www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

تأكُّد الشكل الحقيقي للإمبريالية بذراعيها/أسامة عكنان

0

مقدمة.. يتأكد “الذراع المزدوج” للإمبريالية، من خلال صيرورة الأحداث في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي من جهة أولى. ومن جهة ثانية، فهو يتأكد من خلال الأدوار والمهام التي قامت وتقوم بها أنظمة “الرغاليون الجدد” سفهاء العصر أو من نفضل أن نطلق عليهم اسم “الصهاينة العرب” أو المؤسسون للصهيونية العربية، على الصعيدين القطري والقومي، لتمرير السياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، مادام ذلك التمرير يصب في خدمة معادلات التجزئة والهيمنة، التي تحافظ على مصالح الإمبريالية، بمحافظتها على مصالح تلك الأنظمة كجزءٍ لا يتجزأ من منظومة العلاقات الإمبريالية.

تأكُّد الشكل الحقيقي للإمبريالية بذراعيها “إسرائيل” و”أنظمة التجزئة”
 
أسامة عكنان
عمان – الأردن
مقدمة..
يتأكد “الذراع المزدوج” للإمبريالية، من خلال صيرورة الأحداث في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي من جهة أولى. ومن جهة ثانية، فهو يتأكد من خلال الأدوار والمهام التي قامت وتقوم بها أنظمة “الرغاليون الجدد” سفهاء العصر أو من نفضل أن نطلق عليهم اسم “الصهاينة العرب” أو المؤسسون للصهيونية العربية، على الصعيدين القطري والقومي، لتمرير السياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، مادام ذلك التمرير يصب في خدمة معادلات التجزئة والهيمنة، التي تحافظ على مصالح الإمبريالية، بمحافظتها على مصالح تلك الأنظمة كجزءٍ لا يتجزأ من منظومة العلاقات الإمبريالية.
إن تلك الأنظمة ما فتئت تُمعن في قمع شعوبها وفي حرمانها من أدنى حقوقها الإنسانية، بكل ما أوتيت من قوة، وذلك باستخدام المناسب والمتاح من الوسائل، حسب ما تقتضيه متطلبات كل مرحلةٍ من مراحل الهجمة الإمبريالية ضد الشعوب العربية. فعندما كانت القضية الفلسطينية ما تزال طازجة في النفوس والعقول، وليس بإمكان أي نظام عربي من “الرغاليين الجدد”، التبجح بقبول الحلول التسووية بشكلها الراهن. كانت هذه القضية تُستخدم لإخضاع الجماهير، مرة بترحيل تناقضها مع “النظام الرغالي”، الذي يمثل العدو الداخلي لها، عبر توجيه السخط الشعبي إلى العدو الخارجي الرابض على الحدود. ومرة باستناد بعض الأنظمة إلى قاعدة عسكرية تَستخدم القضيةَ “قميصَ عثمانٍ معاصراً”، لتعزيز موقع الجيش ونُخَبِه المميزة، عبر ادعاء إعداده للمعركة الفاصلة، بينما هي تعده في الواقع لتنفيذ أجندات داخلية وإقليمية مرتقبة ضمن المخطط الإمبريالي للمنطقة. ومرة بتعطيل مشاريع التنمية وهدر ثروات الشعوب بحجة اقتطاع حصصٍ كبيرة من الدخل القومي للقضية وللاستعدادات من أجل تلك المعركة. فضلا عن استخدام “الرغاليين الجدد” للقضية في التشهير بالقوى الثورية المقاومة للاحتلال، تحت لافتة ادعاء أن هذه القوى تُفَتِّت الصَّفَ العربي، وهي بالتالي تخدم إسرائيل؟!
وعندما أصبحت القضية الفلسطينية بحكم ما آل إليه الصراع، هي قضية الفلسطينيين وحدهم، فإن الأنظمة العربية مارست ومازالت تمارس كل أنواع البغي، لتعمق الانفصال والقطيعة بين الشعوب العربية وبين فلسطين، ولتُنْهي كل أشكال التناقض ولتَفْرِض كل أنواع التطبيع بين تلك الشعوب وبين إسرائيل، التي ما تزال تحتل الأرض وتقتل الإنسان وتمارس كل أنواع العدوان.
وهي لأجل تحقيق ذلك اضطلعت بمهمة نشر وتكريس فلسفة تخاذلٍ وانهزامٍ، تقوم على مبادئَ تُقَدِّم الأمنَ ورغيفَ الخبزِ على الحرية والكرامة، علما بأن من يقدم الأول والثاني، على الثالثة والرابعة، لا يستحق الأربعة جميعا. ناهيك عن تكريس ذلك النوع السائل والمائع من الفكر السياسي الذي حاولت تلك الأنظمة بموجبه وتحاول، الفصلَ بين قضايا المواطن العربي القطرية وقضيته القومية، متمثلة في وجود هذا الكيان الاستيطاني في قلب أرضه، عبر نجاح سلسلة المؤامرات المتتابعة في تفريغها – أي القضية القومية – من مضامينها تلك، وتحويلها إلى نزاعات حدودية بين إسرائيل وأقطارٍ عربية، بعد أن كانت – كما هي حقيقتها دائما – صراعَ وجودٍ بين أُمَّةٍ عربيةٍ متخلِّفةٍ تنهَض من براثن التخَلُّف وتتحرر من مكوناته ومسبباته، وبين مشروعٍ إمبريالي عالمي شرس يغزو العالم عبر المشرق العربي، من خلال حالةِ التخلف التي تشهدها الأمة وتعاني منها.
ولكن كيف يمكننا التأكُّد من أن أنظمة “الرغاليون الجدد”، مارست هذا النوع من الولاء والانتماء للإمبريالية، بوفاء وإخلاص منقطعي النظير؟!
دعونا نستنتج ذلك من واقعة محيرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، تتطلب قدرا من التحليل..
دافع المفكرون من أمثال “ميكافيللي” و”مونتيسكيو” – وهما من صُناَّع المجتمعات الأوربية الحديثة عشية انتهاء القرون الوسطى – عن الحرب الوقائية وصوابيتها. فهي أحد مظاهر الخوف الذي إذا أُحْسِن استغلاله من قِبَلِ السلطات الحاكمة، فإنه يحقق نتائج مبهرةً على صعيد توحيد المحكومين وتوجيههم لهدف محدد، قد تتناقض مواقفهم تجاهه وتتباين في حالات التحرر من عنصر الخوف الجمعي.
قال المفكر السياسي “بول فاليري”: “إن إثارة سخط البعض ضد البعض الآخر، هو الخطوة الرئيسية للسياسيين، وإن أفضل حل لإيصال هذا السخط إلى ذروته، هو اتهام الخصم بأنه يضمر نوايا سيئة”.. وهذه حقيقة. فمثل هذا الحل يستقطب خوفَ كل المجموعة مجتمعة حول عرضٍ مُوَحَّد، فيتزايد الحقد، وتصبح الأرض جاهزة، ويتأثر السلم، وتتفاقم المشاعر العدوانية، وتختفي التناقضات من العلاقات بين الأفراد، حتى لو كانت مُدَمِّرَةً، وإن يكن إلى حين.
ماذا عن إسقاط هذه المفاهيم على التجمع الصهيوني الإسرائيلي؟!
إن الفكر الصهيوني حرص على الاحتفاظ بعنصرٍ رئيسي من عناصر التكوين السيكولوجي الإسرائيلي موجودا وحياًّ على الدوام، وهو ألاَّ مكان في ذلك التكوين ليهودي منتصر بالمعنى الحقيقي والواسع والحاسم لكلمة منتصر، بل هناك فقط مكان ليهودي يَرُّد اعتداءً، أو يستعد لحماية نفسه من اعتداء، ليغدو الانتصار في القاموس الصهيوني، هو مجرد التمكن من تحقيق ذلك، أما تحقيقه بالفعل بإنهاء الخصم إنهاءً ينعدم معه وجود العدو الذي هو “مصدر التهديد”، فهو كارثة حقيقية بالنسبة له. وإذا لم يكن هناك ثمة في الواقع اعتداء أو تهديد باعتداء، عندئذ يكون من المحتم الإيهام بكل ذلك، كي تذوي سريعاً صورة “الانتصار” وتحل محلها من جديد صورة “مخافة الاعتداء”.
وإذا شئنا التبسيط، فإن فكرة “اليهودي المنتصر”، إنما تعني في إطار الفكر الصهيوني أن اليهودي لم يعد صهيونياً وإنما هو عاد ليصبح يهوديا فقط، فيفقد طاقته التدميرية التي حقنته بها الصهيونية. قال “فرويد”: “من السهل ربط الناس بصلات محبة حتى لو كانوا أعداء، طالما أن هناك أشخاصاً آخرين نستطيع أن نصب عليهم مشاعرنا العدوانية”.
لقد أظهر تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أن العرب الرسميين قد بلعوا الطعم على ما يبدو، هذا إذا لم نفترض مشاركتَهم في رسم سيناريو بَلْعِهِ لأسباب تضليلية اعتقدوا أنها قد تُخَفِّف عنهم عبء المسؤولية التاريخية في نظر من يضلِّلونهم – أي الجماهير العربية – مع اعتقادنا بترجيح عنصر التواطؤ هذا لأسبابٍ ستظهر لوحدها وبدون تكلُّفٍ أو تَصَنُّعٍ في هذا التحليل.
فلا العرب الرسميون خاضوا حرباً حقيقية فوق قدرة هذا الكيان على الاحتمال والاستمرار، ولا هم خاضوا تسويةً قادرة على تفجير كل تناقضاته القاتلة التي من شأنها أن تُحَوِّلَه إلى ركام. ونجحوا فقط في أن يُمَرِّروا هدف المشروع الصهيوني المتمثل إسرائيليا في الإبقاء على معادلة التهديد والتوازن قائمة، للحفاظ على الوحدة السيكولوجية للإنسان الإسرائيلي، وهي المعادلة التي طالما تم التعبير عنها في أدبيات الصراع بحالة “اللاحرب واللاسلم”.
وإذا كانت الأنظمة العربية لم تمتلك منذ النكبة، مشروعها الخاص للقضاء على المشروع الصهيوني الاستعماري “إسرائيل”، لأنها لم تكن معنية بذلك، باعتباره مشروع وجودها الرديف ومبرر استمرارها أساسا، مادام هو السور الواقي لها من تفعيل التناقضات الحادة بينها وبين شعوبها. فإنها بعد حرب عام (1973) وضعت نفسها في دائرة خيار اعتبرته مشروعها دون أن تضع له البدائل في حالةِ فشله، الأمر الذي جعلها تقضي حتى الآن أكثر من خمسة وثلاثين عاماً وهي تراوح مكانها في ظاهرةٍ غير مفهومة على الإطلاق في عالم البشر، وفي معتركات الصراعات.
إن الحرب تعمل دائماً على تجميع كلمة الأمة، وليست هناك قوة أكبر من الحرب تعمل على الوحدة وتؤجل الخلافات وتُرَحِّلها إلى المستقبل. هكذا يفعل على الدوام من لا يملكون حلولاً حقيقية لتناقضاتهم المصيرية، الترحيل ثم الترحيل، ولا شيء غير الترحيل، عبر تسخين الأوضاع، إلى أن يأتي اليوم الذي لا يستطيعون معه الترحيل، فتسود عندئذ معادلات صراعٍ جديدة. وهذا ما فعلته وتفعله الصهيونية في إسرائيل ذات التركيب الفسيفسائي العصي على الانسجام الطبيعي.
لقد أتقنت الصهيونية بوجه عام فن استثمار عنصر العداء والكُره اللذين تُكِنُّهما الشعوب لليهود، كي تُنْجِح مشروعها. واعترف أساطين الحركة الصهيونية بأن المُعاَدين للسامية مثلوا لها قوة إيجابية خدمت نضالها من أجل تحرير يهود الشتات من عبوديتهم في الجيتو.
لقد كانت وجهة نظر الكثير من الصهاينة ومازالت تؤكد على أن فكرة “معاداة السامية” كانت قوة دافعة، إلى درجة أن بعضهم سيطر عليه الاعتقاد بأنها مُسْتوحاةٌ من عقيدة إلهية، وربما أنها كانت تحتوي على إرادة الرب لأنها أجبرت اليهود على توحيد صفوفهم كما أعلن “تيودور هرتزل”.
إن من يتتبع المفاصل الأساسية في الأيديولوجية الصهيونية، وتاريخ الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ومراحل الصراع العربي الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن، بإمكانه أن يدرك أن الحروب التي خاضتها إسرائيل هي بمثابة أسطورة ضرورية تدخل في إطار البُنْيَة العامة للعقيدة الصهيونية، شأنها في ذلك شأن سائر الأساطير التي يتعامل معها الفكر الصهيوني ويُرَوِّج لها، مثل أسطورة أرض الميعاد، وأسطورة الحق التاريخي في فلسطين، وأسطورة الشعب المختار، وأسطورة شعب بلا أرضٍ لأرضٍ بلا شعب.. إلخ. أسطورة يجب أن تتعايش معها إسرائيل كي تتمكن من الاستمرار، ومثلما أنها تفقد مشروعيتها وإمكان استمرارها بسقوط أيٍّ من أساطيرها السابقة، فإنها بدون أسطورة الحرب التي لا تنتهي هذه، تفقد هوية البقاء المتناسبة مع طبيعتها والمتناغمة مع أهداف وجودها.
ولكن ما هي آفاق فكرة الحرب في التجمع الإسرائيلي؟!
إن ثمة وجهة نظر إسرائيلية – وهي وجهة النظر المهيمنة ذات شرائح الأَتْباَع الأوسع في هذا التجمع – ترى أن الحرب تمثل في هذا التجمع المناخ الأمثلَ لوجوده وازدهاره، وهي تستند إلى العديد من المؤشرات الدالة على ذلك، والمُسْتَمَدَّة من واقع التجمع الإسرائيلي خلال فترات القتال وخلال فترات الهدوء. فهي وجهة نظر تقوم على فكرة أن انغماسَ التجمع في الحرب يجذب إليه المزيد من المهاجرين الجدد وخاصة الشباب القادرين على القتال.
كما أن مناخ الحرب يُكْسِب هذا التجمع مزيداً من التعاطف اليهودي وتدفق المعونات والهبات اليهودية من شتى أنحاء العالم. ويتيح هذا المناخ للقوى العالمية المساندة للتجمع الإسرائيلي أفضل الظروف لضرب القوى الوطنية العربية من خلال العسكرية الإسرائيلية، لاستنزاف إمكانية التنمية العربية عبر مفاقمة أعباء النفقات العسكرية. ولعل أهم ما يحققه مناخ الحرب من وجهة نظر هذا التيار، أنه يجعل المستوطنين الإسرائيليين على اختلاف أصولهم وتباينها، أكثر اتحاداً وتماسكاً وأشد عدوانية وعداءً للعرب.
وكمحصلة لذلك، ترى وجهة النظر هذه، أن السلام مع العرب إنما يعني دفع التناقضات الداخلية للتجمع الإسرائيلي إلى التفاقم، ويُعتبر بمثابة المناخ الأنسب لازدهار القوى الوطنية العربية وتوجيه جهودها إلى نشاطات التنمية الحقيقية. لذلك فإن مشروع السلام العربي الإسرائيلي هو مشروع مرفوض صهيونيا، ويجب أن تبقى المنطقة خاضعة لمعادلة اللاحرب واللاسلم. فإذا ما أجبرت إسرائيل لسبب أو لآخر على توقيع اتفاقات سلام مع العرب، فيجب أن تكون هذه الاتفاقات منفردة أولا، ومتبوعة بانفجارات وحروب وصدامات في مكان آخر ثانيا، كي يساعد ذلك على إبقاء معادلة توازن التهديد والقوة قائمة.
ومع ذلك فإن هناك وجهة نظر أخرى في التجمع الإسرائيلي، ترى عكس ما تراه وجهة النظر العسكرية سالفة الذكر، وهي تقيم فكرتها على المعاني المقابلة تَماماً لتلك التي قامت عليها فكرة حتمية الحرب لبقاء واستمرار التجمع الإسرائيلي، وإن كان أنصارها قلة قليلة بالقياس لأنصار الفكرة السابقة، مع أنهم يتزايدون يوماً بعد يوم. والملفت في الموضوع، أن هذه الفئة من الإسرائيليين تُعْتَبر الأقل حماسا للمشروع الصهيوني في فلسطين، ويَعْتَبر أفرادُها أنفسَهم يهودا أكثر من كونهم صهاينة.
إلا أن حسم الخلاف بين هاتين المدرستين الإسرائيليتين ليس بالأمر الميسور، لأن كلاً منهما ترتبط بموقف معين من طبيعة ومستقبل التجمع الإسرائيلي. كما أن هذا الموقف ذاته إنما هو نتاج لشبكة معقدة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية التي تضرب بجذورها بعيداً في أعماق إسرائيل والمنطقة والعالم. إن كلاً من وجهتي النظر السابقتين، يستند في الحقيقة إلى مشاهدات صحيحة في جزئياتها لواقع التجمع الإسرائيلي، رغم تناقض تلك المشاهدات منطقاً ونتيجة.
ولكن أي حرب تعنيها وجهات النظر تلك؟!
وأي سلام هو الذي تستهدفه وتتحدث عنه؟!
ليست ثمة حرب مطلقة، ومن ثَم فإن تأثيرات الحرب إنما تتوقف في المقام الأول على نهايتها. بعبارة أخرى، فإن تلك التأثيرات تختلف لدى الطرف المنتصر عنها لدى الطرف المهزوم، وإن هذا الاختلاف نوعي وأساسي. وكذلك الحال بالنسبة للسلام، فقد يبدو للوهلة الأولى أن السلام إنما يعني بالتحديد انتهاء أو إنهاء حالة الحرب، وهذا صحيح، ولكنه ليس كل شيء، أو على الأقل ليس هو ما نعنيه بتساؤلنا عن السلام المستهدف.
استمرت حالة الحرب العربية الإسرائيلية ومازالت، إلى ما يزيد عن ستين عاما، تشتعل جذوتها أحياناً وتخفت أحياناً أخرى. وتراوحت أشكال الاشتعال بين العمل الفدائي والتظاهرات والغارات العسكرية والحروب النظامية. كما تراوحت أشكال الخفوت بين الهدنة الضمنية والهدنة الفعلية والتفاوض، بل وتوقيع الاتفاقات الثنائية أحياناً.. إن السبيل الموضوعي لتمحيص وجهتي النظر المشار إليهما سابقاً حول الحرب والسلام في التجمع الإسرائيلي، إنما يكمن في تقصَّي مدى تأثر الكيان الإسرائيلي بكل شكل من هذه الأشكال المذكورة لحالتي الاشتعال والخفوت.
تُرى، ما هو المناخ الأمثل لازدهار التكوين السيكولوجي السائد والمستهدف في التجمع الإسرائيلي؟! ثم ما هي الظروف التي يسعى إلى توفيرها قادة التجمع الإسرائيلي، بحيث تدفع بأصحاب هذا التكوين السيكولوجي إلى استثمار خصائص تكوينهم على الوجه الأفضل خدمةً للمشروع الصهيوني الاستعماري “إسرائيل”؟!
 
إن الموقف الأمثل لازدهار التكوين السيكولوجي الإسرائيلي المهمين والهادف والدافع إلى الاستقرار المجتمعي وإلى ترحيل التناقضات القاتلة والمدرة إلى أجل غير مسمى، هو موقفٌ يكفل توفر الأمن المهزوز، ويتضمن في الوقت نفسه ظهور التهديد المحدود. وبعبارة أخرى، هو ذلك الموقف الذي يحمل قدراً محدوداً من التهديد العربي يسمح بتفجير أقصى طاقات العدوان لدى اليهود الإسرائيليين وتوحُّدها، ويحمل في الوقت نفسه ضماناً كافياً للقدرة على إلزام هذا التهديد حداً لا يتجاوزه، بحيث لا يؤدي إلى زوال هذا المشروع من جذوره.
إن هذه الثنائية السائلة القوام، هي المعادلة الدقيقة التي تُجَسِّد الاستراتيجية السيكولوجية للتجمع الإسرائيلي، الاستراتيجية التي تكفل بقاء ذلك التجمع صهيونياً استعمارياً جوهراً، ويهودياً إسرائيلياً مظهراً، والتي تكفل أيضاً ترحيل كافة التناقضات التي عجزت مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة عن حلها في الإطار السلمي، إلى المستقبل، مع ضمان استمرار البعد الصهيوني الاستعماري في التجمع الإسرائيلي.
ولأن كل مستقبل سيتحول إلى حاضر، وكل حاضر إسرائيلي يعاني من التناقضات نفسها العصية على الحل الآمن والضامن لاستمرارية الهوية المستهدفة (الصهيونية الاستعمارية)، فلابد لكل حاضر إسرائيلي من أن تسوده معادلة الحرب السابقة، والتي قلنا أنها تُجَسِّد الاستراتيجية السيكولوجية للتجمع الإسرائيلي.
ولكي تتمكن القيادة الإسرائيلية من المحافظة على التوازن الدقيق بين طرفي المعادلة، فقد عَمَدَت إلى تأكيد أمرين أساسيين يخدمان هذا التوازن، منذ نشأتها وحتى الآن، وستعمد إلى الأمر نفسه ما بقيت بصفتها الاستعمارية. فهي قد أكدت على الدوام وجود تهديد عربي حقيقي للتجمع الإسرائيلي، وسعت إلى إبرازه بكافة الوسائل، وعلى رأسها الوسائل الإعلامية التي نجحت في ابتداع مصطلح “الإرهاب” الذي غدا مصطلحاً عالمياً دخل كل الثقافات الإنسانية بمفهومة الصهيوني الاستعماري. ثم هي أكدت في الوقت ذاته على التفوق العسكري الإسرائيلي، وسعت إلى إبرازه وتحقيقه بكافة الوسائل أيضاً، ولم تقف في ذلك عند حد الإعلام، بل وصلت إلى حد العدوان المتكرر والاستفزاز المستمر لتأكيده.
ولعله لا يبدو لنا غريباً في ضوء فهمنا لجوهرية طرفي المعادلة المذكورة بالنسبة للمحافظة على التكوين السيكولوجي لليهودي الإسرائيلي، أن يحرص الماسكون بزمام السلطة في التجمع الإسرائيلي وبشكل دائم على إبراز صورتين تبدوان على طرفي نقيض للوهلة الأولى. صورة هذا التجمع بوصفه جزيرة صغيرة يحيط بها طوفان من الكراهية والتربص العربيين، وصورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، والذي يستطيع دق عظام العرب في أي وقت يشاء.
وإذا كان النظام العربي قد أثبت عجزاً ملفتاً حتى عن مجرد زعزعة ثقة الإسرائيليين في صحة الصورة الأخيرة، لخلخلة التكوين السيكولوجي المهم لديهم، فإن عجزه عن خلخلة العامل الأخر من عوامل هذا التكوين السيكولوجي، ألا وهو عامل تصوير التجمع الإسرائيلي بأنه ضحية غارقة في محيط الكراهية العربي، كان أنكى وأخطر. فدول الجوار العربي التي تحد إسرائيل، من كل الجهات لم يعجبها أن تطلق على نفسها اسم “دول الجوار” بكل الدفء الذي تشحن به كلمة جوار قلوب ونفوس السامعين، بوصف ذلك الدفء جزءاً مفترضا من الحرب النفسية المضادة، التي تأخذ في الاعتبار طبيعة البناء السيكولوجي للإنسان الإسرائيلي، ما قد يسهم في شرخ الصورة الصهيونية لهذا الجوار، وبالتالي في خلخلة عنصر التكوين السيكولوجي القائم على وصفه بمحيط الكراهية.
بل هي قد بلعت الطعم وقبلت بأن تُطْلِقَ على نفسها اسم “دول الطوق”، بكل معاني الحصار والضغط والاعتصار والإذلال التي تشحن بها هذه الكلمة قلوب ونفوس السامعين، بحيث تكون الصورة الصهيونية المُسْتَهْدَفة لهذا المحيط العربي قد كسبت نصيراً هاماً ساعدها على تحقيق هدفها المتمثل في حفظ التوازن في مكونات السيكولوجيا الإسرائيلية.
وهذا النصير هو الغباء العربي بلا منازع، هذا إذا افترضنا حسن النية في الأنظمة العربية، وهو الأمر الذي نستبعده. ومن شاء أن يتأكد مما نقوله، فليرجع إلى الخطاب السياسي العربي، سواء كان خطاباً معادياً لإسرائيل أو مهادنا لها، ليعرف أن مصطلح دول الطوق هو المصطلح الرائج في هذا الخطاب عندما يتم الحديث عن كل من لبنان وسوريا والأردن ومصر، علماً بأن الشحنة النفسية التي يتضمنها هذا المصطلح هو قذيفة موجهة إلى خطة المواجهة العربية إن وُجِدَت، في حين كان يمكن لمصطلح “دول الجوار” اللطيف الدافئ أن يتضمن شحنة نفسية أكثر تأثيراً من الأسلحة التي لم يمتلكها العرب، وأن امتلكوها فلم يستخدموها، وأن استخدموها فلم يحسنوا استخدامها.
ولأن الأنظمة العربية – مع شديد الأسف – لا تحارب إذا حاربت، ولا تسالم إذا سالمت، في إطار خطةٍ تأخذ في الاعتبار حقيقة عدوها وطبيعته على كافة الصُعد، فإنها سرعان ما فشلت في جعل الشرخ النفسي الحاصل عشية حرب أكتوبر يُؤْتي أُكُلَه باعتباره أمضى سلاحٍ إذا تم استخدامُه الاستخدامَ الصحيح. وانخرطت في عمليةٍ سياسيةٍ مضنية بدأت منذ خمسة وثلاثين عاماً، كان أبرز ما حققته هو إسهامها الفعال في إعادة التوازن إلى النفس الإسرائيلية المشروخة بفعل نتائج الحرب.
فإذا كانت حرب أكتوبر قد أخلت بطرفي معادلة التوازن النفسي الإسرائيلي عبر إسقاطها مقولة التفوق بوصفها أحد هذين الطرفين. فإن الجندي الإسرائيلي، بل وحتى المواطن الإسرائيلي، لم يكن يتوقع من العرب المنتصرين والزاحفين في صحراء سيناء وفي مرتفعات الجولان نحو إسرائيل، أقل من فرض الشروط والوصول إلى الحدود الإقليمية السياسية الإسرائيلية مع كل من سوريا ومصر، ورفض التسوية السلمية إلاَّ وفق معادلات جديدة غير تلك التي كان يُرَوِّج لها قادة إسرائيل قبل الحرب.
أما أن تنجح القيادة الإسرائيلية في جَعل هذه الحرب التي حطمت كبرياء وعنجهية هذه الدولة، فرصةً لإعادة التوازن إلى النفسية الإسرائيلية، فهو ما لم يتعود الحكام العرب على الانتباه إليه وأخذه في الاعتبار، وكأن الشعوب ليست هي المستهدفة بالحرب بشكل أو بآخر في نهاية المطاف!!
نعم، لقد عرف قادة التجمع الإسرائيلي في الفترة التي أعقبت الحرب كيف يجعلون اليهودي الإسرائيلي يلاحظ بأم عينه أن هؤلاء “الغوغاء”(!!!) الذين ظهروا وقد كسروا تفوق دولته، يتكالبون ويتهافتون على تسويةٍ ضئيلةٍ، تفرض فيها إسرائيل معظم الشروط التي تَمَسُّ بعض جوانب السيادة الوطنية لبعض الدول العربية. وجعلته تلك القيادة يرى بأم عينه كيف أن هذه الوحدة المخيفة والمفاجئة التي لمسها بين سوريا ومصر، قد آلت إلى زوال. وكيف أن العرب الذين هَزُّوه من الأعماق، عادوا كما كانوا قبائل متناحرة لا يخيفون بعوضة، وتَخَلَّوا عن بعضهم البعض لتنفرد إسرائيل بهم واحداً واحداً.
أي أن الرسالة التي تم إيصالها لتلك النفسية المشروخة، “أَنْ توازني من جديد”، فما رأيتِه ليس نصراً، إنها غفلة مقاتلٍ فارسٍ عن خُلِقٍ خسيس من غادرٍ عاد ليركع أمام “السوبرمان النيتشوي” الذي صنعته “كيبوتزات” أرض الميعاد، التي تخرج المقاتلين الأشاوس للجيش الإسرائيلي، الذي هزمته وأبكت أفراده كالأطفال المرعوبين، قذائف المقاومة في الجنوب اللبناني، ورصاصات العُزَّل في زقاق مخيم جنين حتى وهو ينهدم على رؤوس ساكنيه بقصف الطائرات الأميركية قبل ذلك بأعوام. وأصر المخطِّطُ الصهيوني على تأكيد أن المسألة في أكتوبر كانت برمتها أبعد من أن تمثل انتصاراً، مشيرا إلى أن من ظهروا منتصرين، هم الذين يستجدون ويطلبون ويتنازلون.. فهل هذه شِيَمٌ سياسيةٌ لمنتصر؟!
إن أي موقف سياسي عربي هو في الواقع ابنٌ شرعي لصيرورة الواقع العربي، عندما يكون هذا الموقف نابعاً من قوى الشعوب والجماهير، وليس من رموز السلطة والحكم التي نفهم جيداً أنها منفصلة عن تلك الشعوب بِهُوَّةٍ كبيرة من التناقضات وتباين المصالح. هذا يعني أن أي موقف سياسي عربي من النوع الذي نتحدث عنه، نابع حتماً من مُحصلةِ تفاعلِ بُنىً اجتماعية وفكرية ونفسية وسياسية وعسكرية سائدة. ولا يمكن لهذا الموقف أن يتغير إلا بتغير تلك البُنَى بشكل ينسجم مع طرحٍ جديد ومع موقف جديد، ويتطلبه. إن المراقب المهتم يستطيع أن يتلمس الاتجاهات العامة التي تصب في خندقها المواقفُ العربية وهي تتغير وتتبدل وتتطور.
إن العرب – ونعني هنا الجماهير وليس النُّخَب الحاكمة – ما كانوا في عام (1947) ليقبلوا بقرار التقسيم، وما كانوا في عام (1967) ليقبلوا بالحقائق الجديدة التي فرضتها الحرب، رغم بدء ظهور تيارٍ تراجع عن رفض قرار التقسيم ليقبلَ به. ثم مع مرور الوقت، وخاصة بعد مرور وقتٍ كافٍ على النكسة المخزية عام (1967)، أصبحت الهوة بين الرأس والقاعدة تتسع، وغدت الجماهير منكمشةً على نفسها، إلى أن غدا الموقف السياسي هو موقف سلطة ولا علاقة للجماهير بصياغته.
وبعد مرور أكثر من جيل ونصف على حرب (1967)، ما كانوا – الحكام العرب هذه المرة – ليقبلوا الطرح الإسرائيلي الجديد، وإن كان سقف مطالبهم قد انحصر في معادلة (1967) التي سبق وأن كانت مرفوضة من القيادة تجاوباً اضطرارياً مع رفض القاعدة لها. ونخالهم لن يقبلوا الآن بحقائق الجدار العنصري العازل، ولا برفض عودة اللاجئين على إطلاقها، ولا بالتعامل مع قضية القدس بالشكل المطروح إسرائيلياً، وإن كانوا يراوحون خجلاً حول استعدادهم لقبول ما هو أعلى من سقف الطروحات الإسرائيلية الحالية، وأقل من سقف المطالب العربية التي أعقبت نكسة (1967). لتستمر هذه السيمفونية النشاز وفق معادلة إسرائيلية أخرى تُمكن تسميتُها معادلةَ “التلاعب بسقوف المطالب والعروض”، لضمان الاستمرار في تحقيق معادلة التوازن بين عنصر التهديد العربي وعنصر التفوق الإسرائيلي، كآلية فاعلة في الإبقاء أطول مدة ممكنة على حالة اللاحرب واللاسلم، وهي الحالة التي يجب أن نوضح أنها الحالة التي حكمت الصراع العربي الإسرائيلي منذ نشأته عام (1947) تاريخ صدور قرار التقسيم، ما يعني أن الحروب التي شهدها هذا الصراع لم تكن في واقع الحال إلا مناوشاتٍ (طُوَش)، لم تخرج عن حدود إبقائها على المعادلة المذكورة في حالة حركة ليس إلاَّ، وليست حروباً بالمعنى الحقيقي لكلمة حرب، عندما تفهم الحرب على أنها الوسيلة التي تسعى إلى خلق حقائق جديدة على الأرض، تختلف عن تلك التي كانت سائدةً قبل تلك الحرب.
قادة التجمع الإسرائيلي اهتموا كثيراً بهذا الأمر، أي بطبيعة تَكَوُّن الموقف السياسي العربي في مختلف مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، ليوظفوه ما استطاعوا في خدمة المعادلة الأساسية التي تحكم التكوين السيكولوجي اليهودي الإسرائيلي، وكي لا يقعوا في مطب التخوف الذي أشار إليه “بن غوريون” بسخريته اللاذعة ذات الدلالة، عندما أبدى خشيته ذات مرة في نكتة معبرة، من أن يفاجئه العرب بالموافقة على عقد صُلح معه ومع التجمع الإسرائيلي، معتبرا ذلك أكبر مقلب يمكن لإسرائيل أن تواجهه في حياتها.
إن الموقف العربي إزاء إسرائيل ووجودها في المنطقة، سيتم التعبير عنه عربياً – إن شعبياً أو سلطوياً – عبر طرحٍ سيأخذ عند طرحه طابع الصفة الاستراتيجية المتَضَمِّنَة لمعنى الديمومة والتواصل التاريخيين، وذلك إلى أن تتغير في الواقع العربي البُنى الثقافية والمجتمعية والسياسية والنفسية التي أفرزته، مؤدية إلى ظهور بُنى جديدة يتم التعبير عنها بموقف جديد.
إن إدراك صانع القرار الصهيوني لهذه الحقيقة التي هي حقيقة إنسانية عامة، تخضع لها كل مجتمعات وشعوب الأرض، جعله يستثمرها أكفأ استثمار، وقد نجح في ذلك إلى أبعد الحدود، وضَمِنَ بنجاحه هذا الإبقاءَ على معادلة التوازن السيكولوجي الإسرائيلي تحت السيطرة التامة عبر أكثر من خمسين عاماً من الصراع، ولكن كيف ذلك؟!
إن الطرح العربي الذي تفرزه المرحلة بمكوناتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والنفسية، سيُعْتَبر سقفاً أعلى مرفوضاً إسرائيلياً وبالتالي أميركياً، بحيث تطرح إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية سقفاً أقل يجب أن تشير الدلائل العربية المقروءة إسرائيلياً وأميركياً، إلى حاجته لقرابة الجيل الكامل كي يتغير واقع البُنى الثقافية والمجتمعية العربية باتجاه قبوله أو التعامل معه. وبالتالي، فبين سقف عربي مطروح مرفوض إسرائيلياً، وسقف إسرائيلي معروض مرفوض عربياً، تُقَاد دفة سفينة الصراع من قِبل الطرفين العربي والإسرائيلي لتحقيق هدف واحد، يعمل الإسرائيليون على تحقيقه بوعي تام، فيما يعمل الحكام العرب على الإسهام في تحقيقه بغير وعي وبجهل منقطع النظير، هذا إذا افترضنا مجددا حسن النية لدى الأنظمة الرسمية العربية، ألا وهو الإبقاء على حالة اللاحرب واللاسلم لحفظ التوازن النفسي لليهودي الإسرائيلي القادر على رفد المشروع الصهيوني الاستعماري “إسرائيل” بكل طاقاته.
وعندما تلاحظ مراكز ودوائر الفكر والبحث واتخاذ القرار في كل من واشنطن وتل أبيب، اقتراب العرب بحكم التطورات والضغوطات الحادثة في الواقع العربي، من إمكانية القبول بالطرح الإسرائيلي، عبر بدء دورانهم حول سقوفه، فإن القائمين على تلك المراكز والدوائر إذ يلاحظون ذلك، يبدأون بالدفع باتجاه إعداد الساحة لتَحَمُّل طرحٍ إسرائيلي أميركي جديد ضمن حلقة حقائق جديدة تختلف في الكثير أو في الكثير عن الحقائق التي تضمنها سقف الطروحات السابق.
عندئذ تعود المعادلة السابقة في مستواها السياسي الصدامي لتظهر إلى حيز الوجود، قبول عربي بالطرح الإسرائيلي السابق، ورفض إسرائيلي له عبر طرح جديد لا بديل عنه، باعتباره الطرح المفروض من قِبل الحقائق الجديدة التي سيشاع بطبيعة الحال أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المرحلة. والعرب من جهتهم سوف يجدون أنفسهم مضطرين قطعاً إلى رفض هذا العرض الإسرائيلي لأسباب عديدة تختلف من طرف عربي لأخر ومن وقت لآخر، وتسود مرحلة جديدة من التوتر التي تكفل عبر حنكة الإدارة الصهيونية لها، بقاء السيكولوجية الإسرائيلية ضمن دائرة التهديد والتفوق المطلوبة لاستمرار هذا الكيان.
ولا يخفى على عاقل كيف تفعل هذه التوترات المدروسة الشكل والمضمون والتوقيت فعلها في تحقيق ذلك الهدف. فقبول العرب بعرضٍ إسرائيلي سابقٍ بعد جيل من الرفض، يعني تجسيداً للتفوق الإسرائيلي الذي صمد إلى أن أرضَخَ العربَ لإرادته. وطرح إسرائيل لعرض جديد مرفوض عربياً جملة وتفصيلاً، هو تجسيد للتهديد العربي الخطير، الذي يبدأ بالتعبير عن نفسه في عملية رفض متعددة الأوجه والوسائل، فتتوازن الأمور ويستقر الوضع السيكولوجي بين طرفي المعادلة التي تكونه وتحكمه. إن استقراء تاريخ الصراع بين العرب والتجمع الإسرائيلي خلال الستين سنة الماضية يثبت لنا هذه الحقيقة بما لا يدع مجالاً للشك.
لكن السؤال الملح الذي يفرض نفسه علينا في هذا السياق هو.. مادامت هذه اللعبة واضحة ومكشوفة لمن يُفْتَرض أنهم قادة فكرٍ وصُنَّاعُ مجتمعٍ وساسةُ دولٍ في الوطن العربي. ومادامت هزيمة إسرائيل أمرا ممكنا كما كشفت عن ذلك على الدوام أشكال المقاومة المختلفة ضدها. ومادام الكيان الإسرائيلي على هذا القدر من الهشاشة، بحيث يُهَدَد وجودَه ومصيرَه على الحقيقة لا على المجاز والافتراض والأمل الطوباوي، كل من الحرب أو السلام إذا وقفت وراء أيٍّ منهما إرادة سياسية صلبة ومصممة. فلماذا يبلع الحكام العرب الطعم ويقعون في الفخ دائماً!! ولماذا مازلنا نرى قادتهم كالكرة التي تتقاذفها الأقدام في الملعب، ينتقلون من خندق إلى خندق في التوقيت المطلوب إسرائيلياً وأمريكياً ليحققوا للصهيونية المعادلة التي تعمل على تحقيقها على الدوام؟!
 
يكفينا أن نبدي دهشتنا البالغة في هذا الشأن عبر توضيح أن كافة الزعماء والخبراء وصناع السياسة العربية، عندما ينتقدون سياسة إسرائيل في فلسطين، أو سياسة الولايات المتحدة في المنطقة – وأن يكن بخجل مدروس تقتضيه الحدود الدنيا لتَصَنُّع العروبة ولادعاءات الانتماء إلى الإسلام – إنما يحاولون تأسيس انتقادهم لهما على قاعدة أن سياستهما لا تخدم الاستقرار في المنطقة، وبالتالي فهي سياسات تصب ضد إسرائيل والولايات المتحدة وضد مصالحهما الإستراتيجية، وأن على هاتين الدولتين أن تَعِياَ هذه الحقيقة قبل أن يفوت الأوان. ومع أن تل أبيب وواشنطن لم تعياها أبداً على ما بدا ويبدو من وجهة الصراع، فإن الأوان الأمريكي والإسرائيلي لم يفت حتى الآن.
إن هؤلاء جميعاً – مع شديد الأسف – يعتقدون أن إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة تريدان أن يسود الاستقرار في المنطقة، ولكنهما لا تعرفان كيف يمكن أن يتحقق ذلك(!!!). وكأن ستين عاماً من الصراعات والدماء والحروب والهدر في الثروة والتراجع في التنمية والحريات العامة وحقوق الإنسان والانحدار في الثقافة، لم تكن كافية كي نعرف جميعاً أن اللاإستقرار الذي هو نتاج حالة اللاحرب واللاسلم هو المطلوب إسرائيلياً وأميركياً!!
هذا مع الافتراض المجدد لحسن النية لدى الحكام العرب، وهو ما سنكشف بعد قليل عن أنه وهم، لأنهم شركاء فعليون في المؤامرة وفي اللعبة، من منطلق كونها لعبة تخصهم بوصفهم جزءا لا يتجزأ من منظومة العلاقات الإمبريالية في الوطن العربي إلى جانب إسرائيل التي تمثل الجزء الآخر منها.
في ضوء ما تقدم نستطيع أن نؤكد على حقيقة غاية في الأهمية مفادُها أن حسم الصراع مع إسرائيل وتحقيق السلام الحقيقي العادل والشامل الذي يطمح إليه حتى أولئك الذين يودون الاعتراف بإسرائيل كجزء لا يتجزأ من هذه المنطقة، ليس مرهوناً ولن يتحقق بما يسمى بضرورة تنازل العرب والتعامل مع حقائق المرحلة لإرضاء إسرائيل والولايات المتحدة، كي تقبلا بتحقيق هذا النوع من السلام. فمهما كان حجم التنازل، فإن سقفه سيكون حتماً أعلى من سقف العروض الإسرائيلية، لتستمر المعادلة المسخ المذكورة.
ولكن إذا لم يكن التنازل هو الفيصل في حَسم الصراع كما يتم الترويج له، فأين يكمن الحل؟!
إنه في القدرة على فرض سقف المطالب مهما كان متدنياً. وهذه القدرة تتحقق بالرغبة في فرض ذلك السقف. الرغبة فقط. أي في توفر الإرادة السياسية لذلك، وفي التصميم عليها. وأما ما بعد ذلك من متطلبات وإجراءات وأفعال لتحقيق هذا السقف، فإنه يأتي لاحقا.
إن من قرر تحقيق إرادته السياسية فإنه لن يعدم الوسيلة، خصوصا أنه صاحب حق. لكن من لا يمتلك تلك الرغبة، ولا اتخذ ذلك القرار، أيا كان سبب عدم الاتخاذ، فإنه سيخلق كل الأعذار والمبررات لتبرير تقاعسه وعجزه وتسويفه، إلى أن يربكه الحرج مع شعبه ويمزقه الخوف من حراكه المرتقب، فتساعده الإمبريالية بخلق حقائق جديدة في المنطقة يتلهى بها هو وشعبه وجيرانه جيلا قادما من الزمن.
لا قيمة موضوعية لمطالب ذات سقف عالٍ، نفتقر إلى القدرة على تحقيقها، أو إلى الرغبة في خوض معركة تحقيقها إلى النهاية. ولا خوف من سقف مطالب متدنية، إذا تم امتلاك القدرة على تحقيقها، أو الرغبة في خوض معركة تحقيقها إلى النهاية. بل لعل من يفهم اللعبة في المنطقة جيدا، ويمتلك القدرة على تحقيق مطالبه فيها، فإنه يَرْفِدُ قوته العسكرية القادرة هذه، بقوةٍ إعلامية وقانونية ودبلوماسية قائمةٍ على تخفيف حدة مطالبه وإسنادها بالشرعية الدولية، كي يحقق كل شيء في النهاية. ولعل هذا ما كانت تفعله إسرائيل دائما في معاركها مع العرب، فهي دائما، الضعيفة والمعتدى عليها وصاحبة المطالب الدنيا أمام العالم، رغم أنها قادرة على أن تفعل ما تريده.
ليس البطل العظيم فينا من يرفض التنازل عن شبر من فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، وهو عاجز عن مواجة جندي إسرائيلي. وليس الخائن المتخاذل هو ذلك الذي يتنازل عن الجزء المحتل من فلسطين عام 1948 رغم أنه يقاتل حتى النهاية وبقوة خارقة كي يسترد ما احتل منها عام 1967. فقد فعل شيئا شبيها بذلك قبل ألف عام، البطل العظيم صلاح الدين الأيوبي الذي نتغنى به ليل نهار مترقبين عودته في زمان الأقزام هذا. لأن القدرة اللازمة لاستعادة شبر واحد من الأرض العربية من إسرائيل بشكل حقيقي، وفي سياقٍ موضوعي لتفريغ المشروع الصهيوني “إسرائيل” من مقومات صهيونيته واستعماريته، هي ذاتها القدرة اللازمة لاستعادة كامل الأراضي العربية المحتلة بالشكل نفسه.
لا بل إن حجم الإرادة المطلوبة في الحالتين واحدة. إن طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي هي التي تفرض هذه القاعدة القانون الذي بدون خوض الصراع على أساسها، فإن الصراع يكون مُخاضاً بالطريقة الخاطئة، ولا قيمة بالتالي لأي نتيجة من نتائجه. ولا معنى من ثم لحجم المطالب، فسواءٌ هي، صغيرة كانت أم كبيرة، أي سواءٌ أن نطالب بكل فلسطين أو بأقل من ضفتها الغربية إذا كنا عاجزين عن فرض معادلات صراع تستطيع تحقيق سقف مطالبنا أيا كانت. 
خلاصة القول، إن استمرار إسرائيل كدولة صهيونية تمثل مشروعا استعماريا يعتمد على توازنٍ مهزوز، يستند إلى شروط ثلاثة..
الشرط الأول.. الحفاظ على الوحدة الوطنية الداخلية في المجتمع الإسرائيلي عبر تحقيق عدة أمور أبرزها المناداة الدائمة بوجود تهديد خارجي من الدول العربية المتاخمة، وبشن الحروب الإجهاضية والاستباقية والتصفوية لإثبات قدرة الجيش الإسرائيلي على سحق عظام العرب. 
الشرط الثاني.. الحفاظ على رغبة يهود العالم في العودة إلى فلسطين أو على الأقل على رغبتهم في استمرار وجود دولة يهودية تكون عند الضرورة ملجأً لهم، يهربون إليه من اللاسامية التي يُرَوج لها في أماكن إقامتهم لتحفيز هذا الإحساس بالخطر الدائم لديهم.
الشرط الثالث.. المساندة غير المشروطة التي تقدمها الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية لإسرائيل.
فإذا فقدت إسرائيل أياً من هذه الشروط فمن المحتمل أن تعجز عن الاستمرار في البقاء كدولة على النحو الذي رُسم لها بموجب المخطط الصهيوني. لذلك فإن المخاطر الرئيسية الحقيقية التي تتهدد استمرار التجمع الإسرائيلي الصهيوني، تتمثل في اندماج اليهود التام بشعوب الأقطار التي يعيشون فيها خارج إسرائيل، وفي توفر الظروف الإقليمية والداخلية التي تؤجج التناقضات الداخلية في التجمع الإسرائيلي الصهيوني، لجعله يبدأ بالتحول إلى مجرد تجمع يهودي، تمهيداً لتحويله إلى مجرد عدد من اليهود المقيمين على أرض فلسطين.
ولا يمكن لهذين الأمرين أن يحدثا إلا بقيام سلام حقيقي في الشرق الأوسط، أياً كان سببه والدافع إليه والقوة المؤدية نحوه والإزاحات المرافقة له في تشكيلة الخرائط الجيوسياسية والجيوصراعية في المنطقة، سواء كانت حرباً مدمرة تهزم إسرائيل ومن يقف وراءها، أو ضغطاً على حلفائها بشكل يدفعهم إلى إجبارها على قبول السلام العادل والشامل، أو تطورات وتغيرات في داخل التجمع الإسرائيلي وفي تكوينه السيكولوجي سالف الذكر، بحيث يُصبح هذا التكوين منسجماً مع منطق السلام العادل، ومُهَيئاً لقبول فكرة تَحَوُّل الإسرائيليين الصهاينة إلى يهود عاديين يعيشون في المنطقة مع جيرانهم العرب. أو – وهذا ما نظن أن المنطقة تُعد وتُجهز له – خلق الظروف الإقليمية المواتية لإجراء عملية ترحيل إستراتيجية عميقة في مبررات الصراع الدافع إلى حالة اللاحرب واللاسلم الأبدية في المنطقة، والذي من شأنه الإبقاء على التشرذم والتخلف العربيين قائمين ومستمرين بما يساعد على استمرار الحالة العربية على ما هي عليه، ولكن من خلال انبثاق ساحة صراع جديدة بديلة وإن يكن جزئيا لساحة الصراع العربي الإسرائيلي، هي – على ما يُتوقع – ساحة الصراع العربي الإيراني، التي نرى الولايات المتحدة والحركة الصهيونية وأنظمة التجزئة الرغالية تعد لها العدة اللازمة لتسود المنطقة جيلا قادما من الزمن.
إن ما جرى في العراق منذ عام 1990، وما يُعد لاحتواء مستقبله في ظل تنامي الدور الإيراني المرتكز إلى طموحاتٍ بعضُها مشروع وبعضها قد لا يكون مشروعا، ربما يصلح خلال عقد من الزمان أو أقل، أن يكون بديلا تُرحل باتجاهه كل مبررات وأسباب الصراع التي كانت إسرائيل – كمشروع استعماري – تقوم بها، وهو ما يمكن أن يدفع بالقائمين على رسم خرائط المنطقة إلى تخفيف العبء عن الساحة التي كانت ولازالت مسرحا للصراع العربي الإسرائيلي. ولا يخفى على نبيه حجم التغاضي والتنازل اللذين سوف يحدثان على جانب الخليج العربي – الفارسي – من المستقبل المرتقب للصراع، بشكل يساعد على رفد مشروع المرحلة المقبلة بكل عناصر التَّولد والتَّخلق والنماء، إذا ما شهدت المنطقة انفراجا حقيقيا في ساحة الصراع العربي الإسرائيلي!!!
في المدى المنظور لا يبدو أن أياً من الأسباب المذكورة سابقا قد يتحقق، إلا السبب الأخير المشار إليه باعتباره يمثل عملية إزاحة في الصراع الإستراتيجي في المنطقة، ليغدو الصراع الأساس هو الصراع العربي الإيراني، بدل أن يكون هو الصراع العربي الإسرائيلي..
فلا هناك إرهاصات بحربٍ قريبة قادمة تهزم إسرائيل ومَنْ وراءَها، ولا يظهر النظام العربي مستعدا لبذل الجهد اللازم، وإن يكن على صعيد الإعلام على الأقل، لإحداث التغيير المطلوب في التكوين السيكولوجي للتجمع الإسرائيلي. هذا إذا سلمنا بأنه يأخذه مأخذ الجد أساسا، كعنصر من عناصر فهم العدو، أو كمُقَوِّمٍ من مقومات رسم الخطط لمواجهته في هذا الصراع الأزلي، فيما تبدو إرهاصات عملية الإزاحة واضحة للعيان من خلال ما تشهده الملفات العراقية والإيرانية من عمليات تسخين وتوجيه مدروستين من قبل كل من الولايات المتحدة وإيران على حد سواء.
ولذلك فإن حالة اللاحرب واللاسلم على جبهة الصراع العربي الإسرائيلي ستستمر، والسيكولوجية العسكرية القائمة على محورية عنصر الحرب من أجل المحافظة على معادلة التوازن بين التهديد والتفوق وفق الرؤية الصهيونية، ستستمر في تحقيق غاياتها وأهدافها، إلى أن تكتمل عناصر التوجيه المحكمة لملف ساحة الصراع العربي الإيراني الذي سيبلع العرب فيه الطعم مجددا، بعد أن يقبلوا بأن يكون العراق هو فلسطين الجديدة، وبأن تكون إيران هي إسرائيل الجديدة.
وكل ذلك اللعب بهذا الوطن المثخن بالجراح سيستمر إلى أن تظهر الطائفة أو الفئة أو الحركة التي تؤمن بهذه المعادلة وبهذه الأبعاد للصراعات المستفحلة في المنطقة في إطارها الكلي، وتعمل على حل التناقضات الحقيقية بالشكل الصحيح، رغم أنف الأنظمة العربية ورغم أنف العلاقات الإمبريالية في المنطقة، أيا كانت، عربية أو إسرائيلية، بل ورغم أنف الطموحات الإيرانية في جانبها غير المشروع.
إن المنطقة المشرقية من الوطن العربي مقبلة على مرحلة من تاريخها شبيهة تماما بتلك التي كانت تمر بها عشية ظهور الإسلام في غرب جزيرة العرب. أمة مقسمة ومجزأة ومتناحرة. هلال خصيب من أراضيها يرزح تحت نير الاحتلالين الفارسي شرقا والأوربي الرومي البيزنطي غربا. ثقافة وثنية متخلفة يبحث رافضوها والثائرون عليها عن بصيص نور ينقذهم وينقذ أرضهم وينقذ العالم بهم، ما لبث أن جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، لا ليحرر العرب فقط، بل ليغير وجه الحضارة الإنسانية بأكملها.
وإذا كانت العروبة التائهة والضائعة بين ثلاث أعداء كانوا ينخرون فيها عشية ظهور الإسلام، هم الفرس والروم والتيه الثقافي، قد مثلت عند ظهور إرهاصات هذه الثقافة الجديدة قَدَر العالم ومُحَرِّرَه الأعظم، رغم كل الهنات والزلات والعثرات التي شهدتها مسيرة التحرير التاريخية، فليس أحوج من العالم اليوم إلى هذه العروبة الثائرة النازعة إلى التحرر وتحرير الآخر، لتكون قَدَره الجديد، إذا تمكنت بطبيعة الحال من أن تنير طريق الثورة العالمية بإعادة بناء الإسلام المفترى عليه والمستخدم من قبل كل الأقزام وشذاد رعاة الإبل من وثنيي هذا العصر وسفهائه ورغالييه أداة للتخلف والانحدار بدل أن يكون أداة للثورة والتحرر والانطلاق، ليثور عليهم قبل أن يثور على غيرهم.
 
نستطيع القول في هذا السياق، أن مشكلة “مقاومة العرب لإسرائيل” أو لغير إسرائيل إذا اقتضى الأمر، تكمن لا في أن بدايتها سوف تخلق لدى الإسرائيليين حالة من التوحد والاصطفاف التي يكون واقع التجمع الإسرائيلي قد بدأ يبحث عنها بسبب تناقضاته ومشكلاته الداخلية التي لا تنتهي، ليجدها في مواجهةٍ محدودة مع العرب هنا أو هناك، في هذا الإقليم أو في ذاك – فهذا أمر طبيعي تتيحه لإسرائيل هذه الأنواع من المواجهات على الدوام – بل هي تكمن في عدم تواصل هذه المقاومة بالشكل الذي يُخرجها من عنق الزجاجة، إخراجاً يُمَكِّنُها من إفقادِ معادلة التوازن السيكولوجي المُعْتَمَدة صهيونيا للحفاظ على هذا الكيان، لدورها في حمايته والحفاظ عليه.
فما من انطلاقة مثيرة للمقاومة أو للمواجهة مع إسرائيل إلاَّ وتنتهي – حسب ما تُعَلِّمُنا إياه الخبرة – إلى تسويةٍ أو إلى هدنة من النوع الذي يُحقق للكيان الصهيوني هدفه من رفع وتيرة التهديد، إلى الحدٍّ الذي يوحد الإسرائيليين الذين كانوا قبل حدث المواجهة قد بدأوا يعانون من اختلالٍ في المعادلة السيكولوجية التي تمثل صمام أمان وجودهم، دون أن تشكل خطرا حقيقيا عليهم.
فالخبرة قد علمتنا أن المواجهة التي يخوضها أي طرف عربي ضد إسرائيل، في لحظات بحث الصهيونية عن مخارج لترحيل مآزقها وأزماتها الداخلية إلى المستقبل، إما أنها تحدث من خارج حدود وعي ذلك الطرف بالطبيعة السيكولوجية لهذا الكيان، ومن خارج حدود المعرفة الدقيقة بما تتطلبه هذه الطبيعة من أشكال محددة ومدروسة من المواجهات زمانا ومكانا، وإما أنها تحدث من منطلقات، يدخل معظمها ضمن دوائر ردات الفعل، وإما أنها تحدث خدمةً لأجنداتِ دولٍ أو تجمعاتٍ أو برامج سياسية معينة، خارج إطار خوض الصراع في أبعاده الإستراتيجية القائمة على مبدأ الاستمرار في المواجهة الطويلة التي من شأنها وحدها أن تعيد بناء المنطقة بالشكل القادر على تحقيق الهدف المتمثل في القضاء على المشروع الاستعماري “إسرائيل”.
وأنها إذا حدثت في سياق الصيرورة الطبيعية التي تُعبر عن متطلبات المنعطفات التاريخية الكبرى التي تمر بها الأمة، فإن مؤامرات “الرغاليين الجدد” عليها لتفريغها من مضمونها التاريخي والجماهيري، ومن قوتها الدافعة المهددة للمشروع الإمبريالي “إسرائيل”، تتكالب عليها بكل ما أوتي الرغاليون من قوة. لتكون النتيجة من العمل المقاوم أو من حالة المواجهة تلك، أن الطرف المُقَاوِم لم يحقق هدفه، ولم يترك إسرائيل غارقة في مأزقها الناجم عن اختلال المعادلة السيكولوجية. أو أنه عجز عن الخروج من عنق زجاجة المؤامرات الداخلية عليه. على أي حال، فهذا هو واقعنا حتى الآن على الأقل.
لكننا لا نستطيع بعد هذا التحليل المطول المرور على ما يبدو لنا وكأنه ظاهرة غباءٍ مستحكمٍ في النُّخَب العربية الحاكمة، مرورا عابرا نغمض خلاله أعيننا عن حقيقة هامة، لا يمكننا أن نقرأ غيرها في السلوك السياسي العربي الرسمي. فالساسة الإسرائيليون والصهاينة، ومن وراء الجميع، الساسة والخبراء الأميركيون، ليسوا أكثر ذكاءً وحنكة من نظرائهم العرب، خصوصا بعد أن تعلم هؤلاء ومستشاروهم وخبراؤهم في الجامعات الغربية التي خَرَّجَت خبراءَ وساسةَ الغرب أنفسِهم.
أي أن ما نوهنا إليه هنا بخصوص لعبة اللاحرب واللاسلم، وعدم الحرص الأميركي الصهيوني على الاستقرار أو التسوية الحقيقية في المنطقة، والعمل على تصميم سيناريوهات المواجهة فيها في ضوء الحفاظ على البناء السيكولوجي الإسرائيلي مُوَحَّدا، وفي ضوء الإبقاء على الساحة في حالة اشتعال مستمر، إن لم يكن عبر فلسطين فعبر العراق، وإن لم يكن من خلال الأداة “إسرائيل”، فمن خلال أداة أخرى قد تكون هي “إيران”، أو من خلال الأداتين معا كما هو متوقع في المرحلة المقبلة، هذا إذا لم تقرر إيران أن تتخندق وبلا مساومة في خندق الجماهير العربية ضد الإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية بدءا من الساحة العراقية، وليس استثناء لها كما هو ظاهر من سياقات الصراع القائمة في المنطقة في الظروف الراهنة..
نقول.. أن ما نوهنا إليه بخصوص ذلك، ليس اكتشافا خطيرا توصلنا إليه دون غيرنا من باقي البشر. فقراءتنا هذه من المؤكد أنها أبسط وأوضح من أن تكون غائبة عن عقول صناع السياسة ومستشاريهم وخبرائهم في العواصم العربية ذات العلاقة. فلماذا إذن نرى على الدوام اتجاها سياسيا عربيا رسميا معاندا لهذه الحقيقة الدامغة، ومعاكسا لكل دلالاتها، وكأنه اتجاه غائب عن الواقع ومُحَلِّقٌ في عوالم أخرى غير عوالمنا الني نعايشها صباح مساء!!
لا نملك إلاَّ إجابة واحدة لا يستقيم أمر المسألة ولا أمر احترامنا لعقولنا بدونها. إن الصراع في الوطن العربي، وبالأخص في المنطقة المشرقية منه قائم بين خندقين هما، خندق الجماهير العربية من جهة، وخندق الإمبريالية العالمية من جهة أخرى. ومع افتراض أن الإمبريالية إنما هي عدوة مباشرة لكل شعوب الأرض بمستويات عداء مختلفة ومتبانية، تقتضيها اعتبارات متنوعة ليس هنا مجال ذكرها وتفصيلها، فإن العرب يمثلون رأس الحربة والقاعدة المتقدمة والطليعية لشعوب العالم في هذا الصراع.
لكن الإمبريالية تخوض حربها ضد الشعوب العربية حاليا بذراعين أساسيين، ينوبان عنها في أداء المهمة، إلاَّ إذا تطلب الأمرُ حضورَها شخصيا للقيام بها، كما حدث في احتلال العراق، أو إلا إذا تطلب الأمر استبدال ذراع مكان آخر أو استخدامه لرفد الذراع الآخر به، كما يتم التجهيز له الآن، كي تدخل إيران في معادلات الصراع ذراعا جديدا – وإن يكن غير مباشر وبلا تحالفات واضحة ومعلنة – من أذرع معاداة الأمة العربية في ظروف يتم التمهيد لها كما هو واضح، إلا إذا غلَّبت إيران، عقيدتها وأيديولوجيتها على مصلحتها القومية ونظرتها البراجماتية الضيقة التي يشهد الجميع لإيران ببراعتها في التصرف وفقها.
 أما هذان الذراعان – الحاليان – فهما إسرائيل الاستيطانية من جهة أولى، والأنظمة السياسية العربية من جهة أخرى، كلٌّ بما يتمكن من أدائه، وبما يتناسب مع طبيعته التكوينية في سياق متطلبات المعركة. وهذا هو الأمر الذي يفسر لنا المواقف المتكررة لتلك الأنظمة بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي دون كلل أو ملل أو شعور بالخجل. إنها تمارس دورا منوطا بها في الإطار العام لهذا الصراع، ولا تخرج عنه إلا فيما لا يؤثر على مساره الكلي، من تفاصيل تفرضها الصيرورة الطبيعية للأحداث، ومتطلبات الأجندات الهزيلة الخاصة لنظام هنا أو لنظام هناك، بحسب التناقضات التي تفرضها التناحرات العشائرية والطبقية داخليا، أو المشيخية والحدودية الزائفة خارجيا.
أي وبكلمة أخرى فإنها – أي الأنظمة السياسية العربية – وباعتبارها تمثل البرجوازية الرأسمالية العربية في أكثر صورها عفونة وقماءة، تقوم بالدور الإمبريالي نيابة عن المركز ضمن الدوائر التي تستطيع أن تمارس فيها هذا الدور، وهو المتعلق عادة بالشعوب وبضرورة إحكام السيطرة عليها، ولجم اندفاعتها قدر ما تستطيعه.
إن هذه الأنظمة ليست من أنظمة الأطراف كما راج في أدبيات الفكر الثوري الذي ساد معظم فترة الحرب الباردة، والذي كان يَعتبر دول العالم الثالث أطرافا، ودول أوربا الغربية والولايات المتحدة مركزا، بل هي مندوبة عن المركز في الأطراف. وبالتالي فإن المعركة التي تخوضها الجماهير العربية هي ضدها بقدر ما هي ضد كلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة، وإن يكن لأسباب ووفق أجندات وبرامج ذات طبيعة تناسب كونها أنظمةَ حكمٍ تُمارس دورا يختلف في شكله وليس في جوهره عما تمارسه كل من إسرائيل ودول المركز. لا بل إن البرجوازية والرأسمالية الوطنية التي تتخندق في خندق حركات التحرر الوطني، والتي تفرزها فترات الاحتلال عادة، لا تنطبق مواصفاتها على هذه الأنظمة لا من قريب ولا من بعيد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.