفس طريقة نمو أمة أخرى في كل شيء، للسبب نفسه الذي لا يمكن معه لأي أمة أن تنهض حضاريا بالطريقة نفسها التي تنهض بها الأمم الأخرى وفي كل شيء. ومادام المستقبل ليس قدرا محتوما، فإنه لا يمكن أن يكون في صورةٍ وحيدة، بل إن أمام كل مجتمع في لحظة معينة من تاريخه احتمالات متعددة للمستقبل يتعين الكشف عنها ومحاولة رسم المعالم الأساسية لكل منها.
وإذا كانت عهود الاستقلال السياسي الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية قد شهدت مسارا تنمويا أغرق دول الجنوب في تبعيةٍ مرهقةٍ للمنظومة الإمبريالية على مختلف الصُّعد، فإن هذه الأخيرة عندما بدأت تدرك الأبعاد المُحْتَمَلَة للتكتلات الإقليمية لتلك الدول، والتي راجت وانتشرت في تلك الحقبة التي بدأ فيها الجنوب يستشعر خطر العمل المنفرد اقتصاديا وسياسيا، ما دفعه إلى العمل على توحيد صفوفه وتجميع نفسه في كتلٍ اقتصادية وسياسية كبيرة لمواجهة حجم الهجمة والاختراق الإمبرياليين.
نقول.. ما إن أدركت دول المركز الرأسمالي ذلك وانتبهت إليه، وبدأت تفكر في كيفية مواجهته، حتى ظهرت إلى حيز الوجود معالم اللعب على حبل جديد يتَّسِم بالنزعة الاحتوائية نفسها، ولكن على قاعدةٍ من إعادة ربط دول الجنوب هذه المرة، بدواليب التبعية المُغْرِقة، وفقَ برمجةٍ قائمةٍ على منطقٍ علمي استشرافي يطرح نفسه قارئاً للمستقبل وواضعاً لقوانينه وقواعده التي يجب أن تحكمه إذا أريِدَ له ألاَّ يخرج عن المسارات التي تم الترويج إلى كونها تُمَثِّل أسس التنمية الاستشرافية الصحيحة. فوُلِدَت الظاهرة التي عُرِفَت في أدبيات الفكر التنموي بـ “الدراسات المستقبلية”.
ومع أن الدراسات المستقبلية في حد ذاتها كوسيلة علمية لاستشراف المستقبل على ضوء الحاضر والممكن، تُعَدُّ مطلباً موضوعياً، إلاَّ أنها تغدو ضارة ضررا حقيقيا عندما نحاول إسقاط أنماطٍ منها لا تناسِبُ سوى واقعِ معين، على واقعٍ آخر مغايرٍ له في كل شيء. وليس من الصعب تَتَبُعُ الأهداف البعيدة من وراء ظهور الدراسات المستقبلية مع مطلع عقد السبعينيات واستفحالها واتساعها فيما بعد.
ومع أن هذه الدراسات قد تكون أقدم بعض الشيء من هذا التاريخ من حيث ظهورها، إلاَّ أنها منذ عام 1970 اتخذت منحى آخر واضحاً في هدفيته المتمثلة في إعادة برمجة العقل المُخَطِّط للتنمية في العالم الثالث بصورة تضمن استمرار تبعيته عقودا جديدة من الزمن للمنظومة الرأسمالية العالمية، وهو الأمر الذي تشير جميع الوقائع وخاصة في الوطن العربي إلى أنه قد حصل وفق الرؤية الإمبريالية العالمية بنسبةٍ عاليةٍ من التَّحَقُّق.
فقد راحت الدراسات المستقبلية منذ ذلك التاريخ تُكثر من الحديث عن خطر الانفجار السكاني، وعن تلوُّث البيئة، وعن ضرورة الاعتماد على الديون والاستثمارات الخارجية، وعن اتباع قواعد اقتصاد السوق داخليا لإحداث التنمية المطلوبة، وعن ضرورة اللجوء إلى الإكثار من الصناعات التصديرية لضمان جلب القدر اللازم والكافي من العملات الأجنبية التي تضمن وحدها القدرة على الاستمرار في تدفق السلع والخدمات اللازمة للاستهلاك المحلي، والضامنة لسداد فوائد وأصول الديون التي تكفل الاستمرار بالتالي في تدفق رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار التنموي في الداخل. في هذا السياق، يستطيع أي مراقب للأوضاع الاقتصادية وأي متابع لخطط التنمية ولبرامج الإصلاح الاقتصادي في معظم دول الجنوب، أن يلمس ذلك في البرامج والخطط التي كان يتقدم بها صندوق النقد للدول المتعثرة، والتي لم تخرج جميعها في أي مكان وفي أي زمان عن المطالبة باتباع تلك السياسات قيد أنمُلَة. إنها وصفة تبعية واحدة مكررة لم يحد عنها أبدا.
إن الحديث المكثَّف في الدراسات المستقبلية عن استنزاف وقرب اضمحلال البيئة بدأ عام 1970 تقريبا، وليس قبل ذلك. أي عندما بدأ الغرب يئن تحت وطأة نقص الموارد وتلوُّث البيئة. ولم يكن هذا التوقيت – بأي حال – ناتجا عن إعادة نظر من قِبَلِ الغرب في نظامه السياسي الاجتماعي أو في كفاية إنجازاته التكنولوجية، مادامت رائدة تلويث البيئة في العالم وهي الولايات المتحدة ترفض حتى الآن التوقيع على اتفاقية “كيوتو” التي ستلزمها إن هي وقعت عليها بانتهاج تغييرات في نمط الصناعة والزراعة وعلاقات الإنتاج فيها كي تخفف من إسهامها في التلوث البيئي عبر التخفيف من إسهامها في الاحتباس الحراري الذي غدا مشكلة عالمية.. نقول.. لم يكن هذا التوقيت بمثابة إعادة نظر في البناء الصناعي والتكنولوجي لتلك الدول، ولا في البناء الثقافي والاجتماعي الذي يقف وراءه، ولكنه كان التلاقي الزمني لمجموعة من التطورات، منها حركات التحرر الوطني والتعاون التجاري بين البلدان النامية المُنْتِجَة للموارد الأولية وعلى رأسها النفط.
ولقد تمثَّلت أكثر مخاطر هذه الدراسات، ليس في افتقار العالم الثالث إلى مثلها رغم ضرورتها من حيث المبدأ، بل في كونها ارتكزت في معظمها إلى وسائل تقنية متطورة أقنعت أصحاب القرار السياسي وواضعي الخطط الاقتصادية في دول العالم الثالث، ونظرا لافتقار هذه الدول إلى المنظومات المعلوماتية التي اعتمدت عليها، بجدوى محتواها الفكري، بحيث راحت تعتمدها كدراسات تستشرف من خلالها مستقبلَها ذاتَه.
وهكذا أُعيدَ إحكام السيطرة على مركز التخطيط ومركز اتخاذ القرار التنموي في دول الجنوب، بحيث غدت التَّكَتُّلات الاقتصادية الكبرى فيه تستشرف مستقبلَها في ضوء تلك الدراسات، باستثناء حالات نادرة حاولت فيها بعض الدول النامية نفسها صياغةَ نماذجٍ للدراساتِ خاصةٍ بها. إلا أنها مع ذلك لم تَنْجُ في محصلة توجهاتها من هيمنة الفكر الرأسمالي عليها، ومن تَحَكُّم آليات وميكانيزمات النظام العالمي الخاضع للهيمنة الإمبريالية في حركتها وصيرورتها التنموية.
ولكننا نستطيع التأكيد مع ذلك على أنه مهما يكن من شأن هذه الآليات، فإنها ليست من القوة بحيث تُلْغي إرادة دول العالم الثالث. والمطلوب اليوم هو الوعي التام بأن التنمية الحقة هي في جوهرها تَحَرُّرٌ حقيقي من الاستعمار الاقتصادي والحضاري. وبالتالي فإن هذه التنمية لا يمكنها أن تبدأ إلا مما يساعد على تحقيق هذا التحرر، وليس مما يعمق التبعية ويزيد من مستوى الارتهان الاقتصادي والحضاري.
أهم نماذج الدراسات المستقبلبة..
في عملية استقراء سريعة لأهم نماذج الدراسات المستقبلية، أو نماذج استشراف المستقبل التي ظهرت في الغرب مُحاولةً إعادة بلورة العقل التنموي في دول العالم الجنوبي، نجد نموذج “نادي روما”، الذي ركَّز على ضرورة ضبط نمو السكان في العالم الثالث. ونستطيع أن نلمحَ تشابها بين الدراسة الاستشرافية لهذا النموذج والدراسة الاستشرافية القديمة التي أجراها “مالتوس”، عندما قارن بين نمو السكان ونمو الموارد. فالمطب الفكري الاستشرافي الذي وقع فيه مالتوس بعدم أخذه للدور الإيجابي للتطور التكنولوجي في حل المعضلة التي تَبَدَّت له، في ظل انطلاقه من قداسة وسرمدية البناء البرجوازي للمجتمع، وعدم إمكان التغيير أو التبديل في القواعد الاقتصادية التي تحكم صيرورة النمو البشري، وهي قواعد الاقتصاد الرأسمالي، بفلسفة “دَعْهُ يعمل دعه يمر” التي دعا إليها “آدم سميث”، وقع فيه نموذج “نادي روما”، عندما رأى أن الإنجازات التكنولوجية ستكون دون مستوى الحاجات المطلوبة، وعندما تجاهل إلى حد مريب حقيقة أن جزءا كبيرا من المعضلة إنما هو قائم في جوهر الحراك الاقتصادي الرأسمالي الذي يُقَسِّم العمل والملكية بطريقة مُجحِفة بين البشر، إن على الصعيد العالمي، وإن على الصعيد القطري الوطني لكل دولة. وهو الأمر الذي جعل خبراءَه ينادون بضرورة الحد من نمو السكان، وتحديدا في العالم الثالث، وكأن هذه هي المشكلة الحقيقية والوحيدة التي تُهدد مستقبل البشرية.
أما نموذج “ميزاروفتش”، فإنه لا يختلف كثيرا عن نموذج نادي روما، فهو يؤكد على أنه من الممكن تفادي الأزمات الاقتصادية العالمية، فقط عن طريق ضبط نمو السكان في العالم، والتعاون وليس المواجهة بين مناطق العالم. وبما أن نمو السكان في دول الشمال مضبوط إلى حدٍّ بعيد، بل ربما أن أعداد السكان تتراجع في بعض الدول، فلا يمكن لمطلب ضبط نمو السكان في هذا النموذج أن يعني سوى ضبطه في دول الجنوب.
وبما أن مطالبةَ الجنوب بنظام اقتصادي جديد فيه إنصاف وعدالة، ينطوي على نوعٍ من المواجهة الجنوبية للشمال الغني، على قاعدة إعادة توزيع العمل وثروات الكوكب بشكل يلبي احتياجات الإنسانية بالدرجة الأولى، وليس احتياجات النظام الرأسمالي وركائزه المدمرة للإنسان وللطبيعة وللمجتمعات وللبناء الدولي أساسا، فلا شك في أن هذا النموذج يطالب بالحد من شِدَّة هذه المواجهة.
إنه باختصار نَموذجٌ يرفض أن يكون الحل بمنطق المطالبة بالحق، لأن لا حق للجنوبيين لدى سكان الشمال رغم كل فائض القيمة التاريخي الذي أحدثَته حِقَب الاستعمار الطويلة في الجنوب. ولعل من أغرب ما يثيره هذا النموذج من منطقٍ تنموي لدول النفط العربية والشرق أوسطية تحديدا، هو دعوته إلى تراكم ثروة المنطقة الشرق أوسطية والشمال إفريقية في الدول الصناعية، وليس إلى تنمية القدرات الذاتية للمنطقة والتراكم الرأسمالي المحقق للتنمية داخلها. ولعل السياسات الاقتصادية التنموية في معظم دول العالم الثالث، وعلى رأسها الدول العربية عموما والنفطية الخليجية منها خصوصا، قد بلعت الطعم ومارست سياسات تنموية لا يمكن أن توصف سوى بأنها نتاج أمين وتطبيق دقيق لفلسفة كلٍّ من نموذجي “ميزاروفتش” و”نادي روما” للدراسات المستقبلية، مؤكدة استحقاقها بامتياز لقب “سفهاء العصر”.
فبرامج وسياسات تنظيم النسل، بل والحد منه أحيانا باعتبار ذلك أُسَّ البلاء ومفتاحَ النجاة والنهضة، وفتح البلاد على مصاريعها للاستثمارات الأجنبية بلا ضابط يستشرف الفائدة الحقيقية المُتَوَخاة من وراء هذه الاستثمارات على صعيد التنمية الحقيقية للناتج المحلي، والإمعان في الارتباط بحلقة الديون الخارجية التي لا يظهر في آخر نفقها أي بصيص من نور، وتدمير كل مرافق الاقتصاد الوطني الإشباعي، لأجل تحقيق تنميةٍ تساعد على إنتاج السلع والخدمات التصديرية لجلب العملات الأجنبية الكفيلة بتغطة خدمة الديون، وأثمان الواردات الضرورية التي ساهمت في تدمير بنيتِها الإنتاجية المحلية سياسةُ الصناعة والزراعة التصديريتين، على حساب المتطلبات الطبيعية والضرورية لإنتاج احتياجات المواطن محليا، ومن ثم تكديس الثروات النفطية – عندما يكون الحديث عن بلد نفطي – في بنوك الغرب وبورصاته وفي بيوتاته المالية بكل ما ترتب ويترتب على ذلك من هدر مهولٍ للثروة عند الأزمات المفتعلة التي تمر بِها تلك البورصات والبيوتات. كل ذلك غدا يمثل جوهر السياسات التنموية في تلك الدول، رغم بَحِّ الحناجر وهي تنادي ليل نهار بأن هذا النهج سيقود الأمة وثرواتِها ومستقبلَها إلى الدمار والهاوية، إن لم يكن قد قادها إلى ذلك فعلا!!
لقد استطاعت هذه النماذج للدراسات الاستشرافية المستقبلية أن تحقق إنجازات كبيرة عندما نجحت في جعل العقول التنموية في بلدان الوطن العربي – بوصف تلك البلدان نماذج صارخة من نماذج الارتهان لفلسفات وأفكار تلك المراكز والنوادي الاستشرافية على مستوى العالم الثالث – تتقمص فكر تلك النوادي والمراكز، مُرَوِّجة لما كانت هذه الأخيرة تخجل أو لا تجرؤ على ممارسة الترويج له هي بنفسها، بصفتها نماذج غربية قد لا تكتسب مصداقية كافية إن هي فعلت ذلك.
فقد راحت هذه العقول المهترئة والمهزومة والمرتَهَنَة، إن لم نقل بأنها مشبوهة في الأساس، تُحيِل المعضلة الاقتصادية والتنموية البنيوية، القائمة على الاستعمار وما فعله في مستعمراته سابقا، وعلى النظام الرأسمالي القائم على اقتصاد السوق وقواعده “السميثية” و”المالتوسية” دوليا ومحليا وإقليميا، وعلى التقسيم الطبقي الاجتماعي الداخلي الذي تمثله أنظمة التجزئة الرغالية وتدافع عنه، والمرتكز إلى المصالح الاقتصادية لطبقات النخبة الثرية التي أفرزها انتهاج الفكر المالتوسي البشع أسلوبا للتنمية وللحراك الاقتصادي العربي، وعلى الهجمة السايكسبيكوية الصهيونية الحديثة على المشرق العربي، والتي تعتبر بمثابة الريشة الاستعمارية الرأسمالية التي أعدت المنطقة بالشكل المناسب لاحتضان المعادلة التنموية المستهدفة غربيا في هذا الإقليم العالمي الحساس..
نقول.. لقد راحت تلك العقول المشبوهة، تحيل المعضلة وتُكَيِّفُها من كونها إسهاما جوهريا وفعالاً من تلك العناصر المذكورة، بالقسط الأكبر في حالة الدمار والتردي والتشَوُّه التنموي والاقتصادي، وفي حالة الفقر والتخلُّف التي يعاني منها الوطن العربي، وهي العناصر التي لا يختلف عاقلان على أنها أساس الأزمة كلها ومن جميع جوانبها، إلى اعتبارها معضلةً يكاد تأثير تلك العناصر في خلقها وتكوينها يكون مُهْمَلا، أمام العناصر الأساس في ذلك التكوين والتَّخْليِق، متمثلة في الادِّعاءات التي روَّج لها الفكر الاستشرافي لنوادي ومراكز استشراف المستقبل الغربية، كضرورة ضبط النمو السكاني في الجنوب، وضرورة انتهاج قواعد اقتصاد السوق في العلاقات التنموية والاقتصادية الداخلية كمدخل فاعل لخلق آليات التنافس ولتكديس المدَّخرات، اللذين يُعدان وحدهما مفتاح التطور والنمو الاقتصاديين، وضرورة العمل على التصدير والاقتراض لجلب النقد الأجنبي بكل الأشكال الممكنة والمتاحة، واستثمار الفوائض النفطية الهائلة في مراكز المال والبورصات الغربية، وليس إعادة ضخها كرؤوس أموال وطنية وقومية تعيد إنتاج المدنية والحضارة على أسس مختلفة في الجغرافيا العربية.. إلخ.

نموذج استشرافي مستقبلي مختلف..
في مواجهة النماذج الاستشرافية الغربية المتعصِّبَة للفكر الرأسمالي العالمي والتي أوردنا أمثلة عليها، نجد نموذج “مارليوش” لأميركا اللاتينية في الأرجنتين يقف موقفا عقائديا غيرَ محايدٍ من قضية التنمية، ليكشف عن زيف التوجهات العالمية الحالية لضبط العلاقة بين الشمال والجنوب، أي بين العالم المتقدم والعالم المتخلف. ويُعتبر هذا النموذجُ النموذجَ الوحيدَ من بين العديد من النماذج العالمية لاستشراف المستقبل، الذي حاول وضعَ يده على بعض المواطن الحقيقية للداء العضال الذي صنعَ مأساةَ الجنوب عقب انحسار الاستعمار السياسي التقليدي، وابتلاء شعوبه بأنظمة سياسية ينخر فيها الفساد الناجم عن الارتباط غير المدروس بعجلة اقتصاد السوق وبقواعد لعبة رأس المال العالمي في امتداداته المحلية. إنه نموذج ينتقد الأحوال المتردية في العالم في الوقت الراهن ويُرْجِعُها إلى أنماطٍ جائرة واستغلالية للتنظيم السياسي والاجتماعي على مستوى العالم وداخل الكثير من بلدانه، ويلاحظُ أن حالة البؤس المرتبطة بفكرة الانهيار التي تنبأت بها النماذج الأخرى للعالم أو لمناطقَ معينةٍ فيه، لا تختلف كثيرا عن ظروف الحياة الراهنة لغالبية البشر.
وبالتالي فإن تلك النماذج التي حَذَّرَت من مستقبلٍ مظلم للبشرية إذا لم يتم ضبط نمو السكان في الجنوب، هي في واقع الحال نماذجٌ تغض الطرف عن واقع العالم الجنوبي المؤلم، ولا تظهر وكأنها معنية بحل مشكلاته المدمرة. وهي تخطط فقط لكي لا ينتقل هذا الجنوب المربَك بمشاكله إلى الشمال المتمدن، ولكي لا يندفع إلى البحث عن حلول لقضاياه الاقتصادية المستعصية في المطالبة الجادة بتعديل البناء الاقتصادي للعالم المتقدم والقائم على تقسيم العمل وفق المنظور الرأسمالي الاحتكاري الإمبريالي.
ويذهب هذا النموذج إلى أبعد من ذلك عندما يقيم لنفسه ركائز علمية موضوعية تُوَضِّح إمكانية إقامة المجتمع العالمي الجديد المقْتَرَح، وإظهار أنه يمكن إشباع الحاجات الأساسية للبشر، أي تفادي انهيار النَّسَق العالمي، بدءا من الظروف العالمية الحالية، إذا ما انبثقت سياسات مُعَيَّنة لبناء هذا المجتمع الجديد.
ويكشف دعاة هذا النموذج وخبراؤه بلغة الأرقام، عن أن مشكلة البشر ليست تقنية ولا ديموغرافية في الجوهر، ولكنها سياسية أولا وأخيرا. فقد بَيَّنَت نتائج البحث الدقيق الذي انتهجه نموذج مارليوتش عندما تأسس في الأرجنتين في عقد السبعينيات، أنه يمكن إشباع الحاجات الأساسية لسكان العالم مع انقضاء العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين إذا خصص العالم المتقدم ما لا يزيد عن 2% من ناتجه الإجمالي للمساعدة غير المشروطة لإفريقيا وآسيا. وبهذا يظهر عدم الحاجة لضبط نمو السكان في العالم الثالث بالشكل التعسُّفي الذي تتطلبه نتائج النماذج السابقة كحل أساسي لمشكلات التنمية في الجنوب. وبهذا أيضا، لا يكون الانهيار المتوقع في أدبيات وسيناريوهات النماذج الأخرى، سوى نتيجة لاستمرار أشكال متخلِّفة من التنظيم الاجتماعي والسياسي للعالم، تقف خلفها حواجز سياسية غير سهلة التجاوز. وقد سار على خطى قريبة من نهج مركز “مارليوش”، “مركز دراسات الوحدة العربية”، الذي يُعَدُّ بحق واحدا من أكبر مراكز استشراف المستقبل على مستوى العالم الثالث.
مدخل إلى تحليل ظاهرة الارتهان العربي للإمبريالية والصهيونية..
يعد الوطن العربي نموذجاً صارخا من النماذج المعبِّرة عن حالة الارتهان الكامل للفكر التنموي والاستشرافي الغربي، وحالةً غير مسبوقة ولا تشبهها حالة في العالم، من حيث تأكيد واقعها الاقتصادي عموما، على أن الحواجز والمعوِّقات السياسية وليس التقنية ولا المواردية، هي ما يقف وراء تشوُّه التنمية وخروجها عن قضبان السكة السليمة، وانحرافها بالتالي عن مرتكزاتِها الثقافية وعن مبرراتِها الوطنية الذاتية في امتداداتِها القومية الطبيعية، وعن ارتباطها المفترض بالاحتياجات الحقيقية للمواطن. وهو فضلا عن ذلك معقلٌ من معاقل الجنوب الموبوءة بكل أنواع الفساد الإداري والمالي القائمة على أبشع أنواع السلب والنهب التي لم يشهد لها تاريخ البشر مثيلاً.
وبسبب ذلك فقد كان من المُحَتَّم أن تُمارِسَ الأنظمة السياسية الحاضنة لذلك النوع الوبائي من الفساد، أكثر ألوان القمع والاضطهاد والتغييب الثقافي والسياسي، قدرة على حقن “أجنة الصهيونية العربية”، و”الفكر الرُّغالي”، و”ثقافة الهزيمة”، وما يُسَمَّى بـ”عقلانية التبعية الأبدية للمستعمر القديم”، التي تمثل مُجْتَمِعَةً الإطارَ الأيديولوجيَّ لتلك الأنظمة ولكل مظاهر فسادها وتبعيتها وارتباطها وارتهانِها، بِمقومات الديْمومة والبقاء.
 تزيد من عمق وخطورة واستفحال حالة الارتهان الشامل التي وُضِعَ الوطن العربي في أتونها بقيادة أحفاد “أبي رُغال”، خصوصيةُ الظروف التاريخية التي تكوَّنت فيها جزر “سايكس بيكو” العربية المتناثرة فوق خريطةٍ طُعِنَت بكل الخناجر المسمومة التي أُتيِحت لزعامات أنظمة التجزئة، وعلى رأسها تلك التي شرخت جزيرة العرب بأبشع أنواع التبعية للمستعمر وللارتباط بمنظومات مصالحه. فالوطن العربي عموما، والمنطقة المشرقية منه خصوصا، يعدان أكثر مناطق العالم استهدافا من قِبَلِ الإمبريالية والصهيونية العالمية مُمَثَّلةً في رأس حربتها على الصعيد العالمي، “الولايات المتحدة الأميركية”، وقاعدتها المتقدمة على صعيد الوطن العربي “إسرائيل”، ووكلائها الإقليميين المفرطين في ولائهم لموكلهم “قادة أنظمة التجزئة من سفهاء العصر”.
وهو استهداف أزلي يضرب بجذوره إلى تاريخٍ بعيدٍ تحدثنا عنه كثيرا، ولا داعي لتكراره في هذا المقام، ويستند فضلا عن جذوره التاريخية تلك، إلى مجموعة عناصر جيوسياسية معاصرة ذات طبيعة حساسة للغاية، من بينها كون هذا الوطن مخزنا وحيدا للنفط العالمي على المدى البعيد بعد نضوب احتياطاته المتاحة في مختلف دول المركز على المدى القريب. لقد جعلت طبيعة هذا الاستهداف الشَّرِس قضايا الوطن العربي ومشكلاته تَتَّسِم بنوع عجيب من الترابط والتشابك، بحيث لا يمكن فصل قضية أو مشكلة منها عن باقي القضايا والمشكلات المكوِّنَةِ لحالته المُسْتَهْدَفَة بمحاولات الحل والمعالجة.
 إن الإمبريالية العالمية نفسها وإدراكا منها للطبيعة المركبة لهذا الإقليم الأكثر حساسية في العالم، واقتناعا منها بفكرة أن التعامل معه خلال إدارة أزماته السياسية والاقتصادية، وخلال توجيه حَراَكِه المجتمعي والتاريخي، يجب كي يكون تعاملا ناجعا ومناسبا ومُحَقِّقاً للغرض المُتَوَخَّى منه، أن لا يَفْصِلَ التاريخ عن الجغرافيا، ولا السياسة عن الاقتصاد، ولا التنمية عن مقاومة المقاومة، ولا الدبلوماسية عن السلاح أو التفاوض عن التَّسْليح، ولا الثقافة الوطنية عن الانفتاح.. إلخ، فقد صاغت على الدوام إستراتيجياتٍ من النوع المركَّب أيضا، كي لا تُفْلِت من بين يدي سيطرتها أي عناصر من مُكَوِّنات حراكه المتشابكة.
ولقد أمكننا ملاحظة عنصرين استراتيجيين أساسيين مثلا ويمثلان مجتمعين البناء الفلسفي لمكونات الهجوم الإمبريالي الصهيوني على الوطن العربي، وعلى العالم عبر الوطن العربي. وهذان العنصران الاستراتيجيان يحملان العنوانين التاليين..
1 – ربط السوق النفطي بالعملة الأميركية “الدولار”، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وهو الأمر الذي أتاح للولايات المتحدة فرصة التحكم في مفاعيل الاقتصاد العالمي، عبر التحكم ابتداء في نظام التسعير السلعي والخدماتي الدوليين، وعبر مراقبة كافة قنوات التدفق السلعي والخدمي في العالم، لتوظيف ما ترى ضرورة توظيفه لخلق الأزمات الإقليمية، والتدخل بالتالي لحلها وفق رؤيتها وفي ضوء مصالحها الخاصة.
2 – التضليل المعلوماتي الذي أتاح الفرصة للإيهام دائما بالبعد التقني للمشكلة السياسية، بما يخدم التوظيف السياسي الكفء لها وفق الرؤية الإمبريالية الصهيونية. وهو الأمر الذي استغلته الولايات المتحدة أكفأ استغلال عندما وظفت السياسة النفطية العالمية لتحقيق إرادتها السياسية سواء في الماضي أو في الحاضر تمهيدا لرسم مستقبل هذا الكوكب، في ضوء المصالح والرؤى الأميركية. وهو ما استخدمته أيضا أكفأ استخدام عندما تمكنت من الإيهام بوجود مشكلة مائية في المنطقة العربية المشرقية، أصبح ينظر إليها باعتبارها ممشكلة حقيقية وكبيرة تتحكم في مفاعيل الصراع الإقليمي “العربي – الإسرائيلي”.
وإننا في هذه الدراسة سوف نتكتفي بتحليل العنصر الأول مؤجلين العنصر الثاني لدراسة مستقلة نظرا لضخامته وخصوصيته.
النفط وتسعيره بالدولار الأميركي..
 إن تسعير النفط بالعملة الأميركية “الدولار”، يمكن اعتباره أهم وأخطر إنجازٍ اقتصادي للولايات المتحدة الأميركية، دشنت به مرحلة هيمنتها على العالم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فزادها قوة إلى قوتها وسيطرة إلى سيطرتها. لكن الكثيرين لا يعرفون أن العالم كله متفق على أن من يريد شراء النفط من سوق النفط العالمية، فإنه بالفعل لا يستطيع شراءه إلا بالدولار الأميركي، جراء الاتفاق التاريخي الذي تم بين كل من الرئيس الأميركي روزفلت ممثل القوة العالمية القاهرة آنذاك، والملك السعودي عبد العزيز بن سعود ممثل التبعية غير المشروطة المفرطة في تبعيتها، والبقرة الحلوب الرئيسة في محفل مالكي النفط ومنتجيه ومصدريه في العالم الثالث، وذلك خلال اجتماعهما على ظهر سفينة أميركية في قناة السويس في شهر شباط من عام 1945، أي قبل شهرين فقط من استسلام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية ووضع الحرب لأوزارها.
 ولكن إذا كان الكثيرون لا يعلمون بما ترتب على هذه الواقعة التاريخية من اعتماد للدولار عملة يتم تداول النفط في السوق العالمية بواسطتها، فإن الكثيرين ممن يعلمون بها كواقعة، لا يفهمون حقيقتها وجوهرها ولا يدركون أبعادها وتأثيراتها على السياسة والاقتصاد الدوليين. وربما أنهم يحسون بخطورتها دون أن تظهر لهم بجلاء ماهية هذه الخطورة. وهو ما سنحاول كشف النقاب عنه في هذا الجزء من دراستنا هذه، ففي قيامنا بذلك، استجلاء لملامح القيد الخطير الذي يعاني منه العالم منذ منتصف القرن الماضي.
  أن يكون الدولار الأميركي هو العملة الوحيدة التي يتم تسعير النفط وتداوله بها، يعني بكل بساطة أن من يريد شراء النفط من الدول المنتجة له، عليه أن يتوجه إلى الولايات المتحدة للحصول على ما يحتاجه من دولارات ليتمكن من دفعها إلى منتِج النفط ثمنا لما يريد شراءه منه من تلك السلعة بالغة الحساسية والأهمية والاستراتيجية، أو على الأقل عليه أن يتوجه إلى الدول التي تمتلك دولارات سبق وأن حصلت عليها من خلال عمليات التداول السلعي والخدمي بينها وبين الولايات المتحدة. وإنه في سياق عملية الحصول على تلك الدولارات تبدأ عناصر الهيمنة والسيطرة والتحكم الأميركية في السوق العالمية كاملا وليس النفطية فقط.
 ولكن كيف ذلك؟
 دعونا نفترض بداية ولأجل فهم المسألة في سياقها الاقتصادي البسيط، أن من يريد دولارات سيتوجه إلى الولايات المتحدة وليس إلى الدول التي سبق لها التوجه إلى الولايات المتحدة. سيتم الحصول على تلك الدولارات بواحدة من طريقتين، فإما أن المحتاج سوف يقترض حاجته من المؤسسات الأميركية أو من تلك التي تهيمن عليها الإدارة الأميركية كصندوق النقد والبنك الدوليين، وإما أنه سوف يبيع سلعا وخدمات يمتلكها، للسوق الأميركية ليحصل على قيمتها بالدولارات.
 في المقابل وفي الحالتين، فإن الولايات المتحدة لن تقدم له – أي للطرف الذي لجأ إليها باحثا عن دولاراتها – سوى أوراقا نقدية لم تكلفها أكثر من قيمة الورق والحبر والكهرباء وقوة العمل المنفقة على طباعتها. ولن تكون ملزمة لا أمامه ولا أمام العالم بأكثر من قبول بيعه ما يشاء من سلع وخدمات أميركية بتلك الدولارات التي حصل عليها إن هو شاء. أي أنها في حقيقة الأمر تكون قد حصلت في حالة البيع، على سلع وخدمات – وفق نظام تسعير معين هي غالبا إن لم يكن دائما صاحبة اليد الطولى في إقراره وفرضه بهيمنتها على شبكة البورصات العالمية التي تمر سياسة تسعير كل السلع الاستراتيجية والهامة في العالم عبرها – يطابق ثمنُها ما منحتُه من دولارات لذلك الطرف، أو أنها تكون قد امتلكت في حالة الإقراض، كميات من إنتاج المقترِض المستقبلي والفعلي من السلع والخدمات، تطابقُ قيمتُها نفسَ قيمة القرض أصولا وفوائد مهما تزايدت ونمت وربت، وكل ذلك بلا مقابل سوى قيمة الحبر والورق والكهرباء وقوة العمل المستخدمة في طباعة تلك الكميات من الأوراق النقدية، والتي لا تصل إلى حوالي عُشْرٍ في المليون من القيمة الشرائية الفعلية للمبالغ التي تعبر عنها تلك الأوراق النقدية المطبوعة. أي وبلغة الأرقام، فإنها تكون إذا منحت ترليونا من الدولارات لمن طلبها بهذا الشكل أو بذاك، قد حصلت على سلع وخدمات فورية أو مؤجلة بقيمة هذا الترليون مقابل ما لا يزيد عن بضعة مئات الآلاف من الدولارات، هي كل ما أنفقته على تجهيز تلك الكمية من النقد في مطابع بنكها المركزي ومجلس احتياطيها الفدرالي.
 في الحلقة الأولى من سلسلة تبعات وتداعيات تسعير النفط بالدولار، يظهر في أبسط صورة لما يحدث، أن الولايات المتحدة تحصل على كميات هائلة من السلع التي هي في الغالب موادا أولية تنتجها الصناعات الاستخراجية في الدول الفقيرة، بدون مقابل حقيقي أي بالمجان، أو بتعبير اقتصادي بدون أن تكون قد بادلتها مبادلة حقيقية بسلع وخدمات مقابلة أُنْتِجَت في السوق الأميركية، مع أن الدول التي تكون قد باعت تلك السلع حصلت في مقابل ذلك على ما يُمَكِّنها من شراء حاجتها من سلعة أساسية استراتيجية بنظام التسعير الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة غالبا، وهذه السلعة هي النفط لتلبية احتياجاتها من الطاقة، كما أنها تكون قد امتلكت بامتلاك تلك الدولارات حق شراء ما تشاء من سلع وخدمات معروضة للبيع من السوق الأميركية.
 إن الولايات المتحدة لم تتكبد شيئا في هذه العملية، ولا حتى القيمة الحقيقية لما امتلكته من سلع، مادامت قد امتلكت تلك السلع في واقع الأمر بالمجان. كما أن الدول التي باعت سلعا استخراجية وأولية للولايات المتحدة بهدف الحصول على الدولارات، تبدو هي أيضا وكأنها لم تخسر شيئا ملموسا ومحددا وواضحا للعيان، مادامت قد باعت ما باعته بمقابلٍ يخولها شراء احتياجاتها النفطية من سوق النفط العالمية، وشراء ما تحتاجه مما هو معروض للبيع في السوق الأميركية. فمن هو الطرف الخاسر إذن إذا كان طرفا المعادلة السابقة غير خاسرين في ظل ضرورة وجود خاسر تفرض وجوده طبيعة معادلة التبادل السابقة نفسها؟ وكيف تحدث تلك الخسارة إذا كانت بالفعل موجودة؟ إنه سؤال غاية في الأهمية والخطورة. لكننا نؤجل الإجابة عليه إلى حين استكمال مراقبتنا ومتابعتنا لحلقات سلسلة تداعيات تسعير النفط بالدولار الأميركي، ففي هذه المراقبة والمتابعة يتجلى الجواب. فلنتابع.
  تقوم الدولة التي باعت سلعها الاستخراجية والأولية إلى الولايات المتحدة، أو التي اقترضت من المؤسسات النقدية الخاضعة للهيمنة الأميركية، وحصلت على الدولارات مقابل ذلك، بشراء احتياجاتها من النفط من منتجي النفط، واحتياجاتها من السلاح والمنتجات العسكرية من الولايات المتحدة نفسها في الغالب باعتبارها أهم منتج ومصدر للأسلحة في العالم، أو من وكلائها الإقليميين إذا كانت صفقة ما من صفقات بيع السلاح مريبة وتثير حساسية الإدارة الأميركية أمام شعبها. ثم يعود منتج النفط الذي باع نفطه لتلك الدولة بالدولارات التي حصلت عليها بالشكل المذكور سابقا، إلى الولايات المتحدة ليشتري بجزء من الدولارات التي حصل عليها من تصدير النفط سلاحا يحمي به أمنه.
 والخلاصة أن جزءا من الدولارات التي خرجت من الولايات المتحدة مجرد أوراق لم تكلفها شيئا مقابل سلع هامة وضرورية دخلت إليها، عاد ليضخ إلى السوق الأميركية مقابل سلع استراتيجية سحبت من تلك السوق. وإذن أفلا يعني ذلك أن مقولة المجانية التي تحدثنا عنها غدت غير ذات قيمة ولا وجود لها، مادامت الدولارات التي خرجت من الولايات المتحدة ورقا لا قيمة له، عادت إليها قوة شرائية لسلع يحتاجها الآخرون، وهي في الغالب سلعة السلاح الاستراتيجية، والسلع الثقافية، فضلا  عن السلع الصناعية التركيبية ذات التقنية العالية غير المتوفرة في الدول المعنية بهذه المعادلة؟!
 في واقع الأمر، يجب ألا يغيب عن بالنا أن كل دولار عديم التكلفة تطبعه الخزانة الأميركية وتصدره إلى الخارج وإن يكن بمقابلٍ ملموس دخل إليها، من حق مالكه خارج حدود الولايات المتحدة أن يعود به إليها كقوة شرائية لشيء ما موجود في داخل السوق الأميركية ذاتها. وبالتالي فلو كانت أنظمة تسعير السلع في العالم وموازين القوى السائدة فيه قادرة على التخفيف من حدة الفوارق في الدلالات السوقية والقيم الشرائية للدولار، لما كانت هناك خطورة فعلية من تسعير النفط بالدولار.
 لكن الولايات المتحدة وهي تخرج من الحرب العالمية الثانية قوة عظمى لا تضاهيها قوة في العالم بنفوذها الواسع وهيمنتها المعروفة، كانت تدرك جيدا أنها تستطيع توظيف فكرة تسعير النفط بالدولار لخدمة سياساتها بالشكل الذي تريده نظرا لقوتها وقدرتها وهيمنتها، ونظرا – وهذا أهم ما في الموضوع – لامتلاكها ناصية وزمام ومداخل الحراك الاقتصادي العالمي كله تقريبا عبر البورصات والأسواق المالية من جهة أولى، وعبر كونها الطرف الأوحد القادر على تصنيع السلاح المطلوب لمعظم دول العالم من جهة ثانية، وعبر كونها صاحبة القرار في السياسة النفطية العالمية، بحكم كونها صاحبة الهيمنة على البلدان النفطية الأساسية ألا وهي دول الخليج العربي من جهة ثالثة، لهذا فقد كان يكفي الولايات المتحدة أن تتفق مع الملك السعودي عبد العزيز على تسعير النفط بالدولار، ليتم الأمر وتتحدد السياسات وتتقرر الإجراءات بعد ذلك بكل يسر وسهولة.
 الولايات المتحدة في حقيقة الأمر كانت تُصْدِر الدولارات التي تصدرها كأثمان للسلع التي تحصل عليها بأسعار زهيدة تفرضها سياسات التسعير المعتمدة في بورصات تلك السلع، والتي هي في الغالب أسعار تخضع في تقلباتها صعودا وهبوطا لإرادة الطرف الأميركي. وعندما تستعيد تلك الدولارات ثمنا لمنتجاتها من الأسلحة بالدرجة الأولى، أو من المنتجات الصناعية الثقافية والإعلامية بالدرجة الثانية، أو من الصناعات التركيبية عالية التقنية بدرجة ثالثة، فإنها تستعيدها وفق نظام تسعير مجحف وغير عادل ولا يعكس القيم الحقيقية لتلك السلع التي تبيعها، إذا ما قيست معايير تسعير السلع التي تستوردها وتشتريها بمعايير تسعير السلع التي تصدرها وتبيعها، كما سيتبين معنا في مكانه من هذه الدراسة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأسلحة تحديدا، ما يعني أنها تمتص من خلال هذه السياسة التسعيرية أيَّ قيمة تبادلية عادلة ومنصفة لتلك الأموال التي خرجت منها فيما مضى لشراء سلع متدنية القيمة، وذلك بأن تعود إليها عندما تعود أموالا محدودة القيمة التبادلية، لتكود مكاسبها المهولة قد تحققت عبر الفارق السوقي والقيمي والتبادلي لتلك الأموال.
 أي وبتعبير أدق، يجب أن تحصل الولايات المتحدة بتلك الدولارات المجانية التكلفة على كل احتياجاتها مما ليس في حوزتها، وعندما تقرر الدول التي حصلت على تلك الدولارات أن تضخها من جديد إلى السوق الأميركية، فيجب أن يكون ذلك في مقابل سلع وخدمات ذات تكلفة فعلية أقل بكثير من ثمن بيعها، أي أن الولايات المتحدة تحصل على أضعاف ما تعطي. تحصل على كل حاجاتها ولا تعطي أحدا حاجته الفعلية كي يبقى ضمن دوائر الحاجة والتوتر، أو كي يضطر إلى اللجوء إلى القروض والديون الخارجية التي يمكنها أن تحاصره مثل فكي كماشة.
 على الصعيد العملي تجلِّي هذه السياسة نفسها على النحو التالي..
 كل الدول التي تريد شراء النفط من السوق العالمية – ومعظم دول العالم باستثناء المنتجين وهم قلة، هي دول تشتري النفط – ستضطر إلى مبادلة منتجاتها التي تحتاجها الولايات المتحدة بالدولارات. أي أن الولايات المتحدة تحصل من كل دول العالم وبلا مقابل على ما تشاء من سلع غير متوفرة لديها أو لا تريد إنتاجها محليا لسبب أو لآخر. ثم تبدأ هذه الدول بمبادلة جزء من الدولارات التي حصلت عليها بالنفط الذي تكون أسعاره مدروسة بشكل يمتص معه معظم تلك المداخيل لتصب في خزائن منتجي النفط ومصدريه، وغالبيتهم مرتبطون بعجلة الهيمنة والقرار الأميركيين، ما يجعل الوجهة النهائية لتلك الأموال مسيطر عليها ومتحكم فيها بحكم هذه الهيمنة.
 تحرص الولايات المتحدة من حيث المبدأ على تقليص قيمة الدولارات التي حصلت بواسطتها مجانا على ما تريده من سلع من الدول المحتاجة لشراء النفط، بشكل لا يُفْقِد فكرة المجانية والمنفعة المتحققة من طباعة الدولارات بلا رقيب أو حسيب، قيمتَها ومردودَها على الاقتصاد الأميركي وعلى رفاهية المواطن الأميركي وعلى توجيه دفة الاقتصاد العالمي والتحكم فيها من ثم، وذلك كي لا تعود تلك الدولارات لتستحلب من السوق الأميركية منتجات لا تريد الولايات المتحدة إتاحة الفرصة لها كي تُسْتحلَبَ وتؤثر بالتالي على مستوى معيشة الأميركيين ورفاهيتهم، أو على اقتصاد السوق ونظام تقسيم العمل في داخل الولايات المتحدة كمعقل للرأسمالية الاحتكارية والمالية في العالم. إن اللص الذي يسرق، يفعل ما بوسعه كي لا يتيح الفرصة للمسروق في استعادة ما سرق منه.
 لن يتحقق ذلك للولايات المتحدة في ظل هيمنتها على سوق النفط وسوق السلاح وشبكة البورصات وأسواق السندات العالمية، فضلا عن سوق القروض عبر كل من البنك وصندوق النقد الدوليين، إلا إذا تمكنت من تكريس وفرض المعادلات التالية على الاقتصاد العالمي..
 1 – أن تتحكم تحكما مطلقا في تسعير النفط في السوق العالمية بشكل يتيح لها توجيه دفة التدفقات النقدية المترتبة على تجارة النفط على النحو الملائم لسياساتها المحلية والعالمية، وخاصة في الأقاليم التي لها فيها استراتيجيات محددة، وعلى رأسها الإقليم المسمى “الشرق الأوسط”.
 2 – أن تتحكم عبر شبكة البورصات العالمية التي يتم فيها تداول أهم السلع الاستراتيجية في العالم سواء كانت موادا أولية أو غذاء، في تسعير تلك السلع بالشكل الذي يضمن تدفقها إلى السوق الأميركية بأسعار زهيدة تُبْقي الدول المصدرة لها عاجزة عبر مداخيلها المتحققة من خلالها عن تلبية احتياجاتها من الدولارات الكفيلة بتغطية احتياجاتها من النفط ومن السلاح ومن بعض السلع والمنتجات الأخرى عالية التقنية، بل ومن الأموال اللازمة للاستثمار من أجل تحقيق معدلات نمو فعالة تلبي مطالب النمو السكاني ومطالب الرفاهية والتقدم، ما يجبرها على اللجوء إلى مسألتين هامتين سعيا نحو الخروج من هذا المطب الخطير هما.. الإكثار من الزراعة والصناعة التصديريتين على حساب الزراعة والصناعة الإشباعيتين، كي تكون جاهزة على الدوام لتلبية احتياجات السوق الأميركية النهمة إلى هذا النوع من السلع بالمجان أو بأقل الكُلَف عبر تلك الدولارات التي تحتاجها من مطابع الخزينة الأميركية، بالإضافة إلى الاقتراض من صندوق النقد والبنك الدوليين لتأمين العجوزرات المتحققة لديها، ما يفاقم ربطها بعجلة الهيمنة الأميريكية عبر هاتين الأداتين المدمرتين لاقتصاديات الدول النامية كما ثبت ذلك خلال عقود من التعامل معهما.
 3 – أن تضمن هيمنتها الفعلية على أهم مفاصل سوق السلاح العالمية، كي تتمكن من تسعير الأسلحة بنظام تسعير يمتص معظم الفوائض النقدية الدولارية التي قد يشكل رجوعها إلى السوق الأميركية كقوة شرائية نوعا من المساس بالرفاهية المتحققة عبر سياسة ربط النفط بالدولار. أي أن الولايات المتحدة تعمل ما في وسعها كي لا تسمح للدولارات المرتجعة بشراء شيء أكثر مما تريد هي بيعه وهو السلاح بالدرجة الأولى، وبدرجة أقل المنتجات الثقافية الصناعية عالية التقنية، وخاصة الاستهلاكية والترفيهية منها، مع التركيز على الجانب الثقافي قدر المستطاع (فنون، ثقافة، غناء، سينما، إعلام.. إلخ).
 4 – أن تضمن تدني نسبة مشاركة تجارتها الخارجية (استيرادا وتصديرا) في الناتج القومي الإجمالي إلى أدنى مستوى مقدور عليه كي لا تكون مضطرة إلى بيع وشراء ما يؤثر على قوتها ونفوذها، وأن تجعل صناعة السلاح أولا، ثم صناعة الثقافة والفن والإعلام ثانيا، ثم الصناعة الاستهلاكية عالية التقنية ثالثا، هي المكونات الأساسية لتجارتها الخارجية تلك، كي تضمن أن تبقى معظم العملة الدولارية المجانية التي طبعتها لتسرق بها شعوب العالم، فاقدة لقيمتها في السوق الأميركية، بعدم وجود ما تستحلبه من تلك السوق خارج حدود السلاح والثقافة والإعلام وبعض التقنيات الرفيعة التي ستتمكن من تسعيرها بما يجعلها تمتص معظم تلك العملات الدولارية المتاحة خارج الولايات المتحدة إذا فكر أصحابها في تحويلها إلى سلع ومنتجات أميركية.
 وهذا على وجه التحديد هو ما تحقق لها بعد عقود من بدء تنفيذ ما تمت تسميته بعد الحرب العالمية الثانية بـ “برنامج أو خطة السياسة الواسعة” التي تضمنت ثلاثة بنود أساسية هي.. رفع نسبة استهلاك الشعب الأميركي من مجموع الإنتاج العالمي خلال ثلاثين عاما – منذ الحرب بطبيعة الحال – إلى ما يتراوح بين 46% و50%، وخفض نسبة مساهمة التجارة الخارجية الأميركية في ناتجها الإجمالي إلى ما لا يتجاوز الـ 5%، وجعل النسبة الأكبر في التجارة الخارجية الأميركية عندما يكون الحديث منصبا حول التصدير، للصناعات العسكرية والثقافية والفنية والإعلامية والمنتجات الاستهلاكية والترفيهية عالية التقنية، وعندما يكون الحديث منصبا حول الاستيراد، للصناعات الاستخراجية والمواد الأولية ومصادر الغذاء الخام والأساسية.. وليس لهذه الأرقام من دلالة خارج إطار أن الولايات المتحدة تريد أن تسرق شعوب العالم بالمجان دون أن تتيح لها فرصة الحصول منها على شيء ذي قيمة. فأن تستهلك أميركا نصف إنتاج الإنسانية، وألا تتيح لأحد أن يحصل منها على أكثر من تلك النسبة في التجارة الخارجية لها عبر تقوية سوقها المحلي بجعله مشبعا بنفسه مستغنيا عن غيره، هو نظام سرقة ولصوصية دولية عالي الكفاءة وغير مسبوق في تاريخ البشر.
 5 – أن تضمن توجيه معظم التدفقات النقدية الفائضة والمتحققة لللدول المصدرة للنفط – مادامت معظم الدولارات التي خرجت من السوق الأميركية ستتجه إليها كثمن للنفط المصدر إلى دول العالم المحتاجة إليه – لتستثمر في تجارة الأسهم والسندات في شبكة البورصات العالمية لإفقاد تلك الفوائض قيمتها التنموية الداخلية من جهة أولى، ولتحرمها من فرصة أن تكون عاملا من عوامل استحلاب السلع والخدمات الأميركية من السوق الأميركية من جهة ثانية، ولإبقائها من جهة ثالثة على مرمى مدفع الأزمات المالية العالمية التي تختلقها في تلك الشبكات من وقت لآخر بهدف استنزافها وتحويلها إلى بخار مال بعد أن كانت مالا حقيقيا.
 6 – أن تضمن إبقاء مناطق تدفق السلاح الفعلية على مستوى العالم مناطق ساخنة ومشتعلة على الدوام، وأن تعمل على اختلاق الأزمات في المناطق المحتملة التأزم، وعدم العمل على حل أي أزمة دولية حلا يقلص من قدرتها على إبقاء سوق السلاح سوقا حيوية ونشطة. وعلى رأس كل تلك المناطق، المنطقة المسماة “الشرق الأوسط”، وعلى رأس كل تلك الأزمات، تلك الناشئة عن الصراع العربي الإسرائيلي. لذلك ليس غريبا ولا عصيا على الفهم، أن تكون هذه المنطقة هي أكثر مناطق العالم توترا وأكثرها تخزينا للسلاح الأميركي، بل وأبعدها عن الحلول السلمية الحقيقية التي تخلق الاستقرار الدافع إلى تحقيق الأمن والسلام والتنمية لشعوبها.
 وإذن فإن سياسة تسعير النفط بالدولار منذ ذلك الاتفاق المشئوم بين طرفي معادلة العلاقات الإمبريالية في العالم، “الولايات المتحد” كقوة قاهرة، و”النظام السعودي” كطرف مفرط في التبعية والولاء لتلك العلاقات، وكقائد يتم إعداده لزعامة محفل مصدري النفط الحرام ومؤسسي الصهيونية العربية في العالم، إن هذه السياسة قد حققت أهدافها على صعيد المصالح الأميركية الداخلية والخارجية.
 فهاهي معظم دول العالم النامي قد ارتبطت بشبكات أخطبوطية مدمرة من القروض، بعد أن برمجت اقتصاداتها في مجالي الزراعة والصناعة لإنتاج سلع تصديرية ليس لها من هم سوى تلبية احتياجات السوق الأميركية بالدرجة الأولى والأهم، وليس تلبية وإشباع الحاجة الفعلية للسكان المحليين..
 وهاهي تلك الدول قد أعادت للولايات المتحدة معظم ما حصلت عليه من دولارات مقابل نزيف ثرواتها الغذائية والأولية الخام، لتحصل فقط على عتاد عسكري وأسلحة وخدمات لوجستية من أجل تأمين نفسها من أعداء افتراضيين أو غير افتراضيين ولدتهم أزمات هنا وأزمات هناك، وهي أزمات لا تخرج عن واحد من نوعين، فإما أنها أزمات مُخلَّقة تخليقا كاملا بعد الحرب الثانية باعتبارها من تداعيات تلك الحرب وما نجم عنها من حرب باردة، وإما أنها مُفعَّلة بشكل ذكي بعد أن تمت وراثتها بشكلها المنطوي على مفاعيل التأزيم، من الاستعمار التقليدي بزعامة كل من بريطانيا وفرنسا بالدرجة الأولى..
 وها هي دول التدفقات النقدية الدولارية النفطية الهائلة، “سفهاء العصر من قادة دول ومشيخات الخليج العربي بالدرجة الأولى”، تهدر كل أموالها وأرصدتها في شبكة البورصات بعيدا عن أي تنمية حقيقية وفعلية تحقق النهضة بمعانيها القومية الواسعة والتحررية الفعلية في الإقليم العربي المشرقي على الأقل..
 هكذا هي الاستراتيجية الأميركية في السيطرة على المناطق الحساسة من العالم وتوجيهها..
 من يملك الغذاء والمواد الخام يجب أن يقدمها إلى الولايات المتحدة مقابل أسلحة فتاكة وبراميل من النفط لا تحقق له حتى الحد المعقول من التنمية الفعالة..
 إذا كانت التدفقات التي يحصل عليها مالك الغذاء والمواد الخام كبيرة لسبب أو لآخر، فيجب أن يتم امتصاصها عبر التحكم في تسعير النفط وتسعير السلاح، وعبر محاصرته بالأزمات التي تدفعه إلى التسلح لتحقيق الردع ووهم الأمن والأمان..
 إذا كانت التدفقات النقدية المتأتية من تصدير الخامات والمواد الأولية مازالت كبيرة وتحمي صاحبها من اللجوء إلى الاقتراض والاستدانة رغم كلا ما سبق، فيجب أن يعاد تدوير الاحتياجات الأميركية منه، بحيث يضطر كي يحصل على تلك الدولارات إلى نسف صناعته وزراعته الإشباعيتين وتحويلهما إلى صناعة وزراعة تصديريتين إحلاليتين، ما يدفعه إلى الاقتراض لتلبية الحاجات التي دمر أصولها وجفف منابعها، فيتحقق ارتباطه بشبكة مؤسسات الإقراض الدولية..
 أما إذا كان التدفق النقدي الدولاري ناتجا عن بيع النفط كما هو الحال في دول الخليج التي لا يمكن ربطها بالقروض في العادة، نظرا لعدم حاجتها إليها بسبب حالة الفائض الدائم التي تنعم بها، فيجب أن يتم امتصاص تلك الفوائض النقدية الدولارية عبر الدفع باتجاه هدرها في كازينوهات الشيطان “البورصات وأسواق السندات”، وعبر توسبع دائرة التسلح والتسليح من خلال تفعيل الأزمات الإقليمية والحيلولة دون التوصل إلى أي حلول تسووية عادلة لها..
 وهذا ما حصل ويحصل باستمرار.
المؤامرة النفطية الأولى (1979 – 1986)..
 إن فكرة “المرونة السعرية للطلب على النفط”, تعني أن الطلب على النفط يزداد بانخفاض السعر, فيما يقل عند ارتفاعه. إن هذه الفكرة التقليدية التي تعد مبدءا أساسيا من مبادئ اقتصاد السوق كما يؤصل لها الاقتصاد السياسي للرأسمالية، عندما طُبِّقَت على النفط في مطلع عقد الثمانينيات من القرن الماضي، تسببت في تبني الدول الخليجية للسياسات النفطية المضلِّلَة التي أنجحت المؤامرة النفطية الأولى.
إنها المقولة التي استندت إليها السياسات النفطية التي كانت تخشى من أن يؤدي الارتفاع في الأسعار إلى الانخفاض في الطلب على هذه السلعة الأكثر إستراتيجية في العالم، والتي لا يمكن بحال أن تنطبق عليها كلاسيكيات الاقتصاد السياسي للرأسمالية، لتنهار سوق النفط ذلك الانهيار المروع الذي شهده العالم عام (1986) بانخفاض سعر برميل النفط إلى مستوى (6) دولارات.
إذن فقد بدأت المؤامرة النفطية بتظاهر الولايات المتحدة باستجابتها لمنطق العرض والطلب في إدارة السوق العالمية للنفط، لتحقيق غايتين أساسيتين ستتجليان لمن يتعمق في تاريخ تلك الحقبة من الزمن، عبر مرحلتين مرت بهما تلك المؤامرة، هما..
المرحلة الأولى: وتبدأ مع اتخاذ القرار بتنفيذها في نهاية عقد السبعينيات، وتستمر لغاية انهيار السوق النفطية العالمية عام 1986. وقد اتسمت هذه المرحلة باستمرار ارتفاع أسعار النفط خاصة في السوق الفورية, حيث بلغت أقصى درجاتها مع بدء الانخفاض على طلب نفط أوبيك, هذا الطلب الذي وصل أيضا في هذه الفترة إلى أدنى درجاته. وتبقى هذه المرحلة بالمنطق الرقمي التقليدي عصية على التفسير بالاستناد إلى ما نعرفه جميعا من معدلات نمو اقتصادي شهده الغرب في تلك الفترة. ما تطلب أن ننظر إليها بأسلوب جديد يفسر ما عجز الاقتصاد الكلاسيكي عن تفسيره.
المرحلة الثانية: وتبدأ من عام 1986 عام انهيار السوق النفطية, وتستمر لغاية ما قبل أزمة الخليج التي أسفرت عن حرب الخليج الثانية “حرب الكويت”. وقد اتسمت هذه المرحلة بانخفاض شديد في الأسعار وبدء الارتفاع في الطلب على النفط. وهذه السياسة مررت بالشراكة التامة من دول الخليج قاطبة وعلى رأسها الكويت والسعودية, وتضررت من جرائها كثيرا من الدول القوية في أوبيك ومنها العراق وإيران، وانعكست بالتالي بضرر فادح على كل الوطن العربي لارتباطه باقتصاديات النفط.
وما يهمنا الآن هو البحث في جوهر المؤامرة وفكرتها الأساسية, إذ لا يكفي مجرد سرد التسلسل التاريخي للأحداث لإثبات أن هناك مؤامرة. فالأحداث كأحداث هي أمر واقع, وبالتالي فإن المهم هو قراءة أبعاد المؤامرة وخيوطها من خلال الوقائع والأحداث ذاتها.
“فمع حلول عام1980 بدأ الطلب على نفط أوبيك يسجل تراجعا متزايدا سنة بعد سنة, في الوقت الذي كانت الأسعار وخصوصا أسعار السوق الفورية لا تزال تواصل ارتفاعها, عندما بلغت في عام 1983 أعلى مستوى وهو (36) دولارا للبرميل. في هذه السنة بالذات سجل انخفاض الطلب على نفط أوبيك ما مقداره (7.7) مليون برميل, وبمعدل يومي قدره (1.96) مليون برميل. كان ذلك نتيجة الفكرة التي بدأ يروج لها الغرب منذ نهاية السبعينيات عندما بدأ يثير ما يسميه بترشيد الاستهلاك في النفط.
وفي سياق محاولتنا تفسير هذه الظاهرة على ضوء حقيقة الأحداث الاقتصادية المعلنة والمعروفة التي كانت تحدث بموازاة ما يحدث في سوق النفط العالمية, فإننا سنعجز عن التفسير ما لم نأخذ عدة مسائل خارجة عن المنطق التقليدي للاقتصاد السياسي للرأسمالية بعين الاعتبار. ولعل التساؤل المثير الذي يفرض نفسه علينا في هذا السياق هو..
كيف يمكن تفسير الانخفاض الكبير على طلب نفط أوبيك ولسنوات متتابعة وبصورة تنازل مضطرد، في ظل واقع يكشف عن نمو اقتصادي غربي عامة وأميركي خاصة، يتطلب ارتفاعا في مستويات الحاجة الانفاقية للطاقة. وفي ظل واقع يؤكد على أن كل بدائل الطاقة المتوفرة في العالم آنذاك ليس من شأنها تحت أي ظرف أن تعوض الكميات الهائلة التي كانت تغذي بها أوبيك سوق النفط العالمية قبل انخفاض الطلب عليه. وفي ظل واقع يكشف لنا بدقة عن أن حجم ما كانت تقتطعه الولايات المتحدة وأوربا من وارداتهما من أوبيك لغايات التخزين الإستراتيجي بعد تأمين الحاجات الاستهلاكية الفورية لهما, لا يصل إلى مستويات كتلك التي تعكسها الانخفاضات الحاصلة على الطلب على نفط منظمة أوبيك؟
ففي ظل أرقام تكشف عن مخزون استراتيجي لا يغطي أكثر من ستة أشهر, يغدو الحديث عن الكف عن التخزين سببا لانخفاض الطلب على نفط أوبيك حديثا يثير السخرية, خاصة عندما نعلم أن الانخفاض وصل مستويات جعلت الطلب يقل من (31) مليون برميل يوميا إلى (13) مليون برميل يوميا. فهل معنى ذلك أن الغرب كان يخزن (18) مليون برميل يوميا قبل انخفاض الطلب على نفط أوبيك بتلك الصورة؟ وهل يعني ذلك أيضا أن الغرب كان يستهلك فقط (13) مليون برميل في اليوم؟
إن كل هذه التساؤلات تبقى عصية على الإجابة في ظل التحاكم إلى منظومة الأرقام والمعلومات والمفاهيم التقليدية المضلِّلَة التي أرستها أبحاث وتقارير أواخر عقد السبعينيات وأوائل عقد الثمانينيات القائمة على كلاسيكيات الاقتصاد السياسي للرأسمالية, في أذهان راسمي السياسات النفطية في أوبيك وفي الخليج. هذا يدفعنا إلى التأكيد على أن التفسير العلمي لهذه الظاهرة يتطلب أخذ الفرضيات التالية التي سنتولى إثباتها بعين الاعتبار..
الفرضية الأولى: لم يكن انخفاض الطلب على نفط أوبيك الذي وصل أقصى مدى له في منتصف عقد الثمانينيات بالقياس لأواخر عقد السبعينيات من (31) مليون برميل يوميا إلى (13) مليون برميل يوميا.. لم يكن هذا الانخفاض يعبر عن تناقص في الاستهلاك الغربي بسبب ما روج له من ترشيد الاستهلاك أو التحول إلى بدائل طاقوية أخرى, أو التخفيف من حجم التخزين, لأن كل هذه الادعاءات تعجز عن تفسير الفجوة الحاصلة, ما يجعل هذا الانخفاض على الطلب جزءا لا يتجزأ من المؤامرة النفطية التي نتحدث عنها. وهذا يتطلب أن نؤكد على ان “الفرق بين حاجة الغرب الحقيقية للنفط، وحجم استيراده من نفط أوبيك, كان يُغطي طيلة الحقبة الأولى من عقد الثمانينيات من مصادر غير معلنة وغير معروفة بكميات إنتاجها, ذلك أن المصادر المعروفة والمعلنة من خارج أوبيك لا تغطي إلا جزءا بسيطا من الفجوة المفترضة بين حاجة الغرب والنقص في صادرات أوبيك خلال تلك الحقبة.  
الفرضية الثانية: إن الغرب المستهلك للنفط بقيادة الولايات المتحدة قد اتبع بموجب مخطط مؤامرته النفطية أسلوب التدرج في تخفيف الطلب, تحت ذريعة ترشيد الاستهلاك والتحول نحو بدائل الطاقة الأخرى, لكي لا يلفت نظر الدول المنتجة, وخصوصا تلك الحريصة على مصالحها النفطية, ما قد يدفعها إلى التنبه لأبعاد المؤامرة واللجوء من ثم إلى تقليص إنتاجها، ما قد يُفْشِل المؤامرة. لهذا فقد حرص المخطط الإمبريالي النفطي على إبقاء الأسعار الفورية حتى عام 1983 في حالة ارتفاع متواصل, بل إلى مستوى يزيد عن الأسعار الرسمية المعلنة من قبل أوبيك, كل ذلك من أجل طمأنة الدول المنتجة على مستقبل مواردها النفطية التي لم تتأثر كثيرا بعد انخفاض الطلب وانخفاض صادراتها، وذلك بسبب ارتفاع الأسعار الذي يعوض النقص في الموارد الناجم عن انخفاض الصادرات، بل ويزيد مادام التناسب بين انخفاض الطلب وزيادة السعر مدروسا ومتحكما فيه بذكاء.
ولكن هل يكفي عرض هذه الفرضيات والتي هي لغاية الآن مجرد فرضيات للحديث عما نزعم أنه مؤامرة نفطية محكمة ضد أوبيك, وضد نفط العرب وثروات العرب بالدرجة الأولى؟ إن العلمية تتطلب منا أمرين اثنين هامين هما: إثبات صحة هاتين الفرضيتين من جهة أولى, وعرض السبب الذي جعل الولايات المتحدة تنتهج تلك السياسة، عبر اكتشاف الجوهر التآمري النفطي فيها من جهة ثانية.
إن إثبات صحة محتوى الفرضيتين المذكورتين يتطلب منا إنتهاج أسلوب تحليلي علمي نصل من خلاله إلى إثبات أن استهلاك الغرب من النفط خلال فترة الثمانينيات، خاصة تلك الفترة التي انخفض فيها طلبه على نفط أوبيك, كان أعلى من الأرقام المتداولة في اقتصاديات النفط التقليدية التي ضللت طويلا صانعي السياسة النفطية لأوبيك والخليج. إننا إذا استطعنا أن نثبت ذلك, فهذا يعني أن ما نقوله صحيح, ولا يبقى علينا إلا أن نبحث عما يحتويه هذا السلوك الذي يبدو للوهلة الأولى غريبا، نظرا لما يحتويه من تعارض مع مصالح الغرب النفطية من مضامين التآمر, هذه المضامين التي يتطلب إدراكها والوعي بها, اتباع نهج علمي في تحليل الظاهرة موضوعي ومتجرد ومحايد.
في سياق التأكيد على اختلاف النسب الحقيقة لاستهلاك الغرب من النفط عن النسب المعلنة, توصل بعض الخبراء في اقتصاديات النفط إلى اكتشاف الدليل على ذلك باعتمادهم على ما يسمى “معامل كفاءة الطاقة”, وهو الذي يعكس العلاقة بين معدل النمو الاقتصادي ومعدل الزيادة في استهلاك الطاقة, وهو معامل يتحدد وفق معايير رقمية علمية مجردة.
استطاع هؤلاء الخبراء أن يثبتوا أن النمو في الناتج القومي للبلدان الصناعية بنسبة 1% سنويا, يؤدي إلى زيادة استهلاك الطاقة بنسبة (8.5%)، وبالتالي وبالاستناد إلى معدلات النمو التي شهدتها الدول الصناعية الكبرى في الأعوام (83,82,81,80)، فإن الطلب الحقيقي على نفط أوبيك كان يجب أن يكون أكبر مما كان عليه فعلا, وفق الأرقام التالية:
    السنة                   الطلب الفعلي (أرقام أوبيك)                 الطلب الحقيقي (المفترض على نفط أوبيك)
  1980              22,84 (م.ب.ي)                     27,23 (م.ب.ي)
  1981              18,42 (م.ب.ب)                     25,98 (م.ب.ي)
  1982              14,20 (م.ب.ي)                     23,82 (م.ب.ي)
  1983              12,23 (م.ب.ي)                     23,49 (م.ب.ي)..
(الجدول تم نقله عن جريدة القادسية العراقية، العدد الصادر بتاريخ 30 – 09 – 1990، ص 4، من مقال بعنوان: النفط وخيارات الحرب والسلام، بقلم د. همام الشماع). “م.ب.ي: مليون برميل يوميا”.
    من الواضح أن الانخفاض على الطلب الحقيقي من نفط أوبيك عبر المدة المذكورة يكشف عن أن الغرب استطاع تحقيق استغناءٍ عن نفط أوبيك بكمية تقارب (4) ملايين برميل يوميا فقط مع حلول عام (1983)، هي الفارق بين الطلب المفترض على نفط أوبيك بين العامين (1980 و1983).
ولكن الغرب في الواقع لم يخفض من طلبه على نفط أوبيك بكمية (4) ملايين برميل يوميا فقط، إذ نلاحظ أنه في الوقت الذي كان بحاجة إلى أكثر من (23) مليون برميل يوميا من نفط أوبيك عام (1983), فإنه اكتفى باستيراد كمية تزيد قليلا عن (12) مليون برميل يوميا فقط, وهو ما يقارب نصف حاجته الحقيقة من نفط أوبيك. أي أنه سيضطر إلى البحث عن مصادر بديلة لنفط أوبيك للتزود بكمية من النفط مقدارها يزيد عن (11) مليون برميل يوميا.
فمن أين كان يعوض هذا الفارق؟ وكيف كان يعوضه؟ ولماذا أراد أن يعوضه بذلك الشكل المريب، رغم ما في هذا السلوك من غرابة تبقى عصية على الفهم، ما لم نعط لأنفسنا حق البحث في خبايا التفكير الإستراتيجي للإمبريالية الأميركية وهي تحاول ضمان هيمنتها أطول مدة ممكنة على نفط الخليج تحديدا، لضمان هيمنتها على اقتصاديات العالم، بعد أن أثبتت أحداث عام (1973) أن بالإمكان أن يظهر زعيم عربي مجنون يقامر بحياته وبمصيره، وتغمره النخوة العروبية فجأة، فيستخدم سلاح النفط بكفاءة عالية مهددا الأمن والاستقرار في المدنية الغربية برمتها.
    إن ما يؤكد لنا صحة هذا التحليل المستند إلى أرقام الجدول السابق، أن هذه النتائج تطابقت إلى حد بعيد مع أرقام تم التنبؤ بها مع مطلع السبعينيات من طرف جهات مختصة وذات علاقة بالموضوع في الولايات المتحدة. فقد قدرت المخابرات المركزية استهلاك النفط في الدول الغربية في عام 1988 بما يتراوح ما بين 47 و51 مليون برميل يوميا, بينما قدرت دائرة الأبحاث في الكونغرس الأمريكي حجم الاستهلاك بمقدار (42) مليون برميل يوميا في عام 1985. (من نفس المرجع السابق).
    وعندما يتم خصم الكميات المستهلكة والمعلنة في الدول الغربية نفسها والتي تم الحصول عليها من خارج أوبيك خلال الفترة (80-83) سنكتشف أنه يتعين على الغرب أن يستورد من منظمة أوبيك أرقاما قريبة جدا من الأرقام التي توقعها الخبراء الذين أشرنا إليهم, ما يبقي على التساؤل المثير قائما، ألا وهو: كيف سُدَّت الفجوة؟ ولماذا خُلِقَت أساسا؟
إن الجواب الحتمي على التساؤل الأول هو: “إن الولايات المتحدة ومن ورائها العالم الغربي كله كانوا طيلة حقبة المؤامرة من عقد الثمانينيات يستهلكون من النفط أكثر بكثير مما يعلنون, وأنهم كان يسدون الفرق بين استهلاكهم الحقيقي والمعلن “الكاذب” من مصادر غير معروفة بحجم إنتاجها، وإن كانت معروفة بأماكنها وهي بشكل خاص ألآسكا. (عن نفس المرجع السابق).
    أما الإجابة على التساؤل الثاني فإنها تتطلب الإشارة إلى جوهر التفكير الإستراتيجي النفطي للمنظومة الامبريالية الأميركية, فكيف كانت تفكر الولايات المتحدة بهذا الخصوص؟
    إن النقاط الأساسية التي تحكم كل سياسات اقتصاد النفط في العقل الإمبريالي الأميركي تتمحور حول ما يلي..
1 – الاحتياطي النفطي, وتاريخ نضوبه بالقياس لحقيقة الحاجة إلى النفط لاستمرار هيمنة الاقتصاد الرأسمالي الأميركي على العالم عبر سيطرته على النفط ومنابعه الكبرى “حقول وآبار النفط العربي”.
2 – تحقيق أعلى فائدة ممكنة من سياسة تسعير النفط بالدولار في السوق العالمية على صعيد ربط العالم بشبكة العلاقات الاقتصادية الأميركية التي تتحكم في مفاصل الاقتصاد العالمي الرئيسية والتي هي.. “مؤسسات الإقراض الدولية”، و”شبكة البورصات العالمية”، و”كارتل السلاح الأميركي”، الذي كان يطلق عليه في الأدبيات الماركسية والشيوعية إبان الحرب الباردة “المجمع الحربي أو العسكري الأميركي”.
3 – إعادة تدوير العملة الدولارية المنتشرة في العالم لتفقد قيمتها الشرائية والسوقية الحقيقية لدى مالكيها على صعيد التنمية الاقتصادية وتلبية الحاجات الأساسية للسكان، بإعادة ضخها إلى السوق الأميركية عبر سوق السلاح أولا، وسوق الثقافة الأميركية ثانيا، وسوق المنتجات الصناعية الترفيهية عالية التقنية ثالثا، وفق أنظمة تسعير مغالية تفقد تلك الأموال قيمتها التداولية العادلة.
4 – تأمين أكبر قدر ممكن ومتاح من المدخرات والفوائض المالية الدولارية لدى سفاء النفط العرب “الصهاينة العرب”، لتمويل الحروب الأميركية المخطط لها في منطة الشرق الأوسط. 
ففي ظل عدم ظهور معالم مواردية وتكنولوجية تتيح استبدال النفط كمصدر للطاقة العالمية وكمدخل رئيسي من مدخلات الصناعة المعاصرة استبدالا كاملا، إثر نضوب احتياطاته في الغرب ومعظم أماكن تواجده في العالم. وفي ظل قصور كل البدائل الطاقوية المعروفة والمطروحة، عن تعويض أي شيء يذكر مما يغطيه النفط بوصفه مصدرا للطاقة, يغدو نضوب النفط من أكثر الهواجس إثارة لقلق من يقع في دائرة إمكانية نضوب موارد النفطية, خاصة إذا كان هذا النضوب سيحدث على المدى القريب أو المتوسط.
وفي ظل تفهُّم الذهنية الإستراتيجية الأميركية لمتطلبات التجاوب مع المتغيرات الحاصلة في الإقليم، والتي بدأت بسقوط نظام الشاه وانتصار الثورة الشعبية الايرانية بقيادة رجال الدين المسلمين، وبعد النجاح التاريخي في تحييد مصر من الصراع العربي الإسرائيلي بكل دلالات ذلك على صعيد آفاق التفرغ للجبهة الشرقية والشمالية تفرغا كاملا.. نقول.. في ظل كل ذلك، فقد غدا البدء بتجهيز الساحة المشرقية من الوطن العربي للقضاء على التواجد الثوري الفلسطيني في الشمال، ولتشتيت نهضتي أمتين هما الأمة الإيرانية والأمة العربية عبر الحالة العراقية في الشرق، مطلبا ملحا يجب أن تُجَهَّز له كافة المدخرات المالية المطلوبة التي لا يجوز أن يدفعها أحد سوى العرب من ثمن نفطهم وبأموال ليست لها دلالات قيمية تُحَمِّل الاقتصاد الأميركي أي أعباء.
لقد شكلت هذه النقاط عامة وعلى رأسها النقطة الرابعة، المحرك الأساسي لسياسة الولايات المتحدة إزاء سوق النفط العالمية. وكلنا يعرف أنه مع بدء الحقبة الريغانية في السياسة الأميركية بدئَ بتنفيذ تلك المخططات التي بقيت لسنوات طويلة حبيسة أدراج الخبراء والساسة وصناع الإستراتيجية الأميركية..
 حرب عراقية إيرانية تمول بالمال العربي، ثم حرب عالمية ضد العراق تمول بالمال العربي، وبموازاتهما كانت تدور حرب أخرى في أرض إسلامية هي أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي تمول أيضا بالمال العربي. فلنقرأ الإستراتيجية الأميركية إذن من خلال هذه الحروب الكبرى التي كان من الضروري أن تعد لها كل الأموال اللازمة من ثمن مبيعات النفط العربي الذي يدير خدماته المقدمة للإمبريالية العالمية، صهاينة العرب من سفهاء هذا العصر.
قراءة تفصيلية في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة العربية..
إن الإستراتيجية الإمبريالية لِلَّعب السياسي والاقتصادي والعسكري في الساحة العربية الشرق أوسطية، تقوم في كل مرحلة من مراحل الصراع العربي الإمبريالي على تحديدِ هدفٍ مستقبليٍّ تدميريٍّ دمويٍّ كبيرٍ يرتكز في صيرورته ويرمي في مُحَصِّلَته إلى مجموعة العناصر نفسِها، والتي يُمكننا حصرها فيما يلي..
 1 – إحكام السيطرة على العُقَد المفصلية في القرار النفطي العربي للإبقاء على سوق النفط سوقا للمستهلكين وليس للمنتجين، تحت وصاية الولايات المتحدة وإشرافها وحمايتها، مادامت السيطرة عليه تمثل مفتاح التَّحَكُّم في مفاصل الحراك السياسي الدولي والإقليمي.
 2 – إعداد الساحة الدولية، والساحة العربية الخليجية باعتبارها المخزن الأساسي للنفط، فضلا عن الساحتين الشعبيتين الأميركية والأوربية، وبكل الوسائل المتاحة، إعلامية كانت أو قانونية أو دبلوماسية أو عسكرية إذا تطلب الأمر، لمرحلةٍ قادمةٍ تكون معالمها قد رُسِمَت في مراكز اتخاذ القرار الإمبريالي. وهي المعالم التي ستتمثل في إحداث تغييرات سياسية جذرية في الإقليم، تكون قد سببتها مفاعيل الحراك والصيرورة فيه، على خلفية التأثيرات والتداعيات المستمرة والمتواصلة والتي لا تنتهي، لكلٍّ من الحالة الاستعمارية “إسرائيل”، والحالة الإمبريالية “أنظمة التجزئة”، بشكلٍ يساعد على إبقاء السيطرة محكمةً على منابع النفط العربية في الخليج، ويحول دون التغيير في مفاتيح هذه المعادلة الإمبريالية، إذا بدا أن تلك التداعيات والتأثيرات تعمل في عكس الاتجاه المحافظ على معادلة رأس المال العالمي في المنطقة.
 3 – إعداد الساحة العربية الخليجية اقتصادياً وجيوسياسياً لمرحلة ما بعد التغيير السياسي الإقليمي الجذري المرتقب، وذلك بشكل يجعل هذه الساحة مؤهلةً لدعم وتمويل حربٍ قادمة إذا تطلب الأمر، بصرف النظر عن شكلها ودوافعها المحتملة وتوقيتها ونتائجها المتوخاة شكلا ومضمونا.
 إن هذه المنظومة من الأهداف الإستراتيجية كي تتحقق وفق الأجندة الأميركية المرحلية، يجب أن يكون الواقع العربي الخليجي وواقع الرأيين العامين الأوربي والأميركي، مُصاغَيْن على النحو التالي..
 1- رأي عام أوروبي وأميركي معبأين تعبئةً شاملة ضد منتجي النفط العرب، وضد العرب بالتالي، عبر جعل الشعوب الأوربية والشعب الأميركي، يتَّخِذون منهم المواقف العدائية وهم يرونهم يستفيدون استفادة غير منطقية وغير مبررة من إيرادات نفطٍ خيالية تتيحها مستويات أسعاره المرتفعة جدا في السوق الفورية بالدرجة الأولى، متحكِّمين بذلك تحَكُّماً خطيراً – بحسب ما يرونه ظاهراً أمامهم – في أهم عناصر حياة ووجود الإنسان الأوربي والأميركي. وعبر جعلهم يحسون بأن هذه الدول التي لا تمت إلى حضارة الرجل الأبيض بأي صلة، والتي لا علاقة لها بالديمقراطية وبحقوق الإنسان لا من قريب ولا من بعيد، تحتكر من حيث لا تستحق موردا حيويا، يُعَدُّ ثروة تقوم عليها الحضارة البشرية التي يتزعمها العالم الحر بقيادة الرجل الأوربي والأميركي الأبيضين.
 كُلُّ ذلك تمهيدا لتجذير وتكريسِ فكرةٍ إستراتيجيةٍ ما فَتِئَ العقل الإمبريالي يعمل على تثبيتها في العقل العام الأوربي والأميركي، وهي امتلاك الغرب بزعامة الولايات المتحدة حقَّ التدخل عسكريا في تلك المنطقة الحساسة من العالم عند اللزومِ. واللزوم هنا إنما يتمثل في حدوثِ تهديدٍ لمستقبل التَّدَفُّقات النفطية إلى الغرب، وفي ارتفاع أسعار النفط بشكلٍ يسيء إلى كل دول العالم وشعوبها ويرهق كاهلها.
حتى وإن كان هذا التَّدَخُّل على شكلٍ شبيهٍ بالاحتلال التقليدي، مادام مصير الغرب وحياته وطاقته وصناعته ورفاهيته، هي كلُّها في أيدي هؤلاء الذين يجلسون على النفط في تلك الصحاري القاحلة ولا يملكونه كما وصفهم وزير الخزانة الأميركي عام 1974 “وليم سايمون”. وبالتالي فيجب الا تُعارضَ لا أميركيا ولا أوربيا أي سياسة تحرص على عدم السماح لهؤلاء بالتحكم في هذا المصير وفي هذه الرفاهية.
 إن جانبا هاما من جوانب السماح لنظام التسعير النفطي بالوصول بهذه السلعة إلى أسعارٍ مرتفعةٍ بشكل خيالي، كما حصل في العامين الماضيين، وكما قد يحصل في أي وقت في المستقبل، هو إعداد الرأي العام الأوربي والأميركي، وربما العالمي أحيانا، ليصبح مهيئا لتَقَبُّل فكرة أنْ تُداَفِعَ الإدارات الأميركية بالقوة عن منابع النفط، لتتحكم في مصيره وفي أسعاره وفي تدفقه غير المكلف إلى بلدانهم، إذا تطلب الأمر ذلك، أو إذا وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى استخدام تلك القوة بشكل أو بآخر لتحقيق هذه الغاية الدفاعية والحمائية، ضمانا للحياة وللمستقبل من أن يكونا عُرْضَةً لنزوات أولئك الذين دَبَّت كراهيتهم في العقل الأوربي والأميركي بل وحتى العالمي.
 2 – إتاحة مخزون هائل من مداخيل الثروة النفطية للعرب الخليجيين مُدَّخرة في الغرب عموما وفي الولايات المتحدة خصوصا، بناء على السياسية التنموية الرعناء التي سيطرت على العقل العربي الخليجي والقائمة على تخزين فوائض الثروة النفطية في بيوتات المال واستثمارها في البورصات وأسواق السندات الغربية عموما والأميركية منها خصوصا، وذلك بالاستناد إلى النظريات التي روجت لها مراكز الدراسات الاستشرافية للمستقبل كما أوضحنا ذلك في بداية هذه الدراسة. كي يكون هذا المخزون بمثابة الرافعة التي سيتم بواسطتها دعم الطرف المطلوب دعمه، وتمويل الطرف المطلوب تمويله في الحرب القادمة عندما تتقرر.
ولن  يتاح هذا المخزون من الثروة لتلك الدول إلا عبر مداخيل من أسعارٍ مرتفعة للنفط المُصَدَّرِ إلى الغرب والشرق وباقي دول العالم. فمادامت هذه المداخيل التي لن يدفعها الأميركيون بالمعنى الحقيقي للدفع، ستعود لتضخ في الاقتصاد الأميركي في نهاية المطاف، على شكل أثمان أسلحة ونفقات حروب تصب في الخندق الأميركي، وعلى شكل بخار مال تُسَبِّبُه حرائق البورصات المتعمَّدَة بين الحين والآخر. فليست هناك في الواقع أي أضرار حقيقية تُذْكَر لواقعةِ أنها مداخيل جاء جزءٌ ضئيل منها في المحصلة من ثروةٍ قومية أميركية وغربية رُحِّلَت مؤقتا من وطنها الأم، لتحل في خزائن دولٍ انساقت وراء كل السياسات الرَّعْناء لتحقق للأميركيين كلَّ أهدافهم!!
 إن الإدارات الأميركية التي تعرف كيف تُوَجِّه السياسةَ بمفاتيح الاقتصاد، تعي جيدا أنها لا تستطيع الظهور أمام شعبها بوصفها مُمَوِّلا مباشرا من مال دافع الضرائب الأميركي لحربٍ قذرةٍ تطحن الأخضر واليابس، وتقتل الملايين من أجل حفنةِ تراب يقتتل عليها من هم في نظر الشعب الأميركي مجموعة من القتلة والإرهابيين والحكام الدكتاتوريين الذين ليس من هو أبعد منهم عن المحاربة من أجل الحضارة الإنسانية ومن أجل الإنسان وحقوقه في الشرق الأوسط، ناهيك عن حقوقه في العالم، حتى لو كانت سوف تسترد بشكلٍ أو بآخر ما سوف تدفعه في هذه الحرب، إلا إذا استطاعت أن تقنع الشعب الأميركي نفسه بأن مثل هذه الحرب تعتبر حربا تدافع عن أمنه القومي المباشر، كما حصل في احتلالها للعراق ولأفغانستان قبله.
فكان لزاما والحال كذلك أن يُمَوِّل هذه الحرب الضرورية أميركيا، والتي لا مفر منها في أجندة السياسة الإمبريالية، آخرون. ولا آخرين في هذا السياق تنطبق عليهم المواصفات المطلوبة لحروب من هذا النوع القذر سوى الحكام العرب الخليجيون بالدرجة الأولى، بوصفهم آخر نوع من البشر يستشيرون شعوبهم في طريقة إنفاق المال العام والثروة القومية، لأنهم يعتبرونها ثروات تملكها ملكية خاصة العائلات والمشيخات الحاكمة!! لذلك فقد كان من الطبيعي أن يمتلكوا من المخزون النقدي ومن الثروات المتراكمة من البترودولار ما يستطيع القيام بالمهمة نيابة عن الولايات المتحدة، وعن الإمبريالية والصهيونية العالميتين عموما.
وكأن المعادلة صيغت ببساطةِ العرضِ التالي..
 الولايات المتحدة تريد إشعال حرب في الإقليم لأسبابٍ إستراتيجيةٍ تطلبتها المصالح الإمبريالية في سياقِ الصراع العربي الإمبريالي. وهي لا تستطيع الظهور بمظهر المُمَوِّل المباشر لها، في حين أنها ستكلف أموالا طائلة بناءً على شكلها المُتَصَوِّر والمفترض، لا يستطيع أحد غير أصحاب العمائم الخليجية دفعها نيابة عن واشنطون. فكان لزاما أن يتوفر لهم ضمن سياقٍ منطقي وطبيعي مخزونٌ من الثروة قادر على تلبية متطلبات المهمة، وإلاَّ فإن الحرب لن تنشب بالشكل وفي التوقيت وللأهداف المطلوبة.
الدول الخليجية أيضا كان عليها ضمن الخطة الأميركية أن تتسلح بأسلحةٍ من النوع الثقيل جدا لاعتبارات أُقْنِعوا بها، لها علاقة بتهديداتٍ لأمنهم القومي من جانب الدول القوية الناشئة والطموحة في المنطقة الخليجية، والتي ليست من بينها “إسرائيل” بطبيعة الحال، مادامت قد انحصرت في العراق سابقا، وفي إيران حاليا ومستقبلا. فكان لابد أن يمتلكوا المال اللازم لشراء هذه الأسلحة. وإلا فإن تسويق السلاح الأميركي ونشره وفق خطط سياسة التسليح الأميركية للمنطقة لن يتحقق.
  هذا المال وذاك، لن يتوفرا لدول الخليج إلاَّ عبر المداخيل الفائضة عن الحاجة التنموية والإنفاقية المعتادة والمتأتية من مبيعات نفطٍ بأسعارٍ تُصَنَّف على أنها عالية ومرتفعة بالمقاييس العالمية المتعارف عليها. وإذن فلترتفع أسعار النفط بالقدر الذي يحقق للسياسة الأميركية هذه الحزمة من الأهداف الإستراتيجية في المنطقة، مع إبقاء الباب مفتوحا على مصاريعه لامتصاص المنافع الخليجية المحتملة من هكذا مداخيل فائضة، إذا كانت تكلفة الحروب التي ستنشب، أو إذا كانت أثمان الأسلحة التي ستُسَوَّق، أقل من أن تَمتصَّ مُجمل الأموال التي دُفِعَت لهم ثمنا لنفطهم الذي رُفعت أسعاره بذكاءٍ مدروس. وهذا الباب المفتوح، هو البورصات الأميركية والغربية، التي ظهر في العقود الأخيرة أن أزماتِها المدمِّرَة تُفْتَعَل فقط كي تمتص وتُبَخِّرَ الأموال العربية الخليجية الموجودة فيها على شكل أسهمٍ وسنداتٍ واستثمارات من النوع الخفيف القابل للتَّبَخُّر بسهولةٍ كتَبَخُّر البنزين.
 وعندما نَفْهَم عناصر ومُكَوِّنات الإستراتيجية الأميركية في إدارة اقتصاديات النفط، نستطيع أن نكتشف مُكَوِّنا جوهريا في تلك الإستراتيجية يُرْهِصُ ظهوره بشكل الخريطة الإقليمية التي تُخَطِّط لرسمها الإدارات الأميركية التي ستتعاقب على البيت الأبيض خلال عقد أو عقدين من الزمن قادمين، خاصة إذا كانت إداراتٍ جمهوريةً. ولأننا لا نستطيع قبول فكرة أن ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمي هو أمر منفصلٌ عن السياسة، وخاضع لمعايير العرض والطلب فقط، نظرا لخروج النفط بالذات بوصفه أكثر السلع إستراتيجية في العالم، عن الخضوع لمثل هذه المعايير، فقد كان من المنطقي في عُرْفِنا ألاَّ يُفْهَمَ ارتفاع الأسعار بالشكل الذي من شأنه أن يُراكمَ ثرواتٍ مهولةً من مداخليه الفائضة في الجانب العربي الخليجي، وألاَّ تُفْهَمَ صفقات السلاح الضخمة التي راحت تتمحور في الآونة الأخيرة حول مبالغ تقارب الـ “70” مليار دولار لصفقة سعودية أميركية واحدة فقط، لحقتها صفقات أوربية أخرى من مستوى هذه الصفقة، إلاَّ باعتبارها كما حدث في مطلع عقد الثمانينيات، مقدماتٍ طبيعية تُمَهِّد الطريق الاقتصادي والعسكري الإقليمي، لاحتضان حربٍ أو صراع أو حروب أو صراعات مدمرة قادمة يتم التخطيط لها، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تكون هي الطرف المباشر الذي يخوضها، وإن استطاعت فإنها لا تريد منها أن تنعكس على رفاهية المواطن الأميركي ومستوى معيشته إلا إيجابيا، كي لا يتعود هذا المواطن على النظر إلى الحروب التي تخوضها إداراته بلا توقف باعتبارها عبئا عليه، فيستمر في تأييده لها ودفاعه عنها وتبنيه لها، إلا إذا حالت بينه وبين هذه المواقف، اعتبارات أخلاقية وأيديولوجية، وما أقلها في التأثير على المكونات الذهنية للشعب الأميركي في ظل هيمنة ثقافة “الكاوبوي” على كل مؤسسات تنشئته الاجتماعية. هذا الأمر هو ما جعل تلك الإدارات الأميركية تبدأ في إعداد العُدَّة لترتيب أوراقها بالشكل المناسب لتركيبة المنطقة ولبُنْيَة الرأيين العامين الأوربي والأميركي.
 وربما يكون ما يتم التخطيط له بهذا القدر من مُراكمة الأسلحة، وبهذا القدر من مُراكمة الفوائض النفطية الخليجية في الغرب، وبهذا القدر من تأجيج المشاعر العدائية بين الفصائل المذهبية الإسلامية الكبرى عبر تداعيات الحالة العراقية الناجمة عن الغزو الأميركي، مقدمةً لاحتلالٍ من نوعٍ غير مُتَصَوَّرِ التفاصيل ولا واضح الأبعاد الآن، في ضوء معادلات يتم إعداد المنطقة لإدخالها في أتونها.
فكما أن احتلال منابع النفط وزج العراق في حربين مدمرتين، هي مسائل لم تكن واضحة في رؤية معظم المراقبين السياسيين في منتصف عقد السبعينيات، بالقدر الكافي من التفاصيل لتشكيل تصور إستراتيجي حوله، عندما كان كل ذلك مجرد مشاريع وخطط في أدراج الساسة الأميركيين. وكما أن أحداً لم يكن ليفهم الأبعاد الحقيقية للعبة الارتفاع في أسعار النفط خلال عقد السبعينيات ومطلع عقد الثمانينيات بالشكل الذي يكشف له عن مؤامرة تُحاك لإدخال المنطقة فيما تُمثل حالتها الراهنة ثمرة حقيقية له. فإن أحدا أيضا قد لا يستطيع تصور تفاصيل المرحلة القادمة بالشكل الكامل.
 إن جميع المراقبين الأذكياء يستطيعون فهم..
– أن الحالة الإيرانية مُتَمَثِّلَةً في الملف النووي، وفي تداعيات التداخل مع الحالة العراقية ومع الحالتين الفلسطينية واللبنانية، في ضوء القراءة التاريخية المتأنية والموضوعية والمعمقة لجذور الصراع الفارسي – العربي، المتدثر بالعباءة المذهبية السنية – الشيعية، عبر أكثر من ثلاثة عشر قرنا من عمر الحضارة الإسلامية..
– وأن الحالة العراقية متمثلة في تطور واستفحال وامتداد المقاومة، وفي الانسحاب الجزئي للقوات الأميركية، وفيما آلت إليه التجربة السياسية في عراق ما بعد الغزو والاحتلال، وفي تداعيات التداخل مع الحالة الإيرانية، وفي آفاقٍ مؤكدةٍ للتداخل مع الحالات الفلسطينية واللبنانية والسورية ضمن ظروف معينة..
– وأن الحالة السورية في ذاتها أولا، وفي بعدها التداخلي مع الحالتين اللبنانية والفلسطينية بمستويات التوتر الراهن فيهما ثانيا، وفي علاقاتها بالحالة الإيرانية ثالثا، وفي آفاق تداخلها المحتملة مع الحالة العراقية رابعا..
– وأن الحالة الباكستانية التي كشفت ظروفها الداخلية والخارجية عن دولة إسلامية نووية، أظهر شعبُها كاملا ومن غير استثناء فئةٍ منه، أنه أكثر الشعوب المسلمة تفاعلا مع قضايا أمته في أي مكانٍ كانت، وخاصة مع الحالة الأفغانية التي كانت مُدَشِّنَةً للهجمة الأميركية الراهنة ضد الأمتين العربية والإسلامية..
– وأن الحالة التركية التي يخوض من خلالها الشعب التركي المسلم حربا من نوعٍ خفي وشرسٍ بين الشد باتجاه “التَّأوْرُبِ” الكامل، والشد باتجاه نصف التَّأَوْرُب ونصف التَّأَسْلُم، من حيث الهوية، وبين الحفاظ على الوحدة الإقليمية والمعاناة من مخاطر التقسيم والتجَزُّؤ بسبب تداعيات الحالة الكردية التي راحت تجد متنفساتٍ خطيرةً لها من خلال الحماية والدعم الأميركيين في الساحة العراقية..
– وأن بدءَ ظهورِ معالمِ فلسفةِ مقاومةٍ للإمبريالية من خارج نطاق المؤسسة العربية الرسمية، وبالاستناد إلى الجماهير العربية..
.. نقول.. إن الأذكياء من المراقبين يفهمون جيدا أن كل تلك الحالات هي بلا شك عناصر أساسية – بشكل أو بآخر – في خطة اللعب القادمة، التي تبدو السياسة الأميركية على مستوى الإقليم والعالم تقدمة لها، بعد أن تمحورت تلك السياسة حول العناصر التالية..
 – السماح لأسعار النفط بتجاوز سقف المائة دولار للبرميل، بل ووصولها إلى سقف المائة والخمسين دولارا تقريبا.
 – التسليح المرعب لدول الخليج، بدءا بالصفقة الأميركية – السعودية التي تعد الأضخم في التاريخ العسكري قاطبة، وما تبعها من صفقات أوربية – سعودية، مثل صفقة اليمامة، التي تخلى الإنجليز لأجلها عن تقاليدهم العريقة في عدم رعاية الفاسدين والمرتشين أو التستر عليهم، كي يحافظوا على ما أحاط بها من أسرار وملابسات فضائحية المضمون.
 – تفعيل الملف الإيراني في المحافل الدولية، لإيصاله إلى نقطة التصادم التي يراد لها أن تكون مقدمة لصفقة تقاسم نفوذ إستراتيجي، يتنازل فيها كل طرف (الأميركي والإيراني) للآخر عن بعض امتيازاته لتحقيق الإستراتيجية الاختراقية الجديدة للمشرق العربي (وتحديدا الهلال الخصيب منه). مع التأكيد على أن هذا الجانب من ملف الخرائط المقبلة للصراع في الإقليم، هو الأكثر حساسية، نظرا لأنه غير مضمون بالشكل الذي يخطط له الأميركيون، إذا ما هيمنت على إيران قيادات سياسية من النوع القادر على تلجيم الطموح القومي التاريخي للدولة، والاندماج في مبدأ التفاعل مع قضايا الجماهير العربية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من قضايا الأمة الإيرانية من وجهة نظر معينة لمفهوم الانتماء الإسلامي والشراكة الدينية الواحدة رغم اتساع هوة الخلافات المذهبية.
  –  التأسيس لثقافة طائفية غير معهودة ولا مسبوقة، بل ومرفوضة في الوطن العربي، على قواعد مذهبية سنية – شيعية، برعاية المدرسة الوهابية بشقيها المذهبي والسياسي، لأجل تأجيج صراع طائفي سني – شيعي في الساحة العراقية من جهة، واعتماده مرجعية سياسية لتبرير ما يحدث من مفاعيل وطنية في لبنان من جهة أخرى، كما أكدت على ذلك أحداث بيروت الغربية في مطلع شهر أيار / مايو 2008، وسيطرة حزب الله عليها في سياقاتٍ ليست لها أي دلالات مذهبية وطائفية، رغم حرص الموالين للسياسة الأميركية – السعودية – المصرية في لبنان على تصوير ما حدث بوصفه خطرا يهدد السنة من طموحات الشيعة المدعومة إيرانيا، لتحقيق أجندات مذهبية وطائفية.
  كل ذلك كتقدمة لتوسيع دائرة الشرخ الطائفي والمذهبي ليطال الساحة العربية المشرقية، التي راحت تُعَد شعبيا وثقافيا وسياسيا وعسكريا لتكون حاضنة لحرب عربية إيرانية مدمرة قادمة، تُغَيِّب مفاعيل الصراع العربي الإسرائيلي، وتُدخل القضية الفلسطينية في متاهاتٍ وأنفاقٍ لن تظهر لها نهايات في المدى المنظور، تحت عنوان حماية العرب من الفرس، والسنة من الشيعة. ما يسهم ليس فقط في تكريس ومفاقمة الشروخ المذهبية والطائفية في المنطقة لأجيال قادمة، ولا في تخفيف عبء الصدام والمواجهة عن إسرائيل والولايات المتحدة اللتين بدأتا تئنان تحت وقع تطور الفكر المقاوم وثقافة المواجهة في كل من العراق وفلسطين ولبنان، بل ما سيسهم في تدمير وإنهاك العرب والإيرانيين، وفي إضاعة عقود من عمرهم القادم في لملمة الجراح وإعادة البناء، وفي تلميع الأنظمة الرغالية التي ستظهر بمظهر الأنظمة الحامية للعرب السنة من الهجمة الفارسية الصفوية، التي ييدو أن الطموحات القومية الإيرانية، فضلا عن السياسة الإيرانية المشبوهة وغير البريئة في العراق، راحت تساعد بكل يسر وسهولة على تأكيدها لدى شرائح غير قليلة من العرب والسنة عموما، مقدمة لرغاليي الخليج وسفهائه وإلى صهاينة العرب عموما، وعلى رأسهم حكام السعودية، كل الأوراق الرابحة لتأكيد ادعاءاتهم بخطرٍ إيراني قادم.
استحضار الإستراتيجية الأميركية ما بعد حرب أكتوبر..
 نستطيع في هذا المقام أن نضيف إلى ما ذكرناه من تفاصيل لشرح وتوضيح الإستراتيجية الأميركية النفطية في المنطقة المشرقية من الوطن العربي، ما مارسته الولايات المتحدة بعد حرب أكتوبر، وتحديدا بعد حسم وترتيب شؤون الصراع العربي الإسرائيلي على الجبهة المصرية، من تصفيةٍ للحسابات مع من أمكن تصفية الحسابات معهم من عناصر القوة المنتشرة في الساحة العربية المشرقية. أليس غريبا في ضوء ذلك أن نلاحظ أن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، أُتْبِعَت على الفور بالبدء بتنفيذ بنود المخطط الأميركي الذي فُرِضَت عليه بعض التعديلات بعد أن دخل العنصر الإيراني الجديد على خط المشاريع الطموحة في المنطقة إثر سقوط نظام الشاه، ما تطلب أن يُؤْخَذ في الاعتبار ضمن المخطط الأميركي للمنطقة؟!
 فالمؤامرة النفطية الأولى بُدِئَ بتنفيذها بعد ظهور الإرهاصات الأولى لتوقيع إتفاقية سلام بين الإسرائيليين والمصريين. أي أن الأميركيين لم تتأكد لديهم ولا حُسِمَت في مخططاتهم فكرة إعداد دول الخليج ماليا وعسكريا وتنمويا بالشكل المناسب للتعامل مع حربٍ قادمةٍ في الإقليم، ومع تغيير إستراتيجي تُجَهَّز له المنطقة، إلا بعد أن تم تحييد مصر تحييدا تاما في أي حربٍ أو تغيير إستراتيجي قادمين. لأن مثل هذه الحرب ومثل هذا التغيير ما كان لهما أن ينتقلا من مجرد كونهما أملا يراود واشنطون، إلى كونهما ملفا قابلا للتنفيذ، إلاَّ بعد أن تم ضمان أن مصر بكل ثقلها العربي والإسلامي والعالم ثالثي، قد أصبحت خارج اللعبة بالكامل.
لا بل، وبعد أن تم ضمان أنها قد أصبحت جزءا من مُكَوِّنات الخندق الإمبريالي في اللعبة، عبر سياسة الانفتاح، وعبر عملية التَّشْويه الاقتصادي والثقافي التي بدأ يمارسها النظام المصري الجديد بِحُزَمِهِ الثقافية الموبوءةِ بِأَمْرَكَةِ العصرِ في مصر، والتي بدأ يُصَدِّرُها إلى كامل الوطن العربي بعد ذلك. كما أن إسرائيل لم تبادر إلى العمل على تصفية الوجود الفلسطيني في لبنان عام 1982، إلا بعد أن تم تحييد الجانب المصري من الصراع العربي الإسرائيلي تحييدا تاما وكاملا.
 وحيث أننا قد وصلنا إلى الحديث عن تحييد مصر في الصراع العربي الإمبريالي، بوصفه مَثَّل حداًّ فاصلا بين مرحلتين متباينتين كلَّ التباين في تاريخ هذا الصراع وفي صيرورته، فقد أصبح لزاما علينا أن نوضحَ أبعاداً أخرى من تلك التي حكمت المسار التاريخي الذي اختطه هذا الصراع منذ ذلك التاريخ. وفي هذا السياق فإننا نودُّ الإشارة إلى نقطتين رئيسيتين وهامتين تَبَدَّتاَ عبر هذا التاريخ بوصفهما مُكَوِّنات ومداخل لا غنى عنها لفهم مفاعيل الحراك السياسي والمجتمعي في الإقليم العربي الشرق أوسطي.
 الأولى.. ظهور كافة مفاعيل السياسة العربية الرسمية بعد زيارة السادات للقدس عام 1976 ولغاية احتلال العراق عام 2003 وكأنها تجلٍّ لصراعٍ حادٍّ بين معسكرين عربيين رسميين، هما..
 1 – معسكر المهادنة الذي مثَّلَتْه مصر بقيادات ما بعد حرب أكتوبر. وهي القيادات التي أخذت على عاتقها في ضوء التماهي التام مع المخطط الإستراتيجي الأميركي المُعَد للمنطقة في تلك الحقبة من الزمن، إخراج مصر من دائرة كونِها قاعدةَ القومية العربية المقاوِمة. لتصبح مُجَسِّدَةً بدل ذلك لفكرةِ الهوية القطرية المهادنة، ولمفهوم البراجماتية الوطنية المُمْعِنَة في الذاتية القطرية التي سحبت الهوية “مصر”، إلى أبعد ماضٍ لها، وهو ماضي “الادعاءات الفرعونية”، التي لا قيمة موضوعية لها في زماننا المعاصر إلاَّ في الوهم المتدفق حفنات من الدولارات من جيوب السياح.
ولتصبح أيضا مُرَوِّجَةً لـ “ثقافة الهزيمة والاستهلاك والارتهان”، ولعقيدة “الزمن الأميركي”، ولـ”حقائق العصر الصهيوني”، ولسياسة “قَتَلَتْه الفئة التي أخرجته”، و”أنا وبعدي الطوفان”، ولدبلوماسية “إنني لا أكذب ولكني أتجَمَّلُ أمام الجماهير”، كل ذلك بالتواطؤ والتنسيق التاَّمَّيْن مع منظومة “أبي رغال” الخليجية التي دعمت الثقافة المصرية المتهاوية في كل المجالات ببترودولار ما بعد الانفتاح، كي نرى أُمَّةً تنحدر إلى هاويةٍ بلا قرار على أجنحة ثقافةٍ ضحلةٍ، استبدلت عظماء الفن بأقزامهم، وعباقرة الرواية بتُفَّهِهِم، ومبدعي الشعر برواد مؤلفي أغاني الأعراس والموالد، والفلاسفة والمفكرين الكبار بأشباه الصحفيين من قصار القامات ومُعْدَمي الهامات.. إلخ.
 2 – معسكر المقاومة والمواجهة الذي مثَّلَه العراق بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي. إلى أن تم تدمير هذا الممثِّل تدميرا شاملا عبر سلسلةٍ متتابعةٍ من المصادمات والاعتداءات والمؤامرات والحروب والانشغالات الجانبية التي لم تترك له فرصةً لالتقاط الأنفاس. رغم أننا لا نستطيع أَلاَّ نُحَمِّل النظام السياسي العراقي قسطَا من مسؤولية العجز عن إدارة الصراع ضد العلاقات الإمبريالية في المنطقة، بوقوعه مرَّةً في المطبات والشِّراك التي كانت تُنْصَبُ له بسهولةٍ لا تُتَوَقَّع من نظام سياسي يُعِدُّ نفسَه ويُؤَهِّلُها ليقود قوى الثورة والتغيير العربية كلِّها. وبنزوعه مرة إلى الذاتية الممعِنة في “الأنا السياسية” الخالقة للفجوات والحافرة للمسافات البعيدة بينه وبين من يُفْتَرَض أنهم جماهيرُه. وبعدم قدرته أحيانا على اختراق المؤامرة الإمبريالية التي لم تكن على ذلك القدر من الجبروت، إذا هو تَمَكَّن فقط من الالتحام الكامل والموضوعي والصحيح، بقاعدته الجماهيرية المفترضة.
وهو الأمر الذي لم يُقدم عليه على ما بدا من تاريخه المُقاوِم للعلاقات الإمبريالية، بالشكل الذي يُنْبِئُ عن تناغمٍ فعلي مع ما طرح نفسه متبنياً له من قيادةٍ للأمة، ففشل في أن يفرض على الإمبريالية بالتالي الأسلوب الجماهيريَّ في المقاومة. وهو الأسلوب الذي لم يبدأ بأخذِ موقعهِ في بُنْيَة الفعل الثوري الجماهيري إلاَّ مؤخرا وبعد سقوط بغداد. في حين كان بإمكانه الحيلولة دون أن يَحدث ما حدث، لو أنه عرف فقط كيف ينقل المعركة لتُخاَضَ في صفوف الجماهير العربية منذ وقتٍ مُبَكِرٍ.
 الثانية.. ثبوت فشل النهج الثوري الفوقي النظامي الرَّسمي، الذي لم يَتَكَوَّن أو يتخَلَّق عبر صيرورةٍ وتطورٍ جماهيريين حقيقيين، في أن يتحول إلى هَرَمٍ قِمَّتُهُ ثورية. وفشلُه في النهوض بالإنسان العربي الخارجِ لتَوِّهِ من براثن الاحتلال والجهل والتخلف. وفشله في الرقي بهذا الإنسان ليجعلَ منه سندا فعليا لثورةٍ مستمرة لأنه لم يبدأ من القاعدة وفيها. فبعد حوالي الستين عاما من الصراع العربي الإمبريالي عبر علاقات الصراع التي أفرزتها “إسرائيل”، و”أنظمة التجزئة”، وجدنا أن معادلة المقاومة بدأت بالكاد تأخذ شكلها الصحيح والطبيعي منهجياً، ببدءِ تبلور البُنَى الثورية الجماهيرية في الأماكن الساخنة من المشرق العربي.
 لا يمكن لنظام سياسي ارتقت سِدَّة الحكم فيه فجأة – بشكلٍ أو بآخر – نُخْبَةٌ من الثوار أو من الوطنيين الأشراف الطامحين إلى التغيير الفعال في مجتمعاتهم، أن يقاوم وأن يخوض غمار ثورة جماهيرية حقيقية وشاملة، ما لم يكن نظاما يقود شعبا ثائرا أو شعباً مُهيئا للثورة، اختمرت فيه عبر تراكمٍ زمني كافٍ كل صواعق الانفجار، المتمثلة في وعي ذلك الشعب بقضيته وملابساتها، وفي إدراكه لمفاعيل نهضته وثورته، وفي استشعاره لتناقضاته مع أعدائه الذين سيثور عندما يثور ضدهم، وفي استكماله لعناصر بنائه النفسي والروحي المقاوِم، وبُناَهُ التنظيمية والحركية والمؤسسية القادرة على مُمارسة الفعل الثوري. وهذا ما أظهرت الستون عاما الماضية، أن الجماهير العربية – التي بدأت حياتها المتَطَلِّبَة للنضال الفعلي والواعي والناضج، عَقِبَ تَحْقيق استقلالها السياسي غير المكتمل، والمُصاغ في أتون معادلات مرْبِكَة ومُضطربة من الفوضى السياسية – لم تكن مستعدة له ذلك النوع من الاستعداد الدقيق والقادر على الدفع المستمر بالحراك الثوري نحو تحقيق النصر.
 فمنظومة الأنظمة السياسية العربية الوطنية – ونقصد بالأنظمة الوطنية في هذا المقام، تلك التي كانت تعلن عدم قبولها مبدأَ المهادنة مع الإمبريالية وعلاقاتها في المنطقة بالمجان السياسي – التي بدأت مسيرتها بنظام جمال عبد الناصر في مصر، منتهية بنظام صدام حسين في العراق، مرورا بكلٍّ من النظام الجزائري في عهد هواري بومدين، والنظام السوري في عهد “آل الأسد” وإلى حد ما بالنظام الليبي في عهد معمر القذافي. أثبتت جميعُها أن لكلٍّ منها مظاهرَ عَجْزِه الخاصة به في عدم القدرة على تثوير شعوب الأمة العربية، ودفعها إلى الصدام الكامل والعميق مع العلاقات الإمبريالية في منطقة المشرق العربي.
 فإذا استثنينا النظام الجزائري الذي يُعَدُّ الوحيدَ في تلك المنظومة الذي تحقق في أرض الواقع بثورةٍ شعبية تحررية شاملة وواسعة، رغم أن الجغرافيا والتاريخ والجيوسِياسَة وقفت وتقف بالضرورة حاجزا يمنع من أن يكون هذا النظام نظاما حاضنا للثورة العربية. فإن الأنظمة الأربعة الأخرى جميعها في واقع الأمر لم تصل إلى سدة السلطة بثوراتٍ من النوع الجزائري، وطني الطابع، أو من النوع الإيراني الاجتماعي الطابع لاحقاً.
بل هي كلها قد وصلت بانقلابات عسكرية، حتى ما كان منها عقائديا حزبيا كنظامي البعث في بغداد ودمشق. وبالتالي فليست الشعوب بتراكم نضالاتها وأفعالها الثورية الحتمية، هي التي أوصلت أولئك الثوار إلى قِمَّةِ الهرم السياسي في بلدانهم. كما أن النظام الليبي بالتحديد، انطوى على نفس العناصر الجغرافية والجيوسياسية والتاريخية المعيقة لاحتضانِ دورِ الريادة في المعركة الشاملة ضد الإمبريالية، فضلا عن حُزْمَةٍ من العناصر الاقتصادية والديموغرافية الذاتية المانعة أيضا.
ما يجعل الأنظمة التي كان من المحتمل أن تحتضن بذور التحشيد الجماهيري الفعلية والفاعلة في مسيرة الثورة العربية، هي “مصر” و”العراق” و”سوريا”. وقد بُدِئَ بتحييدها وإبعادها نظاما تلو الآخر، كل بالأسلوب الذي يناسبه، ولم يبق سوى النظام السوري في المرحلة الراهنة، ينتظر مصيرَه في هذه المعركة الحاسمة، التي تهدف الإمبريالية فيها إلى تحييد كل المؤسسات العربية الرسمية ذات الطابع المقاَوِم، إماَّ بتكريس نماذج شبيهة بالنموذج المصري الساداتي، وإما – إذا اضطرت إلى ذلك  وقَدِرَت عليه – باللجوء إلى الأسلوب الذي تعاملت به مع النموذج العراقي البعثي الصَّداَّمي. 
 وإذن فالفجوة السياسية والوعيوية والمؤسسية والنفسية.. إلخ، بين أولئك القادة الثوار وبين شعوبهم كانت قائمة منذ البداية، لا بسبب أن تلك الشعوب لم تكن راضية عن أفعالهم الانقلابية تلك أو عن تداعياتها اللاحقة بالضرورة. بل هي كانت راضية عنهم كل الرِّضى في الغالب، لأنها رأت فيهم نموذجا من نماذج المواجهة التي كانت تطمح إلى تَقَمُّصها ومحاكاتها، وخاصة في البدايات، عندما لم تكن منظوماتُ وحزمُ الأخطاءِ السياسية التكتيكية والإستراتيجية القاتلة قد بدأت تفرض نفسها على أرض الواقع، على شكل مُمارساتٍ متناقضة وغير مفهومة، بسبب ثقلِ الواقع حينا، وعدم اتضاح الرؤية حينا آخر، وتضخم الأنا السياسية الفردية أو الحزبية لأولئك الثوار أحيانا كثيرة.
 نقول.. إن الفجوة الكبيرة كانت قائمة لا بسبب ذلك، بل بسبب عدم النضج الكافي للبُنى الجماهيرية وللمؤسسات الثورية في صفوف الجماهير من جهة، وبسبب عدم وعي تلك القيادات بكل تفاصيل العمل الثوري الذي من شأنه أن يسَرِّع في ردم الهوة بينها وبين جماهيرها من جهة أخرى. عدم الوعي هذا دفع برجلٍ مثل جمال عبد الناصر رغم كل وطنيته ونقائه وشعبيته وكارزميته، إلى أن يرتعد خوفا بعد هزيمة 1967، خشية أن تقوم إسرائيل باحتلال القاهرة إثر انهيار الجيش المصري، وعدم وجود قوة عسكرية تدافع عن العاصمة، لولا أن خفف من رعشة الرعب لديه رئيسٌ “مقاتل” مثل هواري بومدين، يقيس الأمور القتالية بمقياس الشعوب والجماهير لا بمقياس الجيوش والعسكرتاريا، عندما فاجأه مفاجأة صَدَمَتْه، بِتَمَنِّيه أن تصل الحماقة والغطرسة بإسرائيل إلى حدٍّ تدفعانها بموجبه إلى فعل ذلك، كي تُعفيَ العرب من مغبة الاضطرار لمناجزتها بالجيوش النظامية عقودا كاملة قادمة من الزمن. لكن إسرائيل كانت ذكية على ما يبدو ولم تفعل ما خاف منه الرئيس الكبير جمال عبد الناصر.
إن هذا اللاوعي الثوري الذي كشف عنه عبد الناصر رغم زعامته الكاريزمية الفذَّة، أكد أنه قائد غير محنك في تحويل الجماهير إلى قنابل ثورية تهزم الأعداء عندما يكونون أكثر قوة نظامية منا. إن الأنظمة التي هذا هو نموذجها القائد، وهو نموذج أظهر عجزاً حقيقيا بالمعايير الثورية الشعبية الجماهيرية رغم أنه حافظ على رمزيته النقية والمشرفة لكل شعوب العالم الثالث حتى الآن، ما كان لها أن تجرؤَ على التفكير على طريقة ماو تسي تونغ، أو جياب، أو هوشي منه، أو جيفارا، في مقارعة الإمبريالية، ما جعلها بدل أن تُسهم في عملية ردم الهوة الموجودة بينها وبين جماهيرها على هذا الصعيد، تسهم في توسيعها، بخلق التناقضات التي كانت تبدأ صغيرة لتتفاقم تدريجيا بينها وبين تلك الجماهير، غير مُدْرِكَة أن الإمبريالية نفسها تَهدف فيما تهدف إليه من وراء ضغوطاتها المتلاحقة عليها، إلى إرباكها بالقدر الذي لا يتيح لها فرصة الالتحام بالجماهير بالشكل الدافع بالحركة الثورية الجماهيرية إلى التكَوُّن، فالتطور والنماء، فالاكتمال.
 لقد بدا واضحا أنه كلما تم تحييد نظام عربي من تلك الأنظمة التي صُنِّفَت على أنها وطنيةٌ بالمفهوم الذي أوضحناه للوطنية، عن ساحة المواجهة ضد العلاقات الإمبريالية، كلما بدأت تتكون وتتخَلَّق في الواقع عناصر جنينية لبُنْيَةٍ ثورية جماهيرية هنا أو هناك في المشرق العربي، كبديل أو كإرهاصٍ ببديل يَتَشَكَّل. إلى أن غدا من الممكن التأكيد على أن المرحلة القادمة التي يبدو أن الساحة العربية قد تخلو فيها من أي عنصر وطني مقاوِمٍ على مستوى الأنظمة السياسية، بسبب أن آخر تلك الأنظمة هو قيد الترحيل والتحييد في معركةٍ غيرِ واضحةِ المعالم، تُحاكُ خيوطها بهدوءٍ تام وتُدَبّر فصولُها بليلٍ، هي المرحلة التي ستُفْسِحُ فيها فكرة “ثورة الأنظمة” القديمة، المجالَ واسعا لـ “ثورة الشعوب” الجديدة، القائمة على أن الثورة لا يمكنها أن تنجح حتى في أن تَتَخَلَّقَ وتَتَكَوَّن بطريقةٍ سليمة، ناهيك عن أن تنموَ وتتقدمَ في مسيرة التحرير الكبرى من العلاقات الإمبريالية، إلاَّ إذا كانت جماهيريةً تولد في الجماهير، وتسير بها ومعها، وتصل برفقتها إلى النهاية المحتومة.
 فغياب نظام عبد الناصر وخروج مصر من اللعبة الوطنية ودخولها الخندق الإمبريالي، ساعد على تفاقم المد الثوري الجماهيري الفلسطيني واللُّبناني في لبنان بعد ضرب المقاومة الفلسطينية في الأردن. وغياب النظام العراقي باحتلال العراق، فجر ثورةً ومقاومةً جماهيرية عراقية لم يكن يتوقعها أحد، ولا حتى الولايات المتحدة نفسُها التي اعترفت دائما قبل انسحابها الجزئي الذي تم في الحادي والثلاثين من شهر أغسطس 2010، بأنها أعجز ما تكون عن مواجهتها ومنعها من التوسع والانتشار على المدى البعيد، بعد أن وصلت إمكانياتُها مرحلة اللاَّعودة واستحالة التقهقر والتراجع إلى الوراء. وهي تُمارس دورا تأثيريا فعاًّلاً غير مباشر على الساحات العربية الساخنة الأخرى مثل لبنان وفلسطيبن. ولا أحد يدري ما الذي يمكنه أن يحصل من تغييرات على مستوى الجماهير العربية إذا تم إطفاء آخر ضوء في النفق العربي الرسمي المظلم ممثلا في تحييد المقاومة البراجماتية الهادئة التي يبديها ويضطلع بها النظام العربي السوري في الوقت الراَّهن.
الوطن العربي والحقبة الثورية الثالثة..
 إننا على صعيد بُنْيَة الذهن المقاوِم للجماهير العربية، نلامس أطراف الحِقْبَةِ الثورية الثالثة التي ستكون الأخيرة حتما في مسيرة مجابهة العلاقات الإمبريالية في الوطن العربي على ما نتصور، نظرا لعدم وجود حالةِ مقاومةٍ تمثل حقبةً رابعةً، إلا هزيمة مدوية مدمرة قد تمنى بها الأمة في الحقبة الثالثة لتعود إلى السبات الثوري لأجيال قادمة. فالحقبة الأولى التي سلمت فيها الجماهير العربية زمام أمرها وأمر قضاياها ومستقبلِها للأنظمة العربية عموما، وهي مطمئنةٌ إلى وجود منظومةِ أنظمةٍ وطنية تكفل عدم ارتهان مصيرها وإضاعته هدرا، وَلَّت وانتهت بانتكاساتٍ وهزائمَ وخيباتِ أملٍ لا تعد ولا تُحصى، مُنِيَت فيها تلك الجماهير بأقصى وأقسى أنواع الخسارة المُتَصَوَّرَة. بعد أن فشلت الأنظمة الوطنية كلها وبلا استثناء في أن تكون في مستوى تطلعات جماهيرها من جهة أولى، وبعد أن أظهرت التجارب من جهة ثانية، أن الأنظمة غير الوطنية، أي “الرُّغاليَّة”، هي جزء لا يتجزأ من خندق الإمبريالية التي تعادي الجماهير نفسِها، ما لا يصح معه الاعتماد عليها في استعادة الحقوق، لأن الحقوق هي في الواقع مرتهنة ومعتقلة عندها، الأمر الذي يجب معه أن تُقاوَمَ، شأنُها شأنُ الذراع الآخر الحالي للإمبريالية “إسرائيل”.
 أما الحقبة الثانية التي راهنت فيها تلك الجماهيبر على المد الثوري الشعبي الفلسطيني في تحقيق آمالها وتطلعاتها الوطنية والقومية، فقد آلت هي أيضا إلى زوالٍ وخيبةِ أملٍ، بعد أن فشلت المقاومة الفلسطينية التي مثلت بحق أم الثورات العربية، في تعبئةِ وتثويرِ جماهيرِ الأمة في دول الجوار الإسرائيلي وتحشيدها ضد المشروع الإمبريالي، بسبب تَحَوُّلِها إلى النظام العربي الحادي والعشرين، الذي أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه ليس أقل رُغاَلِيَّةً وإسهاما في تأسيس الصهيونية العربية من باقي الأنظمة. تحولت الثورة إلى سلطة مهترئة تمثل نظاما عربيا، رَبَطَ نفسَه وقيَّدَها بالقيود التي لا يمكن للجماهير أن تتحرر على وجه الحقيقة إلاَّ إذا انعتقت منها ابتداءً. لقد تأكدت لدى الجماهير العربية حقيقة الحقائق كلها بعد أكثر من نصف قرن من المعاناة والضياع والتضحيات والخسائر، ألا وهي أن مقاومة العلاقات الإمبريالية في الوطن العربي، لن تنجح إلا إذا تحققت فيها عدة شروطٍ يمكن حصرها في ما يلي..
 1 – مقاومة أنظمة التجزئة الرُّغالية، ومواجهة كافة مخططاتها على الصعيدين القطري والقومي، وعمل كل ما في الوسع لانتزاع مواقع متقدمة منها على صعيد الحريات والحقوق السياسية والعدالة الاجتماعية، وعدم إعطائها أي فرصة لالتقاط الأنفاس، وكشف كافة أساليبها الملتوية ومؤامراتها التي لا تتوقف على ثروات الشعوب العربية، وتعبئة الجماهير ضدها بكل أشكال العمل الجماهيري التعبوي وألوانه، وعدم مهادنتها في تلاعبها بمستقبل الأمة ورهنها لمقدراتها ومقامرتها بها بهذا المستوى غير المسبوق من السَّفَه، والتشهير بكل ما تمارسه من أعمال وما تعقده من اتفاقات في السِّرِّ والعلن، وحشد كافة ما يتاح من وسائل إعلامية وفكرية وثقافية وفنية وغيرها إن وُجِدَت، لمحاصرتها وتحجيم حيِّز تأثيرها على معادلات الحراك الجماهيري، كي تحقق الجماهير خطواتٍ فاعِلةً في مسيرة النضال والجهاد ضدها. والتنسيق في هذا الشأن مع كل جهة عربية تعمل ضمن نفس الاتجاه وتسعى لتحقيق نفس الأهداف.
 2 – مقاومة المشروع الصهيوني الإمبريالي الاستيطاني “إسرائيل”، بكل ما يتاح من وسائل وأساليب، ودعم كافة مظاهر النضال والجهاد الفلسطينيين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بوصف ذلك مظهرا من مظاهر محاصرة الكيان الصهيوني وقصقصة أجنحته وتخفيف حدة تأثيره على الحراك السياسي والعسكري في المنطقة، والحرص على أن لا ينفصل هذا الجانب من جوانب مقاومة علاقات الإمبريالية عن سابقه، كي تحقق الحركة الجماهيرية بهذه الطريقة الشاملة في المقاومة نوعا من التأثير الفعال على الجبهتين، حارمة كل جبهة منهما من قدرتها على رفد الجبهة الأخرى بعناصر المقاومة والصمود والبقاء.
والعمل على أن تكون ساحات الجوار المحيطة بكافة الأراضي المحتلة ساحات انطلاقٍ لمسيرة مقاومة ومواجهة استنزافية طويلة لا تنضب للكيان الصهيوني، تَقَدُّماً بمسيرة النضال والجهاد ضده خطواتٍ إلى الأمام للدَّفع باتجاه الحسم النهائي، وطرح كافة ما يساعد على تحقيق كل ما سبق ذكره في هذا البند ضمن البرامج القطرية لكافة حركات التجديد في الوطن العربي، وبالأخص في تلك المجاورة للأراضي المحتلة، وتوضيح الخطط والأساليب التي ستنفذها الحركات إذا ما استلمت السلطة في أي مكان، لرفد هذه الرؤية المُقاوِمة بكل عناصر الديمومة والنماء، حتى تحقيق النصر النهائي.
 3 – مقاومة الإمبريالية الأميركية على الصعيد العالمي بالوسائل الإعلامية والسياسية والدبلوماسية والقانونية والاقتصادية، وبعقد التحالفات الثنائية وغير الثنائية مع الدول والمنظمات والهيئات المعادية لها والعاملة في مجال مكافحة مشاريعها وأطماعها في العالم، أيا كانت هذه الأطماع. وتأسيس القنوات التلفزيونية المناسبة شكلا ومضمونا، لتعبئة شعوب العالم، وخاصة الشعوب الأوربية والشعب الأميركي، ضد ممارسات الإمبريالية في العالم، بكشف جرائمها وتدميرها للإنسان وللطبيعة، ومحاربتها للعدل وللحرية على صعيد هذا الكوكب، رهانا على أن تلك الشعوب هي بالقطع مُضَلَّلَة في غالبيتها، الأمر الذي يجعل كشفَ حكومات وإدارات الدول الإمبريالية أمامها يعمل بالضرورة في اتجاه تحقيق النصر النهائي والحاسم على مختلف علاقاتها على مستوى العالم.
4 – تقديم كل أشكال الدعم الممكنة والمتاحة والمقدور عليها والتي لا تسبب المشكلات والإحراجات القانونية، لكل الشعوب والمنظمات الثورية والأحزاب السياسية التي تقاوم الإمبريالية ومشاريعها في كل مكان في العالم، انطلاقا من افتراضٍ صحيحٍ وصادقٍ مفاده أن مثل هذه الأعمال الداعمة لمحاربي الإمبريالية على الصعيد العالمي، ستُسْهِم قطعا في إضعافها وفي هزيمتها في نهاية المطاف.
 5 – العمل الدؤوب بحُنْكَةٍ ودرايةٍ ووفقَ منظور إستراتيجي ناضجِ المعايير عميق الرؤى، على خلق القاعدة العربية الثورية الآمنة التي تقدر على احتضان الحركة الثورية العربية المقاوِمَة لكافة العلاقات الإمبريالية في الوطن العربي. على أن تكون هذه القاعدة “الدولة”، نتاجا خالصا لحركة الجماهير في نضالها ضد تلك العلاقات، ضمانا لبقائها في حالة التحامٍ تام ودائم مع باقي فصائل المقاومة والثورة والتغيير في كافة الدول العربية التي يتطلب وضعها ذلك من جهة أولى، ومع القوى المقاوِمَة لإسرائيل في كل مواقع المواجهة من جهة ثانية.
قد يكون إخراجُ سوريا من اللعبةِ وتحييدُها في مواجهة المشروع الإمبريالي في المنطقة العربية، بإعادة الجولان لها ضمن سيناريو مشَرِّف، أمرا مطروحا في المرحلة القادمة، عبر إيجاد حلٍّ يرضيها ويقنعها بأن صبرها الطويل لم يضع هدرا، وبأن سياسة التوازن الإستراتيجي والمقاومة بالوكالة عبر لبنان بسبب عدم الأنسبية الإستراتيجية لجبهة الجولان، قد أسفرتا عن نتائج هامة على صعيد التحرير. ليتم إدخالها في مرحلةِ انفتاح سورِيَّة شبيهة بنظيرتها المصرية الساداتية. وليتم التفرغ بعد ذلك لعناصر القوة المتبقية في الإقليم بالشكل الذي تفرضه طبيعة المعادلات السائدة بعد تَحَقُّق هذا السيناريو الصعبِ صعوبةَ إقناع كل البعثيين السوريين عندئذٍ بأن سوريا قد استعادت أرضها المحتلة وانتهى الأمر، وتحققت لها بالتالي الرسالة الخالدة التي تدعو إليها الأمة العربية الواحدة التي ينادي بها حزب البعث العربي الاشتراكي ليل نهار.
ولنا فيما بدأت تلوح له بوادرٌ في الأفق من تخليقٍ لمعارضةٍ سوريةٍ على الشاكلة العراقية، بعد ظهور شخصية مثل “عبد الحليم خدام” في فرنسا داعيةً إلى إسقاط النظام السوري الذي كان هو أحد أركانه الأساسيين طيلة عقودٍ من تاريخه، لأنه اكتشف فجأة أن هذا النظام كان فاسدا وغير أمين على مستبقل الأمة التي اضطلع بتبني مشروع توحيدها من المحيط إلى الخليج. فضلا عن التقارب المفاجئ بين النظام السوري ونظام بغداد القابع في المنطقة الخضراء، والتحالف الإستراتيجي التاريخي بين دمشق وطهران ما بعد الثورة، ما يدفع إلى الاعتقاد بأن سوريا يجب أن تختار بين أمرين لا ثالث لهما..
– فهي إماَّ أن تقبل بالحل الساداتي على المقاس السوري ووفق الظروف الدمشقية، حفاظا على السلم والأمن اللذين نعمت بهما مدة طويلة رغم احتلال أراضيها، وطمعا في رفاهية مُتَصورة بالانفتاح على العالم الحر والرأسمالي انفتاحا ساداتيا، وإن يكن بثوب دِمَشقي يستعد لارتدائه كل من يتخندقون الآن وراء صبر الشعب السوري لوراثة آلامه وحرمانه الطويل، مواقعَ اقتصادية تحوِّل سوريا إلى مصر ساداتية جديدة.
– وإما أن تتخندق في خندق الجماهير العربية الذي بدأ يتشكل بوصفه الرافعةَ الوحيدة لمواجهة الأمبريالية بكل أشكالها، وباعتباره حاضنةً مضمونةَ النتائج على المدى البعيد، لكل أيديولوجيات المقاومة ضد كل الأذرع الاستعمارية في المنطقة العربية. لتتحول بالتالي وأياًّ كانت النتائج، إلى قاعدةٍ آمنة لقوى المقاومة والتحرر العربيين بالمعنى الحقيقي وليس المجازي، انسجاما مع الطرح ومع الخطاب القوميين والثوريين المقاوِمَين للقطر العربي السوري ولقيادته، وذلك بالضبط كما كانت فيتنام الشمالية في حينها بالنسبة للشعب الفيتنامي كله. فهل نحن في دمشق على أعتاب ظهور نظام ساداتي جديد، أم نحن على أعتاب ظهور نظام “هو شي مِنَّه” جديد؟!! نترك الإجابة لمقبل الشهور والسنين، فهي وحدها القادرة على ذلك.
عَوْدٌ على بِدْءٍ إلى معادلات النفط العربي في الاستراتيجيات الأميركية المرسومة للمنطقة..
تَمَكَّنا ونحن نحاول التأكيد على أن ما حدث في واقع النفط العربي، خلال نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، كان مجرد مؤامرة نفطية على الأمة، استغلت قدرا كبيرا من التواطؤ الرسمي في تنفيذها، فمارس المتآمرون والمتواطئون من “الرغاليين الجدد” في جزيرة العرب مع المُخَطِّطِ الإمبريالي الأميركي بمقتضى تلك المؤامرة أعتى أنواع التضليل المعلوماتي ضد شعوبهم وضد أصحاب الفكر المخلصين في الأمة.. نقول.. تَمَكّنا من كشف ما يؤكد لنا صحة منهجنا في تحليل الإستراتيجية الأميركية التي حكمت اقتصاديات النفط في تلك الحقبة، والتي تحكمها في كل حقبة قادمة من حقب الجيوسياسَة النفطية، راسمةً بواسطتها خرائط المنطقة العربية في الشرق الأوسط.
 لقد قمنا باحتساب المداخيل النفطية لدول الخليج في الفترة من عام 1979 وإلى عام 1991، وهي فترة تشمل كامل الأعوام التي غطتها المؤامرة النفطية التي افترضناها بمرحلتيها، إضافة إلى السنوات التي شهدت الحربين اللتين تم التخطيط لهما في قلب المؤامرة، وهما الحرب العراقية الإيرانية، والحرب الأميركية العراقية في الكويت. ثمَّ احتسبنا المبالغ التي أُنْفِقَت على صفقات التسلح التي عقدتها دول الخليج مع الدول الغربية عموما ومع الولايات المتحدة خصوصا في الفترة محل الدراسة، وأضفنا إليها المبالغ التي أُنفقت من قِبَلِ دول الخليج على الحرب العراقية الإيرانية من جهة، وعلى تمويل الحملة الأميركية ضد العراق من جميع جوانبها التي أثارتها من جهة أخرى. والمبالغ التي أعلن الخليجيون أنفسهم أنهم خسروها في أزمات البورصات العالمية التي عصفت بالبورصات الأوربية والأميركية خلال الفترة نفسها.
 ولم نُدْخِل في حساباتنا السابقة، النفقات الجارية لتغطية مصاريف تواجد القوات الأميركية في القواعد الخاصة بها على الأراضي الخليجية، والمستمرة منذ عام 1990 وحتى الآن. ولا أدخلنا في هذه الحسابات أيضا، الاقتطاعات الضخمة غير مفهومة المبررات ولا المرجعيات المستندية لمشروعيتها، والتي يقوم بها أمراء وحكام الخليج، سارقين ثروات شعوبهم لحساباتهم الخاصة، وكأن هذا النفط هو ملك آبائهم وأمهاتهم يقتسمونه بوصفه تركةً، لهم فيها كامل الحق، ويتصدقون تَكَرُّماً ومِنَّةً بما تبقى منه بعد توزيع التركة، على هذه الشعوب المغلوبة على أمرها.
 وعندما احتسبنا المبالغ المتبقية من مداخيل النفط الذي كان مرتفعَ السعر في معظم سنوات المؤامرة، بعد خصم ما تم احتسابه في البنود سالفة الذكر، باعتبار أن كل ذلك عبارة عن خسائر تم التخطيط أميركيا لتكبيدها للدول الخليجية، وجدنا أن تلك المبالغ لو قُسِّمَت على أعداد براميل النفط التي تم إنتاجها وتصديرها خلال الـ “13” عاما محل الدراسة، لكان سعر البرميل الواحد هو “8” دولارات فقط. أي وباختصار شديد فإن مبلغ “36” دولارا الذي وصل إليه سعر البرميل الواحد في حقبة المؤامرة، والمدفوع من جيوب مستهلكين معظمهم ليسوا أميركيين، ضُخَّ في جيوب الأميركيين دون سواهم، ولم يَطُل منه أصحاب العمائم في شبه جزيرة العرب ولا شعوبهم المغلوبة على أمرها، إلاَّ ما أراده صُنَّاع المؤامرة الأساسيين، وهو السعر الذي كان سائدا قبل بدء ارتفاعه في عقد السبعينيات.
أي أن الأنظمة السياسية في الخليج اعْتُمِدَت من قِبَل المركز الإمبريالي في المواجهة ضد الشعوب، شريكة في التواطؤ على تلك الشعوب وعلى ثرواتها الوطنية بالمجان. فإذا علمنا أن سعر البرميل عاد ليهبط إلى ما قيمته “6” دولارات في ذروة الأزمة عام 1986، لفهمنا أن المسألة إنما عادت لوضعها الطبيعي الذي كان الغربيون موافقين عليه قبل أن يبدأ العرب في لعبة النفط شركاء متآمرين مع الأميركيين عقب حرب أكتوبر، التي لا يمكننا أن نُنْكِر أن العرب استغلوا سلاح النفط خلالها استغلالاً كفؤاً حقا لمواجهة الأعداء الذين فرضت عليهم أحداث المعارك في الميدان أن يواجهوهم رغم أنوفهم.
 وهذا ما نعتقد جازمين بأنه سوف يتكرر في اللعبة القادمة التي يبدو أنها ستكون أضخمَ بكثير مما حصل في السابق، بحيث تطلبت هذا القدر المهول من الارتفاع في أسعار النفط، لتحقيق فوائض كبيرة تستطيع تغطية متطلبات الخريطة الجديدة التي بدأ الأميركيون في رسمها قبيل احتلال العراق، والتي راحوا يستكملون رسمَها مع كل مستجدٍّ يفرض نفسه على الساحة هنا أو هناك بعد احتلاله مدشِّنين كل ذلك بهذه الصفقات المريبة مع المملكة السعودية هم وحلفاؤهم الإنجليز.
إننا في ضوء ما بدأنا نقرأه من ضخامةٍ في الاستعدادات لرسم الخريطة القادمة عبر تكديس الثروة البترودولارية والأسلحة الأميركية في أيدي الخليجيين، نستطيع تَخَيُّل بعض معالمها الدامية، التي لا نراها ترتسم أو تتشكَّل خطوطُها وألوانُها بعيدا عن..
– إيران في حربٍ مدمرة أو صراع مزمن مع العرب عبر الساحة العراقية بالدرجة الأولى، وبشكل أو بآخر، يُؤسس له أو لها، طائفيا ومذهبيا بزعامة محفل ادعاء رعاية السنة، والمُكَوَّن من كل من السعودية رئيسا، ومصر نائبا للرئيس، والأردن عضو شرف مراقب.
– وعن تركيا في البعد الكردي الذي بدأت تتكون معالمه في شمال العراق.
– وعن باكستان النووية في شكل تفعيلٍ مدمر لواقعها ولصراعاتِها غير واضحة المعالم، في بعدها الأفغاني بالدرجة الأولى، مادام الصراع في بعده الهندي أكثر انضباطا، بسبب عقلانية الهنود وعدم تحركهم داخل دوائر القرار الأميركي. ولعل ما تجلت عنه الحالة الباكستانية من اغتيال تراجيدي لزعيمة مهمة من زعماء العمل السياسي في باكستان هي “بي ناظير بوتو”، يؤشر إلى الآفاق المظلمة التي تعد الساحة الباكستانية لها، على الرغم من الهدوء الحذر الذي ساد باكستان بعد الحادثة بسبب قدرة النظام على امتصاص تداعيات الحادث التراجيدي بسيناريو الانتخابات الذي نفس معظم الاحتقانات التي عادت لتظهر وتتفاقم بعد فترة وجيزة أعقبت غياب “مشرَّف” عن الواجهة السياسية لباكستان، وتفاقم أزمة الناتو في أفغانستان وفي مناطق الاحتكاك بينها وبين باكستان.
– وعن سوريا في حالة خروجها على الطاعة الأميركية والإسرائيلية، ورفضها لمشروع التحييد واختيارها لفكرة القاعدة الآمنة المحتضِنَة للثورة العربية الكبرى القادمة.
– وعن المقاومة الشعبية في كل من فلسطين والعراق ولبنان، التي علينا أن نتيقن من أنها وحدها تمثل فرس السبق والرهان الناجح للشعوب العربية في مقبل أيامها، إذا استطاعت أن تتحول إلى ظاهرة قابلة للتفريخ في دول الجوار الإسرائيلي الأخرى، وخاصة الأردن ذات الخصوصية في العلاقة مع الحالة الفلسطينية.
فإذا علمنا أن حكام الولايات المتحدة من الجمهوريين هم عادة ممثلو كارتلات صناعتي النفط والسلاح في معقل الإمبريالية، فهمنا على الفور لماذا يجب أن تكون السياسة الأميركية في عهود حكمهم صارخة في تبنيها لسياساتٍ خارجيةٍ تقوم في جوهرها على لعبتي النفط والسلاح، عبر حروبٍ ُتدار بأسلحةٍ أميركية، مدفوعة الثمن بأموال نفطٍ خليجيةٍ.
فارتفاع أسعار النفط بشكل كبير، فضلا عن أنه يسهم في زيادة مداخيل أصحاب الكارتلات النفطية الأميركيين حتى من داخل السوق الأميركية نفسها. فإنه يُسهم في زيادة الفوائض في مداخيل الدول النفطية الخليجية التي تُعَدُّ أكثر الدول النفطية في العالم تبعية للإرادة الأميركية وخضوعا لها. ولعل هذه النقطة هي الأهم من بين مجموعة النقاط المشَكِّلَة لموضوع ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية الفورية.
ولكن ما هي التركيبة النسبية لمصادر هذه الفوائض النقدية؟!
من الضروري العلم في هذا السياق بأن الولايات المتحدة الأميركية ليست هي السوق الرئيسية للنفط العربي الخليجي. إن الأسواق الرئيسية لهذا النفط، هي الصين واليابان وأوربا الغربية، ثم تأتي بعد ذلك الهند والولايات المتحدة، ومجموعة أخرى من دول العالم الشرقي والجنوبي. أي وبكلمة أخرى فإن مساهمة الولايات المتحدة في تكوين هذه المداخيل والفوائض هي مساهمة ضئيلة. وهنا مكمن الفائدة الحقيقية لها.
 إذ أن هذه الأموال والثروات التي يُعَدُّ معظمها غيرَ أميركي، ولم يُضَخ إلى الخليج العربي من سوق النقد الأميركي، سيعاد ضَخُّ معظمها إن لم يكن كلها إلى السوق الأميركي وليس إلى غيره، مرتين وبشكلين مختلفين، كلاهما ذو مردود عالي على الناتج الأميركي. المرة الأولى، عندما يتم إيداع معظم هذه المداخيل الفائضة عن الحاجة التنموية والإنفاقية المُشَوَّهَة لتلك الدول، على شكل مُدَّخرات في البنوك الأميركية، وعلى شكل استثمارات في البورصات الكبرى في الولايات المتحدة. والمرة الثانية، عندما تُدفع مبالغ كبيرة جدا منها للإدارة الأميركية على شكل أثمان لصفقات أسلحة، أو على شكل تكاليف حماية وقواعد عسكرية مقامة في الأراضي الخليجية، أو على شكل تغطية نفقات عسكرية لمهام تقوم بها القوات الأميركية لأغراضٍ تُصَنَّف على أنها دفاع عن تلك الدول.. إلخ.
 فإذا علمنا أن نظام التثمين والتسعير في المسائل العسكرية والدفاعية أبعد ما يكون عن الموضوعية القائمة على منطق الربح المنطقي الذي يُضاف إلى التكلفة الحقيقية، بحيث أن معظم أسعار بيع السلع والخدمات العسكرية المقدمة للدول الخليجية، تعادل ما لا يقل عن عشرين ضعف التكلفة الحقيقية لها. فإن هذا يعني أن الولايات المتحدة تكون قد سرقت أموال النفط العربي الخليجي المحصل عليه من التصدير لدول العالم، بموافقةٍ ورضىً تامين من حكومات تلك الدول، تحت لافتة التسلح والدفاع عن الأمن القومي لها.. هذا أولا..
 في حالة نشوب حرب إقليمية في المنطقة، فإن طرفا واحدا على الأقل من الأطراف المتحاربة سيكون مسلحا بالسلاح الأميركي. والذين يدفعون ثمن هذا السلاح بشكل مباشر أو غير مباشر هم الخليجيون، وذلك من فوائض مدخراتهم في الولايات المتحدة وفي غيرها، وتنطبق على مستويات التسعير في هذا المقام، المعايير نفسها التي انطبقت في حال الشراء المباشر للسلع وللخدمات العسكرية.. وهذا ثانيا.. وحتى لو كان أحد الطرفين المتحاربين مكتفيا بذاته، فإن هذا لا يغير من الجوهر شيئا، فما لم تنفقه الدول الخليجية على المسائل العسكرية والحربية والدفاعية، تضيِّعه في البورصات في عمليات التبَخُّر الدورية التي تتعرض لها تلك البورصات في أزماتها المفتعلة من حين لآخر كما مر معنا.. وهذا ثالثا.
 وفي هذا الصدد يجدر بنا توضيح مسألة هامة قد تتبادر إلى الذهن، ويحصل بسببها الكثير من الارتباك في التصورات والمفاهيم، وقدر كبير من التَّشَوُّش في فهم صيرورة الأحداث ودلالاتها. فالكثيرون يتساءلون.. إذا كانت شركات النفط في الولايات المتحدة بوصفها أكبر منتج للنفط في العالم، ستبيع نفطها الذي تُنْتِجه كاملا داخل السوق الأميركية، بأسعار السوق السائدة التي وصلت إلى أعتاب الـ (150) دولارا للبرميل قبل حوالي السنتين، وذلك في فترات الذروة خلال شهر مايو / أيار 2008، فضلا عما ستشتريه بهذه الأسعار من السوق العالمية. أليس ذلك سببا وجيها لتذمر المستهلك الأميركي شأنه في ذلك شأن بقية مستهلكي العالم، الذين سيعانون من هذا الارتفاع المهول في الأسعار؟!
وإذن فإن الفائدة النسبية المحدودة التي تحققت للكارتل النفطي الأميركي، يقابلها ضرر كبير تعرض له كل الشعب الأميركي الذي سينعكس ارتفاع أسعار النفط على مستوى معيشته في كل جوانبها. أي أن المليارات التي حققها الكارتل النفطي كمكاسب نقدية طارئة بسبب هذا الارتفاع، والتي حصل عليها في واقع الأمر من خلال عملية ترحيل لها من مكان داخل الولايات المتحدة إلى مكان آخر، دون أن تكون لها أي دلالات في زيادة الناتج القومي الأميركي، فهي لم تُنْتِجْ سِلَعاً جديدةً ولا حقَّقَت قيمة مضافة، إنها كميات ثابتة من النفط الخام ارتفع ثمنها، فباعها منتجها بهذا الثمن الجديد إلى مستهلكها الذي دفع أكثر.. نقول.. إن هذه المليارات أليست تدفقا ماليا إضافيا تَكَبَّدَه المستهلك الأميركي من جيبه الخاص بدون تَغَيُّرٍ في دخله الفعلي؟!
أو ليس ذلك بالتالي عبئا استهلاكيا وقع على كاهله، سيثير تَذَمُّرَه من إدارته ويدفعه إلى الحنق والنقمة عليها؟!
 في واقع الحال تبدو هذه الأسئلة مشروعة ووجيهة للوهلة الأولى. لكنها لا تلبث أن تظهر سخيفة وبلا معنى عندما نفهم حقيقة السياسة النفطية الأميركية داخل الولايات المتحدة.
فمنذ زمن بعيد بدا واضحا للإدارة الأميركية أن واقع الشرق الأوسط وأوضاعه السياسية المتقلبة وغير المنضبطة، قد يتطلبان إحداثَ تغييراتٍ تقتضي تراكمَ كمٍّ هائلٍ من الثروة بأيدي العرب الخليجيين، لا يمكن تَحَقُّقُه إلاَّ بارتفاعِ أسعارِ النفط الخام، إلى أرقامٍ تقارب المائة والخمسين دولارا للبرميل الواحد، باعتباره ولأجيال قادمة هو مصدر الدخل الأساسي في تلك الدول. وبالتالي فهي كانت تدرك أيضا أن هذا الارتفاع الخيالي إذا لم يتم أخذ الحيطة له منذ ذلك الزمن البعيد، فإن انعكاساتٍ خطيرةً غيرَ مأمونةِ العواقب ستحدث في المجتمع الأميركي بسببه.
فماذا فعلت، وبماذا احتاطت، وكيف تصرفت منذ ذلك الوقت، بشكلٍ يَجعل التَّخَوُّفات المحتملة محلولةً بأثرٍ رجعي؟!
 منذ وقت مبكر – منتصف السبعينيات تقريبا – فرضت الإدارة الأميركية على النفط الخام ضريبة فدرالية، بنسبةٍ متغيرة لا تعرف الثبات، في ضوء علاقةٍ من نوع غريب بسعرِ برميل النفط، جاعلةً هذه النسبة تتغير صعودا وهبوطا، لتحقق معادلةً سعريةً تَتَّسِم بالثبات المتمحور حول سعر يقارب المائة والخمسين دولارا للبرميل الواحد. ومعنى هذا الكلام أن الإدارة الأميركية حددت سعرا افتراضيا لبرميل النفط بالنسبة للمستهلك الأميركي هو ما يقارب المائة وخمسين دولارا. وكان المستهلك يدفع هذا السعر لثمن البرميل الواحد من النفط الخام، مُقَسِّماً إياَّه إلى جزءين، أحدهما يمثل سعر البرميل الذي يتقاضاه المنتج وهو من حَقَّه، والجزء الثاني ويمثل الفارق بين هذا السعر والسعر الافتراضي، والذي هو المائة وخمسين دولارا تلك، ويُدفَع هذا الجزء كضريبة على النفط الخام، للحكومة الفدرالية.
 أي أن المواطن الأميركي كان يتعامل منذ زمن بعيد جدا مع برميلٍ للنفط الخام سعره مائة وخمسون دولارا دون أن ينتبه إلى ذلك أو يعيه، لأن هذا السعر في واقع الحال منطوَىً في كل ما يستهلكه في حياته من سلعٍ وخدمات. وليس هذا السعر بالأمر الجديد عليه من حيث تأثيره في حياته. كل ما في الأمر أن الحكومة الأميركية كلما ارتفع سعر النفط مقتربا من المائة وخمسين دولارا للبرميل الواحد، تُخفِّضُ من نسبة ضريبتها هي.
فعندما كان ثمن البرميل خمسين دولارا، كانت الحكومة تتقاضى مائة دولار، وعندما أصبح ثمنه سبعين دولارا، فإنها راحت تتقاضى ثمانين دولارا. وإذا أصبح ثمن البرميل مائة وخمسين دولارا، فإن الحكومة الفدرالية لن تتقاضى عنه شيئا. أي أن السعر بالنسبة للمستهلك الأميركي الآن وغدا وإلى أن يصل السعر إلى مائة وخمسين دولارا، ثابت لم يتغير ولم يحس به على وجه الإطلاق، فيما تكبدته الحكومة على شكل ضرائب تتنازل عنها لصالح كارتل النفط الأميركي، كي تلعب لعبتَها في رفع الأسعار بالشكل الذي تريده تنفيذا لسياساتها العالمية والشرق أوسطية، دون أن تثير مخاوف المواطن الأميركي وقلقه. أي أنها راحت تدفع لمنتج النفط الأميركي جزءا من أموال دافع الضرائب المدفوعة أصلا للحكومة الفدرالية في كل الأحوال، دون أن يشعر هذا الدافع بشيء، لأنه كان في الواقع قد تعود على دفع نفس القيمة إلى خزينة الدولة منذ عقود مضت من الزمن. فهو بذلك لم يجد عليه أي جديد.
ولعل الاضطراد المتواصل في ارتفاع أسعار النفط الخام دون أن نسمع عن مشكلات أو تذمر لدى المستهلك الأميركي من هذا الارتفاع أو من انعكاسه على مستوى معيشته خلافا لكل دول وشعوب العالم التي كانت تستورد النفط، يثبت لنا ذلك ويؤكده. بل إننا لم نسمع أي مسئول أميركي يتحدث عن تأثير سلبي لارتفاع الأسعار على الاستهلاك الأميركي إلا في منتصف شهر مايو / أيار 2008 عندما أعلن الرئيس جورج بوش بخجل وبمرور عابر، أن بدء ارتفاع أسعار البنزين قد يؤثر على المواطن الأميركي، وهو ما دعاه إلى طمأنة ذلك المواطن بأن المسألة لن تؤثر عليه في المدى المنظور وإذا لم تتجاوز الأسعار المائة والخمسين دولارا.. وهنا علينا أن ننتبه إلى أن الرئيس الأميركي لم يصرح بهذا التصريح، إلا بعد أن أصبح سعر برميل النفط حوالي 125 دولارا، أي بعد أن بدأ يقترب من الخط الأحمر الذي تحدثنا عنه فيما مضى.
أما تعويض هذه المليارات التي ستتكبدها الإدارة الأميركية بتخفيض نسبة ما تحصل عليه من ضرائب على النفط الخام من مواطنيها بإحالتها إلى قادة كارتل النفط الأميركي فأمرها سهل، لأنها ستُسْتَرَد مضاعفة من صفقات التسليح ومن نفقات ومصاريف تمويل الحروب التي ستغطيها الدول الخليجية في الشرق الأوسط.
فلندخل إلى شيء من التفصيل لتوضيح ذلك أكثر..
 (الأرقام في العرض التالي افتراضية للتمثيل فقط)
 دعونا نفترض أن السعودية ستصدر ما مجموعه السنوي (2000) مليون برميل من النفط الخام، بواقعٍ يقارب الـ (6) ملايين برميل في اليوم تقريبا. وبسعر يصل فقط إلى (70) دولارا في المتوسط للبرميل الواحد. إن إيراداتِها المُتَأَتِّيَة من هذا الإنتاج خلال سنة واحدة هو (140) مليار دولار، يمكنها أن تتجمع على مدى عشر سنوات لتصبح (1400) مليار دولار. فإذا علمنا مثلا أن المملكة السعودية ستنفق فقط ما مجموعه (400) مليار دولار على موازناتها ومشاريعها وخططها التنموية الداخلية خلال السنوات العشر، فإننا في واقع الأمر نتحدث عن فائض في الثروة البترودولارية قدرها “ترليون” دولار على مدى السنوات العشر محل الدراسة تلك.. (هذا مثال افتراضي لشرح الآلية وليس لتوضيح حقيقة الأرقام، لأن الحقيقة أكثر من ذلك بكثير، مع وصول الأسعار إلى أكثر من 140 دولارا للبرميل، ومع استعداد السعودية لإنتاج أكثر من 6 ملايين برميل يوميا لتعويض أي نقص في المتاح من النفط في حال تطبيق عقوبات على إيران، أو في حال حدوث أزمات إقليمية أو دولية تهدد التدفقات النفطية في العالم).
بكل تأكيد فإن هذه المبالغ ستودع في البنوك والبورصات وبيوتات المال الأميركية بالدرجة الأولى، والأوربية بالدرجة الثانية كما جرت العادة. خلال السنوات العشر فإن السعودية ستشتري أسلحةً بقيمة (150) مليار دولار. وبما أن أسعار الأسلحة غير منطقية وتكافئ حوالي عشرين ضعف ثمنها الفعلي الذي كَلًّفه إنتاجها كما مر معنا. فهذا يعني أن أكثر من (140) مليار دولار ستدخل إلى الولايات المتحدة كمكاسب وأرباح حقيقية من صفقات الأسلحة تلك. وبما أن الحكومة الأميركية بدورها تشتري الأسلحة التي تبيعها لأولئك المغفلين أو المتآمرين، “اعتبرهم كما شئت”، بأثمان مرتفعة من شركات تصنيع الأسلحة الممثلة للكارتل العسكري في الولايات المتحدة، كي يستفيد الجميع من صناعة الموت هذه، فإن هذا المبلغ سيوزع ضمنا وعبر الصفقات التجارية التي ستكون قد تمت بشكل قانوني بين الحكومة وشركات السلاح على الطرفين، بحيث يمكن القول بأن الحكومة الأميركية ستحقق مداخيل إلى خزينتها جراء هذه الصفقات لا تقل عن (100) مليار دولار.. هذا جانب واحد من جوانب إمتصاص الفوائض في المداخيل النفطية للدول الخليجية..
وماذا بعد؟!
 دعونا نُكْمِل السيناريوهات الافتراضية المُخَطَّط لها أميركيا. ستندلع حرب مدمرة في الإقليم تكلف ما بين أسلحة وذخائر وخدماتٍ عسكرية ودفاعية وغير ذلك ما يقارب الـ (500) مليار دولار. ستُدْفَعُ أيضا من المال السعودي الفائض هذا. ولأن أسعار كافة الأسلحة والخدمات العسكرية والدفاعية غير منطقية كما مر معنا، وأنَّها تكافئ حوالي العشرين ضعف التكلفة الفعلية، فهذا يعني أننا نتحدث عن حربٍ ذات تكلفةٍ فعليةٍ مقدارها (25) مليارا تقريبا، أي أن ما يقارب الـ (475) مليارا من الدولارات، دخلت إلى الولايات المتحدة كأرباح ومكاسب حقيقية من هذه الحرب. وإذا عدنا لتوزيع المكاسب بين الحكومة الأميركية وبين شركات السلاح والخدمات العسكرية المختلفة بنفس نسبة التوزيع السابقة، فإننا نتحدث عن مكاسب ومداخيل صَبَّت في خزينة الحكومة الأميركية مقدارها بسبب هذه الحرب (350) مليار دولار تقريبا.. أي أن إجمالي ما دخل إلى الخزينة الأميركية بسبب الامتصاص العسكري للفوائض السعودية اقترب من النصف تريليون دولار..
ولكن ماذا بعد؟!
 ما يزال هناك ما يزيد على النصف تريليون دولار مدَّخرةً في بورصات وبنوك الأميركين والغرب ومسَجَّلَةً كملكيات نقدية للسعوديين. وهذا وضع نشاز وغير مقبول وعلى السعوديين أن يستعدوا لإكمال اللعبة بخصوص هذه الفوائض المتبقية حتى النهاية. كل ما في الأمر أن السعوديين يبدأون في ترتيب أوضاع هذه الملكيات المختلفة الأشكال، لتوضع أمام بوز المدفع “البورصي” الأميركي، لتُطلِقَ عليها البورصات نيران مدافِعِها الحارقة بشكل مدروسٍ يُبَخِّرها، وينتهي الأمر.
وهكذا يكون الاقتصاد الأميركي قد ضَخَّ إلى مالكيه ومستثمريه ومواطنيه أكثر من نصف ترليون دولار في رمشة عين، أتاحتها أبخرة المال السعودي الذي اشتعل في محارق البورصات الأميركية. وهو قدر مهولٌ من الدخل لا يُتاح في مثل هذا الوقت القياسي لكل البشرية مجتمعةً. كما أن الحكومة الأميركية تكون عبر لعبة صفقات الأسلحة والحروب الإقليمية المحبوكة قد استعادت أضعاف ما تنازلت عنه من ضرائب للمواطنين الأميركيين بسبب غلاء أسعار النفط الخام. لتكون النتيجة أن كل طرف في الولايات المتحدة كان مستفيدا فيما تضرر كل العالم الذي أرادت الولايات المتحدة أن يتضرر. 
 خلاصة القول إذن، أن ارتفاع أسعار النفط العالمية لا يعود على العرب بأي منفعة ذات دلالة تنموية إلا في حدود ضيقة وشكلية وتهدف فقط إلى الإيهام بالمردود الإيجابي لتجنب وقوع الحكومات السفيهة تحت طائلة الإدانة من قبل شعوبها الغارقة في الضلال والغفلة، مادام الأوصياء على نفطهم هم حكام الخليج سفهاء العصر من الرغاليين الجدد المتحالفين مع المحافظين الجدد والمؤسسين للصهيونية العربية. كما أنه لا يتسبب للأميركيين بأي مَضَرَّة، ماداموا سيمتصون كل الفوائض النقدية التي حققها العرب والمتأتية لهم من دول العالم الأخرى، من خلال إستراتيجيتهم العسكرية في المنطقة العربية.
وكأن الولايات المتحدة الأميركية تُمَوِّل حروبَها وقواتِها في المنطقة بأموال ليست لها. فتكون بذلك قد حَرَّكَت وأحيت ونشَّطت كارتلين ضخمين من الكارتلات التي تُشَكِّل القوى الأساسية والفاعلة في معقل الإمبريالية، وهما كارتل النفط الذي استفاد أصحابه من ارتفاع الأسعار ابتداء وبشكل مباشر، باعتبار الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط الخام في العالم، عبر عملية إزاحةٍ داخليةٍ لقطعة هامة من الكعكة الأميركية على حساب الخزينة الحكومية الأميركية التي تفعل ذلك حماية للمواطن من جشع المنتج الذي يجب أن يربح ويلبي نهمه إلى المال والثروة، وحماية للمنتج من ثورة المواطن الذي يجب أن يبقى نظام التسعير في حياته الاستهلاكية متوازنا غير مُخِلٍّ بمقدرته الشرائية. وكارتل السلاح الذي استفاد أصحابه من فوائض النفط الخليجي التي مُوِلَت بها مبيعات أسلحتهم وخدماتهم العسكرية المتنوعة، معيدة إلى الخزينة من جديد كل المبالغ التي تمت إزاحتها منها خلال الفورة النفطية، للحفاظ على التوازن بين المنتج والمستهلك في سوق النفط الأميركي.
 ولأن معظم هذه المداخيل النفطية الخليجية قد تأَتَّت من كل من الصين والهند واليابان وأوربا الغربية وأوربا الشرقية وبعض دول العالم الثالث، فهذا يعني عمليا أن الولايات المتحدة برفعها لأسعار النفط إلى هذا الحد إنما تضغط على اقتصاديات تلك الدول بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة من دولة إلى أخري كي تُدًفٍّعَها أَتاواتٍ عالمية كما يفعل كلُّ البلطجية والفُتُواَّت في المجتمعات البدائية.
مُستهلكو الطاقة في العالم إذن، هم الذين يدفعون ثمن شلالات الدم في الشرق الأوسط عبر أيدي حكام الخليج الذين يقومون بهذا الدور القذر من خلال دفع ثمن أسلحة الموت والدمار التي تريق الدماء في المنطقة من ثمن النفط الذي تمتلكه شعوبهم بعد أن باعوه لأولئك المستهلكين كي يتدفأوا به، لتكون النتيجة الفعلية أنهم يتدفأون بدماء ضحايا الشرق الأوسط.
معالم التنمية المفترضة للتحرر من سفه السفهاء في الوطن العربي..
من الواضح إذن، أن العناصر المُكَوِّنة للصيرورة التاريخية لهذا الإقليم الحساس من الوطن العربي متداخلة بشكل متشابك، وهذه الصيرورة تفرض حراكا مُجتمعيا يأخذ تشابكَ عناصرها بعين الاعتبار. فإذا كانت العلاقات الإمبريالية في الإقليم تربط بين اقتصاديات النفط وبين إشعال الحروب كي تقوم هذه الاقتصاديات وتستمر، وإذا كانت اقتصاديات النفط بشكلها القادر على إشعال الحروب وتبريرها، تتطلب نوعا من التبعية المُشَوِّهَة للتنمية والقادرة على الضلوع في التآمر على الثروات القومية، وإذا كانت الحروب التي يتم إشعالها في سياق إدارة اقتصاديات النفط، تحتاج إلى تأطير معتقدي يبرر الموقف السياسي الرسمي منها، وهو ما يعني التَّنَمْذُج الثقافي القادر على تبرير الهزيمة والتبعية والارتهان بشتى أشكال التبرير المُتَصَوَّرَة.
 وإذا علمنا أن مُخَلِّقات الثقافة في أمةٍ من الأمم تتمحور حول أنماط التربية، وأشكال التعليم، ومديات الحريات السياسية والفكرية والاجتماعية، وآفاق حقوق الإنسان وفضاءاتها، والمضامين الحقيقية لفكرة الاستقلالية في وسائل الإعلام المختلفة، ومعاني العدالة الاجتماعية والتكافل، ومفاهيم الولاء والانتماء للوطن، وجوهر العمل الجماعي والتطوعي في المجتمع، وحدود الشعور بالأنا الفردية في تفاعلها وفي استقلالها، أو في تجاذبها وتنافرها مع الأنا الجمعية.. نقول.. إذا علمنا أن كلَّ ذلك يُسْهِم في تخليق المضامين الثقافية لأمة من الأمم. فهل يمكن فصل تلك البُنى المجتمعية التي تمثل مصدر الميكانيزم التَّخْليقي لتلك المضامين عن البُنى الأخرى في سياق وضع مخططات النهضة والنمو في أمة تتشابك فيها عناصر النهضة بشكل مربك، كما هو حال الأمة العربية؟!
 إننا نتحدث في واقع الحال عن تنمية تمثل طريقاً إلى النهضة ورافعةً لها وحاضنة لصيرورتها، ولا نتحدث فقط عن تنميةٍ بديلةٍ لتنميةٍ قائمةٍ وقاصرةٍ عن تحقيق مؤشرات رقمية أفضل، في مسائل التضخم والبطالة وفي مستوى المعيشة وفي التأمينات الاجتماعية وفي غيرها من مؤشرات الحياة المجتمعية الاقتصادية في مجتمعٍ خالٍ من المشكلات ذات الطبيعة غير الاقتصادية، وناهضٍ من أوحال التخلُّف إبتداءً، ويعيش أبناؤه حالة استقرار سياسي تُبْعِد عنه شبحَ الحروب الداخلية والخارجية، وشبح الصراعات الإثنية والمذهبية، وكل مظاهر القمع والاضطهاد.
 كما أننا نتحدث عن تنميةٍ لشعوبٍ لا تربطها بأنظمتها السياسية أي روابط انتماء أو ولاء أو تمثيل حقيقية، وتتعارض مصالح الفئات الحاكمة لها مع تطلعاتها إلى حياةٍ أفضل في كل شيء، تعارضاً يرقى إلى حد التناقض الذي يستدعي على الدوام كل أدوات القمع والاضطهاد، لا أدوات الحوار والتنافس النزيه والشريف والديمقراطي لحلِّه. ولسنا نتحدث عن تنميةِ شعبٍ يستطيع بتظاهرةٍ سلمية عزلَ حُكاَّمِه اللصوص والمنحرفين وتقديمهم للمحاكمة، ويستطيع صحفي صادق منه إسقاط حكومة بنشرِ خبر مشين ومسيء لكرامة الشعب الذي اختارها لتنفذ فيه برنامجا ارتضاه وقَبِلَ بها على أساسه.
 ومع أن قيام التنمية – أي تنمية في العالم – حتى  في الدول المتقدمة والمستقرة سياسيا، والمتحررة من الأزمات الإقليمية والدولية التي قد تفرض عليها تعاطيا مُرْبِكاً معها، لا مفر منه في كل نواحي صيرورتها، يجب أن تأخذ في الاعتبار مبدأ الترابط بين مشكلات المجتمع وبين مختلف قضاياه مَحَلَّ النهوض بها تنمويا. إلاَّ أن ما وددنا التأكيد عليه في حديثنا الذي ربط التنمية في الوطن العربي بفكرة النهضة عموما، هو أن طبيعة المشكلات التي تُكَوِّن حالة التخلُّف والانحدار التي تعاني منها الأمة العربية تتطلب علاقةَ ترابطٍ وتشابكٍ من نوعٍ مختلف بين قضاياها ومشكلاتها، تتجاوز مسألة التأثُّر والتأثير الرقميين اللذين تمكن قراءتهما بوصفهما مؤشرات على حالةٍ كَمِّيَّةٍ قابلة للحساب.
 فمشكلة التعليم في الوطن العربي مثلا ليست مجرد تباين كمِّي بين المخرجات التعليمية والمدخلات التشغيلية في المجتمع، سواء تم النظر إلى هذه المخرجات وإلى تلك المدخلات نَوْعِيًّا أو كمِّياًّ بعد ذلك!! إن العنصر الكمي في العملية التعليمية هو عنصر تنظيمي وليس أبدا عنصرا تكوينيا. فالمشكلة التعليمية فضلا عن كونها مشكلة تنظيمية، بل وقبل أن تكون كذلك، هي نتاجُ خللٍ في بُنْيَة الفلسفة التعليمية، التي عجزت بل وعزفت على الدوام عن تنشئةِ وخلقِ المواطن القادر على التفكير البنَّاء، وعلى رفض مبدأ التبعية والتلقين، والتي خلقت شرخا ذهنيا لدى المواطن، لا يمكن علاجه بأي تَغَيُّرات في المؤشرات الرقمية للتنمية التعليمية وغير التعليمية، عندما جعلته يعيش حالةً من التناقض بين عِشْقِه لقيم دينه التي تطلب منه أن يكون شجاعا وصادعا بالحق ومُقبلا على الجهاد في سبيل الله ومقارعة الأعداء ورفض الذل والهوان أو إعطاء الدنية في الدين وفي حب الوطن، لتُعَلِّمَه أنظمته السياسية في الممارسة الحياتية، كيف يكون ذليلا وعبدا وخانعا إلى درجة الاستسلام لشرطي يقوده في الشارع كما النعجة التي تُقاد إلى مذبَحِها.
أو عندما جعلت المعلم الذي كاد أن يكون رسولا في ثقافتنا العربية الإسلامية العريقة، يسكت خانعا حتى عن المطالبة بحقه في أن تكون له نقابة تدافع عن حقوقه المهنية والوظيفية، بينما هو يُدَرِّسُ التلاميذ ليل نهار في مادة التربية الوطنية أننا دولة حق وقانون لا تظلم أحدا وتكره الظلم والظالمين. وهذا التناقض الذي أشرنا إليه هو مجرد مثال عابر من مئات وربما آلاف الأمثلة الدالة على الخلل العميق في البناء الفلسفي للعملية التعليمية في الدول العربية عامة، وفي دول منظومة المحور الأكثر ارتباطا بالإمبريالية، والأكثر تمثيلا لعلاقاتها وتجسيدا لها في المنطقة العربية خاصة.
  خلاصة القول إذن، هي أن التنمية المستهدفة من قِبَل القوى التي يُفترض أنها تنظر إلى الأمور في الدول العربية بمنظار وطني شامل ومتكامل، على قاعدة أن قضاياه كلَّها تنطوي على بعد تَحَرُّري مُقاَوِم للعلاقات الإمبريالية في المنطقة، تُعْتَبَر تنميةً ذات جوهر نهضوي. لذلك فإننا نستطيع وصف التنمية التي ننادي بها وندعو إليها، سواء على الصعيد العربي القومي أو على الصعيد القطري، بأنها “تنميةٌ نهضويةُ المضمونِ مُقاوِمَة الشِّكلِ”.
 ومعنى ذلك في البُعْد الشِّكلي المُقاوِم للتنمية، أن كل بند من بنودها التي ستُطرَح، وكل جزئية من جزئياتها التي سيُناَدَى بها، سينطويان على تناقض مباشر وفوري – غالبا وليس دائما – مع بُنْيَة النظام السياسي الذي تُمارَسُ العملية السياسية في مواجهته. وهو ما يُحَتِّم أن يَحدث نوع من الاحتكاك – بصرف النظر عن شكله – بين الجماهير التي ستمثِّلها الطليعة المقاوِمَة وبين العلاقات الإمبريالية التي سيمثلها النظام، يُفَعِّل التناقض ويدفع به إلى التفاقم، لتتخذ الصيرورة التاريخية التي تَخلقها حالة الاحتكاك تلك، شكلا جديدا يَمَثِّل حالةً أكثر تقدمية بالنسبة للجماهير، حتى لو كانت هذه التقدمية مُتَمَثِّلَةً في مزيدٍ من الاحتقان وفي مزيدٍ من الاحتكاك بين النقيضين المتصارعين، مادام المزيد منهما يعمل في الاتجاه التقدمي الصاعد والخادم لمسيرة حل التناقض في المُحَصِّلَة.
 أما المعنى المُنْطَوَى في المضمون النهضوي للتنمية فهو مثلا، أن نضع الخططَ والبرامج الكفيلة بالنهوض بالعملية التربوية والتعليمية، وأذهاننا تبحث في انعكاسات ذلك على الاقتصاد وعلى الديمقراطية وعلى مقاومة المحتل وعلى الصحة وعلى العدالة الاجتماعية وعلى غيرها من مُكَوِّنات البناء المجتمعي في الوطن، كي نضمن أَنَّ تلك الانعكاسات سوف تُحقق التصور الذي تصبو إليه إرادة الجماهير بهذا الشأن.
 وهو يعني أيضا، أن نضع صيغ النهوض بالصناعة وبالزراعة وبعملية الإسكان وبالتشغيل ومعالجة معضلة البطالة، وعيوننا على مستقبلٍ محتملٍ للوطن بوصفه ساحة معركة مرتقبة مع العدو الصهيوني، أو مع شكلٍ متقدمٍ من أشكال الاحتلال الإمبريالي. وهو يعني على سبيل المثال لا الحصر أيضا، أن نضع الحلول لمشكلة الفقر وللتباين الطبقي الاقتصادي الشاسع في المجتمع، دون أن ننسى أن مقاومة العلاقات الإمبريالية في المنطقة وفي الوطن مُمَثَّلَةً في نظام تقسيم العمل والثروة السائد بالارتكاز إلى قواعد وعلاقات اقتصاد السوق، هي المُكَوِّن الأساس للمعركة ضد كل أشكال الفقر والعوز والفاقة في المجتمع، ما يعني مواجهة الخندق المقابل فكراً وبُنْياناً، بكل ما سوف يترتب على تلك المواجهة من تفاقمٍ لحرارة الصدام مع النظام السياسي القائم، يجب الاستعداد الكامل له.
إننا ندعو إلى بنية تنموية ثورية مقاومة قائمة في بعدها القطري والقومي، بل والأممي أيضا على العناصر الاستراتيجية التالية..
– إعادة النظر في تسعير النفط، وإنشاء عملة عربية خليجيىة موحدة، ولتكن هي الدينار العربي، ليتم تسعير النفط وتداوله في أسواق العالم بهذه العملة، كي تنتقل المزايا التي حظي بها الدولار بسبب احتكاره لتقييم التداولات النفطية، إلى هذه العملة وإلى الاقتصاديات التي تمثلها، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه العملة لن يقصد منها انتقال الفكر الاستغلالي من أميركا إلى العرب، بل تحقيق الاستقلال والحماية للاقتصاد العربي بوجه عام. وإذا كان لابد من أن تسبق هذه الخطوة خطوات أخرى تمهد لها، فليتم اللجوء إلى تسعير النفط بسلة من العملات العالمية بإمكان من يشاء أن يشتري النفط بأي منها، فيتم كسر احتكار القيمة الاحتكارية للدولار الأميركي في السوق النفطي.
– إعادة هيكلة مؤسسات إنتاج السلع والخدمات، لتعود إلى أصلها، مؤسسات إنتاج إشباعية وحاجاتية تغطي الحاجات الفعلية للشعوب وللسكان المحليين بالدرجة الأولى والأساس، لا مؤسسات إنتاج تصديرية بالمعنى المعروف للمفهومين. ولعل الصين التي يهلل الجميع لذكائها الاقتصادي وقعت في خطإ إستراتيجي سينعكس عليها بالكوارث في المستقبل إذا استمرت في انتهاجه مبدءا من مبادئها الاقتصادية، وهو أنها راحت ننتج آلاف السلع استجابة لمتطلبات الأسواق الخارجية كي تحصل من تصديرها على العملات الأجنبية التي تحتاج إليها. ولعل كون تلك السلع الصينية المنتجة ما تزال لم تخترق دائرة السلع الإشباعية للمواطن الصيني زراعية كانت أو غذائية، يجعلها بعيدة عن دائرة الخطر الذي نتحدث عنه لحد الآن على الأقل، إلا أن المستقبل غير مضمون، فلا أحد يدري ما الذي ستولده الفوائض النقدية المتأتية من هذه السياسة التصديرية من أفكار ونظريات استثمارية لدى الصينيين في المستقبل البعيد. ولا نستطيع في هذا السياق سوى لفت الانتباه إلى أن الصين بدأت تشتري أصولا واستثمارات في الولايات المتحدة بعد الأزمة المالية التي عصفت بالاقتصاد الرأسمالي وخاصة الأميركي منه، متجاوزة ظاهرة ما يحدث للعرب عندما يوظفون ثرواتهم على هذا النحو. نعم ربما أن الزعماء الصينيين أكثر حرية من زعماء الأنظمة العربية، وأكثر انتماء إلى شعوبهم من انتماء الحكام العرب إلى الشعوب العربية، هذا صحيح، لكن عندما تقوم العلاقات الاقتصادية على صراع المصالح، فلا أحد يستطيع التنبؤ بشكل المستقبل على الصعيد التفصيلي.
– عدم تركيز المداخيل الوطنية والقومية في بيوتات المال الأجنبية واستعادتها من هناك، إلى الوطن لتدخر أو تستثمر فيه محققة متطلبات التنمية في سياقاتها الصحيحة والتحررية والقومية والنهضوية.
– إلغاء كافة المؤسسات الاقتصادية العربية المرتبطة بشكل أو بآخر بمبدأ تداول الأسهم وأسواق السندات والبورصات، إن محليا وأن خارجيا. وشطب البورصات بكل حيثياتها من أن تكون مظهرا من مظاهر الاقتصادات العربية، وإن يكن بالتدريج ووفق سياسة مدروسة، فالبورصة كفكرة ثم كمؤسسة اقتصادية هي وسيلة من وسائل الربط الاحتكاري والعدمية الاستثمارية وخلق الأزمات الخانقة، والارتباط بعجلة الرأسمالية العالمية بكل السلبيات المترتبة على ذلك. وهي في نهاية المطاف تكثيف للعلاقات الرأسمالية في المجتمع الرأسمالي. فهل تصر الدول العربية على أن تكون اقتصاداتها رأسمالية شكلا ومضمونا، أم أنها يجب أن تعيد صياغة اقتصاداتها مبادئ ونظريات ومؤسسات بما يلبي الحاجات الإشباعية الفعلية للشعوب العربية في ضوء ما تتطلبه قضاياهم المتشابكة من حراك اقتصادي خاص؟!
– الكف عن الاقتراض الخارجي تحت أي ظرف، بل والتوقف حتى عن سداد الديون الخارجية أصولا وفوائد، والبدء في برمجة الاقتصادات المحلية كي تتناغم وتتوافق مع متطلبات الاستغناء عن مبدأ الاقتراض من حيث المبدأ.
– الخروج من قوقعة الصناعة الاستخراجية لتكوين الثروة، والانتقال إلى الصناعة التحويلية، التي لا تصدر المادة الخام إلا بعد تحويلها إلى مادة قابلة للاستهلاك في الصناعة التركيبية، فهذا أكثر جلبا للثروة، وأكثر ضمانا للاستقرار الاقتصادي والنقدي.
– برمجة صناعة النفط العربية لتبدأ تتحول من صناعة استخراجية تصدر النفط الخام إلى صناعة تحويلية تصدر مشتقات النفط، وتركيبية تصدر المنتجات المصنعة من مشتقات النفط. مع ضرورة استخدام النفط كورقة ضاغطة باستمرار لتحقيق المصالح ولتحصيل الحقوق العربية بالدرجة الأولى وكلما دعت الحاجة إلى ذلك.
– وضع نظام جديد لتسعير الصادرات في الصناعتين الاستخراجية والتحويلية، يفرق بين دولة وأخرى، بناء على حالتي الفقر والثراء. فالأسعار التي يجب على الدول الغنية أن تدفعها كأثمان لتلك الصناعات يفترض أن تختلف عن الأسعار التي يتم التعامل بها مع الدول الفقيرة. فالغني عادة حتى داخل المجتمع الواحد يدفع أكثر من الفقير، هذا إذا قبلنا أن يدفع الفقير أصلا عندما لا يكون قادرا على الدفع. ولعل هذه الفكرة الجريئة القائمة على إعادة النظر في فلسفة نظام التسعير العالمي، قد تكون مدخلا لاسترجاع فائض القيمة التاريخي الذي تسبب فيه الاستعمار العالمي وما يزال، وسوف تكون بالفعل قادرة على إفقاد الولايات المتحدة ميزة تسعير النفط بالدولار حتى لو بقي النفط مسعرا بالدولار الأميركي.
– الإكثار من التكتلات والتجمعات ذات الطبيعة الاقتصادية، لضمان فعالية التحركات التي تستهدف تحقيق المبادئ السابقة في مواجهة الغول الاحتكاري العالمي.
– إعادة النظر في كل سياسات التسلح والتسليح العربية، والكف عن شراء الأسلحة المتطورة وأنظمة الدفاع والهجوم عالية التقنية والكلفة، والتي تُحَدَّد لمشتريها طرق ومديات ومجالات استخدامها، والتي تمنع عنها كل أنواع الصيانة وقطع الغيار والتجدبد عندما تخرج عن سكة الحديد السياسية المرسومة لها. فالمنطقة في غير حاجة حقيقية لها، حتى لو تعرضت للاحتلال الإسرائيلي أو الإيراني المفترضين، إذ أن المنطقة يجب أن تبدأ في تكريس دور الشعوب والجماهير في الدفاع عن حياض الأوطان بعيدا عن الحروب التقليدية والنظامية التي تستنزف الثروات بلا جدوى وبلا ضرورة في ظل طبيعة الصراعات في المنطقة. والبدء في اعتماد سياسات جادة لتصنيع الأسلحة الضرورية محليا مهما كلف ذلك من أموال واستثمارات وتوظيفات مالية، في ضوء فلسفة جديدة للتسلح تقوم على إشراك الشعب بكل فئاته في مواجهة أعدائه بحسب متطلبات الحرب الشعبية والمقاومة الجماهيرية.
– التحول الجاد والحقيقي والعميق نحو الحريات الديمقراطية، كمدخل فعلي يتيح للشعوب الإشراف على إدارة ثرواتها ومقدراتها بنفسها، ولتتولى بنفسها أيضا مهام الدفاع عن أوطانها وحقوقها، ولتتحمل مسئولية مصيرها وخياراتها.
– إشراك المرأة في كافة شؤون الحياة بما فيها الشؤون السياسية والاقتصادية، إشراكا حقيقيا وفعالا جنبا إلى جنب مع الرجل.
– إعادة بناء أنظمة التربية والتعليم من جديد، انسجاما مع فلسفة المقاومة والمواجهة التي أسهبنا في شرحها وشرح أبعادها فيما مضى.
 وإننا إذ وصلنا إلى هذا المستوى من التحليل، لم يبق علينا إلا التأكيد على أن كل ما ذكرناه سابقا، يتطلب وضع وصياغة وابتكار فلسفة اقتصادية جديدة مختلفة كل الاختلاف عما هو سائد ومفروض على العالم مما لا نراه يخرج عن عباءة الرأسمالية العالمية، مؤكدين في هذا السياق على أن الأزمة العالمية التي اندلعت شرارتها في صيف عام 2008، والتي أربكت معاقل رأس المال الإمبريالي الاحتكاري المالي العالمي، وحجَّمت من ثم وإن يكن إلى حين من اندفاع إمبراطورية الرأسمالية نحو تحقيق أهدافها التي أسهبنا في الحديث عنها في هذه الدراسة، في منطقة المشرق العربي، بسبب أن معظم – إن لم يكن كل – المدخرات العربية التي كان مقررا لها أن تمول حربا أو حروبا مقبلة في الإقليم اتجهت لتسد ثغرة في جدار الرأسمالية العالمية المتهالك دفاعا عنها وحماية لها من الانهيار، كشأن كل المدافعين عن هويتهم الاقتصادية وأناهم الوجودية ولا فرق..
 نقول.. أننا نؤكد على أن هذه الأزمة كشفت عن حقيقة غاية في الأهمية نجد أنفسنا مدفوعين إلى التصريح بها كي يصحو المغفلون من سباتهم المتواصل منذ قرون.. فهاهم تجار الرأسمالية الإسلامية ومنظرو أسلمة كل شيء حتى الخطايا والمعاصي والكذب والغش والظلم والاستغلال والدعارة، يرقصون فرحا وهم يرون تكالب الرأسمالية الغربية على ما يسمى – زورا وبهتانا – بالأنظمة المصرفية الإسلامية باعتبارها الأقدر على حل مشكلاتها والخروج بها من أزماتها، مع الحفاظ عليها رأسمالية قادرة على تجديد نفسها وضمان استمرارها سيدة للحياة الاقتصادية للبشر مائة سنة قادمة من الزمان.
 ونحن إذ ندعو إلى الاستيقاظ من الغفلة والكف عن الرقص الفرِح بهذا القدر من الغباء الذي وصل إليه قادة الرأسمالية الإسلامية، فلأننا فهمنا كما يفرض ذلك منطق الأمور، أن هؤلاء المصرفيين الإسلاميين يقدمون بتصورهم القاصر والساذج والسطحي للفلسفة الاقتصادية الإسلامية، ترياق إعادة الحياة لعدوة الإنسانية الأولى، ألا وهي الرأسمالية العالمية بأبشع صورها الإمبريالية المالية المتغولة.. فكفى بتصور إسلامي كهذا سقوطا وتراجعا، أن كشف في نفسه عن صورة من صور الرأسمالية البغيضة وأن رأى فيها منقذا لها، والإسلام بقرآنه الكريم وبسنة نبيه الصحيحة براء من كل هذه الفقهيات المصرفية الساذجة التي لا تعدو كونها نوعا من القراءة الرأسمالية المهذبة للمرجعية الاقتصادية الإسلامية الأم التي ما تزال مع الأسف الشديد تعاني من البكارة الاجتهادية الموغلة في عذريتها منذ أربعة عشر قرنا.
 ولهذا السبب نجد لزاما علينا أن نزود المهتم العربي في لقائنا المقبل معه عبر الشبكة العنكبوتية، بما نرى من وجهة نظرنا المتواضعة أنه يمثل أرضية صلبة لفلسفة اقتصادية إسلامية بديلة قادرة على حل كل مشكلات البشر، وتحقيق العدالة وتحرير المظلومين والفقراء والكادحين من قيود الرأسمالية المقيتة، وهو ما نعتقد أن على القوة التي تريد التصدي لواقع التنمية والنهضة العربيتين على قاعدة التحرر والاستقلال ومواجهة كافة العلاقات الإمبريالية في المنطقة، أن لا تمر عليه مر الكرام. 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.