لا نستطيع أن نطوي صفحة عام 2009 دون أن نتوقف عند ظاهرة «المصريين الجدد»، التي طفت على سطح المجتمع المصري. وتجلت شواهدها في مواقف عدة على مدار العام، ورأيناها واضحة القسمات في خواتيمه.
صحيفة الوطن الكويتيه الثلاثاء 19 المحرم 1431 – 5 يناير 2010
المصريون الجدد – فهمي هويدي – المقال الأسبوعى
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2010/01/blog-post_04.html
لا نستطيع أن نطوي صفحة عام 2009 دون أن نتوقف عند ظاهرة «المصريين الجدد»، التي طفت على سطح المجتمع المصري. وتجلت شواهدها في مواقف عدة على مدار العام، ورأيناها واضحة القسمات في خواتيمه.
(1)
بعض الذين تابعوا الأصداء المفجعة لمباراة مصر والجزائر وموقف الاعلام والأبواق الرسمية من السور الفولاذي المزمع اقامته بين مصر وغزة، لم يشعروا بالحزن والخجل فحسب. لكنهم شعروا بالغربة أيضا.
وكنت واحدا من هؤلاء. اذ لم أصدق ما رأيت وقرأت وسمعت. فكتبت متسائلا عما اذا كانت تلك مصر التي نعرفها، أم أنها مصر أخرى غير التي عرفناها.
لم يكن استثناء ذلك الخطاب المسموم الذي ملأ الأجواء في هاتين المناسبتين، بما استصحبه من هجوم جارح على ما ظنناه ثوابت في الادراك المصري، سواء فيما خص انتماء مصر العربي، أو الدفاع عن القضية الفلسطينية المركزية والانحياز الى صف المقاومة في وجه العدو الصهيوني.
وانما أزعم أن خطاب التسميم الذي استهدف قطع العلائق مع منظومة القيم والمبادئ السياسية التي استقرت في الوجدان المصري حيناً من الدهر، قد شاع خلال السنوات الأخيرة. وترتب على استمراره وتواصل حلقاته أنه أحدث تأثيره السلبي في بعض شرائح المجتمع، والمنتمون الى تلك الشرائح هم الذين أعتبرهم نماذج للمصريين الجدد.
هذه الخلفية تسوغ لي أن أعرف المصريين الجدد بأنهم أولئك النفر من الناس الذين أصبحوا يتبنون أفكارا ورؤى سنوات الانكسار والانحسار، التي تتناقض مع منظومة قيم سنوات الصعود والمد.
هم يقينا ليسوا كل المصريين، ولا أغلبهم ولكنهم قشرة برزت على السطح خلال السنوات الأخيرة، وصار لها صوت مسموع تكفلت وسائل الاعلام المؤثرة بتعميمه، الأمر الذي فرض لهم حضورا في الساحة المصرية، الصوت فيه أكبر من الصورة.
لقد قرأنا في التاريخ الأمريكي عن «الهنود الجدد»، أحفاد الهنود الحمر الذين غسل المستوطنون الانجليز أدمغتهم بعد اجتياح بلادهم في القرن السابع عشر، واستهدفوا اقتلاع جذورهم وتحويلهم الى كائنات مشوهة تخلت عن انتمائها الأصلي، وأصبحت تتنكر لذلك الانتماء وتخجل منه.
من هذه التجربة استلهمت ما كتبته في وقت سابق عن «الفلسطينيين الجدد»، الذين تحدث عنهم الجنرال الأمريكي دايتون، وهم عناصر الأمن الذين يقوم الأمريكيون بتأهيلهم وتدريبهم على أن اسرائيل هي الصديق والمقاومة هي العدو!
(لا تنس أن بعض رموز السلطة وبعض المسؤولين العرب أصبحوا مقتنعين بذلك).
ذلك كله تداعى عندي حين وقعت ذات مرة على مصطلح «المصريين الجدد» في نص كتبته فتاة من الجيل المتمرد هي نوارة أحمد فؤاد نجم، وأطلقته على الشبان الذين يتحرشون بالفتيات في الشوارع، اذ وجدت أن المصطلح يصلح عنوانا لمجمل التحولات التي شهدها الواقع المصري في السنوات الأخيرة، في المجالات الاجتماعية فضلا عن الثقافية والسياسية.
(2)
لقد رصد بعض أساتذة التربية وعلم الاجتماع مؤشرات التراجع في منظومة القيم الاجتماعية، وخلصوا الى أن قيما سلبية مثل المظهرية والفهلوة والاعتماد على الحظ والوساطة والسمسرة. تفوقت على قيم التفوق والكد والاتقان والوفاء بالوعد واحترام طابور الوقوف.
في ذات الوقت فانني لم أسمع عن جهد بذل لرصد مؤشرات التحول في منظومة القيم السياسية والوطنية. وشاركني في ذلك الانطباع بعض من أعرفهم من أساتذة العلوم السياسية.
ولأن الأمر كذلك، فليس بمقدوري تحديد حجم ظاهرة «المصريين الجدد»، ولا قياس مواقفها ازاء مختلف العناوين. وليس أمامي سوى الاعتماد على الملاحظات الشخصية التي خلصت اليها من خلال المعايشة والمتابعة المستمرة لتجليات الخطاب السياسي والاعلامي في مختلف منابره.
لذلك أسجل مقدما أن شهادتي في هذا الصدد اعتمدت على الاستقراء بأكثر مما استندت الى أدوات البحث الأكاديمي المتعارف عليها
. ولكي أستكمل شرح الفكرة وأضعها في الاطار الذي يساعد على استيعابها فانني ألفت النظر الى ثلاثة أمور هي:
ــ ان ظاهرة المصريين الجدد لم تولد في العام الذي انقضى، وانما هي تشكلت بالتراكم الذي تتابع خلال السنوات الأخيرة، وتبلورت بصورة أكثر وضوحا في عام 2009، وأبرزها التي شهدتها البلاد وسبقت الاشارة اليها.
ــ ان الأفكار التي زعمت أنها تتناقض مع منظومة القيم التي توافقت عليها الجماعة الوطنية المصرية لم تنشأ خلال السنوات الأخيرة، ولكن كان لها دعاتها والمبشرون بها في مصر منذ عشرينيات القرن الماضي. اذ كان هناك مخاصمون للعروبة ومتعصبون للمصرية ونافرون من الاسلام وموالون للانجليز…الخ.
كل هؤلاء كانوا موجودين، ولكنهم ظلوا أصواتا شاذة لا أرضية لها، عبر عنها بعض المثقفين، وكان موقف السلطة محايدا في أغلب الأحيان، ومنحازا الى موقف الجماعة الوطنية في بعض الأحيان.
لكن الأمر اختلف الآن من زاويتين.
الأولى أن مصر في السنوات الأخيرة دخلت مرحلة «اللامشروع»، الأمر الذي أحدث خللا شديدا في منظومة القيم السياسية السائدة، وبدا في بعض الأحيان أنها فقدت حيادها خصوصا بعد اتفاقيات كامب ديفيد «1979».
المتغير الثاني أن ثورة الاتصال أتاحت لتلك الأصوات الشاذة فرصة الانتشار في بعض الدوائر. ساعد على ذلك أن نفرا من أصحابها تبنتهم السلطة ومكنتهم من بعض مواقع التوجيه والتأثير في المجالين الثقافي والاعلامي.
ــ ان تلك القشرة التي طفت على سطح الحياة المصرية ضمت ثلاث فئات:
مجموعات من المواطنين الأبرياء الذين لم يعيشوا ولم يعرفوا سنوات الصعود والمد. ولأنه لم تتوافر لهم لا حصانات ولا خلفيات كافية، فان ادراكهم تشكل متأثرا بالتوجيه الاعلامي السائد والبث التليفزيوني الذي يعبر عن السياسات المعتمدة.
الفئة الثانية هم أصحاب المصالح الذين ارتبط مصيرهم بالنظام القائم وسياساته. فتبنوا كل أطروحاته وروجوا لها.
الفئة الثالثة ضمت نفرا من المثقفين والسياسيين الذين احترفوا العمل العام. واستثمروا أجواء الالتباس والفراغ لتصفية حساباتهم الخاصة ازاء التوجهات الفكرية الأخرى، وفي المقدمة منهم أصحاب التوجه القومي والاسلامي.
(3)
لا أبالغ اذا قلت ان ركائز منظومة القيم التي شكلت ادراك الجماعة الوطنية في مصر، جرى انتهاكها أو تفريغها من مضمونها في خطاب أولئك المصريين الجدد.
وليس بعيدا عن أذهاننا ذلك الهجوم البائس الذي تعرض له الانتماء العربي خلال الاشتباك الاعلامي الذي أفضت اليه مباراة مصر والجزائر. اذ خلاله تبنت بعض الكتابات والأبواق الاعلامية لغة اتسمت بالاستعلاء والعنصرية. حتى وجدنا برامج تليفزيوينة يومية ظلت تلح على اثارة النفور من العرب والعروبة.
ذلك حدث أيضا مع التوجه الاسلامي الذي صار يجرح في وسائل الاعلام بجرأة ملحوظة، ويصور بحسبانه نفيا للآخر ونقيضا للتقدم والمواطنة والدولة المدنية.
أما الوحدة العربية فقد غدت محلا للسخرية والتندر. ومقاومة الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة الأمريكية صارت تهمة تصنف أصحابها في قوائم المتطرفين والارهابيين، في حين أن مقاطعة اسرائيل (التي تدعو اليها بعض المؤسسات الغربية) صارت نوعا من التشدد المستهجن.
وفي هذه الأجواء لا تسأل عن موقع حركة التحرر الوطني أو القومية العربية أو عدم الانحياز. بل ان مفاهيم مثل الاستقلال والأمن الوطني تعرضت للتشويه والابتذال. فما عادت القواعد الأجنبية سبَّة، ولا اعتبر التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة متعارضا مع الاستقلال. بل ان اقامة الجدار الفولاذي الذي يحكم الحصار حول غزة صدرت بحسبانها من مقتضيات الدفاع عن الأمن الوطني.
قضية فلسطين كانت ضحية هذه الأجواء. وليت الأمر وقف عند حد تراجع أولويتها، وهي التي كانت «قضية مركزية» يوما ما. لأن رياح التسميم زرعت بذور الحساسية في الأوساط التي أعنيها ازاء الشعب الفلسطيني ذاته. وأشاعت قدرا لا يستهان به من عدم الاكتراث بمعاناته أو مصيره عند البعض، وقدرا مماثلا من الادانة والاتهام عند البعض الآخر.
(4)
البديل الذي طرح بعد التحلل من كل ما سبق كان شعار «حب مصر». الذي برز في الأفق بعد أحداث مباراة الجزائر، وأصبحت نداءاته وأصداؤه تغطي جدران المدن الكبرى.
وليس لدي ما يثبت أن دغدغة المشاعر الوطنية لدى المصريين بهذا الأسلوب في نهاية العام كانت أمرا قصد به تتويج الانقلاب الذي حدث في منظومة القيم السياسية.
مع ذلك فلابد أن يثير اهتمامنا ذلك التتابع بين الانخلاع أو الانسحاب المتدرج من ساحة الاهتمامات الكبرى وثيقة الصلة بأشواق الأمة، وبين الانكفاء على الذات الذي جسده في البداية شعار «مصر أولا».
يستوقفنا أيضا في هذا الصدد أن استنهاض الهمة الوطنية تم في أعقاب حدث المباراة البائسة، وكان زميلنا الأستاذ هاني شكر الله دقيقا في وصفها بأنها «وطنية كروية»، لا تحتاج الى مواطنين وانما تكتفي بالمشجعين فقط!
الوطنية التي تم استدعاؤها لكي تلبي أشواق المصريين جرى ابتذالها بشكل محزن. اذ لم تستدع لكي تستنهض همة المصريين في الدفاع عن حريتهم وكرامتهم وشرف وطنهم، وحقهم في مقاومة الفساد والاستبداد، وانما أطلقت لتأكيد التفاف المصريين حول المنتخب القومي لكرة القدم. وهو ما عبرت عنه لافتة كبيرة رفعت فوق أهم جسر في قلب القاهرة، ظهر عليها علم مصر، وكتبت عليه العبارة التالية:
ليس المهم أن نكسب كأس العالم ولكن الأهم صورتنا أمام العالم(!) ـ
وقد استثمر رجال الأعمال تلك الأجواء بشتى الطرق. وكنت قد أشرت في الأسبوع الماضي الى الاعلان التليفزيوني الذي ظهر فيه بعض الشبان وهم يهتفون بصوت عال منادين مصر ـ مصر، وجاءت الاستجابة في لقطة تالية ظهر فيها مشروب معلب لاحدى شركات المياه الغازية،
كذلك فانهم تنافسوا في تعليق اللافتات التي رسم عليها علم مصر، وصيغت عليه عبارات الاعتزاز والفخر بالانتماء للبلد، ممهورة باسم الشركة المسجل في البورصة. في أداء لم يختلف كثيرا عن القصة التي تروى عن رجل أرمني نشر اعلانا أبلغ به الكافة بأنه ينعى ولده ويصلح الساعات!
تستحق الرصد ولا تستدعي القلق ظاهرة المصريين الجدد الذين ما كان لنا أن نذكرهم الا لأن المنابر الاعلامية التي مكنوا منها أثبتت لهم حضورا أكبر كثيرا من حجمهم الحقيقي.
ذلك أن المصريين الحقيقيين، الأصلاء والقابضين على قيم الانتماء والعزة، لا يزالون ثابتين على الأرض.
ترى حشودهم في المظاهرات والمسيرات الغاضبة التي تخرج دفاعا عن الأمة والوطن.
وتلمس جهودهم في حملات التضامن والتبرع ونصرة الفلسطينيين المحاصرين.
وتقرأ تعليقاتهم على مختلف مواقع شبكة الانترنت.
ورغم أنهم لا يملكون المنابر والأبواق التي أتيحت لغيرهم، وكثيرا ما يتعرضون للتعتيم والقمع، فانهم يمثلون كتلة الأغلبية الصامتة والصابرة التي ينبغي أن يراهن عليها في المستقبل، لأنه لا يصح الا الصحيح.
أما اذا سألتني لماذا والأمر كذلك شغلتنا بأمر أولئك المصريين الجدد؟
فردي أنني أردت «اثبات الحالة» لا أكثر، بعدما وجدت أنها سقطت من عروض دفتر أحوال العام.
…………………….