– لاأعتقد أنّ أيّ سياسي ، أو مفكّر مهما بلغ من العبقرية والذكاء ، كان يتوقّع قبل 50 عاماً مدى الانحطاط والتردّي في مواقف معظم الأنظمة العربية ، وبهذا الشكل المخزي كما نراه في هذه الأيام ، فبعض الحكام العرب فقدوا أيّ إحساس بالكرامة والعزّة ، وسخّروا أنفسهم وإمكانات بلدانهم في خدمة التحالف الأمريكي – الإسرائيلي دون خجل أو حياء …
” السور الفولاذي والسجّان “
محمود جديد
– لاأعتقد أنّ أيّ سياسي ، أو مفكّر مهما بلغ من العبقرية والذكاء ، كان يتوقّع قبل 50 عاماً مدى الانحطاط والتردّي في مواقف معظم الأنظمة العربية ، وبهذا الشكل المخزي كما نراه في هذه الأيام ، فبعض الحكام العرب فقدوا أيّ إحساس بالكرامة والعزّة ، وسخّروا أنفسهم وإمكانات بلدانهم في خدمة التحالف الأمريكي – الإسرائيلي دون خجل أو حياء … وما إقرار إقامة السور الفولاذي على الحدود بين قطاع غزة ومصر إلاّ فصلاً من فصول الخزي والعار التي أشرت إليها ،لأنّ هذا السور يستهدف إحكام الحصار الإسرائيلي المفروض ظلماً على شعب غزة ، وتركيع مقاومته وتصفيتها هناك ، وإرغام الجماهير الفلسطينية على التخلّي عن حركتي / حماس ، والجهاد / وغيرهما من الفصائل المقاومة من أجل استكمال مسيرة تصفية القضية الفلسطينية على أيدي فريق أوسلو القابع في / رام الله/ …ولكنّ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا ، هل يُعقَل أنّ النظام المصري عاجز حقاً عن حماية حدوده مع غزة بطول 13 كم فقط ، والتحكّم في مخارج الأنفاق في الأراضي المصرية ؟ وهل أجهزته الأمنية لاتعرف كلّ صغيرة وكبيرة تجري في هذا الشريط الحدودي الضيّق ؟ وهل يجهل هذا النظام مدى الفوائد الاقتصادية التي يجنيها أخوتنا الأعزّاء من أبناء منطقة العريش ؟ هذه المنطقة المهملة أصلاً من الحكومة المصرية ، ولماذا يقفز النظام المصري فوق هذه الأمور ، ويلجأ إلى إقامة سور فولاذي بعمق 30 متراً تحت الأرض ، وكل قطعة فولاذية بطول 13متراً ، والتلويح بإمكانية استخدام غازات سامة في الأنفاق ،أو بجرّ مياه البحر لإغراق كل من يحاول حفر نفق ؟ وهل هذا النظام جاهل بأنّ أوامر أمريكا له ،وتفاهماته مع الكيان الإسرائيلي والاتحاد الأوربي التي يتذرّع بها زبانيته ليست أقوى من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 ،وغيرها من الاتفاقات الدولية ، والتي تعتبر محاصرة أيّ شعب ، وقطع إمداداته الغذائية والدوائية جريمة ضدّ الإنسانية ؟ ..ولكن على ما يبدو أنّ هناك وراء الأكمة ما وراءها ، وما إثارة مثل هذه الأمور إلاّ للتضليل عن أشياء أخطر وأدهى تجري في السر ،أو قادمة قريباً ، والخافي أعظم …
وكلّما شعر النظام المصري بالحرج والإرباك يلجأ إلى إثارة النعرات القطرية العصبوية الضيقة لتوظيفها لدى أوساط البسطاء الطيبين من أبناء شعب مصر العظيم ، أو يتلطّى خلف مقولة :” إنّ ما أقدم عليه النظام المصري هو شأن سيادي .” كما جاء على لسان وزير خارجيته ..متناسياً هذا الوزير وغيره من زبانية النظام السيادة الجريحة والمنقوصة في سيناء التي قننتها اتفاقية العار في كامب ديفد ، وفي الأراضي المصرية المستباحة لمناورات النجم الساطع ،ومن خلال شبكات التجسس الإسرائيلية التي تعجّ بها الأرض المصرية ، أو بالشروط الأمريكية القاسية عند تقديم ( المعونات المالية والاقتصادية ) ، وما لحق بزراعة مصر وصناعتها من أذى جرّاء ذلك ، أو بالتآمر الإسرائيلي المستمر على منابع نهر النيل …وهل نسي هؤلاء ما حلّ بأخوتنا الأسرى من أبناء الجيش المصري لدى الكيان الإسرائيلي في عام 1967 عندما أجبروهم على حفر قبورهم بأديهم ثمّ دفنوهم فيها أحياء ، وقد وثّق هذه الواقعة الأليمة جنرالات إسرائيليون في مذكراتهم …ولو كان النظام المصري غيوراً على سيادته لهذه الدرجة لما سكت عن هذا كلّه …
وعلى كلّ حال ، كان حريّ بالنظام المصري أن يرسل عتاده الهندسي للمشاركة بإعمار قطاع غزة الذي هدّمته آلة الحرب الإسرائيلية بدلاً من بناء أسوار فولاذية لاتخدم سوى الكيان الصهيوني ، وفي هذه الحالة كان سيستمتع بمحبّة واحترام الشعب المصري المتشوّق لمواقف العزة والكرامة من قبل حكامه ، لأنّ هذا الشعب يتعاطف مع أخوته في غزة ،ويتحسس معاناتهم لحظةً بلحظة وبكل جوارحه…
– ولم يكتف النظام المصري باقتراف جريمته الفولاذية ، بل عمد إلى التحكّم بالموقع الجيوسياسي المصري بشكل تعسّفي ، والإمساك بمفاتيح سجن غزة الكبير ،واتخاذ قرار بمنع وصول قافلة :” شريان الحياة رقم 3 ” التي يقودها النائب البريطاني المحترم : جورج غالاوي إلى /رفح/ وفقاً لخطتها المرسومة مسبقاً ، والإصرار على تكبيدها مزيدا من الجهد والعناء والوقت والنفقات المادية ،وإلزامها بالدوران حول سيناء ثمّ عبور قناة السويس والاتجاه نحو العريش لتصل إلى رفح ، وبالرغم من قبول المسؤولين عن القافلة بحلّ وسط يقوم على توجهها من ميناء / نويبع / إلى رفح عبر سيناء إلاّ أنّ النظام المصري بقي مصرّاً على تعسّفه وعناده ضارباً بعرض الحائط القوانين الدولية ، ومتجاهلاً كل أواصر الأخوّة والقرابة متعدّدة الأشكال مع شعب غزة الصامد الذي يعتبر نفسه جزءاًمن شعب مصر تاريخاً وحضارةً وانتماءً …
إنّها مرارة ما بعدها مرارة يشعر بها المرء لانقلاب الدور المصري من النقيض إلى النقيض ، فيوم كانت مصر بقيادة الرئيس الخالد جمال عبد الناصر تجسّد عزة العرب ،وكرامتهم ، وتحمل الهمّ القومي ،وتتفاعل معه إيجاباً على امتداد ساحة الوطن العربي (فلسطين ،سورية ،الجزائر، ليبيا ، اليمن ، الكويت ..الخ)، ويومها كانت هامة مصر شامخة كقامة رئيسها …وقد أثبتت الأحداث أنّه لامستقبل ولا أمنَ لمصر بدون عمقها العربي ، ولامستقبل مشرق للأمة العربية بدون عمودها الفقري مصر …
– وعلى ضوء إصرار النظام المصري على وضع نفسه خادماً ،وسجّاناً للتحالف الامبريالي – الصهيوني دون خجل أو حياء ،فلا بدّ من الصراخ في وجهه عالياً في كلّ بقعة من الوطن العربي عن طريق التظاهر ،والتجمعات الجماهيرية ،والندوات الشعبية ، والمقالات الصحفية ، والمقابلات التلفزيونية ، وتحريك منظمات حقوق الإنسان وكلّ الشرفاء في العالم للضغط على هذا النظام ، والتنديد بما يقترفه من جرائم بحق شعب غزة ،وبسمعة ومكانة مصر العزيزة ،وكشف عوراته السياسية بكل السبل المتاحة دون التفكير بلومة لائم من أحد ، لأنّه لم يترك فرصة لأحد كي يحجم عن قول الحقيقة المرّة ،وفضحه أمام شعبه وأمته والعالم ، وهذا هو أضعف الإيمان ، والتاريخ لن يرحم أحداً….