كانت حصة اللغة العربية من أجمل الحصص المدرسية بالنسبة لي في المرحلة الثانوية، ولم أكن أتوقع بأنني سأحّن لتلك الحصص ولتلك الأيام التي لم تعد موجودة في الجامعة والتي افتقدناها ومدرسيها إلى الأبد، مستعيضين عنها بتلك الجداول الرياضية التافهة وحسابات المتاجرة والأرباح والخسائر ومعدلات الاستهلاك والنفاذ والميزانيات الختامية الجافة الباردة والمتوازنة قصراً.
كانت حصة اللغة العربية من أجمل الحصص المدرسية بالنسبة لي في المرحلة الثانوية، ولم أكن أتوقع بأنني سأحّن لتلك الحصص ولتلك الأيام التي لم تعد موجودة في الجامعة والتي افتقدناها ومدرسيها إلى الأبد، مستعيضين عنها بتلك الجداول الرياضية التافهة وحسابات المتاجرة والأرباح والخسائر ومعدلات الاستهلاك والنفاذ والميزانيات الختامية الجافة الباردة والمتوازنة قصراً.
كان الأدب القومي هو الذي يحرك كل الشجون ثم أدب المهجر، وكانت هناك رابطة خفية تشدني إلى الشعر والنثر المتعلق بالمرحلة القومية وهي مرحلة النهوض والانبعاث القومي بدءاً من المعاناة في زمن الاستعمار مروراً بنشوء حركات التحرر وحتى قيام الثورة… وطريقين لا ثالث لهما إما النصر وهو مشعل فرح الأمة وسرورها وسيرها في ركب الأمم المتحررة التي نزعت من معصميها قيود العبودية، أو الفشل ويعقبه ردود الفعل الهمجية بدءاً من التنكيل بقادة الأمة ورفع أبطالها على أعواد المشانق، مروراً بإفقارها وتجويعها وترويعها والبطش بكل طبقات الشعب الواقع تحت الاحتلال أو الوصاية، من الغني إلى الفقير ومن المعني إلى الحيادي ومن النشط والى المتجاهل، رجال وشباب وشيوخ ونساء ثم أطفال.
كل ثورات الوطن العربي وكل موجات الاحتلال والرعب والهمجية منذ هولاكو وجنكيز خان وتيمور لنك وكل الفاتحين والصليبيين وصمة العار على جبين الإنسانية، ونابوليون وحملة نابوليون على مصر وإشهاره الإسلام ليتم تضمين هذا الحدث في منشوره الخاص للمتاجرة به و الموزع على أبناء مصر والأعراب في غزة وفلسطين والأمصار والمتاجرة التي لم تنطلي على العرب والتي تلتها ألف متاجرة في سيل له بداية وليست له نهاية ،العثمانين وكل جور العثمانيين وخوازيقهم التي تعبر عنهم، الاتحاديين و كل مشانق الاتحاديين ومحاكمات بيروت وعاليه وحرب الترعة (سفربرلك) التي أزهقت أرواح الكثيرين من خيرة شباب بلاد الشام بلا طائل والتي أدت إلى اشتعال نيران الثورة العربية الكبرى، كل هذه الأحداث تدور أمامي وفي مخيلتي كشريط سينمائي لا ينتهي أبداً لأنه غير معروف لا من حيث البداية ولا من حيث النهاية.
ولأن الإنسان يجيد القياس فلقد كنت أتولى البحث عن مقارنات واسقاطات لأجد أن هناك شعبان مكتويان بنارٍ واحدة، الشعب العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً والشعب الأرمني.
لي صديق طبيب من أصلٍ فلسطيني… يقول لي على الدوام وبعد الفراغ من جلسة عمل: حدثني عن الأرمن وأرمينيا لأحدثك عن الفلسطينيين وفلسطين… نحن نحبكم لأنكم مثلنا…ضحايا تطهير عرقي وإبادة وإبعاد وتهجير قسري… فكلانا نحترق على نارٍ واحدة.
قال لي: كل قياداتنا الفاعلة من عندكم، قلت له تقصد مثلنا يدينون بما ندين أي مسيحيين، قال نعم نعم ولقد برهنوا بأنهم أشراف ووطنيون صادقون ومنهم رجال دين ومن الاكليروس ارثوذوكسيين أو كاثوليك ملكيين، قلت له: القومية والوطن الذبيح المستباح مسألة أسمى، والمواطنة والانتماء للوطن هي استجابة لنداء الضمير ولم يكن الدين في أي يوم في خطر فهو كنجمة الصبح تضيء بعد انقضاء الليل، أما الوطن فقد يغرق في مستنقع الظلمة فتمر الليالي الحالكة السواد وتطول العذابات وبحور الدماء ويضيع العمر في انتظار انبلاج الفجر… وفلسطين حتى اليوم في دائرة الظلام وشعبها كالأرمن يعيش ليدفع ثمن الانتماء.
سألني عن الذقون الورعة، فقلت له: تبدوا كأصحابها الشديدوا الورع خلف المباخر، قال لي: وذقن بائع أوقاف القدس، قلت له: هي الأخرى شديدة الورع، ذلك الورع المكتسب في سالونيك، قال: هل تعتقد ذلك، قلت له: أعتقد كل شيء عدا اعتقادي بغير ذلك… فالرجل يوناني وذقنه الورعة تم تشذيبها في محفل سالونيك، وفي نفس المكان الذي تم فيه تشذيب ذقون ملائكة الاتحاد والترقي ثالوث العار طلعت وأنور وجمال باشا السفاح، قال لي: لازالت الأنباء غير مؤكدة وتدور في فلك الاحتمالات ولم يتم استصدار حكم قضائي مبرم وقطعي، قلت له: أنت تنتظر حكم قضائي، فصمت ولم يجب، قلت له: إن كنت تنتظر حكم قضائي مبرم فأرجو منك أن تحدد لي الجهة المصدرة لهذا الحكم، فاستمر في صمته المطبق، فقلت: أيعقل تنصيب الجناة قضاة، وأي حكم قضائي ننتظره من الجناة غير مباركة الجريمة، لقد تم تنصيب الجناة قضاة في محاكمات ثالوث العار أنور وطلعت وجمال باشا السفاح فكانت النتيجة تهريبهم من سجنهم بطراد بحري عائد لرفاق السلاح وحلفاء الأمس الذين سخروا من الدماء التي سفكها الشعب الأرمني في خدمة القضية المشتركة ، وتم إنقاذ أفراد الثالوث القذر مما يستحقون، ولكن إلى حين، حتى أدانتهم محكمة الشعوب، ونفذ الشعب فيهم حكمه العادل.
الإنسان تدل عليه أعماله، فيتحدد مقدار الورع في ذقنه ويظهر للعيان، وبائع الأوقاف كهادم المسجد لا ذقن له ولا لحية ولا شرف ولا ورع فمن يجرؤ على بيع الأوقاف لا كرامة له ولا أسم له ولا عنوان بل إثم وذل وهوان.
قال لي: لقد وحدنا الألم ووحد ضمائرنا، قلت له: اسمع فهذه في وحدة ضمائرنا.
أتُرَكَ مثلي يا رفيق تمر بالزمن
عبر الليالي السود والمحن
لا صاحب يرخي عليك غلالة الكفن
بي لهفة يا صاحبي مشبوبة بالنار
هل بعض أخبار تحدثها وأسرار
للظامئين على متاهة الوحشة العاري.
كيف الحقول تركتها في عرس آذار
ومتى لويت جناحك الزاهي عن الدار
عجباً.. تراك أتيتنا من غير تذكار
لو قشة مما يرف ببيدر البلد
خبأتها بين الجناح وخفقة الكبد
لو رملة من المثلث أو ربا صفد
لو عشبة بيد ومزقة سوسن بيد
أين الهدايا مذ برحت مرابع الرغد
أم جئت مثلي بالحنين وسورة الكمد
ماذا رحيلك أيها المتشرد الباكي
عن أرض غابات الخيال وفوحها الزاكي
أم أن مرج الزهر أصبح قفر أشواك
وتلوّنت أنهارها بنجيع سفاك
داري وفي عيني والشفتين نجواك
لا كنت نسل عروبتي إن كنت أنساك
قال لي : الكرمي؟ قلت بل: يوسف الخطيب ومن أدبيات المهجر والعودة، وقصيدة العندليب المهاجر، قال: تحفظ الذي لنا وتترك الذي لك، قلت: أبداً فأنا أحفظ الذي لنا وأحفظ الذي لنا أيضاً… قال: دعنا نسمع… فقلت: لدينا أيضاً يوسف الخطيب وكان متفوهاً وخطيب ورجل دين وبر وصلاح وتقوى هو الأب كوميداس، ضمه جماعة الاتحاد والترقي إلى سوقية الستمائة شهيد وهي السوقية التي ضمت النخبة من أبناء شعبي وقد حوت على الأطباء والمهندسين و الأدباء والشعراء والكتاب والقضاة والمحامون وأعضاء في مجلس المبعوثان والقيادات ونخبة المثقفين وحملة مشاعل الثورة وتم قتلهم جميعاً في الطريق، وسحقت رؤوس المفكرين ودقت بالحجارة أمام ناظريه، وتدخل الغرب لإنقاذه باعتباره رجل دين فأنقذوا جسده بعد أن أصيبت روحه في مقتل… وعاش الرجل في المغترب كئيباً حزيناً يبكي وطنه وأرضه ورفاقه ويتحدث إلي طائر الرهى في شعر أسى وتفجع يذيب نياط القلوب.
طائر الرهى
طائر الرهى القادم من الشرق
أنا عطش لسماع صوتك
طائر الرهى ، من بلادنا، ألا تحمل معك خبر صغير
تركت كل شيء ورائي أرضي وأملاكي وكروم العنب
وجئت هنا كمهاجر في غربة قسرية
تخرج من حلقي كلمة الـ آه فأشعر بروحي تخرج معها
طائر الرهى ، من بلادنا، ألا تحمل معك خبر صغير
طائر الرهى لا تتعجل الذهاب
ستلتحق برفاقك … ستصل إليهم بسرعة
طائر الرهى ، من دنيانا، ألا تحمل معك خبر صغير
لم اسمع منك أي جواب يطفئ النار في قلبي
اذهب أيها الحر… عن المفجوع بوطنه…
عن المفارق لأرضه…عن دنيتنا هذه…اذهب ابتعد
قال لي الطبيب: وهذه لا تقل عن تلك بل هي تفوقها من حيث الألم والتفجع والمشقة.
قلت: آلام الشعوب واحدة كلها تفجع وعناء ومشقة… يترجمها البسطاء من الناس إلى ملاحم شعبية وأغان يتوارثها الأبناء عن الآباء تتحدث كلها عن الهجرة والإبادة واغتصاب الأرض وسني العذاب ومفارقة الأحبة والأوطان.
قال: نعم فلقد كنت أسمع والدي ينشد قصائد حزينة تتحدث عن الأرض والأوطان وعن حيفا ويافا وبيارات البرتقال… وفي نهاية كل قصيدة تنحدر الدموع من عينيه التائهتين الباحثتين عن سراب… عن أمنية لا تتحقق.
قلت: لدينا ما يشبه ذلك… لدينا أغنية شعبية نسجها الناس البسطاء… تتحدث عن الهجرة والشوق للأوطان.
التهجير القسري(اوداروتيون)
في المهجر كل هذه السنين الطويلة
أبكي من الشوق، من الشوق
لا بد أن تُلحظ قضيتنا وتُسمع
اصبري أيتها الروح اصبري
مُبعد عن أرمينيا
مُفارق بالإكراه لأهلي وعائلتي
لا بد أن نعود في يوم قريب
اصبري أيتها الروح اصبري
في قلبي نار واحدة مستعرة
تحرق جنباته في كل لحظة
من بلادي لا مرسال ولا خبر
اصبري أيتها الروح اصبري
اُقسم أماه والشمس تشهد
لا تمهُل بعد اليوم
ليعلم الجميع في جنبات الأرض
الشعب الأرمني سيحيا وسيبقى
قال لي: والأطفال؟ قلت له: الأمل وسنابل الخير، قال: تقولون أنكم لن تنسوا، قلت نعم ونعلمُّهم أيضاً أن لا ينسوا، قال: في ذلك هوان وتعب قد يلحق بنفوسهم الغضة، قلت: وغير ذلك خيانة لا تنجو منها أرواحنا قبل نفوسنا المتعبة، قال: ونحن ماذا نعلمهم؟ قلت: الآتية وفيها تعريف بالدرب أو الأجمل منها إن وجد!
فلسطين داري ودرب انتصاري
تظل بلادي هوى في فؤادي
ولحناً أبياَّ على شفتياَّ
وجوهٌ غريبة بأرضي السليبة
تبيعُ ثماري وتحتلُ داري
وأعرف دربي ويرجع شعبي
إلى بيت جدِّي إلى دفء مهدي
فلسطين داري ودرب انتصاري، فلسطين داري ودرب انتصاري…
قال: يوسف الخطيب أيضاً… قلت: بل سليمان العيسى من قلعة الصمود ومن درَّة الوجود من قلب العروبة النابض، دار كل العرب وزاد عزتهم، وموئل فخرهم و كرامتهم.
فيما يلي: ثلاثة روابط موسيقية بحجوم بسيطة وبلاحقة الميدي تتعلق بالمقالة.
اضغط هنا لتحميل ملف موسيقى أغنية طائر الرهى للأب كوميداس
اضغط هنا لتحميل ملف موسيقى الأغنية الثورية التهجير القسري(اوداروتيون)
اضغط هنا لتحميل ملف موسيقى نشيد فلسطين داري(ألحان آرا سوفاليان)
هذه المقالة مهداة: لمدرس اللغة العربية الأستاذ نايف خليفة رحمه الله ونجله الدكتور غياث خليفة… ولصديق آخر شديد الوفاء هو السيد هراتش جيهيزيان الذي وضع بين يدي منذ أواسط السبعينات، أشرطة موسيقية سببت لي صحوة ضمير مزلزلة لأنها في المجمل كانت تحوي كل الأغاني الثورية الأرمنية التي كشفت لي معاناة شعبي وتضحياته وأمانيه. وغادر إلى الولايات المتحدة دون وداع، وتركني في حيرة من أمري إلى هذا اليوم…