تلك كانت أحكام (السلام) والأراضي التي يغتصبوها، ونلفت انتباه إلى أننا سنعيد قراءة بعص أوامر الرب (ياهو) التي مرت معنا في حديثنا عن شرائع الحصار وفتح المدن والصلح معها، لنلقي الضوء على بعض اختلافات الأحزاب الصهيونية فيما يتعلق بالتسوية مع الفلسطينيين، لندرك أن الاختلاف ليس حول الثوابت الصهيونية لكن على الطريقة والأسلوب الذي يريد كل منهم تحقيقها به، وأن عدم إدراكنا ذلك يجعل البعض يظن أن هناك يهودي متدين وآخر غير متدين، ويهودي متطرف وآخر معتدل، ولا ندرك أنه اجتهاد في فهم النص وليس اختلاف، فالمتطرف يريد تنفيذه في الحال، والمعتدل يرجئ التنفيذ!
شرائع الحصار لها حكمان:
الأول: الحكم الخاص بسكان مدن أرض الميعاد “فلسطين”، وهذا فيه حكمان:
الأول: القتل والتدمير بعد أن يتم فتح المدن المحاصرة: حفاظا على نقاء الدين اليهودي: (أما مدن الشعب التي يهبها الرب إلهكم لكم ميراثاً، فلا تستبقوا منها نسمة حية، بل دمروها عن بكرة أبيها، كمدن الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمرك الرب إلهكم لكي لا يعلموكم أرجاسهم التي مارسوها في عبادة آلهتهم، فتغووا وراءهم وتخطئوا إلى الرب إلهكم). (التثنية: 20/16ـ18).
وهذا النص مثلا، في الوقت الذي يعتبر فيه بعض المتدينين أن أي انسحاب من الأراضي المحتلة يخالف مبادئ اليهودية، ويعتبر ما بعد اليهودية، فإن جزء من المتدينين والعلمانيين يفهم الانسحاب التزاما باليهودية، وأن التمسك بكل الأراضي المحتلة للحفاظ على المغتصبات التي أقيمت عليها هو ما بعد اليهودية. لأن أنصار الانسحاب يرون أن: “اليهودية ليست محصل الأراضي التي ستسيطر عليها (إسرائيل)، اليهودية فكرة السيادة اليهودية. كان مبدأ المبادئ للأيديولوجيات اليهودية إعادة اليهود إلى التاريخ شعبا ذا سيادة فاعلا، وسيد نفسه. كانت السيادة لا الأرض منذ البداية العمود الفقري للمشروع كله … لهذا في الوقت الذي دعا فيه اليسار إلى تقسيم البلاد إلى دولتين، عارض أنصار ما بعد اليهودية التقسيم. فالتقسيم كما علم معارضوه، سينقذ السيادة اليهودية، وعدم التقسيم سيلاشي الدولة اليهودية، داخل أكثرية عربية …) [3].
ولذلك عارض العلمانيين، وخاصة اليساريين، حق عودة اللاجئين، وحذروا أصدقاءهم الفلسطينيين أنهم إذا ما بقوا مصرين على هذا الحق عليهم أن يعلموا أنه ليس لهم أصدقاء في (إسرائيل)!
الثاني: طرد أصحاب الأرض بعد أن يقوموا بالأعمال الشاقة نيابة عن اليهود: أما من بقي من أصحاب الأرض الأصليين حيا بعد فتح مدن فلسطين ولم يُستأصل – يقتل – فأوامر الرب توصي بالطرد التدريجي لهم، بعد أن يستغلوا كالعبيد في أعمال السخرة، وكالخدم في تهيئة الأرض والبلاد لراحة (شعب الرب المقدس)، وبعد ذلك يتم التخلص منهم. غير أن الرب إلهكم سيطرد تلك الأمم من أمامكم تدريجياً، لئلا تتكاثر عليكم وحوش البريّة إن أسرعتم بالقضاء عليهم دفعة واحدة. إن الرب إلهكم يسلمهم إليكم موقعاً بهم الاضطراب العظيم حتى ينقرضوا). (التثنية: 7/22،23).
وفي (سفر الخروج: 23/28-30)، يقول الرب: (وأبعث الزنابير أمامك، فتطرد الحويين والكنعانيين والحثيين من قدامك. إنما لن أطردهم في سنة واحدة لئلا تقفر الأرض فتتكاثر عليك وحوش البرية، بل أطردهم تدريجيا من أمامكم ريثما تنمون وترثون البلاد).
وهذا الحكم التوراتي أثبتت الممارسة العملية لليهود أن له تفسيران أو اجتهادان في السياسة التي رسمها مؤسس الصهيونية الحديثة تيودور هرتزل، وهما:
أولهما: طابعه الرأفة الشفقة وعدم التعصب الديني، عدم طرد سكان الأرض دفعة واحدة. فقد كتب في يومياته: (إذا انتقلنا إلى منطقة حيث توجد حيوانات مفترسة لم يتعود عليها اليهود كالأفاعي الكبيرة مثلاً فسأحاول أن استعمل السكان البدائيين للقضاء على الحيوانات قبل أن أجد لهم عملاً في البلاد التي يعبرون إليها).
وثانيهما: يتفق مع حكم حكم الاستئصال والإبادة الجماعية، وقد عبر ذلك عندما تحدث عن الوسائل لإقامة كيان العدو اليهودي، فقال: (يجب أن نقيم حملة صيد كبيرة ومن ثم نجمع الحيوانات ـ الفلسطينيين الذين بحسب العقيدة اليهودية هم وجميع البشر من غير اليهود حيوانات ـ ونلقي في وسطها القنابل المميتة).
ذلك الاختلاف في الفهم أو الاجتهاد في التفسير لهذا النص هو الفارق بين مَن يدعون إلى الترحيل الجماعي والإبادة الجماعية، وبين مَن يدعون للانفصال أحادي الجانب! ومن يراجع تاريخ الحركة اليهودية قبل اغتصاب فلسطين عام 1948، سيكتشف أن دعاة الانفصال من اليساريين والتقدميين كانوا الأشد تعصبا لطرد العرب من أرضهم، وكانوا هم أصحاب مبدأ العمل العبري، أي طرد العمال العرب ومنع اليهود من تشغيلهم في الأراضي التي يغتصبونها، وأن يتم عمل اليهودي في الأرض بنفسه، أو تشغيل عمال يهود. والآن انقلب الموقف وتم تبادل الأدوار.
الثاني: الحكم الخاص بسكان مدن الأرض البعيدة: وهذا الحكم خاص بسكان الدول العربية المجاورة، وفيه رأيان:
الأول: في حال استسلامها بدون قتال يتم استعباد سكانها: (حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ، 11فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ.12). (التثنية: 20).
الثاني: إذا قاومت ورفضت الصلح وانهزمت في الحرب، فحكمها قتل الرجال، وسبي النساء والأطفال والبهائم: (وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا. 13وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. 14وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. 15هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا. 16وَأَمَّا). (التثنية: 20).
تلك هي شرائع اليهود على لسان (ياهو) الذي اختاروه إلهاً لهم، واختاروا أنفسهم على لسانه ل(شعبه المختار المقدس)، ووعدوا أنفسهم بـفلسطين (الأرض الموعودة أو أرض الميعاد)، وكلها مارسوها قبل النكبة عام 1948، كما سنعرض نماذج عملية عن المجازر التي ارتكبوها، والآن غزة شاهد على تلك الهمجية باسم الرب، ظناً منهم أنه اقترب زمن تحقيق خرافة حزقيال، إعادة بناء الهيكل المزعوم، ونصب العرش، وتنصيب ملكاً (مسيحهم) من اليهود ليحكم العالم!