www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

قصـّـــــــة: عـــــــــــــرس الشّهيـــــــــــــــــد../ بقلم : ميزوني محمد البناني

0

كان لابدّ أن تضغط “سهام ذهني ” بأناملها الطويلة على جبينها الوضّاء، فربّما بحركتها تلك تخفّف من حدّة نقرات مخيفة يكاد ينفجر لها دماغها ، و يتحوّل إلى كسارات صغيرة . هل هي نقرات صداع ، أم دوار ، أم دهشة ، أم تعجّب ، أم انفعال ، أم حسرة ، أم ماذا ؟

 قصـّـــــــة:    عـــــــــــــرس الشّهيـــــــــــــــــد..

 

                                                                             بقلم : ميزوني محمد البناني *

 

كان لابدّ أن تضغط “سهام ذهني ” بأناملها الطويلة على جبينها الوضّاء، فربّما بحركتها تلك تخفّف من حدّة نقرات مخيفة يكاد ينفجر لها دماغها ، و يتحوّل إلى كسارات صغيرة .

هل هي نقرات صداع ، أم دوار ، أم دهشة ، أم تعجّب ، أم انفعال ، أم حسرة ، أم ماذا ؟

هذا مالا تريد أن تبحث فيه اللّحظة. المطلوب الآن التغلّب على هذه النقرات المزعجة في سبيل الإلمام بتفاصيل المشهد الذي تأمل أن يضع القارئ العربيّ في الصّورة.

و فعلا عضّت على شفتيها عازمة على عدم التّفريط في أبسط الجزئيّات .

  “خذ لهذا الشّارع العجيب صورة يا حسام ذياب”.

قالت ذلك للمصوّر المرافق لها و هي تفرك يديها من فرط زخم المشاعر التي تتلقّف كيانها.

  إنّها تثق ثقة عمياء بعدسته .

ستكون الصّورة معبّرة ، و لكي تنطق و تملأ الأسماع احتجاجا ستكتب تحتها معلّقة عندما تعود إلى البيت :

 
“أعجوبة يجب أن تنضاف إلى الأعاجيب السّبعة… إنّه كما ترون شارع لا كالشّوارع… شارع جزء منه في مصر و جزء تحت  الاحتلال الإسرائيلي ! “

بل  ستعلق  قائلة :

“…أعجب ما في العالم من شوارع، شارع يقسّم مدينة لتصبح مدينتين لهما نفس الاسم !”

لماذا اللّغة تخونها هذه السّاعة ؟ من الأفضل أن تعلّق على النّحو التّالي:

“… لمن لا يسمع بمدينتي رفح ، له صورة الشّارع الذي جزء منه في رفح سيناء التي تمثّل نهاية الحدود المصريّة ، و جزء في رفح فلسطين الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي ” .

          تبّا للّجاجة ! ليس في هذه التعاليق ما يرضي قلمها .

– التقط صورة لهذا السلك الشائك اللعين ..

بورك فيه”حسام”، يبدو اليوم مطيعا أكثر من اللاّزم، على عكس الكلمات التي ترفض الانقياد والانصياع !

تنتظر منه أن يقف، بعد التّصوير، متأمّلا الأسلاك الشّائكة الممتدّة على طول الحدود.

سيتخيّل كيف يلتقي أفراد الأسر الفلسطينية الممزّقة بين الجانبين على هذا السّلك ، و ماذا يمكن أن يدور بينهم من كلام و هم يتبادلون النّظرات الحزينة عبر فلول الأسلاك الدّامية .

– التقط أيضا صورة للعلمين.. ضروريّ أن يظهر السّلك يفصل بينهما.

– و لكن يا سهام .. إن أحدهما علم العدوّ الإسرائيلي !

– أعرف أنّ نجمة داود تنغرس الآن برؤوسها الستّة في قلبك بنفس القسوة التي تنغرس بها في قلبي . و لكن ماأعرفه أكثر أنّ الحقيقة المرّة كلّما برعنا في إظهارها، ازددنا حرصا على صنع أسباب الخلاص.

           قالت ذلك و هي تضغط ثانية على جبينها.

سوف لن تمنعها النّقرات من أن تلقي بنظرة أخيرة على المشهد قبل الانصراف إلى المخيّم للتّحقيق مع أمّهات شهداء “ديمونة” ، فلقد خّيل إليها فجأة أنّ علم العدوّ الإسرائيلي يستفزّ العلم العربي ، و يستعرض أمامه قوّة عضلاته ، و شدّته في الرّفرفة .

و إن صدّقت سمعها، فإنّ مشادّة كلاميّة ما تدور بينهما الآن فوق السّلك:

– أنا المنتصر .. أنا القويّ .. أنا الموجود .

– الحرب لم تحسم بعد  .. إن كنّا – نحن العرب- خسرنا معركة فهذا لا يعني أنّنا خسرنا الحرب.

– المّهم،  إلى حد الآن،  أنّ الإسرائيلي هو القاتل، و الرّابح، و أنّ العربي هو المقتول و الخاسر. صحيح أنّ العالم يشفق على الذين يقتلون، و لكنّه، في النّهاية، لا يحترم إلاّ الذين يقاتلون.

    – نحن العرب أيضا نقاتل .

             – و من يا ترى تقاتلون ؟

            – بعضنا البعض .

 

*     *    *

 

– هذا هو “معسكر كندا “. بقي يحمل اسم فرقة حفظ السّلام الكنديّة التي كانت تقيم فيه. نحن هنا منذ أن احتل الإسرائيليون هذه المدينة المصرية. لقد رحّلونا إليه بعد أن هدّموا بيوتنا في قطاع غزة.

هذا ما قاله شيخ من الفلسطيّنيين لم تشأ “سهام” أن تقطع عليه حديثه رغم أنّها كانت ملمّة بما سرده عليها من معلومات .

و فيما كان يرشدها إلى بيت أحد أمّهات شهداء “ديمونة ” ، كانت عينها على أعلام بيضاء مرفرفة فوق عدّة  منازل ، إنّها أعلام رفعت فوق البيوت كرمز للمسالمة أيّام الاحتلال الإسرائيلي لرفح المصريّة .
لا تدري ما سرّ بقاء بعضها إلى الآن رغم أنّ الاحتلال قد انتهى منذ أعوام كثيرة ؟

توقّف الشّيخ لاهثا أمام باب من الصّفيح، و بعد أن حكّ ذقنه النّابت شيبا كثيفا، طرق الباب عاليا
 بحماس فيّاض :

– الصّحافة.. افتحي يا أمّ محمد الزلف .

انفتح الباب فسمع له عواء موحش و حزين، خرجت على إثره امرأة هيفاء ترتدي السّواد ومن عينيها الذّابلتين، ينبعث عويل خافت لا يمكن أن ينتهي. و بلا مقدّمات ، احتضنت المصوّر و مرافقته كما ستحتضن ابنها “محمد الزلف” الشهيد لو رجع إليها حيّا ، ثم دلفت بهما إلى فناء البيت الذي كانت طيور حزن بارد ترفرف في سمائه ببطء مميت ، لتفرش لهما الأرض بساطا و زربيّة ، و تحضر و سائد وثيرة يستندان إليها .

دسّت “سهام” يدها في يد الأمّ و جذبتها برفق لتجلس بجانبها .

لن تغفر لنفسها لو طرحت عليها أيّ سؤال.

لقد تراجعت عن كّل الأسئلة التي أعدّتها مسبقا.

يكفي المرأة ما تكتوي به من نيران الفراق الأبديّ الصّعب، يكفيها الجمر الذي ينغلق عليه قلبها، يكفيها السّكين الذي يبضّع كبدها، و الدّمع الذي مكر بها، فحرمها من نعمة البكاء.

لكنّ المرأة أغمضت عينيها و راحت تحدّثهما عن ليلة السبت 5 مارس 1988 ليلة اختفاء “محمد الزلف” و شابين آخرين :

            “.. خرج من البيت مساء السّبت .. طلع النّهار، قلت : ( ها الحين بييجي ) .. و لكنّه لم يأت . سألنا عنه النّاس ، فقال بعض الشّبان إنّهم رأوه يقترب من السّلك ، و قال آخرون إنّه قد تسلّل عبر السلك ، فأغمي عليّ لأنّي أدرك ما معنى أن يتسلّل أحد إلى الأرض المحتلّة . لو عصفور طار إلى اليهود، لن يعود” !

   ” لكنّ شباب المعسكر لا ينثنون . إذا سمعوا عبر السّلك اليهود يطلقون النّيران على المتظاهرين الفلسطينيين في الأرض المحتلّة، تقوم القيامة هنا، و يكثر المتسلّلون عبر السّلك “.

   “أهاليهم هناك .. “

   “أنا مثلا بناتي متزوّجات في فلسطين ، أمّي العجوز ، أخواتي ، إخوتي كلّهم هناك . يا لهفي ! لم أرهم منذ سبع سنوات. رائحتهم تزكم أنفي .”

  و بعد صمت ووجوم عميقين ، تستأنف الحديث بصوت جنائزي :

“محمد ،روحي ، عشرون عاما ، متحصّل ، منذ عامين  ،على الثّانوية العامّة .. طلع نهار الأحد، قلت : ( ها الحين بييجي ) .. إلى أن جاء ظهر الاثنين بخبر ثلاثة شبّان فلسطينيين قد استشهدوا في “بئر سبع” بعد أن  قاموا باحتجاز أوتوبيس المفاعل النّووي الإسرائيلي في “ديمونة” و قتلوا خمسة عشر خبيرا ، وأصابوا خمسة عشر آخرين”.

صمتت أمّ الشّهيد لصوت خطى تقترب من الفناء. التفتت “سهام” لتقع عيناها على رجل يرتدي الهموم و يتنفّس الآلام. قدّرت أنه والد الشّهيد ، و قرأت الرّفض  في عينيه . فأوقفت آلة التّسجيل، ووضع المصوّر آلته على كتفه، ثمّ و دّعا والدي الشّهيد بحرارة، واتّجها رأسا إلى ناصية شارع مطلّ على السّلك، حيث دكّان خردة، تديره أمّ الشّهيد الثّاني “عبد الله كلاّب”.

        *    *     *

لم كلّ هذا الاستغراب الّذي ارتسم على محياك حال وقوع نظرك على هذه المرأة ؟

أبسبب ملامح وجهها الذي لا يعكس أيّ حزن؟

من قال لك أنّ النّزيف ليس بداخلها ؟

ربّما لا تزال تكذّب خبر استشهاد ابنها عبد الله المفاجئ، أو لعلّ مشاعر الفخر و الاعتزاز ببطولته امتصّت كل أحزانها !

من يدري؟

حدجت “سهام” أمّ عبد الله كلابّ بنظرة فاحصة.

تحت غطاء رأسها الأبيض دماغ مقدّر لصعوبة المرحلة ، و على و جهها البيضويّ شدّة بحّار يخيّر الّتجديف إلى آخر رمق على الغرق من أوّل وهلة .

لم تدع المرأة الصّمت يأخذ بزمام الأمور، إذا افتتحت الحديث قائلة:

– اشكر الله على هذا الشّرف . الاستشهاد فخر، و أنا فخورة بابني البطل، و قد خرجت في المسيرة التي طافت بالمعسكر و زغردت زغرودة فخر. نحن الأمّهات الفلسطينّيات نضحّي بأولادنا حتّى يزداد العدّو يقينا أنّنا لن نتنازل له عن شبر واحد من أرضنا التّي اغتصبها تحت نظر عالم يدّعي العدالة.

·        كيف علمت باستشهاد ابنك في عملية الحافلة الإسرائيلية في “ديمونة” ؟

– من النّاس ، و من صور غير واضحة في جرائد إسرائيلية ..قال لي مساء السّبت إنّه ذاهب إلى المستشفى للعلاج ، فإذا كان بخير فالحيّ لا بدّ أن يعود ، و أن كان حقّا استشهد ، فالفراق صعب و مع ذلك : الحمد لله .

·        كم عدد أبنائك ؟

– أربعة أبناء خامسهم “عبد الله” ، عشرون عاما ، متحصّل على الثانويّة العامّة ، و ستّ بنات ،  ثلاث منهنّ متزوّجات هناك (مشيرة بحرقة إلى ما وراء السلك) الله وحده يعلم أنّ كبدي شطره في تلك الأرض المحتلّة .

·        لم يسمعن إذن بخبر استشهاد شقيقهنّ ؟

– علمن بذلك . على السّلك أخبرتهنّ فزغردن و قلن لي : مبروك يا أمّنا !

·        هل تأتي بناتك للتحدّث معك على السّلك ؟

ـ حُكم علينا بأن لا نتقابل أو نتحادث إلا ّمن خلف سلك لا يرحم. أربعون عاما يا مهجتي و مازلنا مهاجرين. هاجرت طفلة صغيرة و ها أنا عجوز و أرملة. و لكن ماذا يمكن أن نقول على السّلك الشّائك الذّي ينغرس في أيدينا ، و شفاهنا ، و وجوهنا كلّما أردنا أن نتلامس أو نتعانق ؟ إنّه يا مهجتي

ينغرس حتّى في حلوقنا و قلوبنا ، فتخرج كلماتنا دما حارقا من شدّة الشّوق والكمد.

 

*       *     *

فيما مضى ، كنت يا “سهام” كلّما أنهيت تحقيقا صحفّيا لمجّلة “سيّدتي” ، إلاّ و شعرت بأنّ أعباء هائلة كانت تثقل أكتافك و ظهرك قد زالت ، و بأنّ فرحا طفوليّا مشاكسا بدأ يتسلّق قلبك كما يتسلّق شجرةّ عالية ، و بأنّ نسمات ربيعيّة شرعت تتدافع في سمائك مذكّية الرّغبة في مزيد الفعل ، و الخلق ، و تحقيق الذّات .

أمّا الآن، فيبدو أنّك سوف لن تجني شيئا من متعة تلك النّهايات. فهذا التّحقيق كانت نهايته بداية انغراس إبرة حزن و صلت الآن إلى عظم الرّوح ، و بدل أن يتسلّق الفرح قلبك ، تسلّقه شبح الهزيمة الّتي لها ستّ رؤوس حادّة كمخالب ذلك السّلك ، أمّا تلك النّسمات الرّبيعية ، فلقد انقلبت إلى رياح شتويّة تذكّي الرّغبة في البكاء ، و النّشيج ، و الكفر بالذّات .

فأجهشي الآن بالبكاء .

أطلقي سراح كلّ تلك الدّموع التي أسرتها طيلة التّحقيق مع أمّ “محمّد حنفي “.

دعي العبرات تغسل قلبك و تفتح منافذ النّفس المسدودة.

استسلمي للنّشيج لتذوب غصّة تسّد حلقك، و تنفتح قبضة تقطع أنفاسك.

افعلي ذلك وقد ابتعدت عن عيون المصوّر و السّائق.

ألم تستأذنيها في ربع ساعة من الزّمن ؟

لن يخطر ببال أحد منهما أنّك دلفت إلى هذه الزّنقة لتنهاري باكية.

“ذهبت تلقي بنظرة أخيرة على رفح المصريّة قبل الرّجوع إلى العريش ” سيقولان و هما ينتظرانك في السيّارة .

فتحت “سهام” حقيبتها اليدويّة لتخرج منديلا زاهي الألوان راحت ببطء تجفّف به عينيها المكودتين ، فيما كانت مخّيلتها على وجه أمّ محمّد حنفي بعينيه اللّتين ذهبت الدّموع برموشهما ، و بأنفه الطّويل المزكوم ،
 و بشفتيه المزموتين مرارة ، و بشروده المفضوح .

لماذا هذا الوجه بالذّات ؟

لماذا ليس وجه أمّ محمد الزّلف أو أمّ عبد الله كلاّب؟

أليست كلّ واحدة منهنّ فقدت ابنها بنفس الطّريقة، و في المكان عينه، و في اليوم ذاته ؟

أليس ألمهنّ ألما واحدا ، و حرقتهنّ حرقة واحدة ؟

كانت و هي تخرج من دكّان أمّ عبد الله كلاّب الشّهيد الثّاني ، تتصوّر أنّها ستظلّ تشعر بالأمّهات الثّلاث بنفس الدّرجة ، دون انحياز، لكن حين مكّنها شبّان المعسكر من تلك التّفاصيل الهامّة و هم يقودونها و مرافقها إلى بيت أمّ محمّد حنفي الشّهيد الثّالث ، أحسّت بأنّ هذه الأخيرة قريبة منها تعرفها من زمن بعيد ، و بأنّ آلامها جزء من آلامها المعلنة و المخفيّة .

تذكر أنّهم حدّثوها أوّلا عن الشّهيد ابنها.

قالوا إنّ “محمّد حنفي” كان يذاكر بحرص، فأمّه كانت تعتبر أنّ نجاحه في الثّانوية العامّة هو أغلى هديّة يمكن أن يقدمها إليها.

قالوا أيضا إنّه كان دائم الثّورة و الغضب و التّفكير في التسلّل للقيام بأيّ عمل فدائيّ ، و خاصّة بعد أن رأى الحبيبة ابنة خالته تصرخ على السّلك ناعية أخاها “موسى الحنفي” – بكالوريوس الهندسة – الذّي استشهد في المظاهرات ضدّ الاحتلال بجامعة ” بئر زيت” قبل الانتفاضة ، فأخذ و أمّه و إخوته يبادلونها على السّلك الصّراخ ، دون أن يمكّنهم العدوّ من تصريح في تخطّي السّلك للمشاركة في جنازة ابن الخالة الّذي استشهد قبل التخرّج بشهرين .

هذا إلى جانب كونه و ككلّ شبّان الملجإ ، كان يفقد صوابه و يطير عقله ، كلّما تعالت في الأرض المحتلّة  أصوات المتظاهرين ، و أزير رصاص العدوّ . لذلك سمّوه الشّهيد حتّى قبل استشهاده بسنوات، لأنّهم كانوا على يقين من أنّه سيتسلّل إن عاجلا أو آجلا، و المتسلّل عبر السّلك يعدّ هنا دائما في تعداد الشّهداء.

إلى هذا الحدّ، بدا لها الحديث عاديا، فسيرة “محمّد حنفي ” تشبه سيرة رفيقه اللّذين استشهدا معه.

أمّا حين و لجوا إلى باطن الأمّ المسكينة و سيرتها اليومّية، فإنّها اشتمّت رائحة عذاب غريبة، تنبعث من حياة امرأة لا تشبه أمّ أيّ شهيد، امرأة فريدة في التّعبير عن أحزانها و في امتصاص ضربات اليأس الجبّار.

امرأة يشاهدها سكّان المعسكر مغربا ، و ككل مغرب ، تعيد ترتيب كرّاسات أبنها و كتبه ثم تضع على مكتبه طبق البّطيخ الأصفر و كأس القهوة الدّافئة ، بعد أن تكون قد أعدّت لوازم استحمامه ، و فرشت له السجّادة الّتي اعتاد الصّلاة عليها ، ثم تمضي إلى خزانة ملابسه ، تكوي له ثياب الغد ، و ترشّه بعطر كانت شرته له من “العريش” ذات يوم ، و في الأخير تقبع ليلا ، و ككلّ ليلة ، تنتظر أن يعود الغائب الذّي خرج ذات سبت بعد صلاة المغرب ، و لم يرجع .

و في الصّباح، و ككلّ صباح، ترجو من “عتريس” سائق سيّارة الأجرة، أن يبحث عن الغائب في دار عمّه هناك في مصر، فيخبرها ظهرا، و ككلّ ظهر، بأنّ ابنها لم يصل بعد إلى دار عمّه.

أفاقت ” سهام” من شرودها ، لّما دلفت إلى زنقة بها أطفال علا زياطهم و عياطهم ، فدسّت منديلها في حقيبتها اليدويّة . يبدو أنّها تمشّت كثيرا .

لا بدّ أن ترجع على أعقابها. السّائق سيقلقه تأخّرها ، أمّا المصوّر فلا خوف عليه ، حتما حدثت فوضى في مشاعره و أفكاره وقناعا ته – مثلها تماما – لتضربها الصّاعقة إن لم يكن هو أيضا شارد الذّهن الآن ، تجترّ ذاكرته الخصبة سيرة أمّ محمّد حنفي و كلماتها ، و تشكّل صورة و جهها الغائم في سحابة الغثيان .

كان معها عندما و لجت بيت هذه الأمّ بعد توديع الشّبان. لقد رأت نظراته تنحني إجلالا لهالتها الحزينة و هي تهبّ من بين النّساء لاستقبالها.

حتّى وإن بقيت جالسة بين المواسيات و بلباس غير لباس الحداد –مثلهن- فان حاسة “سهام” السّادسة كانت ستشير بإصبعها رأسا إلى هذه المرأة.

تأمّلتها و هي تقودهما إلى غرفة ثانية ،ثمّ و هي تفرش لهما الأرضّية بالبسط و الزّرابي الصّغيرة .

كان و جهها نفسه الذي تشكّل في مخّيلتها قبل التقائها .

 ملامح متحفّزة  للبكاء و الصّراخ .

شحوب مركّز ، يطعّمه ذهول و اندهاش و شرود ، و بارق أمل يخبو أكثر مّما يومض .

لّما جلست قبالتها، كانت عيناها على كأس القهوة التي لم تشرب بعد، و “قطع البطيخ” التي لم تؤكل بعد، وعلى الكتب و الكرّاسات الّتي لم تفتح بعد.

تذكر أيضا أنّها تمتمت كأنها تحدّث نفسها، و عيناها المتعبتان لا تزالان على المكتب المجاور:

  “… كلّ طلباته كنت أحّققها. انجح و خذ عيوني، أغلى هدّية تقدّمها إليّ نجاحك. اهدأ يا بني . أنت في عامك الدّراسي الأخير . أخواتك السّبع أنت رجلهنّ . اهدأ . إخواننا العرب كثر و في كلّ مكان . قلوبهم علينا و على أراضينا المغتصبة . سيضعون حدّا لمآسينا ( قلت له مترجّية أكثر من مرّة) فكان يردّ باقتناع: يا أمّي ما يحكّ الجلد الفلسطينيّ إلا الظّفر الفلسطينّي “.

بعدها ، نظرت إليهما برجاء كأنّها تستسمحهما في هدأة قصيرة للسّيطرة على مشاعرها ، فيما كان كفّها يحضن صورة ابنها المتدلاّة من سلسلة في رقبتها ، ثمّ جاءها صوتها الخفّاق و هي تنهش بعينيها الصّورة ، فبدت كأنّها تناجي ابنها الغائب و ترجو منه العودة :

  “…يوم السّبت، فيما كان يستحمّ بعد أن أدّى صّلاة المغرب ، و ضعت له على مكتبه ما يتناوله دائما أثناء المذاكرة : قهوة دافئة و طبق البّطيخ .. انتصف اللّيل و القهوة و البطّيخ كما هما.صدحت  الدّيكة : (كوكوريكو .. الفجر لاح ) و القهوة و البطيخ كما هما. اكتمل صباح الأحد، و القهوة و البطيخ لم تمتد إليهما يدا كبدي بعد.

أين مهجتي “محمّد”؟ لم أجده عند كل أصدقائه ؟

“جاء يوم الاثنين و الكأس و الطّبق لا يزالان كما تركتهما .

أين كبدي ؟ أخوه لم يجده حتّى في دار عمه بمصر !

جاء الظّهر و القهوة و البطيخ كما وضعتهما ، في آخر مساء ذلك السّبت.

أين كبدي و مهجتي ؟

(هو مّمن استشهدوا في الأرض المحتلّة بعد تسلّلهم من شمال “سيناء” عبر الحدود) أجابني النّاس .

ما الدّليل على أنّه استشهد ؟

لا ينبغي أنّ يكون هو.. إنه حياتي ..

سنواته السبع عشرة ، مكتبه ، كتبه ، كرّاساته ، قهوته ، طبقه ، أثوابه المكويّة ، قارورة عطره المفضّل ، ابنة خالته ، أخواته ، الأرملة أمّه ، أحلامها ، هدّيته الّتي وعدها بها .

لا يمكن أن يعمى القدر عن كل هذا. ليس القدر بكلّ هذه القسوة صرخت فيهم شرّ صراخ “.

تذكر “سهام” أيضا كيف صمتت الأمّ عند هذه الكلمات صمتا يوحي بخاتمة اللّقاء ، لذلك أوقفت آلة التّسجيل ، لكّنها عادت لتشغّلها بعد ثوان ، و قد هبّت الأمّ فجأة واقفة ، و اتّجهت نحو نافذة الغرفة المفتوحة لتطلّ على الخارج ،مترجّية احد المارّة ، بصوت قد استعاد عافيته :

  “… إن كنت عزيزة عليك.. اذهب إلى “عتريس” و اسأله هل وصل ابني محمّد إلى دار عمّه في مصر “.

بعدها ، التفتت إليها و المصوّر و على ثغرها هذه المرّة ابتسامة أمل تصارع شفتيها المزمومتين ، و بعد أن بحلقت فيهما كما لو تراهما لأوّل مرّة ، استدارت إلى خزانة أخرجت منها ملابس ، راحت تعيد طيّها
و تصفيفها باهتمام و عشق ، معلقة في الأثناء بصوت لا يمكن أن يكون صوتها :

–         هذه الجوارب و الأقمصة شراها له منذ أسابيع أخوه الأكبر المتزّوج من أسواق مصر .

هذه سترة جميلة  و لا شكّ . تسوّقتها له يوم أمس من العريش هي و تلك المنامة المعلّقة على مقبض النافذة .

و هذا السّروال و النّطاق الجلديّ و العقال، و هذه الكوفّية مّمن تظّنان ؟

خالته أمّ الشّهيد “موسى حنفي” أهدته من الأراضي المحتلة كلّ هذا، عبر فلول السّلك الشّائك طبعا.

أمّا هذا الشّال الفلسطينّي، فهديّة ابنة خالته إليه عبر السّلك ذات لقاء.

قلبان هما ، قلب في الأرض المحتّلة ، و قلب في “رفح المصريّة ” . أراد أحدهما عبور السّلك إلى الآخر ، فرفض الاحتلال الإسرائيلي تمكينه من تصريح !

محبوبان هما . السّلك بينهما ، ينغرس في كلماتهما ، في أشواقها ، في شفاهها الملتهبة ، في أناملهما المرتعشة ، في أحلامهما الوردّية .

محبوبان هما . لا يسمح لهما السّلك بأكثر من النّظرة و الكلام من بعيد.

حين يحين موعد الزّفاف، يلبس العريس ابني كسوته و تلبس العروس ابنة أختي فستان الزّفاف الأبيض. تتقدّم هي . يتقدّم هو . تزغرد من الجانبين المدعوّات . يهللّ المدعوّون ، و حين يقف السّلك بينهما مكشّرا عن نيوبه الشّائكة ، يمضي الجميع من الجانبين متمنّين للعروس و العريس الرّفاء و البنين و طول العمر .

تضغط “سهام” على جبينها بتوتّر هذه المرّة، فالنّقرات تتضخّم في دماغها كلّما ازدادت ذاكرتها توغّلا في عالم الأمّ الأخيرة.

لماذا تتذكّر كلمات هذه الأمّ كلمة، كلمة، حتّى أنّها لن تستعين بآلة التسجيل إلاّ عند تحبير كلام الأمّين الأولى و الثانية ؟

لماذا تسمع حتّى تأتأتها حينما الكلام يخونها و الصّوت الذي يحدثه انفها المزكوم عند التّمخيط ، و ترى استدارتها و طريقة مشيتها ، و تقطيبة جبينها ، و نظراتها التي لا تقع على شيء محدّد ؟

شلاّل من الأسئلة الحارّة كان سيظلّ يتدفّق على رأسها لو لم تقع عيناها على السيّارة التي لا تزال تنتظرها بصبر.

السّائق ظهر لها على بعد أمتار و قد أراح رأسه الكبيرة على مقودها. لا تستبعد أن يكون الآن في إغفاءة بعد انتظار طال. أمّا “حسام دياب ” ، فلقد رأت منه ما لم تره في كلّ المهام الصحفّية السّابقة التي رافقها فيها بعدسته ، و رغم ذلك ، سوف لن تنظر إليه بعين الغرابة حتّى و هي تراه على بعد أمتار ، يحضن في السيّارة الرّاسية عدسته ، كما يحضن ابنا عزيزا عليه .

هو أيضا ، لن يستغرب حين يراها تحضن آلة التّسجيل لأوّل مرّة ، فكلاهما يدرك قيمة ما تنغلق عليه آلة الآخر ، و كلاهما عنده شعور بأنّ حياته الصّحفية لم تبتدئ إلاّ الآن في هذا التّحقيق ، أمّا ما خرج للبحث فيه سابقا ، فلقد كان لهواء  و ذر  رماد في العيون ” .

كيف عميت طيلة السّنين الفائتة عن المصير، الأرض المغصوبة، و عن الشّهداء الّذين يتساقطون كلّ ساعة تحت أنظار العالم كلّه ؟

ربّما تساءل “حسام” أيضا هكذا ، و إن مازال لم يفعل ، فالسّؤال سيطرحه على نفسه إن عاجلا أو آجلا ، و ستنفتح دمالات قلبه أكثر ، حين يطّلع على صورة أمّ “محمّد حنفي” و هي تهوي من أعلى ذروة الأمل لتصطدم بصخرة الحقيقة الفولاذّية .

لقد لمحته يلتقط لها تلك الصورة الصّارخة.

تستطيع أن تصف ما فيها رغم أنّها لا تزال داخل آلة التصوير.

ستكون الأمّ فيها نحو الّتهالك على ركبتها، و سيكون رأسها بين يديها، تحاول أن تمنعه من الانفجار، فيما ستبدو عيناها جاحظتين كعيني أيّ غريق، أمّا فمها فسيكون حتما مفغورا بشكل تستطيع أن تصرخ به منهارة:

        – ( يا ريت حرقوني أنا و داري يا أمّه !

            يا ريت قطعوا إيدي يا أمّه !

           و الله اتخطف منّي يا أمّه .

          يا مهجتي .. يا قلبي .

           يا ريت و دّعني و رأيته !

            منين أجيبه يا أمّه)

و تستطيع أن تكرر بتشنّج:

(بس يجيبوا لي جثّته علشان ندفنه..) قبل أن يأتيها صوت إحدى المواسيات :

(أمّ الشّهيد لا تقول هيك . أم الشهيد لا تصيح عليه.

شباب فلسطين كلّهم يستشهدون. صلّي على النبيّ و اهدئي ).

لو لم تسقط من صدرها فجأة قصاصات من صحف إسرائيلية ، كتلك هل كانت ستظلّ متدثّرة برداء الأمل في أن يعود ابنها ذات غروب ، فيأكل كلّ قطع البطيخ ، و يتجرّع قهوته الدّافئة ، و يصلّي صلاة المغرب ،و يلبس ثيابه المكويّة المعطّرة ، و يفكّر في يوم زفافه بابنة خالته عبر السّلك ؟

تذكر كيف تبدّل حال الأمّ فجأة من أحسن إلى أسوأ بمجرّد انحناءة الالتقاط جورب من تحت الخزانة ، فلقد وقع من صدرها ما كانت نسيت أنّها أخفته تحت  القميص منذ أيّام .

في البداية، حاولت أن توهم نفسها بأنّ شيئا لم يسقط منها، و لكّنها لم تستطيع أن تقاوم نفسها، إذ ارتمت على قصاصة تحمل صورة جثّة شاب ملقاة على الأرض.

قال لها “حسام” قبل أن تستوعب الحقيقة التّي بدأت تتحطّم عليها آمالها:

        -.. و لكن الدّماء تخفي ملامحه . قد لا يكون ابنك الغائب .

 فردّت عليه بيأس قبل أن تنهار صارخة تلك الصّرخات الّتي لا تزال مدويّة في أذنيها:

        – .. و هل هناك من لا يعرف مهجة قلبه ؟

أحسّت “سهام” بأنّها صارت على بعد خطوات فقط من مؤخّرة السّيارة الرّاسية تنتظرها ، فتوقّفت عن التذكّر لتتفقّد و جهها على مرآة حقيبة يدها .

لا بدّ أن تضع نظّاراتها الشمسية الآن – و قد بلغت المكان – حتّى تخفي عن الرّجلين انتفاخ عينيها الّذي يشي بأنّها بكت كثيرا.

لقد تأخّرت عنهما أكثر من اللاّزم .

فتحت الباب ملقية بجسدها المتعب على المقعد الخلفيّ، فيما كانت شفتاها ترسمان ابتسامة اعتذار تقبّلها المصوّر، و لم يعرها السّائق اهتماما لأنّه كان يجهد نفسه في رفع رأسه عن المقود.

و قبل أن تتحرّك السّيارة، ألقت “سهام” بنظرة أخيرة على السلك.

كانت القوائم الحديدية المتباعدة تزيده دعامة و شراسة و جبروتا.

ستعلّق تحت صورته قائلة :

“… إنّه سلك يفتكّ من كلّ شيء فلسطينيّ نصفه ليضعه في كفّ الاحتلال الإسرائيليّ “

“لم يترك أرضا، و لا تفّاحة، و لا برتقالة، ولا حلما، و لا حبّا، و لا هواء نقّيا، ولا عصفورا إلاّ و قضم شطره..” .

          * يكون مغتصبا قنوعا لو يرضي الإسرائيليّ بالنصّف.  من المناسب أن تكتب:

” .. حينما تنشأ علاقة حبّ بين قلب في مخّيم  سيناء وقلب في رفح  فلسطين المحتلّة ، فيجب أن يدرك المحّبان أنّهما سيعيشان وضعا فريدا من نوعه في العالم ، إذ  لن يسمح لهما السّلك بأكثر من أن يتحابّا ،
و يتزوّجا ، و ينجبا الأطفال عن بعد ، و بأي شكل  آخر لا يتطلّب الاختراق ، و التسلّل المميتين “.

بل من الأفضل أن تترك التّعليق إلى حين رجوعها إلى “العريش” ، ولن تنسى أبدا أن ترسل إلى أمّهات شهداء “ديمونة ” نسخا من “سيدتي” (لعدد 382) تتضمّن هذا التّحقيق .

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.