خطط اليهود لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، ليجمع شتاتهم في دولة يهودية تعترف بها المنظومة الدولية، والتقى اليهود مع الغرب على هذا الهدف، فكان المشروع الصهيوني، وكانت النكبة الفلسطينية. ففي 1948 استولت العصابات الصهيونية على جزء من أرض فلسطين وهجّرت شعبنا منه بالقوة، وأقامت عليه ما يسمى (إسرائيل)، لتصبح عضواً في هيئة الأمم المتحدة. ومنذ ذلك الوقت والجرح الفلسطيني يزداد عمقاً والنزيف الفلسطيني يزداد شدة، إذ استمر تهجير الفلسطينيين وتهويد مدنهم وقراهم والاستيلاء على أرضهم والتنكيل بهم، ولم يتمكن العرب حتى اليوم من تحرير فلسطين ولا وقف تقدم المشروع الصهيوني. فلماذا نجح اليهود في إقامة كيانهم بينما فشل العرب في التصدي لهم؟
براغماتيتهم وعاطفيتنا
محمد اسحق الريفي
خطط اليهود لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، ليجمع شتاتهم في دولة يهودية تعترف بها المنظومة الدولية، والتقى اليهود مع الغرب على هذا الهدف، فكان المشروع الصهيوني، وكانت النكبة الفلسطينية. ففي 1948 استولت العصابات الصهيونية على جزء من أرض فلسطين وهجّرت شعبنا منه بالقوة، وأقامت عليه ما يسمى (إسرائيل)، لتصبح عضواً في هيئة الأمم المتحدة. ومنذ ذلك الوقت والجرح الفلسطيني يزداد عمقاً والنزيف الفلسطيني يزداد شدة، إذ استمر تهجير الفلسطينيين وتهويد مدنهم وقراهم والاستيلاء على أرضهم والتنكيل بهم، ولم يتمكن العرب حتى اليوم من تحرير فلسطين ولا وقف تقدم المشروع الصهيوني. فلماذا نجح اليهود في إقامة كيانهم بينما فشل العرب في التصدي لهم؟
الإجابة على هذا السؤال لا تخلو من التطرق للسمة الأبرز من سمات العرب في التفاعل مع المشروع الصهيوني، وهي “العاطفية”، في مقابل براغماتية المشروع الصهيوني. وتجنباً للخوض في الجانب السيكولوجي لمفهوم العاطفية، يكفي النظر إليها على أنها: التعاطي مع الأخطار والتحديات بردود فعل ذهنية كثيفة مصدرها الجهاز العصبي بعيداً عن الإدراك العقلي والتفكير المنطقي. ولذلك تكون ردود الفعل التي تنتج عن العاطفية غير محسوبة ولا تؤدي إلى القيام بعمل مبني على استشراف المستقبل، وتحديد حجم التحديات والأخطار، والتخطيط الإستراتيجي. وبعبارة مختصرة: العاطفية هي “الفزعة” العربية المعروفة. وفي مقابل عاطفية العرب، يتسم المشروع الصهيوني بالبراغماتية، التي يمكن تعريفها بأنها: تسخير كل الإمكانات المادية والبشرية المتاحة وتوظيف التناقضات الإقليمية والعالمية في مواجهة التحديات والأخطار بطريقة عقلانية تعتمد التفكير المنطقي والتخطيط الاستراتيجي.
من صور البراغماتية التي ينتهجها الكيان الصهيوني في مواجهة تحدي المقاومة الفلسطينية: الموافقة على قيام سلطة حكم ذاتي فلسطينية تدير حياة ملايين الفلسطينيين في الضفة وغزة وتكون وكيلاً أمنياً للعدو الصهيوني، إقامة جدار الفصل العنصري لمنع تسلل الاستشهاديين إلى الداخل الفلسطيني، الانسحاب من غزة لوقف استنزاف العدو، السماح لفلسطينيي الداخل بالمشاركة السياسية (الشكلية) في الكنيست والحكومة الصهيونية.
ومن صور عاطفية العرب: تنظيم مظاهرات عربية دون هدف محدد سوى التعبير عن مشاعر الغضب ضد العدو والتنديد بجرائمه ضد الشعب الفلسطيني وتنفيس انفعالات الجماهير العربية، ردود الفعل الشعبية العربية على الحصار الصهيوني المضروب على غزة، ردود فعل العرب إزاء الاعتداءات الصهيونية المتواصلة على القدس وأهلها المسلمين والمسيحيين هويتها العربية والإسلامية… وهكذا.
نحن العرب ننظر إلى براغماتية اليهود على أنها جبن، ورغم أن اليهود هم في الحقيقة جبناء، فإنهم أذكياء ومنظمون وعمليون، وهم يحسنون استشراف المستقبل والتخطيط الاستراتيجي، ولديهم نظام ديمقراطي (عنصري) يضمن للقوى السياسية اليهودية حرية لا يحلم بها العالم العربي، ولديهم القدرة على التأثير لمصلحتهم على القوى السياسية والاقتصادية التي تهيمن على العالم وتحدد السياسات الخارجية للولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية الداعمة للمشروع الصهيوني. وقد برع اليهود في إدارة الرأي العام الغربي والعالمي لمصلحتهم، وهم يستخدمون العقل والعلم والتخطيط في مواجهة التحديات والأخطار. ويتعامل اليهود مع التحديات التي تواجه مخططاتهم بواقعية القوي الواثق بقدرته على المواجهة، وليس بواقعية الضعيف المهزوم، وهي البراغماتية الاستسلامية التي يُدعى إلى تبنيها العرب نهجاً وحيداً في مواجهة اليهود المغتصبين لفلسطين. وذلك بسبب عاطفية العرب، وعدم قدرتهم على التخطيط، وافتقارهم إلى الحريات الإنسانية الأساس، وسيطرة الإعلام التافه عليهم.
براغماتية اليهود حولت جبنهم إلى قوة دافعة للتقدم العلمي والتكنولوجي والتطور الاقتصادي، وحولت ضعفهم إلى قوة عسكرية لا يستهان بها في منطقتنا، وإلى ترسانة نووية تهدد وجود أمتنا العربية، وجعلت كيانهم أمراً واقعاً له شرعية دولية، وهي شرعية باطلة، ولكنها تعبر عن قدرة اليهود على كسب الدعم الغربي المسيحي. أما نحن العرب، فقد تعاملنا مع المشروع الصهيوني بعاطفية مبالغ فيها إلى حد غير طبيعي، إذ كان الاستخفاف العربي بالعصابات الصهيونية في حرب 1948 واضح في تعاطيهم مع الخطر الصهيوني الكبير، فانتصرت هذه العصابات على العرب، وكانت النكبة الفلسطينية. ولم تكن النكبة على ما يبدو كافية لإشعار العرب بمدى خطورة ما يجري في فلسطين، فظلوا في عاطفيتهم يعمهون، ولا يزال العرب لا يتعاملون بجدية مع الخطر الصهيوني الذي يهدد وجود أمتنا.
ثم استخف العرب مرة أخرى بالكيان الصهيوني، وأعدوا لمواجهته شعارات فارغة وأغاني عاطفية خداعة ومدغدغة للعواطف. فقد خدع العرب أنفسهم بالشعارات التي كانت تستحوذ على التفكير العربي قبل حرب حزيران 1967، وكانت تلك الشاعرات أقرب إلى أحلام اليقظة من الحقيقة، وضحكوا على أنفسهم عندما هددوا اليهود المغتصبين لفلسطين بإلقائهم في البحر لتأكلهم الأسماك. وهكذا، أسكرنا نزوعنا إلى التعامل بعاطفية مع خطر كبير يهدد وجود الشعب الفلسطيني ووجود أمتنا، وغرقنا في الأحلام، فكان الركون إلى الدعة، وغاب الوعي والتخطيط، وانعدم الإعداد والاستعداد الواعي المطلوب، بينما كان اليهود يعملون بجد وتخطيط، ويبنون المؤسسات العسكرية والاقتصادية والتعليمية لكيانهم الغاشم، فكانت النكسة، ثم جاءت الهزائم العربية تباعاً إلى أن تبنت المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان نهجاً ينزع إلى البراغماتية ويحد من العاطفية في التعامل مع الخطر الصهيوني الداهم، فكان الإعداد والتنظيم والتسلح، فانتصرت المقاومة على جيش العدو الصهيوني في جنوب لبنان وغزة. ورغم ذلك ما زلنا بحاجة إلى التخلص نهائياً من عاطفيتنا في التعاطي مع التهديدات الصهيونية المستمرة بشن حرب جديدة لتصفية المقاومة الفلسطينية واللبنانية.
3/10/2010
—–
ا.د. محمد إسحاق الريفي
أستاذ الرياضيات في الاحتمالات والإحصاء
الجامعة الإسلامية بغزة
غزة، فلسطين