www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

أفسحوا الطريق للغراب الأسود … بقلم آرا سوفاليان

0

ـ إلى أي طابق يا آنسة؟ ـ إلى التاسع لو سمحت… مهلاً ألست أنت الذي؟ ـ الذي ماذا يا آنسة؟ ـ في كليّة طب الأسنان؟ ـ ماذا في كلية طب الأسنان يا آنسة؟

أفسحوا الطريق للغراب الأسود … بقلم آرا  سوفاليان

ـ إلى  أي طابق يا آنسة؟

ـ إلى  التاسع لو سمحت… مهلاً ألست أنت الذي؟

ـ الذي ماذا يا آنسة؟

ـ في كليّة طب الأسنان؟

ـ ماذا في كلية طب الأسنان يا آنسة؟

ـ الرجل الذي دافع عنّي؟

ـ دافع عنكِ؟ عن أي شيء تتحدثين يا آنسة؟ 

ـ أرجوك سأنزل معك هنا في الطابق الخامس… حيث لا يمكنني إشغال المصعد… هل تسمح لي حضرتك بأخذ خمسة دقائق من وقتك.

ـ اعلمي يا آنستي بأنني لا أعمل عند أحد ووقتي ملكي وأنا حرّ به واليك عشرة دقائق بدلاً من الخمسة ولكن أعلمك وبشكل مسبق بأنك تقصدين شخص آخر وتشتبهين بي بدون أدنى شك فأنا لم يسبق لي التشرف بمعرفتك.

ـ لا لا أنت هو الرجل الذي أقصده… ولأن الأمر عادي بالنسبة لك، وهو غير عادي بالنسبة لي فإنك لم تتذكرني… أما أنا فلقد بحثت عنك طويلاً دون أن أجدك… وتوقعت أن أراك في الكلّية في يوم ما دون جدوى… واليوم وجدتك!

ـ طيب ولكن ماذا تريدين مني أيتها الآنسة؟

ـ أريد أن أشكرك لأنك زرعت في قلبي العزم ودفعتني إلى الأمام وبقوة وبأس شديدين.

ـ يا ساتر… ومتى حدث ذلك؟

ـ منذ بضعة سنين … سبعة أو ثمانية على الأكثر، وفي مدخل كلية طب الأسنان وأمام الباب الحديد الرمادي.

ـ لا أعرف يا آنستي عن أي شيء تتحدثين، ولكن هل تحبين حضرتك الدخول إلى  مكتبي أم تفضلين الوقوف هنا في الممر؟

ـ إن لم يكن هناك ما يضايقك فأنا أتمنى الدخول إلى  مكتبك، وأطمع بالعشرة دقائق التي وعدتني بأن تخصصهم لي.

ـ تفضلي

ـ أنا أيها السيد … الغراب الأسود… أفسحوا الطريق للغراب الأسود… الفتاة التي كانت ترتدي الملابس السوداء…هل تذكرتني الآن؟

ـ نعم نعم لقد تذكرتك الآن لقد عادت بي ذاكرتي إلى  ثمانية سنين ماضية… أو ربما سبعة … لا أعرف، لقد كانت هناك على ما أذكر، محاضرة يلقيها أحد الأساتذة الأجانب المهمين على المدرج الأول في كلِّيتكم، كلية طب الأسنان في جامعة دمشق وتتعلق بمادة جديدة تسوقها شركة أسوق أنا منتجاتها المستوردة، وكان عليّ الحضور قبل الموعد المحدد للمحاضرة لاستقبال الضيوف والقيام بواجبات التعريف والإشراف على الجزئيات التي لا يمكنني تركها لآخر لحظة لأنها وبالتجربة هي أهم الجزيئات المُحبطة والناجمة عن تقصير كل معني بأداء واجباته الطبيعية والتي يفترض انه يستحق راتبه بعد أدائها؟

وعند المدخل أذكر أنه كان هناك تجمع من طلاب السنة الأولى أو الثانية لا أعرف وقد اختلط الحابل بالنابل والملابس البيضاء مطوية وعلى اليد اليسرى  والنظام الشللي يفرض نفسه وبقوة، وكنتِ تسرين خلفي وتتشحين بالسواد من أعلى رأسك وحتى أخمص قدميك… وأذكر أني تدبرت أمري على الرغم من أنهم لم يفسحوا لي… ودخلتِ أنتِ بعدي… وأذكر أنه قد خرجت عن أحدهم ضحكة خبيثة تتلوها مناشدة للشلة أن … أفسحوا الطريق للغراب الأسود… وكان يقصدكِ أنتِ… ونظرتُ وقتها إلى  المناشد وكان اسمر اللون أفطس الأنف يشبه شيبوب عبد عنترة بن شدّاد… فنظرت إليه نظرة استهزاء فتجاهلني… وأذكر أنك مررت من أمامي وتجاوزتني ورأيتك تُخرجين منديل تمسحين به دموعك…

ـ قلتُ لكِ: انه حثالة أليس كذلك؟

ـ أجبتني: بل أكثر من حثالة… هو مهرج يتدبر المواضيع لإضحاك جماعته… وقد وضعني الآن في حيز اهتماماته… فمنذ اللحظة لتي أغادر فيها منزلي متوجهة إلى  الجامعة، تبدوا صورته في مخيلتي، فأتمنى أن لا يقع في طريقي… ولكن الحظ التعس يضعه في مواجهتي ومعه شلته الرخيصة.

ـ سألتكِ: على من تلبسين الأسود؟

ـ أجبتِ: على أبي 

ـ سألتكِ: ومنذ متى؟

ـ قلتِ: منذ أقل من شهر

ـ سألتكِ: ما سبب وفاته؟

ـ قلتِ: نوبة قلبية

ـ قلت: هذا ما حدث لوالدي أيضاً

ـ قلتِ: ليرحمهما الله… سألبس السواد لمدة سنة كاملة وهذا نذر… ولا أعرف ما سأفعله في مواجهة هذا المهرج، فالعام الدراسي في أوله… وهو في كل مرة يراني، يتحف شلته بالكلام الفارغ ويقول عني: جاء الغراب الأسود، وذهب الغراب الأسود، وأفسحوا الطريق للغراب الأسود، حتى تحول الدوام بالنسبة لي إلى  مشكلة لا أجد لها الحل وأخاف أن أكره الجامعة وأكره فرعي.

ـ قلت لكِ: حسناً تريثي فالأمر لا يستحق كل هذه المشقة والمكابدة، توقفي عن إظهار الضعف واستثارة عواطف الآخرين بالبكاء فهذا لا يجدي شيئاً تعلمي أن تكوني قوية… وأنا أعرض عليك المساعدة إن أحببتِ.

ـ قلتِ:  إياك أن تتعرض له، فهذا قذر جداً… وإلى  درجة لا ينفع معها أي شيء.

ـ سألتكِ: هل تراهني يا آنسة؟

ـ قلتِ: لا أعرف بماذا أجيب

ـ قلت لكِ: هذه بطاقتي… اكتبي على الوجه الخلفي اسم حضرتكِ، واسم المهرج وفي أي سنة، وأعيديها لي… وأعرتك قلمي… وشكرتكِ بعد أن وضعت البطاقة في جيبي.

ـ قلتِ لي: هل لي أن أعرف اسم حضرتك؟

ـ قلت لكِ: نعم اسمي جابر

ـ قلتِ: وكنيتك؟

ـ قلت: عثرات الكرام… جابر عثرات الكرام… هذا اسمي… ولكن إن نجح المسعى هل تعديني بتنفيذ ما سأطلبه منك؟

ـ قلتِ: نعم 

ـ قلت: في أول زيارة لكِ لوالدك… استسمحيه أن يحلك من نذرك… فنذرك هذا هو عادة وثنية… والدين المسيحي جاء لنسخ الوثنية… والحداد والحزن ولبس الأسود هو كفر لأنه اعتراض على مشيئة الله… فلو أن الله أراد لوالدك أو لوالدي البقاء، لكانا أحدهما أو كليهما معنا الآن.

ـ قلتِ: طيب على الأقل لما بعد ذكرى الأربعين.

ـ قلت لكِ:  لا يا آنسة فكل هذا تجاوز على الدين… وهذا هو الكفر بعينه.

ـ  قلتِ: هل تسمح لي ببطاقة تعريف لحضرتك؟

ـ قلت لكِ:  آسف لا أملك واحدة أخرى… إلى  اللقاء

ـ أجبتِ: إلى  اللقاء.

هذا كل ما أذكره يا آنسة، وكما ترين حضرتك فإنه وبالصدفة المحضة، تم هذا اللقاء اليوم ولكن بعد ثمانية سنين وفي مكان بعيد عن الجامعة.

 

أما الذي حدث بعد ذلك يا آنسة فهو في حيز التخمين، فلقد وضعت بطاقتي وفيها الأسماء في جيب صديق وحدثته بالقصة ووعدني بأن يعالج هذا الأمر بطريقة العرب وهي الكيّ باعتباره آخر العلاج، وبقية القصة عندك.

ـ نعم أيها السيد… فلقد تم استدعاؤه لوحده ولا أعرف من قبل من… وخرج ووجهه كما قالت صديقتي مثل التوت الشامي… وذهب إلى  بيته ولم يحضر في اليوم التالي… ولم أعد أراه إلاّ من بعيد وكان يجلس في آخر المدرج ويتعمد أن لا يمر من أمامي بالمطلق، وانفرط عقد الشلة التي كان يتزعمها، وانشغل كل منا بمحاضراته، وافترقنا في الاختصاص ولم أعد أراه بالمطلق… كم تمنيت أن أراك لأشكرك على ما فعلته من أجلي… وأنقل لك شكر أهلي أيضاً… ولكن أيقنت أن كل ما حدث لي هو مصادفة لن تتكرر أبداً… ولكنها تكررت اليوم والحمد لله الذي جمعني بك من جديد.

ـ وماذا حدث لنذرك؟ أقصد الحداد والملابس السوداء؟

ـ في ذات اليوم جاء عمي الكبير وزوجته لزيارتنا وأطلعته على ما حدث لي في الجامعة وقال لي أن وجهة نظره تتطابق مع وجهة نظر حضرتك، وأن الحزن في القلب وليس في الملبس، وقال أنه توقع أن تتم الإساءة لي في الجامعة من قبل زميل تافه، وأن توقعه قد انقلب إلى  حقيقة، وقال لي: يا ابنة أخي لا أملك أن أفرض عليك أي شيء بل بالعكس فأنا وزوجة عمك نطلب من والدتك السماح لك بالعودة عن السواد في الحال… وتوصلنا إلى  حل وسط وهو أن أخلع السواد بعد قداس الأربعين، وكانت المفاجأة في اليوم التالي في الجامعة… مفاجأة التوت الشامي… لقد دفعتني إلى  الأمام أيها السيد واستطعت بفضلك تجاوز محنتي.

ـ هذا فضل الله يا آنستي

ـ توقف عن مناداتي بلقب الآنسة فأنا الآن قد تخرجت وتزوجت وعندي ولد.

ـ حقاً آسف لم أكن أعرف… ولكن ما هو أسم الولد؟

ـ أسميته… جابر… جابر عثرات الكرام… هذا كرت عيادتي أتمنى تشريفك

ـ سعدت بلقائك يا سيدتي… بلغي سلامي لأهلك ولزوجك و… لجابر و… ولعثرات الكرام.

ـ أشكرك على ما فعلته من أجلي

ـ الشكر لله يا سيدتي… فأنا لم أفعل شيئاً… أنا ألتمس وجه الخالق ولطفه وعفوه… لأنه سبحانه لا يضيع عنده شيء… فأنا لي ابنتين صغيرتين… ستكبران إن شاء الله وتدخلان الجامعة… وقدر ييسر الله لهما ما يسره لكِ… فاشكري الله على نعمه ولا تشكري العبد… إلى  اللقاء

ـ إلى  اللقاء 

 Ara  Souvalian

arasouvalian@gmail.com

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.