كنا ولا زلنا حتى اللحظة وسنبقى إن شاء الله، عائلة صغيرة متفاهمة ومتحابة و جميلة أم لطيفة ومتفانية وأب متفهم ومتحرر وطفلتان صغيرتان آني وكارني تكبران معاً والفرق بينهما عامان دراسيان لا غير.
أتوسل إليك يا أبي افعل شيئاً… بقلم آرا سوفاليان
كنا ولا زلنا حتى اللحظة وسنبقى إن شاء الله، عائلة صغيرة متفاهمة ومتحابة و جميلة أم لطيفة ومتفانية وأب متفهم ومتحرر وطفلتان صغيرتان آني وكارني تكبران معاً والفرق بينهما عامان دراسيان لا غير.
للكبيرة وفي مرحلة الطفولة الأولى موقف بريء يساوي بحراً من الإنسانية لا أنساه أبداً ولا تنساه أمها ونذكره على الدوام بين الأصدقاء، والعائلة وبالأحرى من بقي منها لأن العائلة وفي معظمها مشتته في المغترب، ولمرتين.
المرة الأولى: صبراً وبالإكراه وقد حدث ذلك إبان المجزرة المروعة التي لحقت بالأرمن في العام 1915 وأدت إلى إبادة معظم الشعب الأرمني، وبقي من أسرتي ثلاثة أطفال فقط، جدي وشقيقيه، ولولا العرب لكانت عائلتي بالكامل جزء من نصب تذكاري مقام في مكان ما على طريق الإبادة.
والمرة الثانية : خيراً لمسايرة آمال البعض من أفرادها وسعيهم للوصول إلى الأفضل وعدم اقتناعهم بالطريق الذي يفترض أن عليهم مسايرته وهو التأميم والاشتراكية وما واكبهما، فاختاروا الهجرة إلى كندا وأميركا وبدؤوا هناك من الصفر.
كانت آني صغيرة وتتعلم الكلام وتجلس في حضن أمها وزجاجة الحليب بيدها عندما دفعت حلمة زجاجة الحليب بلسانها ونظرت ملياً إلى التلفاز الذي كان يعرض صوراً لمجاعة في إحدى الدول الأفريقية حيث تظهر بعض الأمهات وهن تحملن أطفالهن وعظام الصدر بارزة والهياكل ناحلة والأثداء ضامرة والذباب على وجوه الأطفال يترك حيث هو بسبب الضعف الشديد و الجوع، وبكاء الأطفال يذهب بأفئدة الأمهات.
قالت الصغيرة لأمها: هؤلاء الأطفال لماذا يبكون؟
أجابتها أمها: لأنهم مرضى ولا يوجد عندهم حليب
قالت الصغيرة: عندما يرجع البابا من الشغل سأطلب منه أن يأخذهم… لعند… الدكتورة لينا الخوري، وأن يشتري لهم حليب نيدو وسيريلاك.
ونامت الصغيرة قبل أن يرجع والدها من الشغل، وتولت الأم نقل هذه الرسالة إلي، فسألتها وكيف عرفت آني أنهم أطفال مثلها وهم سمر البشرة وهياكل عظمية، أجابتني أمها: لقد عرفت ووصفتهم بالبيبييات BeBe… قلت لها: سبحان الله … طفلة لم تزل في طور تعلم الكلام وتدرك أن هؤلاء بشر مثلها على الرغم من أنهم سمر وهي بيضاء وشقراء ولا يدرك هذه البديهية بشر آخرون سرقوا ولا يزالون كنوز أفريقيا وثرواتها وحيواناتها وأنياب فيلتها وفراء نمورها وغازها ونفطها ومعادنها واستعبدوا شبابها ونقلوهم بالسفن إلى العالم الجديد وباعوهم كما تباع الحيوانات وجربوا بهم كل ما أمكن تجربته فكان يتم قتلهم إن تجرأ أحدهم وتأفف أو توقف عن العمل مريضاً أو متمارضاً.
قالت لي أمها: أخشى عليها فهي شديدة الحساسية وتبكي إن جربتُ ولو على سبيل المزاح ضرب دبدوبها ميتشكا أو أرنوبها توتي فروتي أو لعبتها ميلودي.
ورزقت بالابنة الثانية وظننتها قوية ومتماسكة… وأنهت فترة الطفولة المبكرة وتعلمت الكلام وكنت أراقبها وهي تكبر، وذهبت إلى المدرسة وكانت هادئة وقوية ولا تبكي، وكانت في الصف الرابع وأختها في السادس عندما اتفقوا معاً على تطفيش معلمة البيانو، وكانت المؤامرة من تخطيط وتنفيذ الصغيرة قبل الكبيرة، وقلت لأمها تلك شديدة الحساسية وعاطفية وهذه قوية فسبحان الله الذي يخلق أخوين ولا يخلق طبعين (وهذا مثل شعبي يؤكد انه قد يلد شقيقين متشابهين في كل شيء كالتوائم عدا الطباع)…، إلى أن جاء اليوم الذي قلبت الصغيرة فكرتي عنها رأساً على عقب.
كنا في زيارة لدير صيدنايا الأثري نصعد على الدرج الحجري وأختها الكبرى في المقدمة وخلفها أمها وأنا أمسك يد الصغيرة كارني، وفجأة شدت بيدها الصغيرة على يدي وبقوة، وصرختْ… أرجوك يا أبي ساعدني… وأصابني الرعب الشديد فنظرت إليها ونظرت حولي وإلى الأمام وإلى الخلف ولم أجد أحد ولم أجد ما يتهددها أو يتهددني بشيء، قلت لها ماذا حدث يا كارني ماذا بك، فأشارت بيدها الصغيرة وقالت لي: مددوه على الأرض سيقتلوه الآن أنظر لقد ثبتوا يديه وقدميه… وصرخت بي أنقذه يا أبي … أرجوك أنقذه يا أبي… ووضعت كلتا يداها الصغيرتين على الدرابزين وصرخت… لا … لا تفعلوا!!!
ورأيت في مواجهتي وعلى الدرج القديم الذي يبعد عن المكان الذي نقف فيه عشرون متراً وفي فسحة صغيرة رهط من الناس تكاثروا على كبش وداسوا على قوائمه الخلفية لتثبيته وتولى أحدهم إعمال المدية في رقبته من الوريد إلى الوريد، والتمع نصل المدية في ضوء الشمس ونفر الدم وصرخت كارني… أيها الوحوش… أيها الأنذال… وبكت كارني وضاعت كلماتها وصراخها وشتائمها… ولم تقتنع بما حدث ولم تجد أي مبرر له، حاولنا إقناعها أنا وأمها أن هذا نذر وهذا حلال… وأصرت هي أن هذا العمل وحشي وحرام والخروف مسكين ولا ذنب له… وانتهت مراسم الزيارة وكنت في طريق العودة أراقبها بمرآة السيارة الوسطى عيناها كالخوخ الأحمر ولا تتوقف عن البكاء، وقد فضحتنا في الدير كله.
كنت أتحدث مع أمها طيلة الطريق عن عادات وثنية كثيرة ورثها المسيحيون عن الوثنية، لدرجة أن الهيكل الذي كان يقف فيه الكاهن ليؤدي الصلاة، كان يدعى المذبح، وفي زواياه ثقوب ينزل منها دم الذبيحة التي كانت تقدم قرباناً لله، والحمد لله أن الكنيسة تخلصت من هذه الشعائر والعادات الوثنية فلا دماء على المذبح ولا سكاكين ولا ذبائح، بل شرشف أبيض مطرز و شموع وورود وصلوات وأدعية وطقوس.
ونسيت كارني القصة أو أنني ظننت ذلك إلى أن جاءت مذاكرة التربية الدينية باللغة الأرمنية الصف الرابع الابتدائي، عندما وضعت كارني الكتاب جانباً وسألتني.
ـ بابا إذا طلب منك الله أن تذبحني … فهل ستفعل ذلك؟
ـ أجبتها: الله محبة يا حبيبتي وهو لن يطلب مني ذلك.
ـ لنفترض أنه فعل فهل ستذبحني؟
ولأن العبث مع الأطفال يعتبر غير مجدي بل وخطر جداً حزمت أمري وقلت لها
ـ أبداً يا حبيبتي أبداً أبداً… لن أفعل.
وناولتني كتاب الديانة الأرمني وأشارت إلى درس معين ورأيت صورة محرقة على شكل موقد يجثو بقربه اسحق ويداه مقيدتان خلف ظهره وفي مواجهته والده النبي إبراهيم الخليل يحمل سكين يهم بذبح ابنه، وفي السماء يأتي ملاك الرب يحمل كبشاً بين يديه ويخاطب إبراهيم قائلاً : خذ اذبح هذا الكبش فداءً لأبنك … الرب يأمرك بذلك.
وأعادت كارني نفس السؤال: بابا إذا طلب منك الله أن تذبحني … فهل ستفعل ذلك؟ وأعدت أنا نفس الجواب : لا يا حبيبتي لن أفعل… سأذهب معك في الغد إلى المدرسة لأقابل معلمة الديانة… أما هذا الكتاب فأرجو أن تنحيه جانباً وأن تذهبي للنوم.
في اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة وقابلت معلمة الديانة وقلت لها: سأسألك سؤال لا يمكنك الإجابة عنه وهو: ما هو جانب الحكمة في تدريس فتاة صغيرة قصة ذبح سيدنا إبراهيم لأبنه اسحق ، قالت: لست أنا من وضع المنهاج… قلت لها: لا أريد أن تدخل ابنتي إلى فحص الديانة وسيشرفني أن تضعي لها عشرة أصفار لقاء ذلك… وفي كل الأحوال أنا ذاهب لمناقشة المدير في هذا الأمر.
ومضت سنة وترفعت كارني إلى الصف الخامس وسنة أخرى وترفعت إلى السادس واليوم نجحت كارني إلى الصف السابع وطلبت منها مسبقاً أن تحدد هديتها بنفسها فحددتها واشتريتها لها وظننت أنها ستنشغل بهديتها لأسبوع كامل على الأقل… ولكن حدث شيء آخر.
عدت اليوم من عملي ورأيت كارني مسمّرة أمام التلفاز تشاهد الدماء والذبح ويبدوا أنها وصلت إلى هذه الفضائية عرضاً لأن المجال المخصص لها يبدأ بالرقم 1 وينتهي بالرقم 20، وهي الآن على الرقم 300 ، كانت خائفة وملتصقة بالكرسي، سألتها: لماذا تجلسين في الظلام؟ قالت: أرجوك بابا لا تشعل الضوء، ونظرت إلى عينيها فتذكرت صيدنايا والخوخ الأحمر…عيناها الباكيتان والمستسلمتان في هذه المرة، سألتني: هل يرجع هؤلاء بعد أن يموتوا؟ قلت: لم يسبق أن حدث ذلك، قالت: هل يحدث هذا هنا في سوريا؟ قلت نعم، قالت: وهل جدتي في كندا ترى هذا؟ قلت نعم.
حبيبتي الصغيرة… في صيدنايا قلتِ لي: أتوسل إليك يا أبي افعل شيئاً، والآن أقول لك، صلي لله يا بابا فأنت طفلة بريئة والله يستجب لأصحاب القلوب الطيبة من الصغار أكثر من الكبار، صلي واطلبي أن يرفع الله عنا هذه الكأس، صلي واطلبي أن يرفع الله عنا هذه الكأس فأنت طفلة بريئة والله يستجب أكثر للصغار أصحاب القلوب الطيبة.